كتاب عجيب فذ، يصعب أن أكتب عنه شيئاً كثيراً، لمدى دهشتي مما فيه.. فلم أر قبلُ جمعاً كهذا لكل عمل كان في عصر النبوة وكيف كان ومن كان يقوم به، في شتى مناحي الحياة.. بخلاف استطرادات كثيرة في ذكر العلوم والصناعات وتاريخها وأول من قام بها، وتحقيقات ممتعة لمسائل علمية وتاريخية
ثم إن عجبي يزداد لهذا القدر المدهش من المصادر التي اعتمد عليها المؤلف في تصنيفه وجمع أبوابه، والتي ينثر أسمائها نثراً في صفحات الكتاب، فأقول أنى له الحصول على هذا القدر الضخم من الكتب فضلاً عن قراءتها والإطلاع عليها ! فيمكنك أن تخرج منه بعدد ضخم من أسماء الكتاب الغنية والشائقة، وهذا أحد بركات الكتاب ومواطن التعجب منه
وفي الكتاب دلالة كبرى على أصالة الكثير من الأعمال الحضارية والتنظيمية التي كانت في الدولة الإسلامية، والرد على من يقولون إن كل شيء صنعناه من أمور الحضارة قد أخذناه من فارس والروم
وبعد؛ فلا يفوتني تسجيل ازدرائي للحمقى والمغفلين، الذين يزعمون أنه لم تكن هنالك دولة للإسلام في عصره الأول عصر النبوة، وأن الإسلام دين روحي فحسب ولا دولة فيه.. فهذا الكتاب وأشباهه قذى في أعينهم وغصة في حلوقهم.. إن كانوا يعقلون
دائما ما كان يجول بخاطري كيف كان النبي يدير الحياة حوله في ظل انشغالاته صلى الله عليه و سلم
تلك التفاصيل التي كانت تغيب عن أغلب كتب السير.. من ذاك الذي كان يقوم على جمع أموال الزكاة؟ و من أصحاب التجارات على عهده؟ و من كان يقوم على عمليات الكتابة و الدعوة و التعليم ؟ .. إلى غيرها من التفاصيل الحياتية التي أحببت أن أعرف كيف كانت تدار على أيام النبي صلى الله عله و سلم
تلك التفاصيل هي المتعة الحقيقية في الكتاب.. و أوصي به بشدة لقراءة من نوع جديد حول السيرة النبوية
هذا الكتاب لا نبالغ إذا أطلقنا عليه أنه عجيبة من عجائب الدهر في تاريخ المؤلفات والتصانيف الإسلامية من حيث الموضوع والترتيب والتحقيق والتدقيق العلميين ، وقد تدرك ذلك وتشعر أنه لا ثمة مبالغة عندما تقرأ تقاريظ ومقدمات العلماء لهذا الكتاب التي تبلغ 25 تقريظاً في حوالي 70 صفحة من علماء وأعلام بين فقيه ومحدث وقاضي ومؤرخ وأديب ومفتي ، من علماء عصر المؤلف ، أبرزهم العلامة مفتي الديار المصرية محمد بخيت المطيعي ، العلامة الحجوي ، العلامة أحمد سكيرج (الذي كتب تقريظه في قصائد شعرية طويلة) و العلامة الصديق الغماري ، وعلامة الديار التونسية ومفتي المالكية بها الطاهر بن عاشور ، والعلامة المحدث صاحب الجمع بين الصحيحين أبي عبد الله محمد حبيب الله الشنقيطي ،والأستاذ البحاثة الكاتب الرحالة الكبير أحمد زكي باشا ، والعلامة الأديب أحمد النميشي وغيرهم . من بعض أقوال العلماء في تقديمهم للكتاب : قال العلامة الحجوي ( ... وتصفحت كثيراُ من أوراقه الثمينة وكرعت من عيونه المعينة متفيئاُ ظلال جنته مقتطفاُ أزهارها اليانعة وثمارها المغذية النافعة فألفيته لجّاُ وفرقداُ لا يتعاطي أوجه ، يخوض مؤلفه ثبج الفن خوض السابح الماهر فيستخرج جواهر قيّمة تزري بالزواهر درر سيرية وقضايا نبوية وأصول تاريخية ومستنتجات فكرية عن مقدمات علمية تقرُّ به عين الناقد المنصف البصير ويفرح بها قلب الوامق النصير ، أحيا أرضاُ كانت مواتا ، وجمع شملاُ كان شتاتاُ ، ورأب صدع ما تخرق ، وأحسن رفء ما تمزق إلي أسلوب نفيس وأساس رسيس واطلاع جامع لما اشتهر وندّ ، وإنه لحجج نيرات و آيات بينات علي أن الفضل غير مقصور علي ما قدم من العصور ...)
