رواية تأسرك من بدايتها إلى آخر صفحة، تحكي أصوات أربع شخوص متشابكة تجمع ما بين الفن والحب، والرياضة, والمعاناة والسجن والتهميش، يقطنون في حارة شعبية.
ستتيح للقارئ أن يحظى بمشاهد بانورامية عن الرياض وأحيائها الشعبية, ومن عاشوا فيها من جيل الستينات والسبعينات، وكيف تحولت تلك الحارات بعوامل التغيير الاجتماعي والاقتصادي، فلم يبق من ألوان المنازل إلا ظلالها، كما لو أن أمواج جفاف ضربتها، كأن الزمان سرق روحها كما سرق عبق فنها وإبداعها، فتحولت معها حياة المبدع من ذات مغزى إلى حياة هامشية، ويتحول من صدر المتن إلى هامش الحياة.
الرواية "مديح تأخر عن موعده حياة كاملة"، وعندما كُتبت أريد بها أن تغير شيئًا ما، و أن يجد فيها كل فنان ومبدع ووحيد، السكِينة التي راوغتهم على الأرض.
غلاف رمادي اللون يظهر قضبان سجن ما وفتحة مفتاح هذا السجن، ومن خلف القضبان تطل علينا آلة عود.. وبالخلف يأتي الحديث عن العمل بأنه صور لنا صورة بانورامية للرياض وأحيائها الشعبية في سنوات السيتينات والسبعينيات.. مسلطًا الضوء على التطورات الاجتماعية والاقتصادية لأهل تلك الفترة من فن ورياضة وحب ومعاناة وسجن..
يهدي الكاتب عمله إلى عائلته وحارته بالرياض ومسقط رأسه بالخرج، والمبدعين الذين رحلوا ولا زالت أغانيهم تغنى.. ثم يشكر العديد من الأصدقاء والأدباء لدعمه كي يستمر في الكتابة..
ثم يضع مقدمة شارحة بأن الرواية من الواقع، بشخصيات من الخيال، وشرح سبب استخدامه للعنوان"قنطرة".. ثم كلمات عن لسان محمود درويش عن الرثاء وبدأ الفصل الأول بكلمات لأثير النشمي�
وحيد بطل قصتنا يتيم مراهق عاش مع امه لسنوات حتى تزوجت فعاش وحيدًا في بيته وبدأ العمل في حقول النخيل وبالصدفة شاهد أصدقاء الدراسة يجلسون في عش يعزفون ويغنون فتعلم العزف على العود والغناء وذهب معهم إلى الرياض حيث أصبح مشهورًا يغني ويعزف على العود والكمان، وقام بتسجيل الاسطوانات وقنع بوحدته إذ أن الفنانون وكما يقول "أصحاب عقول مشتعلة في رحلة بحث دائمة".
حينما سجن وحيد لتهمة هو بريء منها اتهمه القاضي بأن أمثاله: "أغراب ومهنتكم المجون والفسوق، تعزفون المعازف، ويرقص عندكم الغلمان" اكتشف وحيد تأثر القاضي بكتب الأصفهاني وأبي نواس.
تتشابك الشخصيات وتتوسع الحكايات، فها هو الجد مرجان وأولاده وأحفاده ومنهم خالد، جار وحيد وأيضًا عبادي وسارة عنبر.. ثم نعود لوحيد مرة أخرى..
للكاتب مهارة في الفن والموسيقى والغناء أبرزهم في عشق وحيد للموسيقي والتي اعتبرها كما يقول: "فن أصيل له تاريخ كوثق لدى كل الشعوب والأمم باعتبارها لغة ثانية من دون كلمات" بدء وحيد يغني في العشة بالعود، وبرع في الغناء والتلحين، وتنقل في المملكة وقطر والإمارات والكويت، حتى وصل إلى أحدث الاستوديوهات الموسيقية ..
ولديه حس شاعري مرهف فما أجمل حديثه مثلًا حينما سافر من الإمارات إلى الكويت بحرًا وأخد يصف البحر والسماء والغروب والليل.. وكذلك وصفه لحي الطرادية بكل ما فيه من صخب حياة.. أو حينما يصف الفنانة السمراء سارة عنبر قائلًا: "إنها سمراء! أقولها وأصمت، فجمال السمر لا يوصف، ومن لم يعشق السمر ما زال عن جمال الدنيا أعمي".
