أخطأ نادل مقهى بيت الدرج برام الله حين تجاوزنا، على غير عادته، ليعطي فنجانَي قهوتنا لعجوزين ثمانينيتين على الطرف الآخر من دوّار الساعة، وحين سألناه محتجّين على فعلته الغريبة، ابتسم بهدوء، وواصل طريقه إلى زبائن آخرين. مشيت باتجاه العجوزين المنهمكين في حوار هامس بلا أسنان. ألقيت عليهما سلام دهشتي وارتجاف قلبي. طويلا وقفت أمامهما مصدومًا، أخرس القدمين، لا أعرف إن كان صديق دواري وقهوتي وذكرياتي وسرّي ومساءاتي قد صدقني حين عدت إليه: "لم يخطئ النادل يا صديقي. لم يخطئ. لقد أعطانا قهوتنا بعد ثلاثين عامًا من الآن".
ولدت في زهرة المدائن بوابة السماء ومنارة المدى القدس عام 1964م، ومن حيث انني قد تورطت في الحياة استمريت نحو الغوص عميقا في بحر المدن والشوارع والحارات والصفيح المقاوم لاشعة الشمس وغبار الامنيات ، درست حتى الثانوية في وطني الجميل ولانني لا احب الحدود فواصل الرحم ركضت جريا الى الاردن الهادئة ومن حليب جامعة اليرموك استقيت اللغة العربية اللذيذة حتى ارتويت وتخرجت منها في عام 1989م وبعدها سارت بي الخطى نحو بوابات المدارس حتى استقر امري في احد مدارس رام الله ومن هنا بدأت ....
كتبت القصة حتى كتبتني على الواح العمر بجهاته الاربعة وطبعت منها:
نوما هادئا يا رام في عام 1990
موعد بذئء مع العاصفة في عام 1994
الشرفات ترحل ايضا في عام 1998
وتحت الطبع( شتاء في قميص رجل)
ومازلت اسير على ادلاج الريح لحظة بلحظة ، انتظر مقهى الحياة لكي انهي شرب قهوتي السمراء تحت اضواء المدن التي تضحك من شدة الالم.
رأعطني نصف فراشيتك ، وخدي نصف نسريتي ، علي أن اتوقف عن غطرستي ، عليك أن تخففي براءتك وموتك . الوحدة هي أن اقطف وردة بيدي اليمني لأهديها ليدي اليسرى . الاغتراب الشامل هو أن تقف متوترًا خلف باب بيتك في مسائك الطويل خجلُا من طرقه حتى لا تزعج نفسك . متـأخرًا جدًا ، أو مبكرًا جدًا أصل إلى الأشياء تلك هي ثنائية حياتي الغريبة . . ثمة شخص رائع يموت الآن في مكان ما ، وحدها الصدفة من لم تجعله صديقي . كيف أصدق شخصًا لا يبكي في الليل ؟ . الاسلوب سلس بطريقة عظيمة والسرد اكثر سلاسه إلا إنه بطريقة ما مش بالروعه الكبيرة
زباد خدَّاش ، قدم لنا نصوصاً شاعرية وأخذنا خلالها إلى عوالم ومقاهٍ وكتب ومدن ، نصوص قصيرة ، عذبة ومكتوبة بـ رقة كفيلة بأن تنتزع من شفتيك ابتسامةً ومن جبينكَ تقطيبة ومن عينيك دموعاً ..
زياد يأخذنا لـ صباحات مشرقة وليال مظلمة وباردة وإلى ابتسامات ودموع أطفال وكهول وعشاق ، إلى البساطة والتعقيد ، وإلى النجاحات والخيبات الصغيرة والكبيرة ؛ إنه يأخذنا إلى الحياة..
