كتاب رائع ويتسم بالطرح الموضوعي حيث غابت فيه آراء الكاتب في غالب الأحيان والمفاجئ في هذا الكتاب أنه يفسر لك أمورًا لم يكن يخطر على بالك سابقًا أن جذورها جنسية، بل تُفاجأ في بعض الأحيان بأن القضايا التي نعاني منها في مجتمعاتنا حاليًا كانت ذات القضايا التي عانى منها العرب قديمًا كمعضلة زواج القبيلية بغير القبيلي وتطليقها رغمًا عنها (عرفًا ونظامًا في السعودية) لها جذور أبعد مما نتصور في تاريخنا العربي. وأرى بأن الكاتب في عدد من الموضوعات يحمّل النص أكثر مما يحتمل ففي التمرد الجنسي وقتل الأب كل ما يعتمد ويستند عليه هو أبيات شعرية افتراضية فشاعرة تقول: فأقسم لو خيرت بين فراقه وبين أبي لاخترت أن لا أبا ليا وأخرى تنشد: أقول له فداك أبي وأمي حياتك من جميع الناس حسبي ولا أعرف فعلًا كيف للكاتب أن يظن بأنها بعد التغني بمثل هذا الأشعار الافتراضية تقوم لقتل أبيها! فيما يورد في فصول أخرى قصص صريحة لا مجال للتأويل فيها.
الكتاب غني بالكثير الصريح بلا تزييف للتاريخ العربي الجنسي فهو ينقل قصصًا مخجلة لا تُرى سوى كوصمة عار على جبين حضارة العرب بكل شفافية وصراحة ويحللها ويناقشها بكل موضوعية وحياد، ومع الأسف لابد لأي امرأة عربية حرة أبية أن تخرج كارهة للرجل العربي بعد هذا الكتاب.
" وبعض الناس إذا إنتهى الى ذكر الحر والاير والنيك اظهر التقزز ، وإستفعل باب التورع " الجاحظ كتاب الحيوان
أعلم أن الناظر في هذا الكتاب رجلان : رجل ينظر الى الاشياء ورجل ينظر في الاشياء ، فالأول يحار فيها لأن صورها وأشكالها تبدد فكره فلا يكون له من ثمرة الإعتبار ، وأما الناظر في الاشياء فإنه يتأنى في نظره فيؤديه إلى تمييز الدائم من العارض والصحيح من السقيم وماهو شعار وماهو دثار يتبع الكتاب السرود العربية القديمة المبثوثة في أمهات التراث السردي العربي الضخم ليأتي بحكايات وقصص ووقائع ونوادر قاسمها المشترك موضوع الجنس ، كاشفا عن البنية العميقة لها ، بتقشير النص السردي من أجل الوقوع على منشوده وذلك عن طريق إستخراج نصياته ، وتعيين انظمته ، وتحديد مقاصده ، ورصد تمثيلاته . ولا شك أن هدفا بمثل هذا الطموح محفوف بالمكاره ، ومحاطا بالعقبات ، فأما المكاره الحافة به فتكمن في أن موضوع الجنس يحيل في المستوى التداولي العام ، على الحظر والمنع والحجب والتأثيم والتحريم ، مما يجعل الإقتراب من دوائره أمرا مشوبا بالحذر ، واما العقبات فتتمثل في عجز النقد العربي وتعاليه على إنتاج ومفاهيم ورؤى وادوات منهجية لازمة لمقاربة هذا الحقل الخصب والحيوي ، رغم ادعائه الحداثية وإنفتاحه على المنهجيات اللسانية والنقدية الغربية . وتعود أسباب هذا القطع بين النقد والجنسانية إلى أن حقل الجنسانية ارتبط بمفاهيم الإسفاف والبذاءة وإكتسى لبوس التأثيم والتحريم الدينيين الأمر الذي دفع إلى اقصائه واستبعاده من دوائر المقاربات النقدية التي لم تفلح في تخليصه من الإلتباسات وسوء القراءة والتأويل الذي لحقا به . إذا كما سبق وأشرنا الى أن بحث هيثم سرحان في خطاب محرم لم يُلتفت إليه إلا لِمامًا ، هذا المجال الغير مطروق بما فيه الكفاية ، للمنزلة التي يحتلها الجنس وخطابه في ثقافتنا واجتماعنا بوصفهما ميدانين يشتبك فيه المحرم والإثم وذهاب الحياء . ولا شك هنا في أن الحضارات التي مارست قمعا تجاه الجنس وصادرت خطابه تمتاز بكونها حضارات مضطربة سلوكيا ومعرفيا ، الامر الذي يعني أن مجتمعات هذه الحضارات ستظل تعاني قمعا واضطربا في سلوكها الإجتماعي والسياسي والديني ، رغم أن مدونات الأدب العربي تشمل نصيات واخبار وحكايات وطرائف ونوادر جنسية هائلة تحتل مساحة كبيرة في جسد الكتابة العربية ، وهذا يدل على أن الجنسانية مكون أساسي من مكونات الحضارة الثقافية ، ومن ثم فإن دراستها وتحليلها يقدمان تصورات فكرية تسهم في تفسير كثير من القضايا والظواهر الثقافية التي رافقت مسيرة العرب والمسلمين الحضارية ، كما أن الجنسانية لا تنفصل عن الاشكال والانساق الثقافية الأخرى مثل : الرحلة ، العشق ، الحرب ، الكرم والبخل وغيرها من الانساق ثمة تنبيه أساسي أخير يقدمه هذا الكتاب للقاريء ، وهو أن خطاب الجنس المتمخض عن النصوص السردية الجنسية ، الخطاب بما هو ممارسات ثقافية لا يصح له أن يشتبك مع خطاب القيم الثاوي في النصوص الدينية وقوانين الشريعة والعادات والتقاليد . من هذه الزاوية يكون الكتاب كتاب كشف واستكشاف ، كشف لمكامن في ثقافتنا القديمة ، التي مازالت في جوانب عديدة منها هي نفسها ثقافتنا الحديثة مادامت تثقلنا بالوصايا والإكراهات الى حدود اليوم
من الخطاب الجنسي الى الجنسانية
تتشابك في المستوى المنهجي ثلاثة مفاهيم أساسية هي الجنس sex ، والجنسانية sexuality والخطاب الجنسي sexual discourse . ويحيل الجنس على العملية العضوية والسلوك البيولوجي اللذان يضمنان له تحقق رغباته في المتعة واللذة والتوالد . في حين أن الجنسانية تشتمل على مجمل التقنيات والاليات التي تدار بها الحياة الجنسية بمعناها الواسع والشامل ، إنها العلم الاركيلوجي الذي يسمح بالكشف عن التقنيات التي تستطيع الذات بواسطتها الإفلات من ضغوط السلطات التي تجمح رغائبها وسلوكيتها ، والتمرد على المعرفة التي تصادر حضورها ومتعها وإذا كان الجنس آلية حيوية رتيبة ، فإن الجنسانية حقل تحدث فيه الحفريات المرتبطة بالجنس والخطاب ، أي أن الجنس تضم الخصائص البيولوجية في الذكر والانثى ، والخصائص الإجتماعية المميزة بين الرجل والمرأة ، والهوية الجنسية ، والهوية النوعية ، والتوجه الجنسي ، والايروسية ، والإنجاب ، وتتخذ الجنسانية تمثيلات تشمل الاستيهامات ، والرغبات ، والمعتقدات ، والمواقف ، والقيم ، والانشطة ، والممارسات ، والعلاقات ، وفي هذا المجال يتشكل الخطاب الجنسي الذي يمثل أشكال الجنسانية السائدة في الحضارات والمجتمعات والثقافات
الجنسانية من الحجاب إلى الخطاب
للثقافة دور مهم في توجيه أنشطة الأفراد والمجتمعات وممارستهم الجنسية ، فهي تعمل على مدهم ببرامج غرائزية تدفعهم الى إنتهاج ضروب من الجنسانيات . وهذا يعني أن الثقافة تعمل بمرور الوقت ، على تشكيل هوية الافراد الثقافية التي تعني إكسابهم مجموعة من الخصائص التي تحدد معايير انتمائهم لها ضمن علاقة جدلية قائمة على الهدم والبناء ، فالهوية الثقافية تشكل وعي الافراد وتبني مفاهيمهم الكلية في الوقت الذي يقومون فيه بتطوير الهوية وتعديل مبادئها وهدمها بما ينسجم مع اراداتهم بيد أن مسيرة الخطاب الجنسي في أية ثقافة لا تملك مسارا واحدا ، إذ أنها تقيم حظرا على الخطاب الجنسي ، وتمارس بحقها تطهيرا صارما للمفردات المسموح بها ، لكنها قد تقوم بإحداث إنفجار خطاب حقيقي يجيز البوح والتصريح بعد أن مارست أساليب بلاغية جديدة في التورية والإستعارة بدافع الإحتشام والرقابة على التلفظ . وعلاوة على ذلك ، فإن الثقافات قادرة على إنشاء مناطق إحتشام وذوق وصمت مطلق وصرامة حول الخطاب الجنسي الذي يتعامل معه بدقة لا متناهية ، فهي تحدد مكان الحديث عن الجنس وزمانه ، وتعين مكان حظر الحديث عنه وزمنه كما أنها تحدد المناسبات ، والروابط الإجتماعية ، والشخصيات ، مواقعها ، وفي الجهة المقابلة فإن الثقافات نفسها قد تدفع نحو تخصيب الخطابات ومجالاتها الامر الذي يؤدي الى بروز الجنسانية والإحتفاء بها وإخراجها من الحجاب إلى الخطاب تستحوذ عليه السلطة وتجعله ضمن مجالاتها ومداراتها بهدف السخرية من الحشمة والإستهزاء من الورع