ولكن سمار سارة كان غصة في قلبها دومًا فهي من أبناء العبيد وتتساءل هل ابنتها ستعامل مثلها؟ أم سيكون لها حظ أحسن من حظها.. أجاد الكاتب الحديث عن هذه المشكلة وعن المعاملة تجاه اليمني أيضًا.. كما تطرق إلى عدة قضايا هامة عبر تاريخ الرواية..
كما تميز بالوصول إلى خبايا أبطاله النفسية..
ومثل الحياة تتوالى الأحداث في الرواية واللكمات والبهجات حتى نصل إلى نهايتها ونحن نتمنى لو تستمر وتكون ذات نهاية مشرقة بعض الشيء..
كلما قرأت أكثر في هذا العمل الرائع كلما اشتممت رائحة مدن ملح المنيف، فالكاتب يتوغل بنا في تاريخ للمملكة بصورة رائعة ويحكي لنا ما لم نسمع عنه أو نقرأه ألا في روايات مثل روايات المنيف، وإن جاء إبداعه مختلفًا عن الفن..
اسم الكتاب: رواية قنطرة المؤلف: أحمد السماري الصفحات: 182 رقم الكتاب: 10 (2025)
قنطرة عمل سعودي روائي "موسيقي" للروائي الأستاذ أحمد السماري، يدور حول فنان وُلد وعاش وسط ظروف معيشية صعبة وشق طريقه بعصامية نحو عالم الشهرة والمجد في الغناء والموسيقى والألحان، واسمه وحيد، حيث نكون شاهدين على رحلته في التغلب على الصعوبات والمشاق التي واجهها في حياته، عاطفياً واجتماعياً وغيرها وسط مجتمع الرياض المحافظ آنذاك -ولا يزال- هذا إلى جانب خط اللاعب عبادي الذي سطع نجمه في عالم الأضواء الكروية وحتى اعتزاله وانتكاسته ثم وفاته بطريقة مبكية، وخط آخر للشاعر سعد الخريجي، صديق وحيد، وخطوط لشخصيات أخرى مثل الفنانة سارة.…إل�
هذا عمل رائع، قد يكون الأول من نوعه تحدثاً عن حياة الفنانين، ممتع بحيث يجعلك تعيش مع الألحان والأغنيات المذكورة، وقد تستذكر بعض الذكريات المرتبطة لديك بإحدى الأغنيات التي تم عرض اقتباسات منها هنا، ويُلاحظ كذلك تكرار اسم الفنان الراحل فهد بن سعيد في هذي الرواية، وأظنه أتى بسبب تأثر بطل الرواية، وحيد، في فهد بن سعيد وفنه وألحانه، عموماً عمل ماتع، ورائع!.
قراءة ذرائعية في رواية/ قنطرة / للكاتب السعودي أحمد السماري بقلم الناقدة د. عبير خالد يحيي
البؤرة الفكرية الثابتة: هي رواية راصدة لتحولات المجتمع السعودي تاريخيًا واجتماعيًّا, وتتخذ من شخوصها معبرًا نحو التوثيق لمرحلة تأريخية اجتماعية شديدة التحوّل, زمكانتيها مدينة الرياض خلال فترة الستينات والسبعينات, بداية المعبر من التأريخ للسيَر الذاتية لأربعة شخوص, جمعهم مكان واحد هو حارة الطرادية في الرياض, خلال زمن واحد, كما جمعهم سعيهم نحو أحلامهم التي عصفت بقلوبهم وخلجاتهم, أحلام تنوّعت بين الفن الطربي الغناء والتلحين والتأليف الشعري والرياضة, فحوّلوها إلى أهداف أخذت من أعمارهم وحياتهم وسلامهم الشيء الكثير, وقادتهم نحو مصائر كارثية بالمجمل. الثيمة الرئيسة في العمل هي صراع بين التراث الشعبي والحداثة التكنولوجية ومعتنقيهما, وهو صراع لم تستطع بعض المجتمعات لجمه أو التوفيق بين طرفيه, فأنهت الطرف الأقدم فيه رمزيًّا, لكنها لم تحسم النتيجة بنجاح الطرف الأحدث. وهذه البؤرة نجدها مكشوفة على الغلاف الخلفي للرواية, والتي قرأتها, صدقًا, بعد كتابتي لرؤيتي النقدية, وأعيب على دار النشر كشفها, لأن من حق المتلقي, قارئًا أم ناقدًا, أن يصل إليها كنتيجة من نتائج فعل التلقي, إضافة إلى رؤيته الخاصة من دون توجيه, ليساهم أيضًا في العملية الإنتاجية للعمل الأدبي, تقول الخلفية: يقدّم أحمد السماري في "قنطرة" صورة بانورامية عن الرياض وأحيائها الشعبية في سنوات الستينات والسبعينات. ويسلط الضوء على التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي عصفت بأهل تلك الفترة. من الفن إلى الرياضة فالحب والمعاناة والسجن, يأخذنا للغوص في حياة أولئك المهمشين الذين كانت أرواحهم الهشة تراوغ التغيرات. العمل من جنس الرواية التأريخية المجتمعية. الخلفية الأخلاقية : هي رواية تقف إلى جانب قيم الجمال والخير في كل المستويات, الاجتماعية والفنية والاقتصادية والفكرية, تقف من التزمت والتطرف الديني موقف المحتج الخجول, وتدينه بتحفظ الخائف.