وقال قاضي مراكش أبي عبد الله السرغيني ( ..وهذا الكتاب في خزانة الفقيه منفعة ، وللمحدث في فهرسته دروس مودعة )
وقال المحدث محمد حبيب الله الله الشنقيطي ( ...فطالعت جملة وافرة منه فإذا هو بحر متلاطم الأمواج ، لا يرد عن أدراجه إذا هاج ؛ لما اشتمل عليه من الفوائد العجيبة والنقول المحررة الغريبة مع اقتناص أبكار الفوائد وجمع شتات أنواع العلوم الشوارد ..)
وقال الأستاذ أحمد زكي باشا في بداية تقريظه محدثا صاحب المؤلف ( بأيّ بنان أُسطر لك آيات الشكر ، وبأي لسان أترنم أمامك بعواطف البشر وأنت قد أدخلت علي قلبي سرورا لا يعادله سرور فقد أعدت لي ذلك الماضي المجيد الذي كانت أنوار العلم تشرق علينا من ذلك الجانب الغربي ، فلله درك ولله تلك التحفة المزدوجة التي وافاني بها البريد في هذا اليوم السعيد ؛ فقد تصفحت بإمعان وإنغام وراجعت بحنان وخفقان تلك الفوائد التي نظمتها أنت في نظام بديع فريد ، فكنت أنت السابق لإحياء ما اندرس من معالم آثار مجدنا القديم ن فكشفت لنا الغطاء ورفعت الحجاب وأمطت اللثام عن "التراتيب الإدارية والعمالات والصناعات والمتاجر والحال العلمية علي عهد تأسيس المدنية الإسلامية في دار الهجرة المنورة " )
وقال العلامة الأديب أحمد النميشي : (..فإليكم غواة التاريخ وعشاق النفائس سفراُ حاوياُ لكنوز العلم والأدب فاكرعوا من حياضه وتضلعوا من زمزمه الذي التضلع منه آيةُ ما بيننا وبين الملحدين ، واشكروا همة مؤلفه العالية التي تفتحت أكمامها عن أزهاره الطيبة النشر ، وأقبلوا بهمة ونشاط علي طلبه من ناشره المذكور الذي له القيام بطبعه سعي مشكور ، وتنافسوا في اقتناء ذخيرة هي أثمن ما يدخر وحلوا خزائنكم بيتيمة قلّما اكتحلت بإثمدها أحداق البشر ؛ لندل الباحثين من الأمم علي أننا لا نزال نحس ونشعر ونقدر قيم العلم حق قدرها وأننا خلف لأولئك السلف ..)
موضوع الكتاب
يقول الدكتور رفعت العوضي : ( ....الكتاب الذي أقدمه يعرّف بالصورة الصحيحة للسيرة النبوية المطهرة ؛ الرسول صلي اله عليه وسلم أقام دولة بكل نظمها السياسية والاقتصادية والتعليمية والادارية بل والدبلوماسية . كتب الشيخ الكتاني عن ذلك بتفصيلاته التي ينبغي أن تعرف ، وفي سياق كتابته عن السيرة النبوية المطهرة كتب عن غزوات الرسول صلي الله عليه وسلم في سياقه الصحيح لادارة الدولة وبالحجم الصحيح الذي ينبغي أن يعرف به ، وبالوظيفة الصحيحة التي أداها هذا الجانب الحربي في الدولة التي أسسها وأدارها الرسول صلي الله عليه وسلم . فكتاب "نظام الحكومة النبوية المسمي التراتيب الادارية " لمؤلفه الشيخ الكتاني رحمه الله تعالي ، هو كتاب في التاريخ ؛ حيث كتب عن تاريخ السيرة النبوية المطهرة ، وهو بجانب ذلك قدم فقها في الموضوعات التي كتب عنها ، وكتب هذا الفقه بما يتلائم مع هدف المؤلف من كتابه وبالإتساع الذي يتلاءم مع كتاب تاريخ ... فهو كتاب في السيرة النبوية المطهرة وبجانب ذلك أعطي معلومة تاريخية عن بعض صحابة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم وذلك من حيث الوظائف التي قاموا بها وهو بذلك عرف بعض وظائف الدولة التي أسسها الرسول صلي الله عليه وسلم في المدينة المنورة ، وتضمّن ذلك تعريفاً بالصحابة الذين قاموا بهذه الوظائف ) انتهي كلامه
