هي رسائل وأسمار، والأسمارُ تُعرِّفها اللغةُ في معاجمها بأنها أحاديث الليل، ونُعرِّفها نحن في كتابنا بأنها أحاديث المحبين في الليل، وإن كانت اللغةُ قد فرضتْ للفظ (السَّمَر) ثلاثةً من الحروف لا يتمُّ اللفظُ إلا بها ولا يمكن سقوطُ أحدها، فلقد فرضنا نحن لمعناه ثلاثةً من الأشياء لا يتمُّ المعنى إلا بها ولا يمكن غياب أحدها (الحبيبان والليل).
القارئ الساكن رأسي بالكاد تخطَّى الاستهلال والمقدمة، لم يكن قد عبَر عتبات الفصول الأولى بعدُ، حتى تقلَّب هانئًا مِن جمال السَّبك، لدلال الحَبك، وروعة المعنى المجدول بينهما، يُردِّد في خاطره: إن مِن البيان لسِحرًا!
كتابٌ قد ادَّخرته لأيامٍ تشح فيها أمارات الجمال، وتنحَسر عنها وضاءَة الحال، فأتزوَّد منه وأنهل، لم يسبق أن مررتُ على كتابات مؤلفه من قبل، وأنا الآن ممتنة كثيرًا لتلك القراءة الأولى.
يُمكن للحب والجمال فحسب أن يُنقذنا، في عالمٍ مغمور بالقبح إلى الخصر، ومذبوح بالقسوة من الوريد إلى الوريد، حسبُنا من الكلمات المِغناجة والمعاني الرقراقة، أنها تُنفِّض عنا غبار البلادة والصلابة، بعد أن أمسَينا أقرَب إلى الجمادات وأشبه.
يُمكن للحب والجمال أن يستمطر فينا الرحمات، ويستنهِض البِشارة، ويستولِد التأسِّي بالرضا على أثقال الحياة وأدرانها.
من نعماء الله وسِعة عطائه، أن يهَب المرءَ منا القدرة على تذوق السِّحر؛ في النفس، في الآخَر، في الحياة، وفي الكلمات. والتنعُّم بثمرات الجلسات الهنيئة التي ينفرد فيها بكتاب جيد، أن يقرأ، أن يحلم، أن يتخيل.
فلله الحمد على الخيال، على الكتب، على الحروف البهية وأُمنائها، والمعاني الماجدة وأربابها.
"والفن كما الحب.. شبيهان؛ كلاهما يجعلك ترى نفسك في صورة أخرى ليست أنت، غير أنها في أصلها وحقيقتها أنت..!" هكذا يقول محمود وهكذا أرى كتابه.
كل معنىً جميلٍ في قلبي وكل شعورٍ مضمرٍ في صدري، آثرتُ -خشيةَ ظَلَفِ الحياةِ أن يَقتلَه- كتمَه، النور الكامن بداخلي أتحسسه في الشدائد تترى آمل ألا يخمد، كل معنىً أعرفه ولا أُبينه وأُحسه ولا أجده.
وجه اللغة التي حُرمناها ظُلمًا وجهلًا ودُلِّست علينا زورًا ومكرًا، المبينة بالحق عما خفي في بطون المعاني، الباهرة بالسبك في صور الكلام، المقسطة في ميزان المعاني والأنغام، فلا تُذهب حلاوةُ التصوير وموسيقى الكلام حكمتَه، ولا يجرح جدُّ المعنى عذوبةَ صورته.
قرأت الكتاب على مُكثٍ رجاء طول مصاحبة، قرأت الاستهلال والمقدمة مرات لا أُحصيها، وأجزاء منه سهمت فيها حتى حسبتني لا أتجاوزها.
أُحب محمودًا وأُحب قلمه وأراه أحد الأدباء القلة الذين يعرفون معنى الأدب العربي وحقه، وليس مثلي يحكم على مثله.
-الجمال، مفهومٌ فنيٌ وتقديري، يبعث في النفس سرورًا ونشوة، واختلف الناس في ماهيته ومقاييسه ومعاييره، لكن ما ليس عليه خلاف، أن الكون لا يخلو جزءٌ فيه من الجمال. وتذوق الجمال يتطلب قلبًا محبًا نشطًا، ومشاعر مرهفة، وخيالًا واسعًا، ونفسًا طيبة متسامحة، يتعرف بهم المرء على ميزاته والإحساس به. والأدب إحساسٌ بالوجود وإنصاتٌ للكون، والجمال سمةٌ منه، فالأدب إبانة الغرض، والبيان صناعة الجمال. والحب أسمى المشاعر، وأعظم جوانب النور، نعيمٌ وعذابٌ في آن، تغنّى به الشعراء منذ أقدم العصور، وسال في وصفه حبر الأدباء. "والبيان شطرٌ من الجمال، وجماله سمةٌ من الفن، والفن كما الحب شبيهان؛ كلاهما يجعلك ترى نفسك في صورةٍ أخرى ليست أنت، غير أنها في أصلها وحقيقتها أنت". وحسبي أن طيف الياسمين فيه كل ذلك.
