قرأتُ هذا الكتاب سريعاً من قبل وأعدتُ قراءته الآن في يوم واحد لأني شعرتُ أني لم أوفهِ حقّه.
يُخيّل للقارئ من العنوان أن الموضوع الأساسي هو "التعريب"، لكن معظم الكتاب (60% تقريباً) هو كلام في فضل اللغة العربية واتساعها وتاريخ نحوها وقواعدها، وهو تاريخ مأخوذٌ من مصادر العرب القديمة المعروفة، إضافةً إلى كلامٍ كثيرٍ عن شجرة عائلة اللغات السامية وعلاقتها ببعضها. وهذا الكلام عن اللغات -للأسف- قديم الآن من الناحية العلمية، لأن الكتاب صادر في سنة 1923، وفيه الكثير من المبالغة، مثل نسبة مولد اللغات السامية إلى جزيرة العرب، وهو ليس أمراً شائعاً لكن المؤلف جعلهُ قريباً من الجَزْم لا لسببٍ إلا للرفع من شأن العرب وبلادهم.
وأما القسم الأهمّ والذي يشتهرُ به هذا الكتاب، وهو ما دلّني إليه من كتاب آخر في التعريب، فهو أن في نهايته فصلاً يوجزُ فيه قواعد لتعريب الكلمات كُلّها بحسب تركيبها الأجنبي حرفاً حرفاً، فيُفصّل كيفية نقل أو نَقْحَرة كل حرف بحسب موضعه في الكلمة. إلا أن ما خيّب أملي في هذا الجزء هو أنه يختص (على عكس ما اعتقدتُ) بتعريب الكلمات اليونانية حصراً، ولا يدخلُ في تعريب اللغات الأوروبية الحديثة لأنها كانت معتمدةً على المصطلحات اليونانية أكثر في زمن نشر الكتاب.
وأما الأمر الثاني الذي أثار اهتمامي وسعادتي فهو أني وجدتُ في الكتاب أصلَ مقالة قرأتُها منذ سنين طويلة في التعريب، ووجدتُ أخيراً مصدرها. فقد وضع أحمد عيسى منهجاً للتعريب فيه خمس طرق يُرتّبها بحسب أولويتها ولجوء المترجم إليها، وهذه الطرق هي الترجمة والاشتقاق والمجاز والنحت والتعريب. ولعلّ هذا القسم من الكتاب، وهو مختصر، هو الأكثر فائدة وقيمة لي والأهمّ للمترجم الحديث، فهو (على عكس باقي الكتاب) لا زال صحيحاً ودقيقاً في عصرنا، بل وإنه يعطي تعليمات وإرشادات نفسية جداً ومن العسير العثور عليها في أي كتاب آخر.
كتاب ممتاز في زمنه، وقد تقادم عليه الزمن الآن. يقرأُ منه بتخيّر ويهملُ معظمه.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا العربيّ الأمي، إمام البلغاء، وسيد الأرض والسماء.
وبعدُ، فهذا كتاب فَريد بديع، ثريّ على وجازته، وشامل على ندرة المصادر في حين كتابته مقارنةً بما تذلل لنا في عصرنا اليوم، لذلك لا تستهِينَنّ بما ورد من كلام السيوطي في المزهر وكتاب الارتشاف والمقدمة وكتب أحمد بن فارس، فإن من يخرج من هذه الكتب الضخام بهذه الخلاصات البديعة، عقلٌ باهِر بلا ريب...
لا أدري من أين أبدأ، وما حالي بعد الفراغ من الكتاب إلا كما وصف العتابي رحمه الله: إني لما تناولت القلم تداعت عليّ المعاني من كل جهة، فأحببت أن أترك كل معنى حتى يرجع إلى موضعه؛
وعلى أيٍ، بدأ أحمد عيسى بك رحمة الله عليه في التعريب من بداية القصة، ولم يلج إليه مباشرةً بل وطأ له مستعرضًا تاريخ العربية مذ كانت أصواتًا في الطبيعة لم تنتظم في حروف، ثم انتقل من ذلك إلى وجهة نظره في أن الألفاظ موضوعة لا موقوفة، ثم إلى تكون الكلمات، وسمات الكلمة وأنواعها واشتقاقاتها وطريقة العرب السليقية التي تجري على السجية في الاعتناء بصفو المخارج والحروف، مع التعريج على بيئة العرب واختلاف ألسنتها ولهجاتها وأحاسن لغاتها واستتاب الأمر في غالبه على لغة قريش مع تقدم الزمن، ثم نَسَخ القرآن بنزوله كل ما كان قبله من كشكشة وعنعنة، وهكذا.
