ŷ

Jump to ratings and reviews
Rate this book

جنوب اليمن في حكم اليسار: شهادة شخصية

Rate this book
تقدّر الشعوب الحية حاضرها، تماماً كما تحترم تاريخها، حتى لو شهد ذلك التاريخ عنفاً وانحطاطاً كثيريْن، وتتعاطى معه باعتباره نتاجاً إنسانياً شكلته سياقات اجتماعية وسياسية واقتصادية في حينه، ولا تحاكم ماضيها من منظور الراهن، بل تدرس أسبابه، للحؤول دون تكرار طابعه العنفي. إضافة إلى التوثيق والسرديات التاريخية والمراجع المتنوعة الأخرى لقراءة التاريخ، تشكل السير الذاتية والشهادات الشخصية حقلاً مستقلاً وثرياً، يساعد الباحثين والكتاب في تأصيل حادثة تاريخية أو نفيها، خصوصاً شهادات معاصري حقبة ما من نخب وقيادات شاركت في صياغة مرحلة ما من تاريخ المجتمع. وتشكل السير الذاتية والشهادات الشخصية، على اختلاف مواضيعها ومواقع كُتابها، إضاءة مهمة لحدث تاريخي، تساعد الشعوب على النظر، من زوايا متعددة، لتراثها، وتقدير تجربة المجتمع والفرد فيها، حيث تعيد السير والشهادات صياغة التاريخ من زاوية شخصية، كما أن ذلك يثري ثقافة الاعتراف المتجذّرة في الحضارة الغربية والغائبة في المجتمعات العربية.
كغيرهم من المجتمعات العربية، يقف اليمنيون من تاريخهم موقف الخصم السلبي الذي يتجرّد من ماضيه بالجملة، ولا يبني على ممكناته الإيجابية لتحقيق نقلة حضارية، فالغالب لدى المجتمعات العربية تعاطيها مع تاريخها، وفقا لرؤية النظام السياسي الحاكم وتفسيره تلك الأحداث، فلا تنظر لتجاربها باعتبارها جزءاً حيوياً من تجربة الشعب نفسه في مرحلةٍ ما، وإنما جزء من تاريخ النظام السابق البائد الذي يسعى النظام الحالي في اليمن، بكل جهد، لطمس معالمه. في ثقافةٍ قمعيةٍ ومحتكرة السلطة والوطنية، تتعدد التابهوات العربية (واليمنية أحدها) لتشمل، أحياناً، مرحلة سياسية برمتها، بكل رموزها وانجازاتها وأخطائها. وفي هذا الواقع المفخخ بتأويلات جاهزة، تكاد تندر الشهادات الشخصية لسياسيين، وإنْ وجدت فهي قليلة وحذرة بخصوص كشف الحقائق، وإضاءة أحداث تتسم ملابساتها بغموض، فعلاوةً على الرقيب الداخلي للإنسان العربي، نتيجة خوفه الأزلي من سلطات القمع المتعددة والمتربصة، ومن سوء فهم المتلقي الذي يُنظر له غالباً متربصاً آخر.
تجربة اليسار اليمني الذي حكم جنوب اليمن أكثر من عقدين، بما فيها من منجزات ونقلات نوعية وأحداث عنفية واقتتال أهلي، وأكثر من أي مرحلة وتجربة سياسية يمنية، تعرّضت لتضليل ممنهج من السلطة اللاحقة، ولسوء فهم من المجتمع، والإغفال حد الطمس جرّاء تغليفها برومانسية مفرطة من المنتمين والمناصرين لها؛ وحتى بعد مرور عقود عليها، لا تزال النخب السياسية والأوساط الشعبية تقارب تجربة اليسار اليمني في السياقات نفسها، إما في سياق مماحكات سياسية، بغرض التشويه والإلغاء، أو بالقفز على بعض تفاصيلها المحورية ومحاولة ابتسارها، خصوصاً من النخب اليسارية الجنوبية التي كانت جزءاً من حكم اليسار حينها، وتبرأت اليوم من أيدلوجيتها اليسارية لصالح مشاريع مناطقية ضيقة. وتؤكد خشية النخب السياسية اليمنية التي كانت جزءاً من ذلك التاريخ من سرد تجربتها ومعايشتها تلك الأحداث لا مصداقية هذه النخب، ونكوصها عن إثراء معارفنا الشحيحة.
أنتجت سياقات العداء والموالاة المتطرفين بخصوص تجربة اليسار في اليمن تأويلات جاهزة وغير حقيقية، ما أعاق إمكانية فهم الجيل الجديد تلك التجربة واستكناه ملامحها، بسلبياتها وإيجابياتها، ودراسة المتغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت في المجتمع الجنوبي آنذاك، وأثر تلك المتغيرات على المجتمع اليمني عموماً.
