عميقٌ حَد الوجع من فرط العُمق تكاد تشعُر بوخز الوجعِ في أوصالك وصفُ الموت واقترابه وانتظاره .. ووصف المرض وملازمة الفرش قسراً لا يُمكن أن يأتي بالتخيّل أحاسيسٌ كهذه تحتاجُ إلى " التجربة " .. حتى تصِل إلى هذه الدرجة من تجسيد ( الوجع ) باحتراف " ضد من ؟ ومتى القلبُ في الخفقانِ اطمأن ؟ " "والطيور التي لا تطير طوت الريش واستسلمت هل تُرى علِمت أن عمر الجناح قصير .. قصير ؟ الجناحُ حياة والجناح ردى والجناح نجاةٌ والجناحُ .. سدى
ولد أمل دنقل بقرية القلعه مركز قفط على مسافه قريبه من مدينة قنا في صعيد مصر وقد كان والده عالما من علماء الأزهر الشريف مما اثر في شخصية أمل دنقل وقصائده بشكل واضح. سمي أمل دنقل بهذا الاسم لانه ولد بنفس السنه التي حصل فيها والده على اجازة العالميه فسماه بإسم أمل تيمنا بالنجاح الذي حققه واسم أمل شائع بالنسبه للبنات في مصر. كان والده عالما بالأزهر الشريف وكان هو من ورث عنه أمل دنقل موهبة الشعر فقد كان يكتب الشعر العمودي وأيضا كان يمتلك مكتبه ضخمه تضم كتب الفقه والشريعه والتفسير وذخائر التراث العربي مما أثر كثيرا في أمل دنقل وساهم في تكوين اللبنه الأولى للأديب أمل دنقل. فقد أمل دنقل والده وهو في العاشره من عمره مما أثر عليه كثيرا واكسبه مسحه من الحزن تجدها في كل أشعاره.
رحل امل دنقل إلى القاهرة بعد ان أنهى دراسته الثانوية في قنا وفي القاهره ألتحق بكلية الآداب ولكن أنقطع عن الدراسة منذ العام الاول لكي يعمل. عمل أمل دنقل موظفا بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية ثم بعد ذلك موظفا بمنظمة التضامن الافروآسيوي، ولكن كان دائما ما يترك العمل وينصرف إلى كتابة الاشعار كمعظم أهل الصعيد، شعر أمل دنقل بالصدمه عند نزوله إلى القاهرة في أول مره، وأثر هذا عليه كثيرا في أشعاره ويظهر هذا واضحا في اشعاره الاولى. مخالفا لمعظم المدارس الشعرية في الخمسينيات استوحى أمل دنقل قصائده من رموز التراث العربي، وكان السائد في هذا الوقت التأثر بالميثولوجيا الغربية عامة واليونانيه خاصة.
عاصر امل دنقل عصر أحلام العروبه والثورة المصرية مما ساهم في تشكيل نفسيته وقد صدم ككل المصريين بانكسار مصر في 1967 وعبر عن صدمته في رائعته البكاء بين يدي زرقاء اليمامه ومجموعته تعليق على ما حدث. شاهد أمل دنقل بعينيه النصر وضياعه وصرخ مع كل من صرخوا ضد معاهدة السلام، ووقتها أطلق رائعته لا تصالح والتي عبر فيها عن كل ما جال بخاطر كل المصريين، ونجد أيضا تأثير تلك المعاهدة وأحداث يناير 1977م واضحا في مجموعته العهد الآتي. كان موقف امل دنقل من عملية السلام سببا في اصطدامه في الكثير من المرات بالسلطات المصريه وخاصة ان اشعاره كانت تقال في المظاهرات على آلسن الآلاف. عبر أمل دنقل عن مصر وصعيدها وناسه ، ونجد هذا واضحا في قصيدته "الجنوبي" في آخر مجموعه شعريه له "اوراق الغرفه 8" ، عرف القارىء العربي شعره من خلال ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" 1969 الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارىء ووجدانه.