المستوى البصري: لوحة الغلاف عتبة بصرية نصية مكثفة عن الثيمة الرئيسة للعمل, العود, وهو آلة موسيقية طربية تراثية أصيلة, مسجون خلف القضبان, والمجتمع عندما حاكم الفنان وحيد قضائيًّا وأصدر الحكم بحبسه, لم يسجنه بشخصه فقط, بل سجن فنه أيضًا. العنوان: قنطرة أيضًا كان عتبة نصية مكثفة عن متن العمل, كشفه الكاتب قبل فصل الاستهلال بعتبة داخلية اعترافية, وكنت أفضّل ألا يفعل ذلك, ليترك للمتلقي نصيبًا في استلهام إيحائية هذا العنوان ورمزيته, يقول: "هذه الرواية مستلهمة من مرحلة واقعية, أحداثها الرئيسة حقيقية, لكن الشخصيات التي تتضمنها والمواقف التي تصفها من نسج الخيال...... وقد اخترت اسم قنطرة لأنه يعبر عن تلك المرحلة, كذلك شخصيات الرواية تعد مجرد رموز لمن تحمل ذلك العبء من التكاليف المجتمعية, ليكونوا جسرًا لتحولات المجتمع في بعض مناحي الحياة". إداء: لم ينفصل عن الثيمة الرئيسة أيضًا, الحارة الشعبية والقصص الشعبية والتراث والمبدعين من الفنانين والفنانات الشعبيين, وانتصار لفنهم ولذكراهم وإن ماتوا, دون الحسم بنجاح الطرف الحداثي, كما ضمّنها الكاتب خلفيته الأخلاقية القائمة على الوفاء للجيرة والتراث و الفن الأصيل: إلى عائلتي الصغيرة والكبيرة, إلى حارتي القديمة وكل من سكن بها في تلك الفترة الذهبية من عصر الحارات الشعبية في مدينة الرياض, إلى مسقط رأسي محافظة الخرج مصدر إلهام القصص الشعبية والتراث, إلى كل المبدعين من الفنانين والفنانات الشعبيين الذين غادروا هذه الحياة وبقيت أغانيهم وإبداعاتهم الفنية, تتردد على حناجر بعض الشباب المقلدين. المتن السردي بصريًّا وديناميكيًّا: أربعة فصول, شغلت بياض حوالي 170 صفحة من الحجم المألوف للرواية, تحرّكت فيها المضامين والشخوص برمزيتها على مسرح الأحداث الواقعية, بامتداد الزمكانية, وتوغلها في عمق زماني تجاوز العقدين, وتنقلات مكانية داخل المملكة, وخارجها باتجاه قطر والإمارات والكويت.... وتنقلات بين أماكن حميمية وأخرى غير ذلك, وانتهاءً بمكان كريه جدًا هو السجن.