أحب هذا النوع من الكتابة، وأشعر أني منحازٌ له مباشرةً، تلك الكتابة التي لاتتوسّل إلى الوزن والإيقاع في الشعر، كما تتجنّب "الحبكة" والترتيب الزمني أو المنطقي في "السرد"، وهو ما يفعله الكاتب الفلسطيني "زياد خدّاش" في (خطأ النادل) الصادر في العام الماضي عن الدار الأهلية للنشر في الأردن، لي حكاية مع هذا الكتاب أحب أن أحكيها، فقد تعرفت عليه مصادفةً من خلال تعليقات أصدقائي القرّاء على موقع "جودريز" شعرت أنه سيعجبني، ولكني تركته، حتى بعد صدوره الكترونيًا، وظل يتردد أمامي كل فترة، حتى وصلت مجموعة زياد خدّاش" القصصية الجديدة (أسباب رائعة للبكاء) إلى القائمة الطويلة في جائزة الملتقى للقصة القصيرة، ومع ذلك لم تتوفّر في المكتبات حتى يومنا هذا! فوجدت نفسي إزاء فرصة واحدة للتعرّف على كتابة زياد خداش والاقتراب من عالمه والاستمتاع به في "خطأ النادل"، وأعتقد أنه لم يخذلني أبدًا. عدت إلى الكتاب إذًا، وسرعان ما وجدته ينساب بين يديًّ، وتسري مقطوعاته القصصية القصيرة التي اختار أن يسميها "نصوصًا" حرّة بغير تقييد سريان الموسيقى في الروح،هنا وجدت كتابةً شاعرية ترصد باحتراف لحظاتٍ خاصة وفارقة، تدور في عوالم فلسطينية بامتياز حيث يحضر الشهداء والمخيمات والمعابروتحضر "غزة" و"يافا" و"رام الله" وغيرها من المدن، جنبًا إلى جنب مع الأطفال والأحلام والغيمات والأغنيات، نصوصٌ تحمل همًا عامًا حينما تتحدث عن الطغاة والظلم والقسوة التي يحملها العالم، وتحمل همًا خاصًا معبقة بشذى الورد والريحان حينما يتحدث عن حبيبةٍ أو صديقةٍ غائبة طال انتظارها: كنت كسرة خبزٍ يابسة، مرمية على صيف الرصيف، حين مررتٍ أنتٍ بكامل شتائك وغموضك وابتعادك، ودون حتى أن تنتبهي لوجودي، رأيتُ نفسي حقل قمحٍ كامل! لماذا طلبتِ مني أن أعزف لكِ على الجيتار، أنا المصاب بحبك/غيابك، بينما كنتِ في الغرفة المجاورة ترسمين على الحائط جيتارًا مهشمًا ودموع عازف؟!
هكذا تبدو بعض نصوص الكتاب الأقرب للشعر، فهو ـ كما أشرنا ـ يجيد المراوحة بين الشعر والسرد، والتقاط تلك اللحظات الخاطفة بينهما، يدور قارئ نصوص "زياد خدّاش" بين عدد من الحالات والمواقف، والحوارات الدائرة دومًا بينه ككاتب وبين الأشياء والعالم من حوله، أـشياء كهذه تجعل القارئ يدير حوارًا دائمًا هو الآخر مع الأشياء والناس متماهيًا مع تلك الحالة التي يضعه فيها الكتاب، ويستعيد علاقته ـ بالتالي ـ بكل ما من شأنه أن يكون عابرًا من حوله، حتى تلك الأخطاء البسيطة: (أخطأ نادل مقهى بيت الدرج برام الله حين تجاوزنا، على غير عادته، ليعطي فنجانَي قهوتنا لعجوزين ثمانينيين على الطرف الآخر من دوّار الساعة، وحين سألناه محتجّين على فعلته الغريبة، ابتسم بهدوء، وواصل طريقه إلى زبائن آخرين. مشيت باتجاه العجوزين المنهمكين في حوار هامس بلا أسنان. ألقيت عليهما سلام دهشتي وارتجاف قلبي. طويلا وقفت أمامهما مصدومًا، أخرس القدمين، لا أعرف إن كان صديق دواري وقهوتي وذكرياتي وسرّي ومساءاتي قد صدقني حين عدت إليه: "لم يخطئ النادل يا صديقي. لم يخطئ. لقد أعطانا قهوتنا بعد ثلاثين عامًا من الآن!) تطل من النصوص كل قلق الوجود، وأسئلة الهويّة، ويسعى جاهدًا أن يضعها جميعًا أمام القارئ يشكل ذكي وبسيط، ................................ على اليوم الجديد
من حيرة المخيمات بدأ يتشكل كيان شعري نغّصت قيمة الوطن و التأقلم في شبه وطن عليه فيوضاته الشعرية .. من حيث يتساوى القنوط و اللاقنوط تنتفض أيقونات زياد خدّاش لتشكل نصوص متناغمة،أيقونات منوّعة إنسان و جمادات و مشاعر و دوافع، بعض النصوص ذهبت ضحية المطّ رغم اكتمال طرح فكرتها.. لهذا ما ستقرؤنه هو نصف اقتباسه من كل نص ، ماعدا النصوص السطرية
-يد- الوحدة هي أن أقطف وردة بيدي اليمنى لإهديها ليدي اليسرى..
