What do you think?
Rate this book
198 pages, Paperback
First published January 1, 1143
ومِن هذا أنَّه قد يتفق دعاؤه باضطرارٍ عند قبر فيجاب؛ فيظنُّ الجاهل أنَّ السرَّ للقبر، ولم يعلم أنَّ السرَّ للاضطرار وصدقِ اللَّجَأ إلى الله، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله كان أفضلَ وأحبَّ إلى الله.
وهاهنا سؤال مشهور: وهو أنَّ المدعوَّ به إن كان قد قُدِّر لم يكن بدٌّ من وقوعه،
دعا به العبدُ أو لم يدع، وإن لم يكن قد قدِّر لم يقع، سواءٌ سأله العبدُ أو لم يسأله.
والصواب أنَّ هاهنا قسمًا ثالثًا غيرَ ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدور قُدِّر
بأسبابٍ، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردًا عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى
أتى العبدُ بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما
قُدر الشبعُ والرِّيُّ بالأكل والشرب، وقدر الولدُ بالوطءِ، وقدر حصولُ الزرعِ بالبذر،
وقدر خروجُ نفسِ الحيوان بذبحه، وكذلك قُدر دخولُ الجنة بالأعمال، ودخولُ
النار بالأعمال.
وهذا القسم هو الحق، وهو الذي حُرِمَه السائل ولم يوفَّق له.
وكان يقول [عمر بن الخطاب]: إنِّي لا أحمل همَّ الإجابة، ولكن همَّ الدعاء؛ فإذا أُلهِمتُ الدعاءَ فإنَّ الإجابة معه.
وهذا الضرب من الناس قد تعلَّق بنصوص الرَّجاء، واَّتكل عليها، وتعلق بها
بكلتا يديه، وإذا عُوتِب على الخطايا والانهماك فيها سرَدَ لك ما يحفظه من سعة
رحمة الله ومغفرته ونصوص الرجاء.
وللجهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائبُ وعجائبُ، كقول بعضهم:
وكَثِّرْ ما استطعتَ من الخطايا..إذا كان الـقـدوُم على كـريـمِ
وقول الآخر: التنزُّه من الذنوب جهل بسعة عفو الله!
وقول الآخر: تركُ الذنوب، جراءة على مغفرة الله، واستصغارٌ لها!
ولا ريب أنَّ حسن الظن إنَّما يكون مع «الإحسان»؛ فإنَّ المحسن حَسَنُ الظنِّ
بربه أنَّه يجازيه على إحسانه، ولا يُخلف وعدَه، ويقبل توبتَه، وأما المسيءُ المصرُّ
على الكبائر والظلم والمخالفات؛ فإنَّ وحشة المعاصي والظلم والإجرام تمنعه
من حسن الظن بربه، وهذا موجود في الشاهد؛ فإن العبد الآبقَ المسيءَ الخارجَ عن
طاعة سيده لا يحسن الظن به.
ولا يجامع وحشةَ الإساءة إحسانُ الظنِّ أبدًا؛ فإنَّ المسيءَ مستوحشٌ بقدر
إساءته، وأحسنُ الناس ظنًّا بربِّه أطوعُهم له، كما قال الحسن البصري: إنَّ المؤمن
أحسَنَ الظنَّ بربِّه، فأحسَنَ العملَ، وإنَّ الفاجر أساء الظنَّ بربِّه، فأساء العمل.
وسمعتُ شيخ الإسلام يقول: كما أنَّ خير الناس الأنبياء؛ فشرُّ الناس من
تشبَّه بهم من الكذَّابين وادَّعى أنه منهم، وليس منهم؛ فخير الناس بعدهم العلماء
والشهداء والمتصدِّقُون المخلصون؛ فشرُّ الناس من تشبَّه بهم، يُوهِم أنه منهم
وليس منهم.
قال الإِمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان، حدثنا رِشدين بن سعد، عن
حَرملة ابن عمرانَ التُّجِيبي، عن عُقْبة بن مسلم، عن عُقْبة بن عامر، عن النبي �
قال: «إذا رأيت الله عز وجل يُعطي العبدَ من الدنيا على معاصيه ما يحِبُّ، فإنما هو
استدراج» ثم تلا قوله: ﴿فَلَمّ� نَسوا ما ذُكِّروا بِهِ فَتَحنا عَلَيهِم أَبوابَ كُلِّ شَيءٍ حَتّى إِذا فَرِحوا بِما أوتوا أَخَذناهُم بَغتَةً فَإِذا هُم مُبلِسونَ� [الأنعام: 44]
وقال بعض السلف: إذا رأيت الله يتابع نعمَه عليك، وأنت مقيم على معاصيه،
فاحذَرْه؛ فإنما هو استدراج يستدرجك به.
والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن، ومن تأمَّل أحوالَ الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير بل التفريط والأمن!