الفصل الأول : فصل الاستهلال أو فصل البداية, معنون ب ( البدايات). وهناك ظاهرة بصرية في مطلع كل فصل, وهي أنه يصدّر قولًا لأحد المشاهير, وهذا التصدير يعتبر بمثابة الثيمة الخاصة بهذا الفصل أو ذاك. تصدير هذا الفصل كان قولًا للأديبة السعودية أثير عبد الله النشمي, تؤكد فيما معناه أن الثيمة الأساسية لجميع الحكايات هي الصراع بين الخير والشر, وكل ما ينبثق عنها من صراع بين قيم الخير وعناصر الشر هي ثيمات خاصة, وأن أحداث الحياة قليلة بالنظر لسعة الحياة, لذلك نجدها متكررة ومتشابهة, بالنتيجة القصة واحدة والاختلاف فقط بالتفاصيل: " كلنا نعيش ذات الحكاية .. ولكل منا حكايته الخاصة التي تشبه حكايات الآخرين وتختلف عنهم في الوقت ذاته, تجمعنا كلنا قصة واحدة بتفاصيل مختلفة, وتختلف تفاصيلنا بقصص متشابهة" اعتبر الكاتب هذا الفصل هامشًا, اختار فيه أن يقدّم ثلاثة من أبطال روايته الذين سيتولون الروي مع الراوي العليم, هم الفنان وحيد, وخالد وكيل أعمال الفنانة سارة, ولاعب كرة القدم عبد الله. الفصل مكون من أربعة أقسام مرقمة فقط, كل قسم, وعبر تقنية الترجمة الذاتية, عقد الكاتب مربط عنصر التشويق, تقدّم الشخصية نفسها, تحكي ذاتها, وتعبر عن مشاعرها وآرائها وأبعادها المادية والثقافية والاجتماعية والنفسية, كما تقدّم الشخصيات التي كانت بالغة الأ��ر في حياتها, وتسرد من أحداثها الحياتية تاريخها العائلي الذي يسبق سكنها في حي الطرادية. الفصل الثاني: معنون ب (حي الطرادية), والتصديرأغنية شعبية ل بشير حمد شنان, يشير إلى ثيمة الحارة الشعبية : " وسط الطرادية في حارة حية .. أهلها زكرتية.." بشير حمد شنان مؤلف من 5 أقسام, تنضم فيه الفنانة سارة عبر القسم الثاني إلى الرواة المشاركين, ويتولى وحيد مهمة الروي في الأربعة أقسام الباقية, حيث يروي الأحداث بترتيبها النمطي المتصاعد, وتبدأ أولى التقاطعات السردية مع سارة, بقصة حب رومانسية أعطى فيها الكاتب العنصر الثالث في بناء الحدث السردي وهو عنصر ( العاطفة) بعد عنصرَي التشويق والزمكانية. الفصل الثالث: معنون ب ( من المتن .. إلى الهامش), بلا تصدير. وفيه تعود كل من الشخصيتين المركونتين في الفصل الأول ( الهامش), خالد وعبد الله إلى الظهور لاستئناف سرد أو روي الأحداث التي تخصهما, إضافة إلى سرد التقاطعات مع كل من سارة ووحيد, ليتصاعد التشابك السردي بين خالد وسارة ووحيد والذي أوصله خالد باتجاه الذروة بمكيدة فرّق بها بين سارة ووحيد إلى الأبد, وتتوارى كل من سارة وخالد ويختفيان عن مسرح الأحداث في مثلث الانفراج مؤقتًا, ويعاودا الظهور بصورة باهتة عندما يضع الكاتب النهاية, يتبقى كل من وحيد وعبد الله, الرمزان المبدعان اللذان حمّلهما الكاتب وظيفة القنطرة, واللذان تجمعهما الظروف الظالمة في غرفة السجن, وحيد بتهمة زائفة, القتل غير العمد, وعبد الله بتهمة عدم سداد دين, وحكم بالإفراج عن عبد الله كان له تبعاته غير المنتظرة.
