" لا أريد منك أن تقبل الجانب الخارق من هذه القصة أو ترفضه.. فقط أريد منك أن تفكر في كل هذا الذي تعتقد.. هل رفاقك هم رفاقك فعلاً.. ربما كانوا مثلك ضحية للشيطان.. وربما كانوا هم الشيطان ذاته في جثامين إنس.."
في الأيام التي لا يوجد فيها تسلية من أي نوع لا ولائم ولا سرقات دجاج ولا حتى باليه ترعة البجع أكتشف أن لدي هنا راديو بشري اسمه ديريني.. وهو مسل جداً خصوصاً حينما يحل المساء.. ففي الليالي المقمرة كنا نطفئ السرج ونكتفي بنار (الراكية) التي يغلي عليها أبريق الشاي الصدئ.. وأجلس متربعاً لأنصت على ضوء القمر إلى حكايات الديريني المنحولة من أساطير الريف وهو يصب لي الشاي الأسود القاتل.. إنها تبدو كحكاية واحدة تتم روايتها في كل مرة بشكل مختلف وهي في غالبها تتراوح بين حكايات (النداهة) التي جعلت خاله يجن ويلقي بنفسه في الرياح .. وعن خاله مرة أخرى الذي قابل جنية يوما عند الرياح وهو عائد من الحقل ..و لعله بدا لها في ذلك اليوم فاتناً وهو عائد من الحقل ملطخاً بالطين لأنها عرضت عليه الزواج واخذته معها إلى أهلها من الجان.. قلت له وأنا أرشف رشفة قوية من الشاي : ـ خالك جن بسبب (النداهة) ؟ أم عرضت عليه الجنية الزواج...؟ ـ لا لا يا فندم ..خالي الذي جن غير خالي الذي عرضت عليه الجنية الزواج ..أنا لي أربعة أخوال .. ـ وكلهم حمقى ..؟ نظر لي مفكراً في بلاهة كأنما يجري عملية حسابية لعدد الحمقى في عائلته ثم قرر أخيراً أن ينفجر ضاحكاً على دعابتي بافتعال لا شك فيه وهو يثني على خفة دمي التي لم يعهدها مع الضباط السابقين الذين خدموا في القرية ..ثم عاد ليذكر لي حكاية عمه الذي مات ثلاثة أيام ثم عاد للحياة من قبره .. وهكذا يأتي الديريني على كل أقاربه فلم يبق منهم أحداً لم تخطفه جنية الرياح أو جن بسبب (النداهة) أو اشتعل به الحمام لأنه قرر شرب الدخان وإلقاء عقب السيجارة في الحمام فوقع على قفا أحد الجان الغافين.. هذه الحكاية بالذات جعلتني أخشى حمام غرفتي وأفكر جدياً في استعمال الدلو كبديل مؤقت .. تباً لذوق القرويين .. قلت له في غيظ : ـ الجن والشياطين هي شماعة ممتازة نعلق عليها فشلنا وتقصيرنا يا ديريني.. ـ لكن الجن مذكور في القرءان يا بك.. ازدرت لعابي وقلت له بحذر : ـ وهل يعني هذا أنهم السبب وراء مأساة عائلتك؟.. هنا أقسم لي أغلظ الأيمان أنه صادق فيما حكى فهدأته قائلاً : ـ أنت صادق فيما سمعت.. لكن هل رأيت؟.. رأيت حاجبيه ينعقدان وشاربه ينتفش، وانتفاش الشارب هنا له عدة معان فقد يدل على الفخر وقد يدل على الغضب وأحياناً يدل على الخطر.. وقد تكلم ديريني بصوت كالفحيح ليدل على المعنى الأخير: ـ لقد رأيت يا بك.. (يوتوبيا الشياطين)