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه يشتهي أن يلاقي اثنتين-- الحقيقة و الأوجه الغائبة الغرفة رقم ثمانية بالدور السابع -المعهد القومى للاورام مرفأ أمل دنقل الأخير وآخر من سمع آهاته الشعرية بطعم الموت أطلقها ورحل ...
في غرَفِ العمليات كان نِقاب الأطباء أبيض لون المعاطفِ أبيض تاج الحكيماتِ أبيض أرديةُ الراهبات الملاءات لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن, قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبة المصلِ, كوبُ اللَّبن كل هذا يُشيع بِقلبي الوَهَنْ كلُّ هذا البياضِ يذكرني بالكفن
لا نتوقف في صحف اليوم إلا أمام العناوين نقرؤها دون أن يطرف َ الجفنُ سرعان ما نفتح الصفحات قبيل الأخيرة ندخل ُ فيها نجالس أحرفها فتعود لنا ألفة الأصدقاء ِ ذكرى الوجوه ِ تعود لنا الحيوية والدهشةالعرضيةُ و اللون، والأمن والحزن
هذا هو العالم المتبقي لنا : إنه الصمت و الذكريات السوادُ هو السواد هو الأهل ..الأهل والبيت
إن البياض الوحيدَ الذي نرتجيه البياض الوحيد الذي نتوحد ُ فيهْ بياض الكفن !
واحدٌ من جنودكَ يا سيدي خزه خُبْزُ ضيق ماؤه بل ريق و الممات بعينيه كالمولِد
واحدٌ من جنودك يا سيدي يركع الآن ينشد جوهرةً تتخبأ في الوحل أو قمراً في البحيراتِ أو فرساً نافراً في الغمام
هاهو الآن .. لا نهر يغسل فيه الجروح و ينهل من مائه شربةً تمسك الروح لا منزلٌ لا مقام فعلى الراحلينَ السلام و السلام على من أقام
ضد من ؟ ومتى القلب في الخفقانِ اطمأن ؟ والطيور التي لا تطير طوت الريش واستسلمت هل تُرى علِمت أن عمر الجناح قصير .. قصير؟ الجناح حياة والجناح ردى والجناح نجاةٌ والجناح سدى
- كتب امل دنقل هذا الديوان في أخر غرفة سكنها على هذه البسيطة، وكانت الغرفة رقم 8 في المستشفى.. المستشفى الذي يحرص على ان يكون اللون الأبيض هو اللون الوحيد (لإعتبارات نفسية، وللنظافة،..) لكن دنقل كان يرى اللون اسوداً حزيناً - الديوان ينقل لنا آخر عذاباته حيث انك تستطيع شم رائحة الموت بين سطوره... ---- الآن... مهما يقرع الإعصار نوافذ البيت الزجاجية لن ينطفي في الموقد المكدود رقص النار تستدفئ الأيدي على وهج العناق الحار كي تولد الشمس التي نختار في وحشة الليل الشتائيه!
لم أقرأ لأمل دنقل من قبل رغم أني من هواة الشعر، و لم يدفعني للغوص في أشعاره سوى مقال قرأته في كتاب " اللغز وراء السطور" لأحمد خالد توفيق بعنوان " استقالة شاعر" و الذي يتحدث فيه - بشكل ساخر- كيف أنه جرب كتابة الشعر ثم قرر التوقف نهائياً بعد أن قرأ لأمل دنقل ليدرك معنى الشاعر الحقيقي، و حجم الموهبة التي يمتلكها هذا الرجل كانت تلك القراءة الأولى للراحل المبدع أمل دنقل و الغريب أنها بدأت مع آخر ديوان شعر كتبه و هو على فراش المرض، لكنا لن تكون الاخيرة لموهبة من أفضل المواهب التي تستحق أن تعلو سماء الشعر العربي
عندما قرأت هذا الديوان للمرة الأولى لم أكن أعلم أن أمل دنقل كتبه من سرير المرض، وأن الغرفة رقم 8 هي رقم غرفته في معهد السرطان.. أعجبني الديوان في المرة الأولى، وازداد إعجابي به بعد القراءة الثانية. نصوص مؤلمة وصادقة كانت هي آخر ما كتب الراحل أمل دنقل -رحمه الله- وآخر ما كتب كانت كلمات عن استعداده للموت بعد صراع طويل مع المرض:
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه يشتهي أن يلاقي اثنتين: الحقيقة و الأوجه الغائبة.