رسائل في الجمال والحب من طرازٍ رفيع، نسج فيها الكاتب العبارات في صورةٍ فنيةٍ عاليةٍ نفيسة المعنى، فكان يسبك عبارته كما الصانع إذ يسبك الذهب. على أنه لم يأتي بمعانٍ لم يؤت مثلها، وإنما حسَّن الشكل حتى ليظن القارئ وكأنها ولدت بين يديه للمرة الأولى، فجاء بالخيوط نسجها نسج العالم بما ستظهر عليه من جودة في الصنع وإبداعٍ في المظهر. لغةٌ بليغةٌ قادرةٌ على احتواء المعنى، مكسوةٌ بأبهى شكل، تنفذ إلى قرارة النفس.. أسلوبٌ عالٍ تطربك أهازيجه، ولمحاتٌ من شعرٍ وجدانيٍ صادق، وديباجةٌ نقية. قطعةٌ فنيةٌ شديدة العذوبة والرقة، تجعل القارئ يرتشف رحيق الجمال الساحر. لوحةٌ رسمت بريشةٍ فنانٍ مبدع، تتعانق فيها الألفاظ والتعبيرات الرصينة، يربط بين الأفكار في خفةٍ ورشاقة.
محمود أديبٌ بارع، وكاتبٌ بليغ، أحبه وأحب قلمه، يحاول أن يسمو بالقارئ إلى درجةٍ عاليةٍ رفيعة، بعيدًا عن غثاء السيل الذي امتلأت به الساحة الأدبية.
بعد محاولاتٍ فاشلةٍ لاستعادة حسابي السابق هنا، قلت لنفسي لا بأس من بدايةٍ جديدةٍ.
كان هذا أولَ كتابٍ أقرأه في هذا العامِ، و أولَ إصدارٍ للأستاذ محمود سلومة، و قصدتُ أن أوضِّحَ هذا لنتخيَّلَ كيف ستكون الإصدارتُ القادمة إذا كان أولها على هذا القدرِ من البيان، و السلاسة، و الإحكام.
يقولون أن اللفظَ زينة المعنى، والمعنى عماد اللفظ، و قلما نجد بُنيانًا قائمًا على الأساسين بغير أن يسقطَ أحدهما أو يُبخسَ حقُّه ليظهرَ الآخرُ عليه.
ولكنني وجدتهما هنا يسيران جنبًا إلى جنبٍ ليخرج لنا عملٌ ينمُّ عن براعةِ كاتبه و تمكُّنه من الألفاظِ والمعاني.
اسم الكتاب: طيف الياسمين. اسم الكاتب: أ/ محمود سلومة. التصنيف: رسائل و أسمار في الحبِّ و الجمال.
نبذة عنه:
كما ذكرتُ في تصنيفه أنه رسائل و أسمار أفضى بها الكاتبُ إلينا في شكل حروفٍ في ظاهرها، و مدادٍ من روحه وعاطفته في باطنِها.
أخذنا فيها ما بين الشعرِ و النثرِ و قد أجادَ كليهما بغير إخفاقٍ أو إفلاقٍ.
جاءنا الكتابُ بمعانٍ سلسة، و ألفاظ بليغة، و عبارات محكمة القصد و المعنى.
أما عن البيان فهو سمةُ الكاتب التي لا تخفى علينا، و نخشى أن نصفَها فلا نوفيها حقَّها.
اقتباسات من الكتاب:
"و لئن كان لكلِّ أحدٍ من البشر نصيبٌ مُقدَّر من جزء الرحمة الواحد الذي أودعه الله الدنيا و استأثر عنده بتسعةٍ و تسعين جزءًا، فإنَّ تسعةَ وتسعين جزءًا من نصيبي من رحمة الله كانت أن جعلني أحبُّكِ. "
" لو أننا كان بيننا يومًا نزاعٌ أو خصامٌ، ولو تناصر لي كلُّ الناس عليكِ لكنتُ معك أنتِ نصيرًا لكِ عليهم و عليَّ."
" إنَّ الجمال و الرقَّة في المرأة لا يتمَّان جمالًا و رقَّةَ إلا إذا لحِقها جانبٌ من الطمأنة و اللين، يراها من تحبُّه فتكون نفسُه أسكنَ و ألينَ ما تكون بلينها، و جانبٌ من الشدَّة و الجمودة، يراها من تكرهُه فتنقلبُ نفسُه أفزعَ و أعسرَ ما تكون بعُسرها!"
رأيي بغير إطنابٍ أكثر؛ الكتابٌ يُعد مَنهلًا لمن يريدُ أن يتذوقَ معنى الحبِّ و الجمال، و الجمال في الحبِّ بعيدًا عن ركاكةِ اللفظِ و تفكك المعنى.