- ثلاثة - مهمتي الآن أقنعك بماهو أجدى و أمتع من القدوم إليكِ، أن أتلصص عليكِ و أنت تخنقين رقبة الزمن بقلق عينيكِ، و أتلذذ بمضغ حسرة المارّة وهم يلتهمون هيئتكِ و يتمنون أن يكونوا ذلك الذي سوف يأتي..
- شتاء - في حصتي الأولى بعد قليل سنستضيف أنا وطلابي الشتاء، سنجلسه في المقعد الأول، سنضع قربه مدفأة حتى لا يبرد..
- ليس مهمًا - أريد أن أجلس على عتبة بيتك، لا انتظرك ولا أشتاق إليك ولا أفكر ان كنتِ داخل البيت أو لا زلتِ خارجه، ولايهمني الرجل الذي ينتظركِ معي دون أن أعرفه أو يعرفني ،فقط أريد أن أجلس على عتبة بيتكِ..
- سقوط - الثلج لا يسقط وحده، تغضبين مني فيسقط، ياااه ما أبيض غضبكِ؟
- فوبيا - ليس لدي فوبيا من الممرات الضيقة، لدي فوبيا كرامة محطمة ..
- موسيقى - الموسيقى يا صغيرتي ليست أنتِ، الموسيقى امرأة أخرى تحلم أن تكون أنتِ..
ذاكرة زياد وحياة زياد وروح زياد: فلسطين؛ يافا وعكا والقدس وغزة ورام الله. إنه يحبها بكل ما يملك وما لا يملك من كلمات. يحكي عنها ببساطة طفل ورقة انثى وغموض شاعر..
نصوص جميلة، تمزج بين القصة والشعر والخاطرة. يتميز أسلوب خداش بالبساطة، نصوصه قريبة من القلب والروح. حين يرصد الواقع فعينه دقيقة، وحين يتجه للخيال فقلمه مجنح.
في كتبِ زياد إجمالاً هناك لغةٌ جميلة تصل للقارئ دون تعقيدات الكُتاب .. ولكن عدةُ أسئلة ترادوني مع قراءة كتابهِ الثاني هذا: ما سرُ الارتباطِ العميق مع الأشجار؟ لماذا هو موعد السادسة صباحاً دوماً؟؟
- أجمل ما فيها "طيون".
كلمات بسيطة تصل للقارئ بسهولة ولكن تضعهُ في لحظات تفكيرٍ عميق، اضطررت أن أقرأ بعض المقاطع أكثر من مرة حتى أتأكد من استيعابي النفسي والفلسطيني لها.. وراء كل كلمةٍ بحر ووراء أغلبِ الفقرات قصصٌ قد تروى..
شيٌ ما يحيريني, ربما هو الصباح الذي لا يتوقف عن المجيء, ألا يسأم منا؟ شيءٌ ما يخيفني, ربما هو بلادنا التي تدق أبوابنا كل يوم, ألا تضل الطريق الينا؟ شيء ما يكسرني, ربما هي الموسيقى التي تكافئنا كل لحظة, الا تغضب منا؟ شيءٌ ما يقلقني, ربما هو دم الشهداء الذي يحيا كل لحظة في نصوصنا, ألا يموت أبداً؟
. زياد خداش عندما يكتب نصوصه، يتقّمص شخصيٍاته، الكُل يكتب بأسلوب النصوص النثرية مُحاولة لوصول لمرحلة إبداع بيسوا، خداش بين القصة والشعر، فهو يكتب بمشرط من الحلوى، هنا تقرأ فلسطين بشكل أخر..
ما زلت أؤمن برسائل الحياة. فها هو زياد يخبرني، أنا الثرثارة في الحياة والكتابة، أن الكلمات الكثيرة لعنة وأن القليل منها أقوى وأكثر قدرة على التعبير، وأن تكثيف النصوص والشعور والكلام أفضل ما يمكن أن يقوم به المرء. في 100 صفحة فقط وبكلمات قليلة جداً يحكي زياد خداش آلاف الحكايات ومئات الحالات الشعورية. أجاب زياد بهذه الكلمات القليلة على سؤال "إنت شو عملت بحياتك؟" فيقول : " لقد انجزت الكثير من الأعمال المهمة التي لا تمت لعالمكم بصلة، ابتسمت في وجوه اطفال كثيرين، أحببت أمي كثيراً وعانقت أصدقائي، ونهضت في صباحات كثيرة مبكرة ولمست رائحة البدايات".