من على سرير المرض، حيث كل ما حوله أبيض "يذكره بالكفن" يكتب أمل أوراقه الأخيرة مودعاً عالمنا بالكلمة كما عاشها للكلمة وبالكلمة.. لكن "لم يمت ! هل يموت الذي يحيا كأن الحياة أبد؟!"
بكلمات عن الوجع وعن اللحظات الأشد صعوبة وألم عند مفترق الطرق أو بالأحرى نهايتها..
" ضدّ من ؟ ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟!"
"فالجنوبي يا سيدي يشتهى أن يكون الذي لم يكنه يشتهي أن يلاقي اثنين: الحقيقة والأوجه الغائبة."
"لا منزل لا مقام فعلى الراحلين السلام والسلام على من أقام"
تتحدثُ لي الزهراتُ الجميلةُ أن أعينها اتسعت دهشةً لحظة القطفِ، لحظة القصفِ، لحظةَ إعدامها في الخميلةْ تتحدثُ لي.. أنها سقطت من على عرشها في البساتين ثم أفاقت على عَرضِها في زجاج الدكاكين، أو بين أيدي المُنادين، حتى اشترتها اليدُ المتفضلةُ العابرةْ
نحن جيل الألم لم نر القدس إلا تصاوير لم نتكلم سوى لغة العرب الفاتحين لم نتسلم سوى راية العرب النازحين ولم نتعلم سوى أن هذا الرصاصَ مفاتيح باب فلسطين فاشهد لنا يا قلم . أننا لم ننم . أننا لم نقف بين لا و نعم ما أقل الحروف التي يتألف منها اسم ما ضاع من وطنٍ
أمل دنقل ايها الشاعر الجليل، بعدماأتحفني أمل دنقل بقصيدة لا تصالح. قرأت هذه القصائد الرائعة. هذه القصائد كتبها شاعرنا الكبير في آخر أيام مرضه، في هذه القصائد شعرت بأمل دنقل من خلال نظرته الى العالم، نظرته الى الشعب، والى العصافير ، والى الالوان، والى المرض.
رائع جداً، ديوان مفعم بالاحاسيس. أنصح به وخصوصاً لليائسيين.
*رفسة من فرس. تركت في جبيني شجا. وعلمت القلب أن يحترس.
*ليت أسماء تعرف أن أباها صعد. لم يمت.. هل يموت الذي كان يحيا كأن الحياة أبد. وكأن الشراب نفد. وكأن البنات الجميلات يمشين فوق زبد. عاش منتصبا بينما. ينحني القلب يبحث عما فقد !!
*هل تريد قليلا من الصبر ؟! لا...فالجنوبي ياسيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه. يشتهي أن يلاقي اثنتين. الحقيقة و الأوجه الغائبة.
*صاح بي سيد الفلك قبل حلول السكينة: انج من بلد لم تعد فيه روح. قلت : طوبي لمن طعموا خبزه في الزمان الحسن. وأداروا له الظهر يوم المحن. ولنا المجد نحن الذين وقفنا وقد طمس الله أسماءنا. نتحدي الدمار. ونأوي الي جبل لا يموت يسمونه الشعب. نأبي الفرار ونأبي النزوح. كان قلبي الذي نسجته الجروح. كان قلبي الذي لعنته الشروح. يرقد الآن فوق بقايا المدينة. وردة من عطن. هادئا. بعد أن قال لا للسفينة...وأحب الوطن.
*نحن جيل الحروب. نحن جيل السباحة في الدم. ألقت بنا السفن الورقية فوق ثلوج العدم. قبضات القلوب _وحدها _ حطمتها ومازال فيها الأسي والندوب. نحن جيل الألم. لم نر القدس غير تصاوير. لم نتكلم سوي لغة العرب الفاتحين. لم نتسلم سوي راية العرب النازحين. ولم نتعلم سوي أن الرصاص. مفاتيح باب القدس. فاشهد لنا ياقلم . أننا لم ننم. أننا لم نقف بين لا ونعم.