ويقول العلامة الكتاني في مقدمته الضافية : (..أن الكُتّاب الذين تصدروا أخيرا للبحث في المدنية الإسلامية العربية ودونوا فيها المدونات العدة من المسلمين والمسيحيين غاية ما ينسبون من التمدن للإسلام؛ يذكرون ما وجد على عهد الدولة العباسية والأموية مثلا، مع ما أوجدته بعد ذلك ممالك العجم والديلم والترك والفرس والبربر وغيرهم، من ملوك الدول الإسلامية بالشرق والغرب. بل وربما كانوا يأتون بنسبة المدنية في الإسلام لبني العباس، ليتسنى لهم بعد التصريح بأنهم أخذوا ذلك عن اليونان والفرس، لا عن القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم. بل وقع لبعض الكتاب الشاميين في رسالة له في انتشار الأديان التصريح بأن التمدن الإسلامي قام عن الشريعة الإسلامية ولم يقم معها اهـ. وهو غلط فادح نتج لصاحبه عن جهله بالسير والحديث، أو من عدم تشخصه لحقيقة ينابيع المدنية التي جعل الحكماء أساسا لها... ومن عرف نهضة الإسلام وتعاليم النبي عليه السلام وأمعن النظر في تلك النهضة تحقق أن ليس هناك من أساليب التمدن ما لم يكن الإسلام في وقت ظهوره أصلا له، وينبوعا فمن تأمل ما بثه النبي صلى الله عليه وسلم من التعاليم، وأنواع الإرشاد، وما حوى القرآن من آداب الاجتماع، وسنّ من طرق التعارف والتمازج، وما أودع الله غضون كلماته الجوهرية من أحكام الطبيعة وأسرار الوجود وفرائد الكائنات، وما ضبط من الحقوق وسنّ من أنظمة الحياة وما تلته به السنة النبوية من تهذيب النفوس والأخلاق، والإرشاد للأخذ بالأحسن فالأحسن وأحكمته من سنن الإرتقاء والأخاء البشري والتمتع بضروب الحرية علم أن التمدن الإسلامي في إبان ظهوره قامت معه تلك الأعمال لتأثير تلك التعاليم على قلوب سامعيها في ذلك الحين. نعم لا ننكر أن التمدن الإسلامي جرى مجرى النشوء الطبيعي في كل شيء، وسار سيرا تدريجيا إلى أن وصل إلى أوجه في السمو، فمن لم يتأمل ذلك ولم يحط نظرا في الموضوع بما له وعليه، لا بد أن يغيب عن علمه ما بلغته الإدارات، والعمالات والصناعة والتجارة في تلك العشر سنوات، التي قضاها صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية وأن الترقي والعمران وصل فيها إلى إحداث ما يعرف من الوظائف اليوم في إدارة الكتابة والحساب والقضاء والحرب والصحة ونحو ذلك خصوصا من غاية علمه عن ذلك الدور أن أهله كانوا يمشون حفاة، وإذا أكلوا مسحوا أيديهم في أقدامهم، خصوصا وقد وقعت لبعض الأعلام فلتات إن لم نقل سقطات وهفوات، حتى إن الولي ابن خلدون قال في مقدمة العبر في مواضع: «إن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة بما نقلوه عن صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين، ولا رجعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين» . ولكن من واصل ليله بنهاره، واطلع وطالع بالدقة وحسن الروية، يجد أن المدنية وأسباب الرقي الحقيقي، التي وصل إليها العصر النبوي الإسلامي في عشر سنوات، من حيث العلم والكتابة والتربية وقوة الجامعة وعظيم الاتحاد وتنشيط الناشئة، وما قدر عليه رجال ذلك العهد الطاهر، وما أتوه من الاعمال واستولوا عليه من الممالك، وما بثوا من حسن الدعوة وبليغ الحكمة ومتمكن