الفصل الرابع: فصل النهاية المعنون ب ( زمان الصمت), التصدير قول عن فلسفة الصمت ل فيلب روث: "أصعب شيء في الحياة أن نكسر الصمت بالكلمات, ثم نكسر الكلمات بالصمت" تقدم فيه وحيد إلى إدارة السجن بطلب يرجوهم فيه إحضار عود كآخر اختيار بعد أن صدر الحكم بسجنه 10 سنوات, حمل هذا الفصل فلسفة الصمت: "جرتُ على نفسي فوق جور الحياة عليها,أحاول نسيان جور الحياة أو أحاول أن أثأر منها لكن من دون جدوى, فاتخذت الصمت كسجن خيالي فلسفي, يجرني لمنطقة سوداء ويقوقعني فيها, ويغرقني في عزلة إلى داخل جسدي, تجعلني حبيس الفكر المشوش...." ص 269 عبد الله يموت يوم الإفراج عنه بسكتة قلبية, بعد أن سجّل يومياته ومذكراته مع وحيد في دفتر أخفاه تحت مخدته, وحيد يُفرج عنه بعد قضاء أكثر من نصف المدة, يغادر السجن مصابًا بالألزاهايمر, يهدي مدير السجن دفتر عبد الله كنوع من تبادل الهدايا, حين أهداه مدير السجن ظرف فيه مبلغ مالي, كلّ يجود بما يملك. استراتيجية الكاتب السردية قامت على ما يُعرف اليوم بتقنية( الصورة السينمائية) المستخدمة في التطبيقات الالكترونية فيما يخص صور الذكريات, بحيث يتم تقديمها بأنماط فنية متعددة, منها الصور السينمائية, التي تظهر فيها الشخصية الرئيسة ظهورًا متحرّكًا بألوان باهتة وغير واضحة في البداية, ثم تتضح معالمها وتتلوّن بألوان مختلفة على خلفية اجتماعية ثابتة وباهتة وغير واضحة, ثمّ, بنمط آخر, تتحرّك الخلفية بنفس حركة الشخصية بالنمط الأول, وتثبت الشخصية محتفظة بسكونها وألوانها الباهتة وعدم وضوحها. وعلى تناوب هذين النمطين كان التشابك السردي, الذي جعل الشخصيات تتصارع مع تغيّر ظروفها بتغيّر الخلفيات الاجتماعية بحكم التطوّر الحتمي الذي يصيب المجتمعات. الشخوص كانت رموزًا لقيَم تراثية ماضية أصيلة, حملتها شخصيات ارتقت بها في زمانها, ثم همّشتها الحداثة في زمنها التكنولوجي, وصراع غير متكافئ بينهما انتهى بانتقام كابوسي, وحيد وعبد الله, الفن والرياضة والأدب في قفص الاتهام بالجريمة, يقضيان فترة عقوبة طويلة على جريمة لم يرتكباها أصلًا, بل كانت مكافأة المجتمع لهما على إصرارهما على التمسك بالهوية التراثية, ورفض المحدثات الوافدة التي لا تحمل هوية قيّمة, وما السجن إلا عقوبة مخففة عن النهاية المقلوبة التي انتهى إليها مثلث الانفراج في التشابك السردي الواقعي, وكذلك في التشابك السردي الرمزي, حيث نُحرت الرياضة والأدب بسكون مضخة الحياة, كما شُنق الفن والأدب التراثي بمقصلة مرض النسيان والغربة, سارة مرضت بسرطان الدم وتغرّبت للعلاج في كندا, ووحيد انتهى مريضًا بالألزهايمر مشرّدًا ينام على مقعد في حديقة عامة في مدينة نائية.... هي نهايات درامية حزينة حملت اليأس للأسف ... ولكن الجميل أن الكاتب لم يحسم النجاح للتكنولوجيا, بدليل أن الرموز التي اختفت خلّفت وراءها أثر يردده شباب اليوم بكل حب وحنين. شخصن الكاتب الأشياء, فالعود لم يكن شيئًا جامدًا, يصدر أصواتًا وألحانًا وفقط كحال (الأسطوانات والكاسيت), بل كان كائنًا له روح, معشوقًا وعاشقًا, مرغوبًا ومهمشًا, ومن أجمل اللقطات التصويرية التي جذبتني وأثارت انفعالي هي المشهدية التي تلت موت عبد الله, حين وضع وحيد العود على سرير عبد الله الفارغ, وقام بتغطيته, مفترضًا إياه