*كل الأحبة يرحلون. فترحل شيئا فشيئا من العين ألفة هذا الوطن. نتغرب في الأرض. نصبح أغربة في التأببن. ننعي زهور البساتين. لا نتوقف في صحف اليوم الا أمام العناوين. نقرؤها دون أن يطرف الجفن. سرعان ما نفتح الصفحات قبيل الأخيرة. ندخل فيها نجالس أحرفها. فتعود لنا ألفة الأصدقاء وذكري الوجوه. تعود لنا الحيوية والدهشة العرضية. واللون والأمن والحزن.. هذا هو العالم المتبقي لنا : إنه الصمت. والذكريات. السواد هو الأهل والبيت. إن البياض الوحيد الذي نرتجيه. البياض الوحيد الذي نتوحد فيه : بياض الكفن.
*عم صباحا أيها الصقر المجنح. عم صباحا. سنة تمضي وأخري سوف تأتي. فمتي يقبل موتي. قبل أن أصبح مثل الصقر. صقرا مستباحا ؟!! ****
جاءَ طوفان نوحْ. ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينهْ. بينما كُنتُ.. كانَ شبابُ المدينةْ يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين. ويستبقونَ الزمنْ يبتنونَ سُدود الحجارةِ عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضاره علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ! .. صاحَ بي سيدُ الفُلكِ - قبل حُلولِ السَّكينْ: "انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!" قلت: طوبى لمن طعِموا خُبزه.. في الزمانِ الحسنْ وأداروا له الظَّهرَ يوم المِحَن! ولنا المجدُ - نحنُ الذينَ وقَفْنا (وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا!) نتحدى الدَّمارَ.. ونأوي الى جبلٍِ لا يموت (يسمونَه الشَّعب!) نأبي الفرارَ.. ونأبي النُزوحْ! كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ يرقدُ - الآن - فوقَ بقايا المدينه وردةً من عَطنْ ادئاً.. بعد أن قالَ "لا" للسفينهْ .. وأحب الوطن!
من يقرأ هذه القصيدة على هيئتها الظاهرة دون العلم ب"أمل دنقل" والغرض السياسى المتوارى ورائها،، فحتماً سيتهمه بالكفر أو الإلحاد..
كتب "أمل دنقل" هذه القصائد وهو على مشارف الموت فى الغرفة رقم (8) .. وأثبت "دنقل" رحمه الله، أنه ليس شريطة أن يصيب المرض البشر بالهذيان وغياب العقل، ففى بعض الأحيان يكون مصدراً لإلهامهم:)
شعرت أني أقرأ نعي أمل دنقل لنفسه مؤلم وقريب من النفس.. كم أحب أمل برقته ونقائه وصموده وشجاعته الديوان كله رائع بكل قصائده بلا استثناء
كم أتمنى أن أتمكن في يوم من الأيام من كتابة قصيدة على الأقل له.. لو لم يكن ديوان كامل كم أتمنى أن أتطور لكي أستطيع فعل ذلك
أكثر القصائد إيلامًا هي قصيدة الجنوبي.. آخر ما كتب:
"هل أنا كنت طفلاً أم أن الذي كان طفلاً سواي هذه الصورة العائلية كان أبي جالساً، وأنا واقفُ .. تتدلى يداي رفسة من فرس تركت في جبيني شجاً، وعلَّمت القلب أن يحترس"
--------------------------- "مرآة
-هل تريد قليلاً من البحر ؟ -إن الجنوبي لا يطمئن إلى اثنين يا سيدي البحر و المرأة الكاذبة. -سوف آتيك بالرمل منه وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً فلم أستبنه. . . -هل تريد قليلاً من الخمر؟ -إن الجنوبي يا سيدي يتهيب شيئين : قنينة الخمر و الآلة الحاسبة. -سوف آتيك بالثلج منه وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً فلم أستبنه . . بعدما لم أجد صاحبي لم يعد واحد منهما لي بشيئ -هل نريد قليلاً من الصبر ؟ -لا .. فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه يشتهي أن يلاقي اثنتين: الحقيقة و الأوجه الغائبة."