الموعظة، لم تبلغها أمة من الأمم ولا دولة من الدول في مئات من السنين، بل جميع ما وجد من ذلك إلى هذا الحين عند سائر الأمم، كلها على مباني تلك الأسس الضخمة الإسلامية انتشأ. فلولا تلك الصروح الهائلة والعقول الكبيرة، وما بثوه من العلوم وقاموا به من الأعمال المخلدة الذكر، لما استطاعت المدنيات المحدثة أن تنهض لما له نهضت وارتقت. أحدق ببصرك وبصيرتك إلى الدور الذي وجد فيه عليه السلام تجد أن الخراب والدمار والظلم كان أثبت في كل جهة من جهات العالم، من الشرق إلى الغرب. فدولة الروم هرمت مع الضعف الذي استولى على ملوكها؛ بمجاوزتهم الحد في الترف، والإنهماك في اللذات، والفتن الداخلية والخارجية، والأمة الفارسية سقطت قوتها بسبب حروبها الطويلة مع الروم مع الفتن الأهلية، والشعوب العربية في انحطاط تام وجهل عام. بين هذا الوسط نبعت تلك الشعلة النورية النبوية، فأضاءت دفعة [فجأة] من أول وهلة على العالم، فأحدثت فيه حركة ونهضة بعد العهد بمثلها في جهة من الجهات، أما في جميع أطراف العالم التأمت تلك الشعلة واستفحلت وعرفت كيف تربي رجالا عظاما لنشر مباديها الحقة والقيام بالعالم من وهدة السقوط فأولئك الذين كانوا أنفسهم قبل الإسلام لا يعرفون من دنياهم إلا البارحة وتربية الماشية والعيش على أخس بداوة قد انقلبوا بعد الإسلام إلى قواد محنكين ودهاة وحماء سياسيين وعمال أمناء إداريين، حتى قال القرافي في الفروق ص 167 من الجزء 4: «أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا بحارا في العلوم على اختلاف أنواعها، من الشرعيات والعقليات والحسابيات، والسياسيات والعلوم الباطنة والظاهرة، حتى يروى أن عليا جلس عند ابن عباس في الباء من بسم الله، من العشاء إلى أن طلع الفجر، مع أنهم لم يدرسوا ورقة ولا قرأوا كتابا، ولا تفرغوا من الجهاد وقتل الأعداء، ومع ذلك كانوا على هذه الحالة حتى قال بعض الأصوليين: لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته» .
عن المؤلف وقصة تصنيغه للكتاب
هو السيد محمد عبد الحي الكتاني 1305 هـ/ 1888 م- 1382 هـ/ 1962 م إنه العلم الشامخ والجبل الراسخ، وحيد العصر، وفريد الدهر النابغة في هذا القرن الرابع عشر، سليل الأسرة الإدريسية الشريفة، ورث العلم كابرا عن كابر، مما ورث شرف المحتد، فكان أعجوبة الزمان، قرأ العلم على والده الجليل السيد عبد الكبير الكتاني وعلى خاله جعفر الكتاني وعلى علماء فاس وهم كثر وظهر نبوغه المبكر وأظهر اهتماما زائدا بعلم الحديث ورجاله، ثم شد الرحال إلى بلاد الشرق فدخل مصر والشام والحجاز فأدهش العلماء الفحول وهو في العشرين من عمره فأجازهم وأجازوه، ولم يبق في تلك الديار من لم يعرف قدره وكاتب علماء اليمن والهند وكاتبوه ثم اشترى كميات هائلة من الكتاب المخطوطة وعاد إلى المغرب. وكان له إلى جانب نشاطه العلمي جانب سياسي فخاض في غمارها ولم يحالفه التوفيق، مما أغضب الكثيرين وفيهم أقاربه، ثم صودرت مكتبته الثمينة فسافر إلى فرنسا وأقام بها إلى وافته المنية عام 1962. ترك الكتاني آثار كثيرة تزيد عن مائة وثلاثين ما بين كتاب ورسالة وأهمها فهرس الفهارس في مجلدين وفيه بيان شيوخه ومن أخذ عنهم وأخذوا عنه وهو كاف للتعريف به وبفضله.
