كتبت المبدعة السورية المتميزة فدوى العبود ، على امتداد السنوات العشر الأخيرة ، الكثير من القصص القصيرة الجميلة ،و العميقة ، ومكتملة الأركان الجمالية و الشروط الفنية ، غير أنها على نحو مستغرب لم تستضفها بتاتا بين دفتي كتاب سردي . حسب علمي، كانت تقدم عمليا على لملمتها ، استعدادا لإطلاقها في سماوات النشر الرحيبة ، بيد أنها في اللحظة الأخيرة تلغي الأمر ، ثم تعمد إلى التخلي عنها نهائيا ، كما لو أن هذه النصوص المغايرة منذورة للتبدد و الهباء ، أو بالأحرى محكوم عليها بأن تعيش حياة متخفية و هامشية بين أدراج و مخطوطات الكاتبة السرية غير القابلة للعيش خارج ذائقتها المناوئة لمبدأ غزارة الإنتاج الأدبي . صحيح أيضا أن اليسير من هذه النصوص الخبيئة بإحكام بزغ أحيانا إلى العلن ، وإن كان بأسماء مستعارة و هويات مقنعة ، بيد أنها ظهرت في صيغ مؤقتة وقابلة للتعديل و التحوير و التشذيب في كل مرة . إذن ، ثمة شيء ملغز أو إحساس غامض ما كانا يجعلانها تتراجع القهقرى، و تخمد رغبتها في الانقذاف سريعا وبدون وجل صوب خضم التلقي الواسع المتلاطم . في تقديري ، إن الرغبة في الإقامة داخل هذه المجهولية المختارة على نحو إرادي نابع من توق فدوى العبود إلى كتابة نص قصصي مستحيل ومتطلب و شائك يعبر عن رؤيتها المركبة و المربكة للعالم . ولما توصلت منها مؤخرا بمسودة " تلة يسكنها الأعداء " توقعت أن تظل المؤلفة وفية لأسطورتها الشخصية و لعدميتها في الإحجام عن ذيوع كينونتها التخييلية ، فقلت مع نفسي : مؤكد أنها بعد أيام ستخبرني أن عزمها قر على عدم نشر المجموعة مرة أخرى ، لكن لحسن الحظ وفيما يشبه معجزة صغيرة لم يحدث هذا ، وهاهي تقرر أخيرا مواربة بوابة منجم الذهب الحكائي المستقر بداخل كيانها . و حسنا فعلت فدوى ، لأننا كنا من دون ريب سنخسر متوالية نصوص سردية متجاورة ذات أنفاس سريالية وفنتازية من الطراز الرفيع ، عبرت بواسطة التخييل الذاتي المخاتل ، وعن طريق لغة حيادية مترعة بالتفاصيل صنو أخطبوط صامت يمد أذرعه في كل اتجاه ، عن أضغاث الحرب و ظلال الدمار ، من خلال موتيفات مجهرية تتعقب بذكاء وتمرس لافتين الأثر المتفتت ، و الخدوش اللامرئية، و المصائر المتشابكة، والموجودات المعيقة، و الأماكن الحلمية ، و المتناصات الأدبية الكونية ، و المصادفات العبثية، و المفارقات الساخرة ،و مراوغات الزمن والذاكرة . إن نصوص فدوى العبود تلقننا بأن الجراح القديمة تكون أحيانا هي الأكثر إيلاما ، وبأن استيعاب ما حل بنا أثناء الكارثة المفجعة مستعص يشبه إلى حد بعيد محاولة قراءة و تفكيك العتمة الدامسة .
"والروح ليست من ضمن اهتمامات الحياة. إنها النفس الأخير المطرود من فم الكائن".
استشعرت الصدق في هذه الكتابة، وصلني مصحوبًا بالخوف، الخوف الصادق. الخوف من كل شيء؛ من الذات والحرب والآخر والعمر والأطفال والوالدين.
مجموعة قصص لمست في داخلي أشياء ومخاوف، مفارقات، واختلافات في أساليب القص، وهي فعلًا نصوص متجاورة كما خُطًّ في بداية الكتاب. فلا تستشعر أنك فعلًا انتهيت من قصة عندما تدخل بأخرى إنما هي امتداد واحد لطعم مالح واحد.
ما أعجبني أيضًا هو ما سمعته من صوت أنثوي واضح، حيث هنا المرأة تتحدث عن ذاتها وتفضح ما هو مستور من سعادة أو ألم أو حزن، فقط تعبّر، وتكتبُ ذاتها دون رتوش. واللغة سلسلة وساخرة، أحببت المجاز في الكتاب، الكثير من القصص سأحب أن أراها على شكل أفلام قصيرة.
قصص أعجبتني: وجود في الزمن الخطأ، قصاصات منتهية الصلاحية، البكّاءة، يَقَظة، حين أضغتُ طريق البيت
� أخاف أن أُسجَنَ في هذا الحلم حتى موتي، (في مدن غريبة، شبيهة بالروايات، جدرانها مرايا، والناس فيها يهرمون دون أن يشعروا) �
� � ماذا تفعل امرأة في ساحة حرب؟ أبحث عن تبرير للحياة «مثلك أيها الجندي» « لقد وجدت الجواب في الموت» يقول الجندي ويتابع موته الطويل من يموت لا يحتاج لأيّ تبرير، لا تبرير الحضور ولا تبرير الـتأخر، ولا تبرير الشوق ولا الحب ولا الذكرى ولا البحث في كل هذه الأسباب ها أنت، تحضرين المكان الخطأ. هنا غرفة عزاء� هذا العالم غرفة عزاء كبيرة. في الغرفة يتحدث الجميع، يثرثرون بسرعة مفرطة، قبل أن يرفع الموت يده، ويشير نحو أحدهم. �
تلة يسكنها الأعداء.. أن تعيش في كابوس أحدهم، وتواصل العيش فيه، رافضاً الخروج منه، خائفاً أن ينتهي! هذا حال من يقرأ تلة! في تلَّتِها: للموت قلبٌ أيضاً، وهي تحدثكم من قلب الموت. تقول: � الحلم أرض جيدة لاستعادة المفقودات � لكنك في تلك التلة، تعيش في كابوسٍ طويل تفقد فيه عقلك شيئاً فشيئاً ولا تجد أملاً في استعادته. سحرتني فدوى العبود (أو لِنقُل: ألقت عليَّ لعنة هذيانها) ..