أمسيتُ كتلة بلور هشة. تضرّعتُ إلى الله أن يساعدني. بعد أن نبشتُ لحمي بأظافري مرتين.. المرة الثالثة ستكون القاضية. فكرتُ وأنا أنظر إلى النار المتصاعدة من شعّالة أبي، تراقص حظي وسط اللهب. شعرتُ باختناق فظيع، فتحتُ بسرعة الكوة الصغيرة بين الستارتين المغلقتين على البلكونة. أخرجتُ رأسي العريض منها كي أستنشق الهواء من الخارج. لمحت قطًا أجربَ يمرُّ على الطريق، نظر إليّ وغمزني. كم أمقته، كم أمقته، كم أمقته.. لا أحد يحبه هذا القط. حتى الحيوانات، لا يختارون منها إلا جميلي الشكل كي يقتنوه في بيوتهم. سأبقى كهذا القط وحيدة. كنحن الثلاثة معا؛ كل في عالمه، وحيدون يربطنا رواق وحمّام، بيت راحة. حيث لا راحة في هذا المكان.
طرح جريء ومهم عن علاقة الإنسان بجسده، (بين الناس وخلف الأبواب المغلقة)، ومن ثم علاقة الإنسان بأجساد الآخرين، وترجماته الداخلية والسرية للإشارات التي تصله منها. قد تبدو ثيمة العمل سخيفة أو صادمة للوهلة الأولى، فبسببها نجد النص مطعمًّا بالتفاصيل المقززة التي لا يستحب الكتابة عنها ولا حتى التفكير بها، لكنها في الحقيقة تحسب للكاتبة التي اختارت أن تغامر بولوج هذا الجانب الشائك والمسكوت عنه، فكل تلك التفاصيل هي تفاصيل بشرية موجودة ومعاشة بشكل يومي، وهي بشكل أو بآخر تحدد علاقتنا بأجسادنا وأجساد الآخرين، العلاقة التي تنعكس بشكل لا واعي وغير مباشر على شخصياتنا بالمجمل، وفكرنا وتركيبة مشاعرنا حتى الراقية منها والروحانية. السرد مسل وشيق وظريف، اللغة بسيطة ورشيقة لكنها تعج بالأخطاء النحوية (مسؤولية الناشر، كأنها لم تدقق بشكل جيد). جيد كان تعدد الأصوات، لكن التوزيع لم يكن عادلًا إذ أعطى لجميلة الحصة الأكبر، بحيث بدت مقاطع الأب وسهير على جمالها كأنها تحصيل حاصل. ليس ثمة حبكة أو أحداث، بل نحن أمام شخصيات تتحدث عن نفسها بشكل عام مع ذكر حوادث متفرقة تعرضت لها في خضم حياتها. الحدث المتحرك الوحيد كان في حادثة خيانة الأب لزوجته. الفصول الأخيرة كانت لوحات سوريالية بملامح كابوسية، لم تأت مؤثرة بما فيه الكفاية.
ثلاث شخصيات يجمعهم المكان و يجمعهم الصمت .العمل يمتد على أربع فصول متفاوتة الطول تمثل الشخصيات الرئيسية الثلاث : جميلة أطول فصل و الأكثر ثراء على مستوى السرد و الحكي و التي منحت العمل عنوانه في إطار لعبة تضاد (جميلة و هي قبيحة)، الأب "أبو أحمد" الذكر المتصابي و زوجة الاب "سهير" ضحيةالمجتمع في إطار تقنية تعدد الأصوات التي سمحت لنا كقراء ان نقف عند وجهات النظر المختلفة للحياة اليومية التي تعيشها هذه الأسرة و التي كشفت عن الحاجة الى الحب . العمل بلغته الصريحة و القوية يعري قضايا اجتماعية و نفسية حول الزواج و الخيانة و حول الجسد و الجنس و الحب بطريقة فيها جانب كبير من" الغروتيسك" _grotesque _ و هذا ما يظهر على مستوى أسماء اللوحات التي تدور في فصول العمل و التي بالمناسبة هي عناوين معبرة عن الواقع في عمقه بشكل كبير . أحداث العمل تظهر رتابة الحياة اليومية و تفاصيلها بدون "روتوش" او تجميل له فالشخصيات حاضرة بأبعادها كاملة و بوجود نقلها من خانة الشخصيات الورقية إلى الشخصيات الحية (ضروري قراءة العمل ). نسرين النقوزي كاتبة قوية و مجتهدة 👍👍👍انتظر دائما جديدها.
