نظر إلى شاشة هاتفه نظرةً سريعةً، فإذا بالوقت يشير إلى السّاعة السّابعة وخمسين دقيقة، بينما تدقُّ السّاعةُ الكبيرة في ساحة المدينة مشيرةً إلى الثّامنة تماماً . وكان النّاسُ في الشّارع يتجمّعون حول سيّارتين محطّمتين إثر حادثٍ، يبدو أنّه وقع منذ قليل ، وعمّال النّظافة يشطفونَ الدَّمَ عن الإسفلت. هو بكلّ ذهولٍ، أمام ذلك المشهد، يحاول أن يتذكّر!! كيف وقع الحادث ولم ينتبه له، رغم تواجده هنا منذ أكثر من ساعة!! حتّى أنَّ أحد العمّال قام برشّ الماء عليه، كأنّه لا يراه !! نظر مرّة أخرى -بارتياب شديدٍ- إلى السّاعة في هاتفه، فإذا بها تشير إلى الثّامنة تماماً، بالتّزامن مع سيّارتين مسرعتين تصطدمان ببعضهما بقوّة أمامه، وتتحطّمان في منتصف السّاحة ... فأدرك على الفور، أنْ بعد قليل سيأتي عمّال النّظافة لشطف الدّم عن الإسفلت ، وسوف يقوم أحدهم برشّ الماء على رجلٍ عالقٍ في الماضي ..
"متأخّرًا عن العالم مسافة عشر دقائق" لرأفت حكمت: مجموعة قصصيّة مكتوبة بوعي إنسانيّ مرهف
تحتوي مجموعة رأفت حكمت القصصيّة تحت عنوان "متأخّرًا عن العالم مسافة عشر دقائق" على مكوّنات سرديّة متواترة تمنح العمل خصوصيّة شديدة. ليس فقط على صعيد الأفكار المطروحة، ولكن على صعيد اللغة أيضًا. المجموعة مقسّمة إلى ثلاثة أجزاء بين توطئة، وعشر أصابع مفقودة وهي بين هُم. والتقسيم هنا لم يكن تقسيمًا جماليًّا لتجزئة العمل، لكنّ كفاءة الطرح كانت تتأرجح بدورها بين تلك الأقسام الثلاثة، لتبدأ متماسكة عميقة، وتنتهي متفكفكة مملّة وغير مفهومة. في غالبيّة القصص الأولى كانت الفكرة لا تتوضّح إلّا في الجملة الأخيرة من كلّ قصّة. فمثلًا يختم القصّة الأولى بقوله: "فعلتُ في أقلّ من ساعتين كلّ شيء أرغب في تحقيقه خلال حياتي القادمة"، ليتّبع في ذلك أسلوب الصدام بين القارئ والنصّ، إذ لا تدرك وأنت تقرأ ماذا يريد الكاتب قوله حتّى تصل إلى الفقرة الأخيرة من القصّة. قُصر القصص خدم هذه التقنية بكلّ تأكيد، فكانت القصص لا تتجاوز في مجملها الثلاث صفحات من القطع المتوسّط، فلا يتخلّى القارئ عن صبره في معرفة المقصد من القصّة حتّى يجد نفسه قبالة الجملة الخاتمة والتي تحمل الفحوى. أحببت مجمل القصص في الجزء الأوّل من المجموعة. كانت عميقة وهادفة ومكتوبة بلغة المقموعين، وخصوصًا قصّة "بقعة دم في الذاكرة"، والتي أعدتها لعدّة مرّات لأستلذّ بها، رغم أنّها موجعة. أمّا "وجه البحّار القديم"، فلها ذكرى عندي... إذ سرد لي رأفت حكمت عندما استضفته في بودكاست نادي صنّاع الحرف حكاية لجوئه إلى لبنان وكيف تحوّل حلم رؤية بيروت إلى كابوس إذ اعتُقل فور وصوله الأراضي اللبنانيّة، فكانت المرّة الأولى التي رأى فيها بيروت من