" فلماذا إذا متُّ.. يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ.. بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟ هل لأنَّ السوادْ.. هو لونُ النجاة من الموتِ, لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ " رأى أمل دنقل في حياته ضروبًا وأشكالًا من الموت فعرفه وآلفه، حتى تملّص أخيرًا من قبضته ثم استلّ نصل الشعر فطعنه فكان هذا الديوان -المُتّشح بالسواد- حقًا تميمة أمل ضد الزمن، الذي نجح به أن يتفادى الموت ويظل حيًا بكلماته وتأثيره آخر أعمال أمل دنقل، وذروة تجربته الشعرية الفريدة من أبلغ ما قيل عن الحياة والموت، ومن أفضل ما كتب أمل دنقل رحم الله الجنوبي
كآن قلبى الذى نسجته الجروح .. كآن قلبى الذى لعنته الشروح .. يرقـد ، الآن ، فوق بقآيا المدينة . وردة من عطن هادئاً .. بعد أن قآل "لا" للسفينة و أحب الوطن !
الطيور .. الطيور تحتوى الأرض جثمانها .. فى السقوط الأخير ! و الطيور التى لا تطير .. طوت الريش ، واستسلمت هل ترى علمت أن عمر الجنآح قصير .. قصير ؟ الجناح حياة و الجناح ردى والجناح نجآة و الجناح .. سدى !
ديوان مختلف عن باقي دواوين أمل دنقل، مختلف لفظًا وتراكيب ووصفًا ودلالة، كل شيء فيه له رونق وإحساس لا يضاهيه أي ديوان آخر كتبَه، قرأتُ كل دواوينه لكن هذا هو أقربهم إلى قلبي، وهو أيضًا آخر ما كتبَ أمل دنقل. حزين لأنني أنهيت أعماله الكاملة، حزين جدًا. ---------- كل الأحبةِ يرتحلونَ فترحل شيئًا فشيئا من العين ألفةُ هذا الوطنْ نتغربُ في الأرض نصبح أغربة في التأبين ننعي زهورَ البساتينِ لا نتوقفُ في صحفِ اليوم إلا أمام العناوينِ نقرؤها دون أن يطرف الجفنُ سرعان ما نفتحُ الصفحاتِ قُبيل الأخيرة.. ندخل فيها نجالسُ أحرفَها.. فتعود لنا ألفةُ الأصدقاء.. وذكرى الوجوهِ تعود لنا الحيويةُ والدهشةُ العرضيةُ واللونُ.. والأمنُ.. والحزنُ هذا هو العالمُ المتبقي لنا: إنه الصمتُ والذكرياتُ.. السوادُ هو الأهلُ والبيتُ إن البياضَ الوحيدَ الذي نرتجيه البياض الوحيدَ الذي نتوحَّد فيه: بياضُ الكفنْ! ---------- - هل تريد قليلًا من البحر؟ - إن الجنوبي لا يطمئن إلى اثنين يا سيدي: البحر - والمرأة الكاذبة. - سوف آتيك بالرمل منه ... وتلاشى به الظلُّ شيئًا فشيئًا.. فلم أستبنْه - هل تريد قليلًا من الخمر؟ - إن الجنوبي يا سيدي يتهيب شيئين: قنينةَ الخمرِ - والآلةُ الحاسبةْ. - سوف آتيك بالثلجِ منه ... وتلاشى به الظلُّ شيئًا فشيئًا.. فلم أستبنْه بعدها لم أجد صاحبي لم يعدْ واحدٌ منهما لي بشيء - هل تريد قليلًا من الصبر؟ - لا.. فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه يشتهي أن يلاقي اثنتين: الحقيقةَ - والأوجهَ الغائبة.