رواية قصيرة جدًّا و شديدة السوداوية. الرواية تكاد تكون مونولوجًا طويلاً على لسان الشخصية الرئيسية باستثناء الفصلين المُخصّصين للأب و زوجته. نسرين النقوزي لا تجامل و لا تُجمّل. ترسم اليوميّ عاريًا، قبيحًا، كريه الرائحة. جميلة ليست جميلة و لكنّها حقيقية. أحببتا.
في عملها الروائي الثاني " الآنسة جميلة" (الصّادرة عن دار النّهضة العربيّة طبعة أولى 2023 )، اختارت نسرين نقوزي أن تعيد الإنسان إلى ما دون بداياته، مجرّدة الشخصيّة من جندرها الأنثويّ أو الذكوري منطلقةً من النزعة السلوكيّة وميلها، فجميع الشخصيّات متفككة تجاه ذواتها وتجاه بعضها البعض فضلاً عن أنّ الرواية الأشبه بيوميّة طويلة متحرّرة من المبنى الحكائي الكلاسيكيّ شكّلت ضفّة لمتتاليات سرديّة تفاصيلها محرجة وربّما غريبة... وبالتالي تشكّل رواية نسرين النقوزي صرخة فريدة نحو الخجل الإنساني وشرارة تعيد لنا الحق بالنظر نحو المجتمع وكيفيّة تشكّله على أنقاض العقد والبحث عن التفرّد...ورغم كلّ ما تطلّعت إلى تحقيقه الكاتبة إلّا أنّها فتحت مجدّدًا المجال أمام حفر في الذات وملامحها المتأرجحة بين الهدم والبناء.
الواقع بلا أقنعة أومحسّنات تجميلية مصطنعة!!! هذا مضمون رواية " الآنسة جميلة" بلغةٍ عارية وأسلوبٍ مباشر صريح، ، أقحمتنا الكاتبة داخل منزل أبو أحمد، وكشفت لنا يوميات شخصيات تتعايش معا دون ان تتناغم او تتفاهم، وكأن لكل واحد عالمه الخاص المنعزل المنيع.. كل شخصية تعيش في قوقعتها ، تتآكلها هواجسها ورغباتها ومخاوفها� شخصيات ظاهرها بسيط وعادي، وداخلها معقّد شائك..لا تجمعهم سوى الحاجة المستترة الى الحب والاحتواء. ثيمات وأفكار جريئة طُرحت دون مواربة: االعلاقة مع الجسد، الجنس والرغبات، العنوسة والطلاق والزواج غير المتكافىء، الحب والرغبة بالتملّك، الغيرة والتماهي، الأبوّة والأمومة، الموت والمرض، والخوف!!!! الخوف الذي يحكم كل التصرفات وردود الافعال� رواية قيّمة في ابعادها الاجتماعية، العائلية والنفسية� تلقي الضوء على ما ينتظره الفرد من اسرته وتأثير نظرتهم له على علاقته بجسده وبالآخرين �
لا تحاول نسرين في روايتها وضع مساحيق لتجميل واقع شخصياتها، بل أنها وفي كثير من المقاطع يبدو للقارئ أنها تبذل مجهودا لطرحه بشكل أكثر سوءا وقبحا. وهي في كل الأحوال نقطة تحسب للكاتبة التي أبانت عن جرأتها وجسارتها في تسليط الضوء على العديد من القضايا الاجتماعية التي تتخفى في صندوق الطابوهات المسكوت عنها خاصة تلك التي تتعلق بالرغبات الجنسية أو بالتناقضات الدينية! بعض الهفوات من الكاتبة هو ما جعلني أقف عند نجمتين في تقييمي للرواية، أولها اختيارها في تعدد الأصوات في الرواية، وهو اختيار كان من الممكن أن يغني مشاهد الحكي لولا أن عدم التمكن الملحوظ من هذا الأسلوب من طرف الكاتبة جعله اختيارا غير موفق، خاصة حينما تتكرر نفس المشاهد بنفس الانطباع الأولي الذي أخذه القارئ من الصوت الأول والذي يتكرر بشكل رتيب عند الأصوات التي تليه. فضلا على أنني كقارئة كنت أنتظر أن يتم ختم الرواية بنص واقعي ساخر يلخص مسار الشخصيات بدل تلك المشاهد السريالية التي تعطي للقارئ انطباعا على أن الكاتبة كأنها لم تجد مكانا لتلك النصوص فأقحمتها في نهاية الرواية!