وكان رحمه الله قد سمع باسم مخطوط بإسم ( تخريج الدلالات السمعية علي ما كان في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية ) لأبي الحسن الخزاعي التلمساني المولد الفاسي الوفاة ، الأندلسي الأدب والسلف (توفي 789هجريا ) فبحث عنها كثيرا و جدّ في طلبه حتي عثر علي الكتاب في مكتبة جامع الزيتونة بتونس . ويحكي عن ذلك فيقول : ( .. وقد كنت فيما مضى وانقضى شديد التطلب لهذا الكتاب تخريج الدلالات العظيم الشأن الذي اهتم به مؤلفه بما لم يهتم به أحد قبله ولا بعده فيما نعلم، وهو تدوين المدنية الإسلامية على عهد تأسيسها الأول، جازما أن صاحبه ألهم الخوض في مشروع يستلفت الأنظار، ويستوجب مزيد الشكر وأن يبقى له به أعظم تذكار، ومع ذلك أجد أن طول الزمن أخنى على مؤلفه ومؤلّفه فدفنا معا في زوايا النسيان، وألقي عليهما الإهمال بكلكله في أودية النكران، فبقيت في تشوق وتلهف للكتاب المذكور، أوالي عنه البحث والتفتيش من أقصى وادي نون إلى بلاد العريش، حتى ظفرت به في مكتبة تونس الزاهرة لما رحلت إليها سنة 1339 هـ[حوالي 1920] فأخرجته من مكتبتها بقصد الانتساخ. وممن ساعدني على استعارته، بهجة تلك الحاضرة الذي هو فيها الشامة النادرة، الشيخ محمد طاهر عاشور قاضيها لهذا العهد، وقد عجبت أكبر إعجاب لوجود ذلك الكنز، في تلك الحاضرة الزاهرة، التي يتردد إليها كثير من أهل العلم، من أهل بلدنا ومن غيرهم ولم يحيه أحد باستنساخه وجلبه، فضلا عن نشره وطبعه. ولكن بكل أسف لم يوجد اسم المؤلف على ظهر النسخة التونسية ولا في برنامجها. ومع كوني طالما تأبطت به هنا وهناك، وأطلت الحديث عليه باحتباك، ذاكرا من ترجمه وعرف به، فلم أجد قط من يصغي إلى شيء من ذلك أو به يهتبل وينتبه، ومع كوني في هيامي به وحيدا، وسمري به وسهري فريدا، بقيت مهتما به أي اهتمام، قياما بواجب حق مؤلفه الذي خدم الإسلام، وبموضوعه الذي هو حاجتنا اليوم القصوى، ودفع ما به عمّت الأمم الإسلامية البلوى، فأقمت عليه بعد وصوله ليدي بفاس أياما وليالي، أميز أبوابه من فصوله، وأشير على رؤوس الكلام وأصوله، وأصحح ما غلط فيه ناسخه، الذي وجدته لم يعتبره ولا عرف له قيمة، ولا فهم أنه يكون مني ومن عشاق الآثار الإسلامية من أكبر الكتب القيّمة. وقد كنت طالما طالعته وسامرته، وصاحبته معي في أسفاري وفي كل موطن منها أحضرته، أجد أنه لو نسج على منواله، واعتني بالزيادة عليه والاستدراك طبق آماله، لكان الموضوع قابلا للزيادة عند من يعتني بالإفادة والإجادة، خصوصا وقد انتشرت الكتب اليوم في الأرض طولها والعرض، وعمّ منها المشرق والمغرب ما كانت يد الظنة به قبل تغرب، خصوصا حين نهضة الأمم الإسلامية الأخيرة، وما جادت به المطابع وما سهلته مخترعات العصر من أدوات الانتقال والرحلة بما أصبحت به يسيرة، بعد أن كانت شاقة كثيرة، وآمادها وأيامها كبيرة، فانتهزت فرصة من فرص الزمان الذي كان بها قبل بخل وضنّ، وجمعت هذه الرسالة التي استغرقت فيها أربعة أشهر أو أزيد، وطالعت عليها جل مكتبتي التي فيها والحمد لله ما هو أجمع وأفيد، فجاءت في الجمع أكبر آية والغاية القصوى التي يتطلبها أهل البادية والنهاية، أتيت فيها على جميع النافع من كتاب التخريج، وزدت عليه ما هو أمتع وأنفع من الزهر الأريج، مقدما قبل نجواي ما سبق وآتيا بمقدمتين الأولى في التعريف بكتاب التخريج