قد أنست ليلتي هذه بكتاب من أجود ما قرأت، بعد انقطاع طويل عن كتب الأدب، واستفتحت الكتاب باردة فاترة، وختمته وإني لأقسم أني لأجد بين جنبي شيئًا ما عهدته قبل، بث فيّ حياة، وبت أقلب فيه ينبض مع كل عبارة ما فيّ كل ما فيّ، وأجد على لساني حلاوة، وفي قلبي أنسًا واستمهالًا لصفحاته، فسبحان معلم البيان!
وإني لأجعل الكلام بليغًا باجتماع حسنين فيه: العلو والاسترسال، علوه بهجر ما سفل من المعاني والمباني، وتخلية تافه الكلام وغثه، واتقاء مبتذل اللفظ وهُجره، واسترساله بإلف الطبع واستطابته، فلا تجد فيه نفس تكلف أو استيحاش موضع لفظة من عبارة، فيكون على لسانك خفيفًا منسابًا وفي ذوقك مستعذبًا مستمرأً..
وصاحبنا جمع بين المعرفة والمهارة، وذاك في الناس قليل، معرفة الحب وضروبه وخصاله، ومهارة الإبانة عنه وتصوير دفقاته وملئه القلب وإمكانه منه، فأتى كتابه بليغًا رقيقًا مرققًا لا يأتي على مرتاج من مراتيج آل الإعراض عن الحب إلا فشه، ولا على فكرة من فكرات منكريه إلا اجتثها، وأبدل بها منابت طيبة، يربو بها الحب ويثرو فيها الجمال..
هذا كتاب يقرأ بالوجدان قبل اللسان، حقيق بأن يُعمَل فيه الفكر والذائقة، ويقلب في أوجهه بعين الفؤاد.. طرق فيه صاحبنا معاني أخاذة، تفتح على قارئه فتوحًا في الحب، وتقوّم سلطانه في العلاقات، وتؤنس المشتاق والثكلان والبعيد، فكان كتابه رحلة خلابة يقلب خائضها في مشاعر شتى، بين الأسى والاستئناس والحنين والطرب والانقباض والانبساط والارتياح والالتياع..
وأخيرًا، لا أكتفي من هذا الكتاب بمورد واحد، ولنا معه قراءات بعد.. :)
" ولا يفزع الفتاة في خيالها يا صديقي ولا يرعبها شيء كهاجس أن يتوغد يوما من تحبه" " فيها براءة طفل ما علم بالدهاء شيئا، وفيها مع ذلك دهاء حكيم قد أنضجته الأيام والتجارب وأحكمت إنضاجه" " وكان لها كما النهر فياضا عذبا وسهلا سائبا، وكانت تخشى أن تنهل منه لما أصاب قلبها من ملوحة البحار قلبه"
" وكانت عيناك أجمل صرح من الخيال ابتنيته .... وسرت فيه مفتشا عن سر لطالما أرقني خفاؤه"
هنا تلاحق خوفك وحزنك واملك...رواية تدور في فلك القلب عبر مزيج من الشعر والنثر,,,ستضحك عزيزي القارء وتفرح وتجن وترقص حين يداعب نسيم الذكريات خيالك,, لا ادري كيف اصف كم المشاعر وانا اقراها
وددت لو لم ينتهِ! إن من البيان لسحرًا، ونصف سحر البيان في صفحات طيف الياسمين. من الصفحة الأولى وحتى الأخيرة، لم أكن أقرأ، بل كنت أمتطي الكلمات التي حملتني إلى دنيا أخرى وعالم آخر، عالم يعرفه العاشقون، ويحلم به الآملون، عالم -رغمًا عنه وعنا- يتحطم فور اصطدامه بالواقع، سيان في صفحات الكتاب وأيامنا التي نسير فيها، عالم ما فتأ عن كونه عزاءً وسلوى لبني آدم. أردت أن أقتني طيف الياسمين وأقرأه فور صدوره، ولكن تعذر عليّ الأمر، والآن أفهم حكمة الله في توقيته. أنصف محمود الفصحى وأنصف قُرَّاءه، وأنصف الحب، وأنصف النساء والرجال في الحب. عملٌ بهذا الإتقان والصدق جديرٌ بمكان بين أعظم مؤلفات العربية على مر العصور.
كتاب خَلقه صاحبه في عمره هذا إثباتًا لجزءٍ من حياته فيُبين عن خواطرٍ، ويبثّ ذات خلجاته بأسلوبٍ جَمع فيه ما بين براعة التصوير،ودقة المعنى،وجزالة الألفاظ ورقتها،وخيال سَتعجب به ومنه! ومن ثم تأخذك اللغة في رحلتها معك في انسيابية فيدل بعضها على الآخر.. - فمن كان الجمال ديدنه والحب غذاء روحه والألم مدواة لرتابة قلبه، فهذا ضالته حيث كتبه صاحبه وهدفه الأنس وإزالة غبرة الأيام عن الأسلوب الفني الذي كاد يندثر.
نُهنِّئ كاتبنا العزيز لإظهاره هذا الابن اللطيف على قلوبنا جميعا.🤎