تحيلنا مقاربة التاريخ السياسي لليمن المعاصر، وخصوصاً تجربة اليسار في جنوب اليمن، إلى حقيقة صادمة، هي أن كل ما كتب حتى الآن هو تاريخ المنتصر الذي كيًّف أحداث التاريخ وفقاً لما يخدم مصالحه. لذا، تخلو المكتبة اليمنية من شهادات سياسية أو مذكرات لسياسيين عاصروا تلك التجربة، وهو ما جعلها عرضة للتكهنات التي تنحو كثيراً إلى سوء فهم متعمد، وصلت إلى حد الإدانة.
في كتابه "جنوب اليمن في حكم اليسار"، الصادر عن منشورات رياض الريس أخيراً، خاض المناضل اليساري، فواز طرابلسي، تحدياً حقيقياً باقتحامه حقلاً ملغوماً بالنسبة ليمنيين كثيرين، حيث فتحت شهادته الشخصية باباً، طالما أوصدته النخب السياسية اليمنية، وحجبته عن جمهور اليمنيين. تأتي شهادة طرابلسي، اليوم، حول اليسار اليمني في ظل ظروف كارثية تعيشها اليمن من حرب واقتتال أهلي وانسداد الأفق السياسي، واكتظاظ جنوب اليمن الذي شكل تجربة اليسار اليمني بمشاريع مختلفة، هي أبعد ما تكون عن مشاريع اليسار، حيث أصبح جنوب اليمن، في مفارقة تاريخية محزنة، بيئة مغلقة تنشط فيها التنظيمات الدينية المتشددة.
كتاب "جنوب اليمن في حكم اليسار" شهادة مهمة من الكاتب فواز طرابلسي، ومن موقعه في الحزب الشيوعي اللبناني ومعاصرته حقبة اليسار في اليمن، منذ سبعينيات القرن المنصرم وحتى تحقيق الوحدة اليمنية في 1990. ويسلط الرفيق طرابلسي، في شهادته، الضوء على تلك التجربة، خصوصاً الجزء المسكوت عنه، بأحداثها الدموية في اليمن الجنوبي، وارتباط ذلك بالنظام السياسي في شمال اليمن حينها، ويقدم تأصيلاً تاريخياً، من وجهة نظره، عن الخلفية التي شكلت تجربة اليسار، والعوامل التي أثرت عليها، بما في ذلك الصراعات البينية في أجنحة اليسار وصراع المعسكر الرأسمالي والاشتراكي حينها.
مع الإعلان عن صدور كتاب "جنوب اليمن في حكم اليسار"، ونشر حلقات منه في صحيفة العربي الجديد، جاءت ردود أفعال المتلقين لتلك الشهادة متباينة، وإن عكس غالبيتها نزق المزاج السياسي اليمني، سواء بأوساطه النخبوية أو الشعوبية؛ فبذريعة وجوب عدم "نبش الماضي"، عبر تشنج يساريين كثيرين عن موقفٍ متشدد، لا يختلف كثيراً عن موقف يميني معادٍ لليسار، فيما علقت أوساط حزبية على ما رواه فواز طرابلسي، خصوصاً في ما يتعلق بالصراعات السياسية، باعتبارها حقائق متداولة شفهياً، معتبرة أن الكتاب لا يثبت سوى ما عرفوه أصلاً. لا يزال الجدل الذي أثاره الكتاب يراوح بين قراءةٍ من منظور ماضوي ضيق، يحيي الصراعات القديمة، وأخرى لا ترى فيه سوى نبش لآلام الماضي، حيث ما زال مئات من الضحايا لم يعرف مصيرهم حتى اليوم.
من الاعتباط إعادة تركيب الماضي وفق ما نريده، أو ما أملنا فيه، كما أنه من التسطيح اجتزاء بعضه، لتشويه أجمل ما فيه، فقراءة ذلك التاريخ يجب أن تجري بموضوعية شديدة، من دون تحيّزات مسبقة، أو تفسيرات مجتزأة، ليتمكّن القارئ من الاطلاع على التجربة وتقييمها، ومن ثم الاستفادة منها أو معالجة آثارها. وليتصالح الجنوبيون اليوم مع تاريخهم القريب، لا يحتاجون إلى ردمه كهوة، بإنكار تجربة اليسار وإلغائها والنيل من رموزها بمحمول مناطقي بحت، كما يحدث مع عبد الفتاح إسماعيل ورفاق آخرين، بل يحتاجون قراءة التجربة قراءة جادة، تمكّنهم من هضمها واستيعابها، قبل أخذ موقف منها، ثم معالجة آثارها، وصولاً إلى التسامح مع أخطائها باعتبارها دورة تاريخية حدثت، وتجربة وطنية أخرى، لها حسناتها وأخطاؤها. تحية لفواز طرابلسي، اللبناني الجميل واليمني الذي لامس وجعاً صميماً في تاريخنا السياسي، وأنعش ذاكرتنا الميتة بشهادةٍ تكفي لإعادة النظر في ذلك الماضي ومقاربته بحب.