ومؤلفه، وذكر اصطلاحه ومقصده وغايته ومادته، لخلو أكثر الدواوين من التعريف به، وجهل جملة أهل العصر به، ) انتهي كلامه فكتاب تخريج الدلالات السمعية للخزاعي هو أصل كتاب الكتاني فهو بمثابة المتن الذي زاد عليه الكتاني أضعاف أضعافه وأعاد ترتيبه وتحقيقه بل وأضاف أبواب جديدة ربما لا تجدها في غيره من كتب مثل القسم العاشر والأخير من الكتاب وهو (في تشخيص الحالة العلمية علي عهده وما كان عليه أصحابه في ذلك الزمان من السبق لكل فضيلة وسعة المدارك والأخلاق وجميل العوائد والأزياء ) و قال بعض الباحثين مقارن بين كتاب الخزاعي والكتاني : لقد زاد عليه فصُولا وأبواباً تبلغُ العشراتِ، ونقلَ نقولاً لأناسٍ ولدوا بعد وفاةِ الخزاعي بأحقاب
وأقسام الكتاب العشرة هي : القسم الأول: في الخلافة والوزارة والهيئة التي كانت تقوم بخدمات المصطفي الشخصي المناسبة لعظمة الملك والسلطان و الرسالة . (وفيه بحث مسهب في تاريخ التلقيب بأمير المؤمنين من أول عصر الإسلام إلي الان ، والتفرقة بين السلطان والملك والخليفة والكلام علي الوزارة والحجابة ومدير التشريفات وخدمته عليه الصلاة والسلام من رجال ونساء وصبيان وأنواع الخدماتز ) القسم الثاني: في العمليات الفقهية وأعمال العبادات وما يضاف إليها من عمالات المسجد وعمالات الطهارة وما يقرب منها وفي الإمارة على الحج وما يتصل بها. القسم الثالث: في العمليات الكتابية وفيه الكلام علي كتاب الوحي والإقطاعات والعهود والصلح والترجمة والسفراء والختم وأمينه وما يشبهها وما يضاف إليها. القسم الرابع: في العمليات الأحكامية كالإمارة العامة والقضاة وما ينضاف إليها. القسم الخامس: في ذكر العمليات الحربية وما يتشعب عنها وما يتصل بها. القسم السادس: في العمالات الجنائية وفيه الكلام علي صاحب الجزية والأعشار والترجمان والمساحة والخارص وصاحب الأوقاف والمواريث . القسم السابع: في العمالات الاختزانية وما أضيف إليها. وفيه الكلام علي صاحب بيت المال والوزان والكيال والخزان والأوزان والمكاييل الشرعية ، وفيه بحث مسهب عن السكة النبوية الاسلامي واستظهار أنها ضربت في زمنه صلي الله عليه وسلم لا ما هو شائع أنها ضربت في عهد عبد الملك بن مروان القسم الثامن: في سائر العمالات. وفيه الكلام علي المنفق والوكيل وإنزال الوفود والمارستان والطب ، والصفة وهي أصل اتخاذ الزوايا في الإسلام ودور نزول المسافرين وغير ذلك من الأبحاث الشيقة . القسم التاسع: في ذكر حرف وصناعات كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر من عملها من الصحابة. القسم العاشر: في تشخيص الحالة العلمية على العهد النبوي.
مآخذ علي الكتاب
أولا : تأييده لجواز الرقص كذكر لله فنقل عن ابن حجر قوله ( استدل قوم من الصوفية بحديث الباب علي جواز الرقص وسماع آلات اللهو وطعن فيه الجمهور لاختلاف المقصدين فإن لعب الحبشة بحرابهم كان للتمرين علي الحرب فلا يحتج به للرقص في اللهو ) فعلق علي كلام ابن حجر وقال : ففيه نظر ؛ لأن رقص القوم ليس من الهو واللعب ...فغاية الرقص عند القوم ذكر من قيام وهو مشروع بنص القران ( فاذكروا الله قياما وقعودا وعلي جنوبكم) وتمايل واهتزاز وهو منقول عن الصحابة !! ثم أحال القاريء علي رسالة (الرقص) تأليف والد المصنف وذكر رسائل أخري ..والمؤلف رحمه الله كان به نزعة صوفية واضحة .