في غرف العمليات كان نقاب الأطباء أبيض، لون المعطف أبيض، تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات، الملاءات، لون الأسرة، أربطة الشاش والقطن، قرص المنوم، أنبوبة المصل، كوب اللبن كل هذا يشع بقلبي الوهن، كل هذا البياض يذكرني بالكفن! فلماذا إذا مت.. ليأتي المعزون متشحين.. بشارات لون الحداد؟ هل لأن السواد.. هو لون النجاة من الموت؟ لون التميمة ضد... الزمن ضد من؟ ومتى القلب _في الخفقان_ اطمأن؟!
"!قلتُ للوَرق المتساقط من ذكريَات الشجر إنني أتركُ الآن مثلكَ بيتي القدِيم حيثُ تلقي بي الريح أرسو و ليس معي غير حزنِــي المُقيم و جواز السفر" يحمل هذا الديوان آخر ما كتَبه أمل و هو على فرَاش المرض .. هذا الديوان مُترَع بالألم تفوح منه رائحة الموت ...كما أنه يحمل بعض القصَائد السياسية _________ "هذا الديوان أوّل ما قرأته للشاعر أمل دنقل ، بعدَ أن أعجبتُ بقصيدته "لاَتصالح
أن تقرا شعرا بديعا فهذا أمرٌ رائع ، فماذا لو قرأت لشاعر يخط ابداعاته علي فراش الموت ، الغرفه 8 التي تلقي فيها العلاج وكتب فيها آخر قصائده ، أن يصف شاعرا الموت الذي ينتظره !، مشاعره التي نسجها قبيل موته لها وقع السحر ، اللغه المتجانسه ، والقصائد الرائعه ، والخبره الطويله ، أجمل ثلاث قصائد : (الخيول) ، (الطيور) ، (علي قبر صلاح الدين) ، ديوان خفيف وجميل .. انصح بقراءته .. اقتباس من الديوان : فى غرفة العمليات كان نقاب الاطباء ابيض لون المعاطف ابيض تاج الحكيمات ابيض اردية الراهبات الملاءات لون الاسرّة ، اربطة الشاش والقطن قرص المنوم، انبوبة المصل كوب اللبن كل هذا يشيع بقلبى الوهن كل هذا البياض يذكرنى بالكفن فلماذا اذا مت يأتى المعزون متشحين بشارات لون الحداد ؟؟ هل لان السواد هو لون النجاة من الموت لون التميمة ضد ...الزمن ضدمن ...؟؟ و متى القلب - فى الخفقان - اطمأن ؟
هو أمير شعراء الرفض ، استطاع أن يلحق بركب الكبار كصلاح عبد الصبور و أحمد المعطي حجازي سريعاً بعد ديوانه البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ، هذا ديوان رائع للغاية كل قصيدة هي تُحفة فنية بحد ذاتها بداية من الورقة الأخيرة "الجنوبي" ثم "ضد من" و "الخيول" و هي قصيدة رائعة للغاية تحدث عنها المخزنجي في أحد مجموعاته القصصية و و "مقابلة مع ابن نوح" التي رددتها كثيراً وقت الثورة ألى آخر الديوان .
آخر ما خطت يد أمل
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه يشتهي أن يلاقي اثنتين: الحقيقة و الأوجه الغائبة
أكثر أشعار أمل التصاقًا بي التي يتحدث فيها عن يحيى الطاهر عبدالله و ابنته أسماء
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد لم يمت هل يموت الذي كان يحيا كأن الحياة أبد وكأن الشراب نفد و كأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد عاش منتصباً، بينما ينحني القلب يبحث عما فقد. ليت "أسماء" تعرف أن أباها الذي حفظ الحب والأصدقاء تصاويره وهو يضحك وهو يفكر وهو يفتش عما يقيم الأود . ليت "أسماء" تعرف أن البنات الجميلات خبأنه بين أوراقهن وعلمنه أن يسير ولا يلتقي بأحد .