وذكر الحميدي عن سفيان بن عيينة قال: حدثني سفيان بن سعيد، عن مسعر: أنَّ ملكًا أُمِرَ أن يخسِفَ قريةً؛ فقال: يا ربِّ إنَّ فيها فلانًا العابد؛ فأوحى الله عز وجل إليه أنْ: به فابدَأْ، فإنه لم يتمعَّر وجهُه فيَّ ساعةً قطُّ.
وفي «الحِلية» لأبي نعيم عن حذيفة: أنه قيل له: في يوم واحدٍ تركت بنو
إسرائيل دينهم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أُمروا بشيء تركوه، وإذا نُهوا عن شيءٍ
ركبوه، حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه.
ومن هاهنا قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، كما أن القبلة بريد
الجماع، والغناء بريد الزنا، والنظر بريد العشق، والمرض بريد الموت.
ومنها [آثار المعاصي القبيحة]: أنَّ كَّل معصيةٍ من المعاصي فهي ميراثٌ من أمةٍ من الأمم التي أهلكها اللهُ عز وجل؛ فاللوطية ميراث عن قوم لوط، وأخذُ الحق بالزائد ودفعُه بالناقص ميراث قوم شعيب، والعلوُّ في الأرض والفساد ميراث عن فرعون وقومه، والتكبُّر والتجبُّر ميراث عن قوم هود؛ فالعاصي لابِسٌ ثيابَ بعض هذه الأمم، وهم أعداء الله.
ومن آثار الذنوب والمعاصي: انها تُحدِث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه، والهواء، والزروع، والثمار، والمساكن، قال تعالى: ﴿ظَهَر� الفَسادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بِما كَسَبَت أَيدِي النّاسِ لِيُذيقَهُم بَعضَ الَّذي عَمِلوا لَعَلَّهُم يَرجِعونَ� [الروم: 41].
ومن تأثير معاصي الله في الأرض: ما يَحِلُّ بها من الخسف، والزلازل، ومَحْقِ بركتِها.
ومن وافق الله في صفة من صفاته قادَتْه تلك الصفةُ إليه بزمامه، وأدخلَتْه على ربِّه، وأدْنَتْه منه، وقرَّبَتْه من رحمته، وصيَّرتْه محبوبًا له؛ فإنه سبحانه رحيم يحبُّ الرحماء، كريم يحب الكرماء، عليم يحبُّ العلماء، قوي يحبُّ المؤمن القوي، وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف، حَيِيٌ يحبُّ أهل الحياء، جميل يحبُّ الجمال، وِتْرٌ يحبُّ الوتر.
ولا تحسَبْ أنَّ قوله تعالى: ﴿إِنَ� الأَبرارَ لَفي نَعيمٍوَإِنَّ الفُجّارَ لَفي جَحيمٍ� [الانفطار: 13-14] مقصورٌ على نعيم الآخرة وجحيمها فقط، بل في دُورهم الثلاثة هم كذلك، أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار؛ فهؤلاء في نعيم، وهؤلاء في جحيم.
وهل النعيم إلا نعيم القلب! وهل العذاب إلا عذاب القلب!
وقد أخرج الله سبحانه الأبوين من الجنَّة بذنبٍ واحدٍ ارتكباه، وخالفا فيه نهيه، ولعَنَ إبليسَ طرَدَه وأخرجه من ملكوت السماء بذنبٍ ارتكبه، وخالف فيه أمرَه.
ونحن -معاشرَ الحمقى- كما قيل:
نصِلُ الذنوبَ إلى الذنوب ونرتجي..دَرَكَ الجِنانِ لدى النعيمِ الخالدِ..
ولقد علمنا أخرَجَ الأبَوين مِن..ملكوتها الأعلى بذنب واحد..
فكيف يوفَّق لحسن الخاتمة من أغفل اللهُ سبحانه قلبَه عن ذكره، واتَّبَعَ هواه، وكان أمره فُرُطًا! فبعيدٌ من قلبٍ بعيدٍ من الله تعالى، غافلٍ عنه، متعبِّدٍ لهواه، أسيرٍ لشهواته، ولسانٍ يابسٍ من ذكره، وجوارحَ معطَّلة من طاعته مشتغلةٍ بمعصيته أن توفَّقَ للخاتمة بالحسنى.
فهذا ميزان عادل يوزن به موافقةُ الربّ ومخالفته، وموالاته ومعاداته؛ فإذا
رأينا شخصًا يحب ما يكرهه الربّ تعالى، ويكره ما يحبُّه، علمنا أنَّ فيه من معاداته
بحسب ذلك، وإذا رأينا الشخص يحبُّ ما يحبه الربّ، ويكره ما يكرهه، وكلَّما كان
الشيء أحبَّ إلى الربِّ كان أحبَّ إليه وآثرَ عنده، وكلما كان أبغض إلى الربّ كان
أبغضَ إليه وأبعدَ منه - علمنا أنَّ فيه من موالاة الربّ بحسب ذلك.