ثانيا : قوله أن الصحابة تكلموا في علم الكلام ! فقال : باب في أن الصحابة تكلموا في علم الكلام قبل أن يتكلم فيه ويدّون الإمام الأشعري ونقل نقول يُفهم منها أنه ربما يقصد بعلم الكلام ..العقيدة الاسلامية من الكتاب والسنة في الإلهيات والنبوات والمعاد والسمعيات ..ولكن هذا المصطلح يعرف به من مزج علوم الفلسفة اليونانية بالعقيدة الاسلامية وتقديم للعقل علي النقل وتحريف الصفات ..فهو كعلم ظهر واشتغلت به بعض الفرق الاسلامية كالمعتزلة والاشاعرة وغيرهم ليس بعلم اصيل في در الإسلام بل هو مصطبغ بالفلسفة التي قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية لا تنفع ذكي ولا تضر بليد . ثالثا : قوله في أن الصحابة كان يتعاطوا الموسيقي !! وذلك في تبويبه : باب في تعاطي الصحابة للحكمة والتنجيم والقافة والموسيقي والطب والإدارة والحرب والسياسة والترجمة والإملاء والتجارة والصناعة ونحو ذلك.
رابعا : الكتاب مشحون بالاحاديث الضعيفة .
خاتمة الكتاب وتراثنا الضائع
كما جاءت مقدمة الكلام وتقاريظه الباذخة والثرية جدا كانت الخاتمة أيضا ثرية لكنها مُبكية إذ تعرضت لتراثنا الضائع وذكر اضخم وأعرق المكتبات في تاريخ الاسلام في بغداد والاندلس وما تعرضت . فقال المؤلف رحمه الله : (وهنا عنّ لنا الإختتام وإيقاف القلم المسكين للإستراحة، موقف الإتمام معتذرا للسامع في الإقتصار على هذا القدر، من أحوال ذلك العصر النبوي الزاهر، بأن هذا ما أمكن الآن جمعه وعرضه، لا أن هذا غاية ما كان رائجا في ذلك الدور، من الصناعات والتجارات، والعمالات، والعلوم، لا، لا، فإن الواصل إلينا العلم به أدون مما كان موجودا بمراحل كثيرة، وبينهما فراغ متسع، لأن المقطوع به أنه ليس كل ما كان موجودا في ذلك الزمان في كل باب وصلنا العلم به التفصيلي التام الآن..) وشرع في ذكر اسباب ذلك وذكر منها :
(أن غالب مصنفات من تقدم في الأثر والسير إنعدمت اليوم أو كادت، والموجود منها غير كاف لأنّ أكثر ما كان جمع وصنف أحرق أثناء الغارات، وقد ضاع من ذلك في وقعة التتر ما لم يذكر التاريخ أفظع منه، ألقي في نهر الدجلة حتى وقف عن الجريان، وأسودّ ماؤه بكثرة مداد ألقي فيه من الكتب الإسلامية، بل قد وجدت الشكاية بإندثار أكثر كتب السلف قبل وقعة التتر، وذلك من الحافظ ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر قال: كانت همم القدماء عالية، تدل عليها تصانيفهم، التي هي زبدة أعمارهم، إلا أنّ أكثر التصانيف إندثرت، لأنّ همم الطلاب ضعفت، فصاروا يطلبون المختصرات، ولا ينشطون للمطوّلات. ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها، فاندثرت الكتب، ولم تنسخ. ويذكر التاريخ العربي عن مدينة قرطبة بالأندلس، أنها كانت أكثر بلاد الله كتبا، وأن مسيحي إسبانيا لما استولوا على قرطبة أحرقوا كل ما طالت إليه أيديهم، من مصنفات المسلمين، وعددها مليون وخمسون ألف مجلد، وجعلوها زينة وشعلة في يوم واحد، ثم رجعوا على تسعين مكتبة في الأندلس، وصاروا يتلفون كلّ ما عثروا عليه في كل إقليم، من مؤلفات العرب ذكر ذلك (موندي) في تاريخه اهـ. وقال أحد مؤرخيهم (ويلس) : إن ما أحرقه الإسبان من كتب الأندلس، ألف ألف وخمسة آلاف مجلد، وقال في وفيات الأسلاف إن أسقف طليطلة أحرق من الكتب الإسلامية العالية ما ينيف على ثمانين ألاف