الفتى عيسى الذي اتُهم بقتله, لنرصد هذا الحوار بين الممرض ووحيد, الحوار الحافل بالإشارات الإيحائية التي تربط العود ككائن حي يعيش ويقتات على الصوت بزمن يحكم عليه بالموت خرسًا وصمتًا, أو بأقل تقدير الدخول في غيبوبة, هل يصمت العود في زمن التكنولوجية ؟! سؤال يطرحه الكاتب على طاولة البحث, بكل الأحوال الصمت مرحلة كمون وليس موتًا, يقول: حين دخل عليه الممرض في موعده الصباحي المعتاد, وشاهد منظر العود النائم, سأله ( من اللي نائم هنا), رد عليه بصوت خافت, طالبًا منه الهدوء بيده (هذا عيسى, نائم من الأمس, تعبان.. هو في غيبوبة, اتركه نائمًا.. فيومًا ما سيفيق ويصحو من الغيبوبة, أرجوك لا تأخذه للمقبرة) رد الممرض ( خليه نائم أفضل, إنه في زمان الصمت) ص 178 الحوارات الخارجية: على قلتها, وقصرها, واختصارها على السؤال وجوابه باقتضاب, إلا أنها أدّت دورها بدقة في كسر رتابة السرد, والمساهمة في دفع عجلة الأحداث نحو الأمام, لغتها الوسيطة بين العامية السعودية والفصحى, أعطتها صبغة الحيوية إلى جانب كونها مفهومة من القرّاء العرب. - وجهك متغير يا أبا فهد, خيرًا إن شاء الله؟ - سلامتك.. الجماعة حرقوا المحل. - وش تقول! ( والصدمة تهزني) ص 95 المستوى اللساني: العمل حافل بالمفردات والقصائد والأغاني التراثية التي تعكس الثقافة العامة والثقافة التاريخية والتراثية للكاتب, وظّفها في عملها منيطًا بها الدور الأساسي الذي أراده من هذا العمل, فهي المحرك المحوري الذي يدور حولها وعليها الصراع الدرامي في معركة شرسة لإثبات الوجود والحضور, فكانت هناك الأغاني التراثية والتي أشار الكاتب إلى مطربيها ومطرباتها من أهل الخليج بهوامش أسفل الصفحة ( عتاب � محمد عبده- فهد بن سعيد- بشير شنان .... ) , وكذلك القصائد المغناة ( صلاح عبد الصبور, ...) , أغاني لأم كلثوم وفيروز, مفردات تخص التعامل مع الآلات الموسيقية مثل ( المرواس وهو ضابط إيقاع) .... ذكر أحداثًا تاريخية مرتبطة بالفن الغنائي, مثل حادثة جهيمان واقتحام الحرم المكي عام 1979 والتي كان من عواقبها منع حكومي لجميع الأصوات النسائية, ومنع بث الغناء النسوي في وسائل الإعلام ( تلفاز وإذاعة) ومنع نشر صورهن والحديث عنهن في الجرائد. تحدث عن اختلاف اللباس واللهجة بين السعوديين والإماراتيين, فذكر الثوب الإماراتي (كندورة), كما ذكر بعض الأطعمة المرتبطة بالمجتمع السعودي مثل ( خبز التميس), تحدث عن فيلم ( إنهم يقتلون الجياد) لجين فوندا الذي دارت أحداثه في ثلاثينات القرن المنصرم. أما عن الوصف: يصف حي الطرادية وصفًا مشهديًّا حيًّا بكاميرا قلمه السينمائي, يقول: تلك كانت الحارة ذات الطبيعة المتنوعة بالحكايات والشخوص والعادات, كانت محتاجة لرسام ماهر يضعها في لوحة بريشة فنان, بل بانوراما يمررفيها كل الحركات والسكنات التي كانت في الشوارع وخلف الأبواب وبين النساء والأسر, والتفاصيل الدقيقة للأزقة, ودكان العم سالم الحضرمي, وإعلان المشروب الغازي ملصقًا على بابه الحديدي الصدئ, وعتبة بيت عم عوض التي يجتمع حولها الأولاد يلعبون المصاقيل ( البلي), .... وأم جهير تبيع لهم المثلجات بصبغة التوت معبأة في أكياس النايلون , والولد دحيم ببسطته( شختك بختك) ...., ومجموعة الأزيار مصفوفة ومعبأة بماء السبيل, وصخب