كتاب بحثي فيه جزء من البحث الميداني حول مدينة آرامية في امارة الشارقة وهي مدينة كبيرة ولعلها اكبر مدن الخليج المكتشفة حتى الان من حيث المساحة والغنى الاثاري. مليحة مدينة معاصرة لتدمر وقد عثرت على وشائج قربى كثيرة بين المدينتين.. لغوية ودينية. ورغم ان العنصر الآرامي كان سائدا في المدينة، من حيث هوية الطبقة الحاكمة والرموز السيادية، الا انه كانت هناك جالية جنوبية تكتب بخط المسند وانا ارجح انها حضرمية.. وقد طورت مليحة ابجدية آرامية خاصة بها استطعت ان استنبطها من النقوش.. ولم استطع دراسة النقوش الارامية المكتشفة حديثا بسبب تعقيدات ادارية لا مجال لذكرها هنا... ومن بين النقوش التي لم ادرسها نقش غاية في الاهمية مزدوج اللغة ..حضرمي - آرامي.. وقد حلت دراستي لهذه المدينة التي كانت تعبد بعل شامائين وبل واللات الكثير من الالغاز المحيطة بنشوء العربية القرآنية القرشية. والكتاب محاولة لدراسة الأفق الحضاري لمنطقة الخليج اثناء الفعالية الحضارية والتجارية التدمرية. علماً أن المدينة دمرت وأحرقت على يد آردشير الفارسي قبل تدمير ميسان والحضر دورا اوروبس بعدة سنوات .
بقلم يوسف أبولوز
«لقد عاشت مليحة مسيرة متصاعدة استمرت بضع مئات من السنين، وانتقلت من محطة صغيرة على طريق البخور القادم من حضرموت، إلى مدينة كبيرة مترامية الأطراف، ضمت جاليات متعددة، وأنشأت ميناءها البحري، وسكت عملتها الخاصة، وبسطت سلطتها المعنوية والمادية على مناطق واسعة في منطقة جنوبي الخليج العربي، مجسدة بحق، صورة شديدة التعبير عن صعود وازدهار الجنس العربي، وسط قطبية الشرق والغرب، المتمثلة في الإمبراطوريات الفارسية (الإخمينية والبارثية)، واليونانية بداية، ثم الرومانية، فيما بعد». أكثر من مرة أشرت في متابعتي لعناوين مثل كتاب «ألغاز مليحة - دراسة في الآثار والنقوش والرموز» للباحث تيسير خلف إلى القيمة التاريخية والإنثروبولوجية والجمالية لمثل هذه الموضوعات ومحيطها الثقافي العام، فالبحث في الآثاريات والرموز والكتابات والمنحوتات والفخاريات والقلاع والقبور والمدافن والكهوف هو بحث ميداني بالدرجة الأولى، أي إننا في حال اكتشاف أثر ما ومعاينته جيداً، ونفض غبار المكان والزمن عنه، إنما نحن نبحث في التاريخ، ونتوصل إلى شواهد وقرائن، ونتعرف إلى ثقافات وحضارات.. أليست الكتابة، مثلاً، شاهداً من شواهد التاريخ الدامغة؟ والكثير من الكتابات والنقوش والرموز والخطوط هي في الواقع شواهد تاريخية. في هذا الكتاب نحن في قلب مكان أثري تاريخي غني بالآثار والنقوش والرموز، والكتاب كما يشير مؤلفه «دراسة في التاريخ والحضارة»، ومن المهم القول (وقد قيل أكثر من مرة) إن مثل هذه الدراسات البحثية والميدانية والآثارية تفيد المشتغل في السرديات الأدبية كالقصة والرواية، وتفيد المشتغل في التاريخ، والتاريخ في جزء منه هو علم الخرائط والألواح الخرائطية المدفونة تحت الرمل منذ آلاف السنوات، ومثل هذه الشواهد الخرائطية تبدو أكثر علمية ووضوحاً عندما يعثر عليها عالم آثار متخصص، ورجل تاريخ منشغل بأصول وفروع الحضارات.
الأهمية التاريخية والآثارية لمليحة معروفة عند الكثير من الباحثين في التاريخ والتراث والثقافة الشعبية، وفي هذا السياق البحثي يقول الباحث تيسير خلف في تمهيده للكتاب: «.. مليحة لم تكن محطة تجارية وحسب، مهما علا شأنها، بل كانت أيضاً واحدة من المدن النادرة، التي شهدت تجاور وتفاعل العنصرين العربيين، الشمالي - الآرامي، والجنوبي اليمني، وقدمت عبر نقوشها الكتابية، فرصة مهمة للتعرف إلى طبيعة العلاقة بين هاتين الجماعتين..». الجميل في بحث تيسير خلف أنه يعود إلى جذور لغوية وشعرية عندما يرد اسم (مليحة) إلى جذره اللغوي، ومن ذلك اعتماده على شعر طرفة بن العبد، وياقوت الحموي في «معجم البلدان»، ونشير أيضاً إلى أهمية هذه الدراسة، وذلك لاعتمادها على 133 مرجعاً وهامشاً في الشعر والمعاجم والتاريخ والمسوحات الآثارية في الشارقة إضافة إلى اعتمادها على معلومات وتقارير البعثات الأثرية في الشارقة إلى جانب مراجع أجنبية، ومعاجم جغرافية وبحوث متخصصة. في الكتاب جهد ترجماني أيضاً، إذ يرد الباحث النقش إلى أصله الآرامي أو التدمري أو النبطي، ومن ثم يترجمه إلى العربية. في الكتاب أيضاً عرض لبعض الطقوس، والأساطير، والديانات إضافة إلى رسومات بالأبيض والأسود تظهر بعض المنحوتات والآلهة القديمة. لذة قراءة هذا الكتاب أنه لا يأخذك إلى معلومات آثارية جامدة، بل تستشعر أثناء القراءة أنك دخلت في حقل من الطقوس والأدبيات الميثولوجية، وإلى جانب ذلك، لا تنقطع عن تأمل نقوش ورموز تحيلك إلى جانب تشكيلي جمالي، وبهذا، فالكتاب يقرأ بمستوى فني أيضاً إلى جانب القراءة التاريخية وهي قراءة متخصصة يعرفها جيداً الباحثون في علم الآثار.