حسناً، كدت أن أنتهي منها في مقهى البحيرة في أمسية من آماسي الثلاثاء المسالمة. لولا أن النادلة قالت أن المقهى سيقفل. فاضطررت اكمال بقية الصفحات الست في الطريق. هي نوڤيلا وليست رواية وتمنيت لو أنها كانت رواية، ففيها من السحر والواقعية والصدمات ما يستحق أن يُروى، كمية قذارة مع جمالية الوصف مع عمق التجربة الإنسانية المحكي عنها. لا أدرِ ماذا أقول عن جميلة القبيحة التي تُستثار من جسد زوجة أبيها! لا أدرِ ماذا أقول عن المونولوج الداخلي لكل شخصية فكل شخصية تحكي عن المنظور من زاويتها وكم تختلف الرؤية والشعور وتتشابه الزوايا والمنظور. أعطيها خمسة من خمسة للأسف لأنها حزينة وكنت أتمنى لو كانت رواية سعيدة. الشعور بالقرف والوحدة والقبح وصل وهذا المهم. سأظل أردد مع جميلة: "أريد أن أختفي ولكن الى أين؟ غير أحلامي" فعلاً الى أين؟ غير أحلامي! غير أحلامنا يا جميلة!
الآنسة جميلة رواية تشبهنا إلى حد كبير، منا وفينا تتحدانا تتصارع معنا تضعنا في مواجهة مع أنفسنا ومع الآخرين تتعامل بواقعية مع القضايا الشائكة التي قد تواجهنا في حياتنا لا تفرض علينا حلولا ولا ترغمنا على تبني أفكارها وتصوراتها تترك الباب مفتوحا على مصراعيه لأي رؤية تناسب طبيعة القارئ الفكرية ليست خاصة ببيئة مكانية محددة ولا حتى زمانية فأحداثها وشخصياتها موجودة بيننا وقد تكون قصتنا الخاصة. تقع الرواية في مئة واثني عشر صفحة تقريبا، استطاعت أن تقول الكثير بأسلوب خاص ولغة متقنة جميلة تحترم عقل القراء على مختلف مشاربهم. تحاول الآنسة جميلة -وأكاد أجزم أنها نجحت- أن تمسك العصا من منتصفها إذ تصور الشخصية بما لها وما عليها دون تجميل أو محابة ��طرحها هكذا دون تزييف ولنا أن نتعاطف مع أي شخصية ونضع لها مبرراتها الأخلاقية أو الاجتماعية في حدث ما ونقف في وجهها في آخر. لا شخصية شريرة بالمطلق ولا خيرة بالمطلق كذلك. هي رهن الموقف والحالة النفسية والمزاجية ورهن تصور الشخصية الآخرى بما فيها من تناقضات وتصورات تفرضها الحالة. قوة الرواية تكمن في تفاصيلها التي لا يمكن بأي حال من الأحوال القفز عنها أو تجاهلها فهي كل متكامل متناسق ومترابط. بيد أن كل فصل بحد ذاته يمكن أن يقرأ بشكل مستقل ليكون حكاية يمكن الإنطلاق منها لسبر أغوار الشخصيات الأخرى والشخصية نفسها. رواية الآنسة جميلة حكايتنا وحكاية الصراع العائلي الذي نعيشه يوميا. أسلوب نسرين النقوزي الروائي أسلوب جديد في الرواية العربية ولها صوتها المتفرد والمتمرد الذي لا يخضع إلا للقيمة الجمالية الأدبية.
النصُّ منحوتٌ بإحكام، أتقنت الكاتبةُ من خلاله رسم الشخصيّات بطريقة متفرّدة، وبأسلوب أدبيّ متينٍ متصالحٍ مع بنية اللغة المعاصرة. يلفتك الذكاء في نسج الحبكة، وصولًا إلى تفكيكها بهدوء وحنكة. للتفاصيل نصيبٌ من السرد، لكنها تفاصيل تَردُ بمقدار، فلا تزيد عن حاجة النصّ ولا تنقص. هي رواية قائمة على تعدّد الرواة، ما يتيح للقارئ التوغّل في ذوات الشخوص، لفهم دوافعها بعمق. فما يبدو سلوكًا غريبًا أو علاقة غير مألوفة، يصبح نقيض ذلك إذا ما ولجنا إلى عمق النفس البشرية.. الرواية بمثابة جرعة مكثّفة من الأدب المتميّز المعاصر، أنصح بقراءتها..