شبّاك القفص! وجود هذه التجربة الشخصيّة في العمل، وإن لم يقلها صراحةً داخل الكتاب، كانت ممتازة وأضافت طابعًا حميميًّا حزينًا للقراءة. في هذا الفصل تبأّر الحكي عن هؤلاء المهمّشين في الحياة، هؤلاء الذين ينتمون إلى الهامش الاجتماعي بسبب السنّ أو الحالة الاجتماعيّة. كانت قراءة الحكايا هنا ممتعة وتحديدًا تلك المشفّرة منها كقصّة حرق السجّادة. هذا الفصل تناول تحديدًا المجتمع الذي تشظّيه فروقات بشريّة مرعبة لا إنسانويّة. القسم الثاني من المجموعة كان الأعمق والأقوى، فاستخدم حكمت أسلوب التشخيص القصصي، وهو تحويل الجماد إلى شخصيّة، فهنا يحاكي الكاتب الشجرة، وقطعة الفحم، واللعبة، والمنديل إلى شخوص من جسد وروح. وهذه التقنية من أصعب تقنيات السرد الأدبي، سواءً على صعيد القصّة أو الرواية أو حتّى الشعر. نجح الكاتب بنقل الحياة للأشياء التي حاكاها، وانتقل من مرحلة أيصال الفكرة، إلى خلقها ونفخ الروح فيها، فجسّد الصامت صوتًا، والهامد حركةً، والأعمى بصرًا وبصيرةً، ليخلق كوكبة من الشخوص الناطقة رغم موتها. كان على المجموعة أن تنتهي هنا، أي في الصفحة 77. إذ أتاني الفصل الثالث والأخير ضعيفًا على كلّ الأصعدة، لغةً وطرحًا وفكرةً. فلسفة مملّة وغير مفهومة وأفكار تتدحرج من دون مغزى، أو على الأقل هذا ما شعرتُ به. حاول الكاتب أن يكتب بماورائيّة أو بطريقة السرد الانطباعي أو ربّما الواقعيّة السحريّة التي شخصيًّا لم أستسغها يومًا. إيجابيّات العمل كثيرة، وتحديدًا للفصلين الأوّل والثاني، إذ كانت الأفكار عميقة، غير مطروقة، فصول قصيرة ساخرة، تقنيات سرديّة ممتازة بين التكثيف القصصي، التشخيص، والسرد البؤري في فضاء فيه الكثير من النقد اللاذع للذات البشريّة. وكما للعمل حسنات، كان له من الكبوات نصيب. فتشعر فور انتقالك للفصل الثالث بتضعضع اللغة، تشتّت الأفكار، سرعة الطرح، ضبابيّة السرد كأنّ الكاتب يريد إدخال القارئ في متاهة لإقناعه بعمق الأفكار، لذلك شعرت أنّ الفصل الأخير أضعف العمل كثيرًا. ناهيك على أنّ الفصل الثالث غير مناسب لأن يُدمج بمجموعة قصصيّة وهو في واقع الحال بعيد كلّ البعد عن القصّة، فهو مجرد خواطر عابرة وقصيرة جدًّا. هذا الفصل أوقع الكاتب في مأزق ابسيتيمولوجي، أي فائض الحكي غير الضروري والتجريد المبالغ فيه على حساب الفكرة والمعنى والاتّساق مع النوع الأدبي الذي قرّر الكاتب تبويب عمله تحته. أخيرًا يمكنني القول إنّ هذه المجموعة تأرجحت بين الممتاز والعادي والضعيف. بين قصّ شخصي أو قصّ التجربة، وآخر نظري أو تجريبي. لغويًّا يوجد الكثير من الأخطاء النحويّة والإملائيّة والتنقيطيّة في العمل. بداية جيّدة لكاتب موهوب أتمنّى أن أقرأ له الأفضل في المستقبل.