مستوى بديع يرصد الواقع الإلحادي وتشكلاته التاريخية سواء الفلسفية "الأصولية" رجوعا لعصر الأنوار والمذاهب الشكية وأشكال الثورة على الأديان كافة وانتقالا من الربوبية للإلحاد الصريح، انتهاءً بإلحاد العصر الحالي الفج والوقح والتبشيري في نفس الوقت.
يبقى أهم وأمتع وأفخم جزء من المقرر هو الفصل الأول من كتاب عبد الله الشهري -ثلاث رسائل في الإلحاد والإيمان- وفيه وضح كيف أن الإلحاد له مرتكزين: مرتكز تاريخي ومرتكز نفسي، نتناول سريعا المرتكز النفسي وارجع بنفسك للمرتكز التاريخي في كتابه، ولعلي أكتب عنه فيما بعد بإذن الله: ________ بسم الله: نرى في المرتكز النفسي بتصنيف الشهري العبقري أن الإلحاد ظرف طارئ على الوعي الإنساني:و استجابة لمجموعة شروط ومؤثرات ثقافية متداخلة ومركبة وبأنه انعكاس للمزاج التحرري العلماني الليبرالي اللاديني في بنيته إلحاد يعكس طبيعة السياق الذي يعيشه العالم اليوم "سياق ثقافي مترع بالتناقضات -أسئلة المعنى والخير والشر- واللا مركزيات -اسئلة السلطة والحرية والتعدديات -تيهان في الهوية وأسئلة التعايش.
ولا شك أن لقابلية المرء لأن يلحد دور كبير في التماهي مع هذا السياق وعيا به أو بدون وعي. ___________ وفي هذا المرتكز مثلا نجد الملحد عاجز عن تبرير مذهبه أو تبين أسبابه بشكل واضح أو "لأن الإلحاد يؤمن له عضوية الانضمام للمجتمعات المتحررة ووبالتالي يوفر له نوعا من الانتماء وعدم الشذوذ وهو يطلق العنان لنفس فيما تشتهي لأن موقفه الفكري والشعوري من العالم مصنوع لا بإرادته الكاملة وإنما بفعل ضغوط ثقافية واجتماعية وجد نفسه فيها"
فإنسان يعيش في سياق علماني ليبرالي وجودي لا ديني كيف في بيئة حاضنة لهذه الإشكال من الإلحاد ألا نتوقع انحرافه الإيماني؟ وهي بيئة خصبة لها مسار تاريخي طويل وتجربة مريرة مع الغربي وانتقلت للعالم مع تعزز نفوذه الثقافي والسياسي لتصبح ثقافته هي الغالبة، فيأتي الملحد قائلا أنه "سيخرج عن القطيع" وهو في المحصلة يتماهى مع النموذج الغالب ومع المعطى الحضاري الجديد ويذهب إلى القطيع الآخر الغالب المهيمن بلا رؤية نقدية لهيمنته واسبابها وتاريخها وهل تستحق أن تؤخذ الأفكار بالاعتبار مع الهيمنة العسكرية والثقافية؟ أم أن هناك ضريبة قاسية جدا وأمراض مستعصية محملة مع الكمبيوتر الإنجليزي والمكوك الأمريكي؟ "لقد اكتشف الإنسان الغربي في وقت متأخر أنه كان يبني تابوتا لا صرحا وأنه كلما ازداد ثقة في قدرته على إصلاح الأمور كلما تفاقمت أزمة الحضارة بشكل متسارع"!
إن أول خطوة نحو العبثية هي الإدراك أننا هنا في العالم لسنا بفعل تدخل إلهي، ولكن بمحض الصدفة وعرَضا، بل وربما نتيجة غلطة. عندها يصبح وجودك في حد ذاته عبثا!"
يهمني أيضا في رصد هذا المرتكز الإلحادي النفسي استفادته من أطروحة كن والبر وتصنيفه لمراتب الوعي الستة، حيث وضح أن الوعي المجتمعي في القرنين الأخيرين متردد في الجملة بين المرتبتين السالفتين من مراتب الوعي:
المرتبة الخامسة المتمثلة في : الخروج عن القطيع وهو وعي متأسس على مضامين المنجزات العلمية
المرتبة السادسة: وعي النفس الحساسة المرهفة: وعي متماهي مع الحس الجماعي أي الروابط الإنسانية والاهتمام بالبيئة وسيادة الشعور الحميمي تجاه الأرض -لاحظ مهاويس حماية الأرض- وحماية من يسكنه من حقوق انسان وحيوان.. كلها تمثلات في الحركات الحالية والجمعيات الدولية. ____ بعد هذه السردية يمكن القول أن الوعي الجمعي الحالي -أي الوعي الذي يفسر غلبة المزاج الليبرالي العلماني الرأسمالي- هو مزاج مادي دنيوي لا ديني تكثيري -للمفاهيم وللحقائق- إذن هو يروم لعقلنة كل الخبرات ومنافرة للأنظمة المعرفية المثقلة بمضامين غيبية ولا سيما تلك التي تدعي "امتلاك الحقيقة" أو التي تتسم بنظام قيمي واضح المعالم له أصوله.
ومن المقدمة السابقة نفهم لم يستحيل تصور تلاقي بين المتشرب لتلك الثقافة وبين قيم الإسلام أو الدين بشكل عام، لأنه من الطبيعي أن يرضخ الوعي المتشكل تحت ضغوط المناخ الجديد للمضامين اللادينية واللا أدرية فيحدث تلاقي بين القرآن من جهة والوعي الوجودي المادي من جهة أخرى، ولا تنتهي إلا بإسقاط نموذج للآخر -في عقل الفرد- أو بجمع النموذجين عن طريق تحريف أحد النموذجين كالإسلام المعلمن مثلا. ____ في النهاية هذه المتعة المتجسدة في كتاب الشهري تعوود لكون الرجل عالم شرعي وفيلسوف وعالم اجتماع في آن واحد، حفظه الله وأدام قلمه البديع ذخرا لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم.
هذا والحمد لله رب العالمين ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ونعوذ بالله من الخذلان ومن الحور بعد الكور.