السوق الشعبي, وبسطات بيع الخضار والفاكهة, والمأكولات الشعبية وخصوصًا في رمضان.... ص 58- 59 وأما عن الصور الجمالية, البلاغية أو التجريدية المأخوذة من علم لجمال, فهناك الكثير منها, والمقال لا يتسع لاستعراضها. المستوى النفسي: لا شك أن الأديب السعودي أحمد السماري, كغيره من الأدباء الجادين, الذين يسخرون أقلامهم في خدمة مجتمعاتهم, كشف عوارها بقصد الإصلاح, انطلق في عملية إنتاج عمله الأدبي هذا, محفّزًا بظواهر عالمه الخارجي المجتمعي, ما حرّك فيه نوازعه النفسية الداخلية, لترتيب سلوكٍ يتناسب مع تلك الانفعالات, وهنا تقمص الكاتب حال المهمشين من المطربين الشعبيين, الذين طالتهم يد الحداثة بالتهميش والإقصاء, وكذلك الحال مع الكوادر الرياضية والأدبية التي لم تنل اهتمام المؤسسات المجتمعية والحكومية الرسمية, كما تقمص أيضًا حال الشباب الذين طالتهم يد المطاوعين المتطرفين ( لجنة الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر), حين منعت حفلات الطرب, فلجؤوا إلى ما عُرف بالمخيمات الطربية التي كانوا يقيمونها في أماكن نائية, يقترفون فيها كل الممنوعات, وهذه إشارة ورسالة من الكاتب إلى أن كل ممنوع مرغوب.
{يا لهذه الموسيقى كيف تغذي الأرواح، ولهذه الكلمات كيف تعالج متعبي النفس مثلي، كيف يمكن لأي شعب أن يستغني عنها؟! الموسيقى فن أصيل له تاريخ موثق لدى كل الشعوب والأمم باعتبارها لغة ثانية من دون كلمات، إنها صوت العصافير، وخرير مجرى الماء، وهمسات النسيم بين النخيل، هي أصوات الحياة والناس المسالمين الرقيقين الحانين} .. رواية قنطرة للكاتب السعودي أحمد السماري، عمل يقرأ في جلسة واحدة، نتيجة الأحداث المتسارعة التي تخطفك وتجعلك تمسك بالكلمات وتلاحق المعاني، وتتفاعل مع تفاصيل الأحداث، التي يعطينا فكرتها الأساسية الغلاف؛ الذي يظهر ٱلة عود مسجونة، وهذا يحيلنا إلى العديد من الأحداث في المملكة العربية السعودية؛أهمها المواجهات الاجتماعية بين أصحاب البلد والمقيمين فيه، وتطور الفن الشعبي من مرحلة إلى أخرى كانت كل مراحل تطوره تخضع لشروط ومقاييس معينة، دون أن ننسى محاولات كبت الفن بكل أنواعه. وحيد الذي عاش وحيدا محاولا التحرر من كل القيود المجتمعية بواسطة الفن، يمر بتجارب كثيرة تكشف له حقيقة الصداقة، والحب والمعنى الحقيقي للعائلة التي تمثلت في حارته الشعبية المهمشة، يفقد وحيد حريته بفقده لعوده وتصل حياته إلى نهايتها بسبب هذا الفقد. رواية سلسة، قوية اللفظ، متشابكة المعاني، تتصاعد الأفكار فيها تدريجيا حتى تشكل هرما بنيويا سليما. تتعدد الأصوات داخل هذا العمل لكنها تلتقي كلها في نقطة واحدة ؛وهي سعي كل شخصية لإثبات أفضليتها في مجال ما،تصارع وتقاوم لتكتشف في ٱخر المطاف أنّ أغلب الصدمات الحياتية إما أن تغيّر ذلك الشغف أو تقضي عليه.
قرأت الرواية في اجواء ملحمية بل غرائبية جدا ليالي الغربة و انقطاع الكهرباء وكان لابد ان اقرأها على ضوء شمعة وبكيت .اقصد قصة حياة مغني شعبي وتحدياته مع الحب و السجن و التيارات المتشددة الحياة غير عادلة . لكن حينما يكون المرء في الجانب الاقل حظا من الحياة فالامر يصبح مضاعفا رواية حزينة ..وعسى ان تكون الاجيال القادمة اكثر تسامحا و الفرص اكثر رحمة بالفئات المهمشة من الحياة