إستقبال الجنسانية في الادب العربي القديم
لعل الناظر في مدونات الجنس العربي يقف على إفراد المؤلفين فصولا في أجناس النساء وأصولهن ، ومن ذلك ما ورد في كتاب " الإيضاح في علم النكاح " المنسوب للسيوطي ولعبد الرحمان بن نصر الشيرازي " أما الروميات فإنهن أطهر أرحاما وغالبهن معقرات عريضات للنيك ، والأندلسيات أجمل وأطيب ريحا ، والهنديات والسنديات والصقالبة أدم أحوالا وأقبح وجوها وأقذر رحما واخسف عقلا ، والزنجيات والحبشيات أطيب نكهة واشد طاعة ، والبغداديات والبابليات اجلب شهوة للرجال من غيرهن ، والشاميات أود للرجال ، والعربيات والفارسيات أحسن أحوالا وأنجب أولادا وأحسن لطفا وعشرة وصيانة ، والنوبيات أسخن فروجا واكبر أعجازا وأنعم أبدانا وأشد شهوة ، والتركيات أبرد أرحاما وأسرع أولادا وأسوأ أخلاقا وأشد حقدا وأغزر عقولا ، والمغربيات أشد محبة للرجال " ولم يكن هؤلاء المؤلفون ممن سفلت أخلاقهم أو سقطت مروءتهم ، بل رأو أن مؤلفاتهم لا تكمل إلا إذا تحدثو عن الامور الجنسية لانها أمور من الحياة نفسها . يكاد يكون أبو عثمان عمرو بن البحر الجاحظ أول من أفرد رسائل خاصة تعرض موقفا نقديا حول الجنسانيات ، فكتبه " في النساء " وفي " مفاخرة الجواري والغلمان " ، وفي " القيان " فضلا عن النصيات الواردة في كتبه الأخرى تعد فاتحة في تأسيس الخطاب الجنسي . والناظر في كتاب الجاحظ الموسوم ب " مفاخرة الجواري والغلمان " ، يلحظ أن الجاحظ يؤكد حرصه الشديد على إدراج هذا الكتاب في المناظرات الحجاجية الكثيرة والمتنوعة في المضامين والموضوعات التي لطالما حرص على تأليفها ، لتبصر الناس وتثقيفهم وتنويرهم من جهة ، ولعلمه بإنتشار ظاهرة الغلمان في المجتمع العباسي . وهذا يعني حسب الجاحظ ، أن أبواب المعرفة يجب أن تفتح للبحث والمساءلة ، ذلك " أن لكل نوع من العلم أهلا يقصدونه ويؤثرونه ، واصناف العلم لا تحصى ، منها الجزل ومنها السخيف " ، هكذا يستثمر الجاحظ فضاءات المعرفة ، وكشوفات العلم بمقاربة تلامس موضوعا يثير الكثير من الحساسيات وبهذه الطريق فإن الجاحظ يصدر عن تعال معرفي ، وإستعلاء علمي يخولانه الخوض في أشد الخطابات حساسية ، لا يتحرج فيها من فتح باب الجنسانية على مصراعيه ، نظرا لموقعه الثقافي ، ومرجعياته المعرفية ، فإرتباطه بالسلطة ومؤسسة الخلافة يمنحه القدرة على تناول الموضوعات ، كما أن خلفياته ومرجعياته المعرفية الاعتزالية تمكنه من مقاربة الموضوعات دونما إحساس بالوجل والرهبة ، فموقعه يوفر له قوة في فتح المغاليق ولعل الجاحظ عليم بالقاريء المتربص الذي يمثل رقابة أخلاقية وثقافية وعقائدية ، وواع بالمرجعية التأثيمية التي يصدر عنها ، بيد أن الجاحظ يستبق هجوم التأثيميين بمهاجمتهم ، وإتهام مرجعياتهم بالقصور والعجز والعقم ، لذلك لا يتردد في وصف وقارهم المفتعل بالزيف ، يقول الجاحظ " وبعض من يظهر النسك والتقشف إذا ذ��ر الحر والاير والنيك تقزز وإنقبض ، وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من المعرفة ، والنبل والوقار غير هذا التصنع " وقد ورد النص نفسه في كتاب الحيوان بصيغة أخرى مختلفة " وبعض الناس إذا إنتهى الى ذكر الحر والاير والنيك اظهر التقزز ، وإسفعل باب التورع " وسوف يقوم مصنفو الأدب العربي اللاحقون للجاحظ فيما بعد اقتفاء أثره في الكتابة عن الجنس والنساء �
إذ يقدم بديع الزمان الهمذاني في المقامة الشامية حكاية ذات طابع حجاجي بين أبي فتح الإسكندري وامرأتين إحداهما تطلب طلاقا ، وتدور أحداث المقامة على نزاع بين أبي فتح الإسكندري والمرأة التي تطلب صداقا ، ذلك إنه ينكر الإقرار بحقها في الصداق لعدم حيوتها الجنسية ، في حين أن المرأة تدافع عن نفسها وتتهم الإسكندري بالعجز الجنسي وتحفل كتب أبي حيان التوحيدي بنصوص الجنس وسردياته ، ففي كتاب الإمتاع والمؤانسة نجد أن التوحيدي أفرد الليلة الثامنة عشرة لحديث المجون ، فكانت ليلة مجونية كما ارادها الوزير ابن سعدان ويفرد الراغب الإصفهاني في كتابه الموسوم ب-" محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء " حدين يحيلان الى الجنسانية ، الحد الخامس عشر وعنوانه في " التزويج والطلاق والعفة " والحد السادس عشر وعنوانه " في المجون والسخف " وتتضمن مقامات أبي قاسم الحريري مقامة عالج فيها نزاعا بين إمرأة شابة وشيخ هرم . ففي المقامة الخامسة والاربعين الموسومة بالمقامة الرملية تنافر إمرأة شابة جميلة زوجها الشيخ في مجلس قاضي الرملة بفلسطين ، وتزعم عدم كفايته الجنسية ويحشد ابن حمدون في الجزء التاسع من كتابه الموسوم ب-" التذكرة الحمدونية " مادة كبيرة من الطرائف والنوادر والحكايات الجنسية الدالة على تصرف الناس في مادة الجنس ، وقدرة الادب على إستثمار هذا الموضوع الحساس وتزويده بالإستعارات والكتابات الطريفة ويتناول أبو الفتح شهاب الدين محمد بن أحمد الابشيهي النساء في الباب الثالث والسبعين في كتابه الموسوم ب " المستطرف في كل فن مستظرف " فقد عرض هذا الباب " ذكر النساء وصفاتهن ونكاحهن وطلاقهن وما يحمد وما يذم من عشرتهن " كما يمثل جلال الدين السيوطي واحدا من الموسوعين الكبار الذين خاضو في حقول المعرفة الشائعة في عصره ، ومن أبرز هذه الحقول حقول الجنسانية الذي قاربه السيوطي بخلفية الفقيه وادوات المفسر ومنهجية اللغوي . لقد فعل السيوطي في خطابه الجنسي الممتد في أربعة عشر كتابا ورسالة ، إذ غرف من معين سبعة علوم أساسية وسبعة علوم فرعية ، فأما الأساسية فالتفسير ، والحديث ، والفقه ، والنحو ، والمعاني ، والبديع ، وأما الثانوية فأصول الفقه ، والجدل ، والتصريف والإنشاء والترسل ، والفرائض ، والقراءات ، والطب يشير السيوطي إلى عكوفه الطويل على التأليف في " فن النكاح " بعد أن أدرك أن المصنفات التي سبقته تروح بين الإسهاب والإختصار من جهة والإستيعاب والتقصير من جهة أخرى ، الأمر الذي حفزه على الخوض في حقل الكتابة الجنسية بدافع الإضافة وتخليص الخطابات الجنسية من أفات النقص والقصور وطلبا للدقة والكمال
والجدير بالإشارة في الختام الى أن الكتاب والمؤلفين العرب كانو ينتجون المعرفة الجنسية ، ويسهمون في صياغة الخطاب الجنسي دون أدنى إحساس بالإثم أو الفسق أو الخوف أو الرقابة أو الملاحقة ، بمعنى أخر ، فإن الثقافة العربية كانت تمتلك شروط الإبداع الخلاق الذي لا يخضع لأية رقابة أو مرجعية مهما كان نوعها ، ولعل المفارقة الحقيقية تكمن أن من أسهمو في إنتاج الخطاب الجنسي كانو يضطلعون بالسلطات الفقهية والقضائية والمعرفية المتنوعة ، أي أنهم القائمون على حماية المنظومات المعرفية ، وحراسة أفكار المجتمعات من الخطابات التي قد تبلبلهم وتعصف بهم .