وقبل تناول التعريب ألمح إلى ما تبدل في العربية من ألفاظ نقلت معانيها بدخول الإسلام كلفظ الصلاة من الدعاء إلى العبادة المخصوصة. وقبل رصف قواعده تحدث عن علوم العربية بإيجاز، ليكون ذلك قاعدةً لما سيأتي، ولأخذ تصور عام عن التحوّل من السليقة والفطرة إلى القواعد المرصوفة بناءً على استقراء مادة العرب بعد عصور البديهة العربية ودخول العُجمة.
ونفع كتاب أحمد عيسى بك رحمه الله بالنسبة لي كان في نصفه الثاني لا لضعف النصف الأول، ولكن لسبق أن تعرضت لما فيه في دراستي لعلوم اللغة أو قراءتي للمصادر التي نقل منها في أبواب لهجات العرب وقبائلهم ولهجاتهم وألسنتهم، أما النصف الثاني فهو النصف النفيس، ولعلها من المحاولات الأولى التي تحدثت عن تقعيد في التعريب يستهدي بكتب التراث في التعريب وحدوده ومدى صحته على الوزن العربي من عدمه، ودون إدخال أصوات قبيحة للعربية كان أجدادنا ينفونها إذا استسمجتها أسماعهم واستثقلتها ألسنتهم.
كذلك أرجع الأمر في قواعده إلى سهولة النطق ومقاربة الأوزان وخصائص العربية -كألا يلتقي ساكنان، وألا تجمَع الحروف بعيدة المخارج معًا في كلمة واحدة- وألمح إلى السمة العامة في اللغة العربية، وهي: ميل العرب إلى تحسين كلامهم ونفي خبيثه وحذف ما يثقل وإضافة ما يسهّل، وكله مردود إلى الذوق السليم والقريحة الطيّبة، والتي ما إن ضعفت حتى رأينا هذه التعريبات القبيحة في كل مكان، لأن نفوس الناس لم تعد تأبى القبيح ولم تجد في المتنافر خللًا.
وختامًا أذكر القاعدة الكلية العامة عند التعرض للنصوص الوافدة الأجنبية قبل اتخاذ قرار نقلها في صورة معينة، وهي بحسب الترتيب: الترجمة أولًا، (وهي نقل اللفظ باستحضار لفظ مطابق له في لغتنا لم نبتدعه.) ثم إذا لم يوجد مقابل، فالاشتقاق ثانيًا (وهو الأخذ الفرعي عن أصل معين، كقولنا في مستشفى من الفعل شفى.) فإذا لم يصح الاشتقاق وعجِز فالمجاز، وهو نقل الكلمة الجديدة أو المعنى جديد بلفظ مجازي لمناسبة معينة في المعنى أو الصورة (كتسمية العمال في المصانع للأدوات عصفورة ونحوه.) فإذا لم يفلح المجاز استخدمنا النَحت، وهو اللفظ المركب من كلمتين تؤدي معناهما مدلول الشيء المسمى (مثل عبشمي، درعمي.) فإذا عجزنا عن ذلك لجأنا إلى التعريب، وهو ابتداع لفظ جديد يجري في الغالب على أوزان العربية، دون نقل أصواته كلها بالضرورة، وإنما بما يصح نقله منها، والاستعاضة عن المتنافر بالحروف المستجادة، فلا يخرج اللفظ عن اللغة وأقيستها وأوزانها ونطق حروفها، فيشبه اللفظ العربي الفصيح..