ثمة شخص رائع يموت الآن في مكان ما في العالم، وحدها الصدفة من لم تجعله صديقي.
لقد كان هذا الكتاب كفيلًا باستفزاز الحياة في داخلي، شيء ما جعلني أنظر للحياة بمرآة أخرى بعد قراءته، شيء ما جعلني أقدس الصدقاء وأحزن على نفسي على من غادروني وذروني للريح عاريًا منهم.
This entire review has been hidden because of spoilers.
الحب : هو ليس أن تغطيك فحسب يدان تخافان عليك من البرد ، هو ذلك الحرص الحميم البطيء ( المصحوب بالهمهمة) على شدشدة اللحاف على جسدك من أطرافه كافة، لطرد البرد. يدان عظيمتان تغطياني كأنهما ترسماني. أي دفء ، أي دفء.
من هو زياد خداش هو كاتب قصة فلسطيني، يكتب القصة القصيرة، له اثنتا عشرة مجموعة قصصية، يعمل مدرساً للكتابة الإبداعية في مدارس رام الله. حصل على الجائزة التقديرية لدولة فلسطين، كما وتأهل للقائمة القصيرة في مسابقة الملتقى الأدبي للقصة العربية في الكويت لعام 2015.
أما خطأ النادل فهي مجموعة من النصوص الحرة لغتها أقرب للشاعرية، وأميل إلى خواطر مستقلة غير مقيدة بزمان أو وقت معين أو مكان محدد
سكب فيها الكاتب فيض مشاعره عن نفسه ووطنه وأهله ومدينته، عن رام الله وغزة ويافا، عن الحب والمرأة والفتاة والأم، عن الرجل والطفل والشاب والشاعر عن زياد نفسه في أحوالٍ كثيرة
تستطيع معها أن تتماهى بسهولة مع هذا الفيض من الحنين والمشاعر والوطنية التي تنطق من هذه الكلمات
فتراه يعتذر عن الفراق بألطف ما يكون "أن أقف في ذروة حبنا، بذهول أمامك في زاوية شارع مسائي، ماداً يدي الإثنتين نحو خصلات شعرك، رافعاً إياها، خلف أذنيك، وضاماً وجهك المستسلم بين كفي، ذلك هو إسلوبي في الإعتذار لك ولي عن فراق قادم"
وبنفس هذه الشاعرية يكتب عن المدينة فيقول في "شتاء" مزيداً من الضباب في سماء غزة يا شتاء، مزيداً من الضباب، مزيداً من ارتباك الطيار، مزيداً من عماه وعودته إلى قاعدته بيأس.
ثم يتكلم عن ازماته في الوجود في مقاطع عدة منها هذا المقطع الجميل " خجل" في الطائرة نامت إمرأة إسرائيلية جميلة على كتفي دون قصد طبعاً، خجلت أن أوقظها وأقول لها إن كتفي تؤلمني لأنها أصيبت قبل أيام فقط برصاصة إسرائيلية
وهكذا ينتقل بين الحب والحرب والوجود في سلاسة وشاعرية أهنئة عليها
من المستحيل أن لا يستشعر قارئ كُتب زياد الحميمية التي تفيض بها نصوصه. فلسطين التي تَرد بأغلب النصوص حتى وإنْ لم يذكر اسمها صراحة، إحساسي كقارئة بشوارع رام الله/ أولادها وعجائزها/ أصدقاء الكاتب في المقهى وتلاميذه بالمدرسة. الناس وهم يمارسون حياتهم مع بعضهم وضد المحتل. الحُبّ الذي لا يغيب في كل ما يكتبه زياد، قد لا أتقبّل هذا التكرار من كاتب آخر لكنه زياد. ويحقّ للقارئ أن ينحاز لمن يُحب من الكُتّاب. وجدت في هذا الكتاب ما وجدته في (أسباب رائعة للبكاء) و (أن تقعي أرضاً ويكون اسمك أماني) لكني أحبّ أن أقرأه مرتان وثلاث وعشر.