كتاب، وأنّ الإفرنج لما تغلبوا على غرناطة أحرقوا من الكتب النفيسة، ما تتجاوز ألف ألف، وأنهم قبضوا على ثلاث سفن قاصدة مراكش، تقلّ ما عزّ على المسلمين أن يخلّفوه وراءهم، فألقوها في قصر الإسكوريال، ثم لعبت بها النيران، وبقيت منها بقية رتّب فهرستها أحد مسيحي سورية، وجعلوها إلى اليوم مكتبة ينتابها علماء الأرض. وكان بقي منها على عهد من رتبها 1851 سفرا. ورأيت بعض برنامجها (فهارسها) أسماء الكتب العربي فيما قرب بقلم محمد محمود الشنقيطي، الشهير لما توجه إليها أيام السلطان عبد الحميد، فإذا هو تافه جدا بالنسبة للمظنون، أما بالنسبة لما كان بالمكاتب الأندلسية فلا نسبة. فقد ذكر صاحب الوافي في المسألة الشرقية أنه كان بمكتبة قرطبة وحدها على عهد الإسلام ستمائة ألف مجلد، من الكتب المختارة اهـ قال المرجاني بعد ذكر بعض ما ذكر في وفيات الأسلاف: وبالجملة فلم يبق من آثار علماء الإسلام إلا النادر الأقل من القليل اهـ وقال بعض المؤرخين المصريين: إن الباقي من الكتب التي ألفها المسلمون ليس إلا نقطة من بحر، مما أحرقه الصليبيون، والتتر، والأسبان، اهـ. وقد ذكر القاضي ابن خلكان في ترجمة الصاحب بن عباد أنه كتب إليه نوح بن منصور أحد ملوك بخارى يستدعيه ليفوض إليه وزارته، فكان من اعتذاره أنه قال له: إنه يحتاج لنقل كتبه خاصة أربعمائة جمل اهـ وابن عباد المذكور من أهل المائة الرابعة توفي في صفر سنة 385، وإذا كان هذا ما يملكه رجل واحد في قطر واحد، فما بالك بمن عداه من الرجال المنتشرين في الأقطار والأمصار، وإذا كان هذا ما بلغت إليه صنعة التأليف عند المسلمين في نحو ثلاثمائة سنة في علم واحد، فانظر ما بلغوه بعد.)
ملحوظة : أفضل طبعة للكتاب هي طبعة مكتبة دار السلام في مجلدين .
من يريد فهم السيرة بشكل سليم عليه قراءة هذا الكتاب بشكل أساسي بعد فراءة أي كتاب سري للسيرة ليس فقط لأن الامام الكتاني رحمه الله أبدع في تصنيفه بل لأنه يعطي تصور واقعي حول كيفية إدارة الدولة المحدية في المدينة. و الدولة هنا لا تعني بأي حال دولة ثومية حديثة كدولنا البائسة.
رؤية مختلفة عن المعتاد في السيرة بل ان شئت قل رؤية غائبة عن أغلبنا من تفاصيل الحياة التي تجعلك أكثر استيعابا للحياة وقتها على المستوى الإداري والاجتماعي
كتاب يحمل بين دفتيه الكثير والكثير وعظيم في موضعه وما احتواه فهو يتحدث عن نظام الحكومة النبوية فكما كان الرسول صلي الله عليه وسلم مبشرا ونذيرا وحاملا للرسالة الخاتمة للبشر فهو كان قائدا ومعلما لأمته ويتضح معالم ذلك في هذا الكتاب الذي يتحدث عن التراتيب الإدارية في كل ما اختص بشئون الدنيا من أمر المسلمين فيتضمن الشئون السياسية والاقتصادية والحربية والعلمية والثقافية والحياتية حتى لتجد أن رسول الله صلي الله عليه وسيلم لم يترك من أمر المسلمين في دنياهم شيئا لم يجعل له من يقوم بأمره إضافة إلي ما سبق فالكتاب يحوى من الحكمة والفقه الكثير والكثير وصعوبة الكتاب تكمن في كثرة الأسانيد التي يستدل بها علي أبوابه عدا ذلك فهو من أجمل ما يمكن أن تقرأ عن سيرة النبي صلي الله عليه وسلم وتدابيره للمسلمين في زمانه وتدرك أن الحضارة الإسلامية إنما بدأت ما بدأت في عهد رسول الله وليس كما هو المشهور أنها وصلت لكمالها في عهد الخلفاء العباسيين ببغداد جزا الله كاتبه عنا خيرا