تحكي الرواية قصة انتفاضة العبيد المعروفة لدى المؤرخين العرب بـ"ثورة الزنج" (255-270هـ)، وقائدهم علي بن يحيى، ضد امبراطورية بغداد العباسية اسماً والتركية نفوذاً وسلطة، في القرن التاسع الميلادي. الرواية تحكي على لسان أكثر من شخصية، موظفة الأنا في بعدين متلازمين: أنا الساردة الشاهدة على الأسطورة والموت والقسوة، وأنا المفسرة المترصدة لحركاته المستنطقة لحضوره الراسخ في كل تفاصيلها.
يالهذه الرواية الباهرة! لا يبدع جمال الدين بن شيخ في نقل التاريخ لنا وحسب، لكنه يفعل ذلك بأشد اللغات بلاغة.. بلغة لا تفقد -رغم الترجمة- سحريتها وصوفيتها الكامنة، وشاعريتها التي تتمادى أحياناً. إلا أنها تظل نجحت في أن تتقمص أرواح الشخصيات المتواجهة على مذبح الأحداث لتعبر عنهم ببلاغة مدهشة. وأن تتنقل بنا بين الماضي والراهن لتكشف لنا ،كم هو وسخ ودامٍ ومعقد تاريخ الإنسان، حتى وهو يمتطي صهوة المقدس والإلهي بحق أو بدونه، لينشئ ممالك يتنازع عروشها السادة والعبيد. إن ثورة الزنج جديرة بالتدبر العميق كونها تطلّ حدثاً مذهلاً في تاريخ الشرق. جاءت تلك الحركة في لحظة تفتت إمبراطورية بني العباس بين قادتهم الفرس والترك والعرب. في تلك اللحظة المصيرية من تاريخنا جاء الزنج، ألوف وألوف العبيد الذين لم يُنظر لهم حتى حينه إلا ككائنات أوضع من الحيوانات حتى ليهزوا أركان الإمبراطورية بانتفاضة مسعورة وقعت على مرمى حجر من بغداد التليدة.. ليسووا البصرة بالتراب ويشيدوا حولها دويلة شائهة شطرت الدولة لقسمين. هل تسترجع ثورة الزنج أمجاد سبارتاكوس وعبيد روما الذين ما فتئوا يثورون عبر الأزمان؟ هل كان علي بن محمد، حتى وهو يسبي الحرائر ويسفك الدم ويحيل المدن إلى ركام، حتى وهو يدعي نبوة أو نسباً مكذوباً للنبي كما قال أعداؤه، هل كان كان يردد صدى ثورة "جده" الحسين؟ وإن كان علي بن محمد كذوباً ظلوماً، فهل يشكل الصوت الآخر، صوت الخليفة العباسي اللاهي في قصور سامراء، صوت الحق؟ حتى وهو يبعث بأخيه الموفق ليخمد الثورة خلال سنوات طوال وبأساليب لم تقل وحشية عن أساليب عدوه؟ تلك كلها أسئلة تتركها الرواية معلقة في ضمائرنا لكنها تطرحها بأكثر الأصوات وضوحاً وتعدداً على ألسنة أسماء مجدتها أقلام المؤرخين أو مرت بها بلا اكتراث.. لتترك لنا مسؤولية انتشالها من طيّ العدم واستنطاقها من جديد.
يمكن للقارئ أن يعدد مصادر الحصول على متعة جديرة بالاحتفاء حتى وإن كانت مشاغله تحول بينه وبين تذكرها بما يليق. أظن بأن هذه الرواية سخية في إمداد القارئ بالمتعة الأدبية التي لا تغيب سريعاً، وأيضاً باعتمال التاريخ في سطورها سرداً وموضوعاً بما يحيله إلى كائن حي يأخذ مكاناً فارهاً بين يدي المتلقي.