255 pages, Paperback

First published January 1, 2015

1 person is currently reading
100 people want to read

About the author

فواز طرابلسي

50books137followers
فواز طرابلسي، سياسي وكاتب وأستاذ جامعي لبناني. كان مع أحمد بيضون ووضاح شرارة من أبرز قيادي حركة لبنان الإشتراكي التي إندمجت سنة 1970 مع منظمة الإشتراكيين اللبنانيين لتشكل منظمة العمل الشيوعي في لبنان. أصبح طرابلسي نائبا للأمين العام للمنظمة ثم أحد أبرز وجوه الحركة الوطنية اللبنانية. غادر المنظمة سنة 1984 وذهب إلى باريس لمواصلة دراسته. يحمل دكتوراه في التاريخ من جامعة باريس. شغل منصب رئيس تحرير جريدة الحرية ومجلة بيروت المساء.

Ratings & Reviews

What do you think?
Rate this book

Friends & Following

Create a free account to discover what your friends think of this book!

Community Reviews

5 stars
10 (32%)
4 stars
10 (32%)
3 stars
10 (32%)
2 stars
1 (3%)
1 star
0 (0%)
Displaying 1 - 3 of 3 reviews
Profile Image for Abdulrazzaq Aqel.
22 reviews1 follower
May 30, 2017
اجمل مقطع قراته هو ماكتبته بشرى المقطري في مقدمه الحوار:
ان المجتمعات الأنسانية التي قطعت شوطا في مسار تطورها الحضاري, بدأت اولى محطاتها بوعي تاريخها واسقاط هذا الوعي عللى حاضرها
لتحقق بذلك تراكما معرفيا مكنها من تجاوز مشكلات الاعاقة التي من شانها كبح هذا التطور,وفي مجتمعاتنا العربية, بما فيها المجتمع اليمني , تعاني هذه المجتمعات قصور في وعيها التاريخي, او تفسر احداث التاريخ من وجهه نظر احادية وبالتالي تظل المشكلات الأجتماعية متروكة بدون قراءة او معالجة,
وهو مااستثمرته للاسف - السلطات السياسية العربية لاخضاع مجتمعاتها لسلطتها القاهرة, مبقية على هذه المشكلات عقبة في التطور,
ماساهم في اعادة انتاجها في كل حقبة بشكل اكثر مأساوية من سابقاتها.
....................
اما الحوار بشكل عام فهو جميل وسطحي وبسيط لمن يريد ان يفهم بعض الاحداث ويربطها تاريخيا في اليمن الجنوبي, بالاضافة الى ان الحوار لم يكن غنيا بالحقائق بقدر العاطفة المنعكسة على حوار فواز طرابلسي وشوقه لعدن.
.......
غلاف الكتاب جميل, ولكن خلفية المباني لاتعكس التراث الجنوبي, وربما هذا خطا غير مقصود.
فبيوت صنعاء القديمة مميزة جدا ولا توجد في اليمن الجنوبي ابدا مثل هذه الفن المعماري.
واذا كان مقصود فهذا شيء طبيعي كما اعتدنا من تهميش لجنوبنا
Profile Image for رياض المسيبلي.
144 reviews213 followers
April 9, 2017
في الكتاب بعض الأخطاء التي قد تنم عن جهل طرابلسي ببعض تفاصيل المجتمع اليمني. وفيه بعض الإنكار لبعض ما حدث لجنوب اليمن وفيه إبان حكم الشيوعيين. ولكن فيه معلومات طريفة وأخرى غنية، وكذلك بعض الاعتراف الشجاع من مثقف يساري كبير لبعض ما ارتكبه الرفاق في جنوبنا اليمني.
138 reviews1 follower
January 22, 2021
تلخص هذه النكتة الكتاب (ص119): يقع يمني في أسر أكلة لحوم بشر يقررون منحه فرصة بأن يسأل سؤالا واحدا فإذا لم تعرف القبيلة الجواب نجا. سألهم: ما هو المكتب السياسي؟ عجزت القبيلة ووعدوه بإطلاق سراحه إن أخبرهم بالجواب. قال: المكتب السياسي مثل حالتكم، قبيلة كلما اجتمعت أكلت واحدا من أبنائها
Displaying 1 - 3 of 3 reviews

Can't find what you're looking for?

Get help and learn more about the design.