حياة أمل دنقل حياة بائسة للغاية لذا لا تنتظر أن تقرأ ما يدخل على قلبك السرور ، هو مُلتصق بالوطن .. دائم السخرية و الانتقاد اللاذع لحالنا العربي ، التفاخر بأمجاد زالت و التباهي براية لم تعد موجودة
نحن جيل الألم لم نر القدس إلا تصاوير لم نتكلم سوى لغة العرب الفاتحين لم نستلم سوى راية العرب النازحين َ ، و لم نتعلم سوى أن هذا الرصاص مفاتيح باب فلسطين
و بعد رقاد ما يقرب من الأربع سنوات يكتب أمل
عم صباحا أيها الصقر المجنح عم صباحا سنة تمضي وأخرى سوف تأتي فمتي يقبل موتي قبل أن أصبح - مثل الصقر صقرا مستباحاً ؟
و السلام عليك أخيراً يا صديقي ..
كل الأحبةِ يرتحلون َ فترحل شيئاً فشيئاً من العين ألفةُ هذا الوطن ْ نتغربُ في الأرض ِ . نصبح ُ أغربةً في التآبينِ ننعي زهورَ البساتين لا نتوقف في صحف اليوم إلا أمام العناوين نقرؤها دون أن يطرف َ الجفنُ . سرعان ما نفتح الصفحات قبيل الأخيرة ، ندخل ُ فيها نجالس أحرفها ، فتعود لنا ألفة ُ الأصدقاء ِ ، ذكرى الوجوه ِ تعود لنا الحيوية ُ ، و الدهشة ُ العرضيةُ و اللون ُ ، و الأمن ، و الحزن ُ . هذا هو العالمُ المتبقي لنا : إنه الصمت ُ و الذكريات ، السوادُ هو السوادُ هو الأهل الأهل والبيت ُ . إن البياض الوحيدَ الذي نرتجيه البياض الوحيد الذي نتوحد ُ فيهْ : بياض الكفن ! واحدٌ من جنودكَ يا سيدي خزه خُبْزُ ضيقْ ماؤه بلُّ ريق و الممات بعينيه كالمولِد واحدٌ من جنودكَ يا سيدي يركع الآن ينشد جوهرةً تتخبأ في الوحل أو قمراً في البحيراتِ ، أو فرساً نافراً في الغمام . هاهو الآن ، لا نهر يغسل فيه الجروح و ينهل من مائه شربةً تمسك الروح لا منزلٌ لا مقامْ فعلى الراحلينَ السلام و السلام على من أقامْ
كما هو معروفٌ لنا، كانت حياة "أمل دنقل" عبارة عن رحلة شاقة ومُضنية، وتعتريها هواجس مصير الشعب المصري، والشعب العربيّ عموماً. فقد عاصر "أمل" أحلام العروبة والثورة المصرية مما ساهم في تشكيل نفسيته، وقد أصيب "أمل" بالسرطان، وعانى منه لأربع سنوات، ومعاناته مع المرض واضحةٌ جداً في هذه المجموعة "أوراق الغرفة 8"، وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأمراض بالدور السابع، والذي قضى فيه 4 سنوات.
ويضمُ هذا الديوان قصائد "أمل دنقل" الأخيرة (1940 - 1983) طوال فترة مرضه، من أوائل سبتمبر 1979 حتى أواخر مايو 1983. الديوان يحمل بين طيّاته أوراق "أمل دنقل" الأخيرة، وأبرز ما قرأته فيها هي قصائد "ضد من" و "السرير" حيثُ جسّدوا معاناته مع المرض، وتوفى "أمل" سنة 1983 بالقاهرة في الساعة الرابعة صباح السبت، الحادي والعشرين من مايو.
:قصيدة ضد من
:قصيدة السرير
والجنوبي هي الورقة الأولى في هذا الديوان. لكنا الورقة الأخيرة في رحلة إبداع "أمل دنقل"، فقد كتبها في فبراير 1983. رؤيا النهاية التي أكتملت بعد تأملات الغرفة 8، والتي حكت عنها قصائد "ضد من" و "زهور" وكانت كتابتهم النهائية في مايو 1982. و "لعبة النهاية" في يونيو، و "السرير" في نوفمبر 1982.