Mostafa's Updates

""جاسوس في الكعبة" لمصطفى عبيد: رواية مصريّة رصينة في عصر الإسفاف

يقول جميل حمداوي: "عنوان الرواية هو ذلك المفتاح الإجرائي الذي يمدّنا بمجموعة من المعاني التي تساعدنا في فكّ رموز النصّ وتسهيل مأموريّة الدخول في أغواره وتشعّباته الوعرة."، وفي رواية "جاسوس في الكعبة" للأديب المصري مصطفى عبيد نحن قبالة عنوان تجنيسيّ يحمل وظيفة وهُويّة أصليّتين تمثّلتا في كلمة "جاسوس" وكلمة "كعبة". هذا العنوان من الناحية التقنيّة هو عنوان فيه احتماليّة اللبس، فلا بطل الرواية كان جاسوسًا ولا محلّ إقامته واتّهامه بالجاسوسيّة كان مقتصرًا على مكّة، لكنّه في النهاية عنوان بوقعٍ إيحائي. إذن فالعنوان تميّز بالتكثيف، أي وجود عنصر التشويق "جاسوس وكعبة"، وعنصر الإيحاء "اختلاط الدال والمدلول في سياقيّة غير مباشرة مرتبطة بالنصّ باطنًا فقط".
تبدأ الرواية بتوطئة دراميّة يظهر فيها الكاتب مصطفى عبيد كشخصيّة في الرواية، لتضعنا هذه المشهديّة فوق العتبة الأولى من عتبات النصّ: استعادة تأريخ شخص بالكامل، الشيخ إبراهيم، وما يتقاطع مع هذا التأريخ من أحداث شخصيّة حقيقيّة ومُتخيَّلة تتجاذب وتتنافر مع تأريخ الحجاز والمحروسة والشام وبريطانيا وألمانيا وفرنسا. ليؤكّد لنا عبيد أنّه لا يوجد تأريخ، بل مؤرّخ.
يستخدم عبيد في تحفته "جاسوس في الكعبة" أسلوب التنافر الزمني الواضح، فنحن نحاور الكاتب في العصر الحالي، وتحديدًا في فترة جائحة كورونا، بالتوازي مع سيرة الشيخ ابراهيم في القرن التاسع عشر. ولينجح الكاتب في ذلك، فقد استخدم أسلوب المخاطِب الذي كان يحاور الكاتب من جهة والشخصيّة من جهة أخرى، وكان لذلك الكثير من الأسس والحجج المنطقيّة وأذكر منها:
رغبة الكاتب في رسم نصّ حيادي لا يُجبر فيه على تجسيد صورة الآخر المختلف بطريقة مشوّهة، وكذلك الأريحيّة في بسط صفات إيجابيّة على شخوص حقيقيّة قد لا يكون متّفق عليها في يومنا الحالي وإضافة الطابع الإنساني المتحضّر على تلك الشخوص وأهمّها شخصيّة محمّد علي باشا. والسبب الآخر هو لفرد مساحة وفسحة يتجوّل بها عبيد بحرّيّة في عمليّة السرد وضخّ أفكاره بمعزل عن شخصوصه لأيصال آراء كثيرة منها: كيف يرى المسلم المسيحي، وكيف يرى الغربي الشرقي. وللتوضيح فهذا الأسلوب يحسبه بعض القرّاء مونولجًا وهذا غير دقيق. فالمونولوج هو حديث ذاتي داخلي، وما استعمله عبيد في الرواية كان حديثًا غيريًّا خارجيًّا.
للكاتب لغة ماسيّة، فيها الكثير من الجمال وصفًا وسردًا وحوارًا. أبدع في وصف مدينة إسنا برجالها ونسائها وأطفالها وبيوتها وطرقها، كما وأجاد في خلق صور بانوراميّة لكلّ المدن التي زارها تقريبًا باستثناء حلب التي لم تأخذ حصّتها من الوصف.
في ما يخصّ الشخوص، استعمل الكاتب تقنيّة التلاحم الوظيفي (كاركتر فانكشن أوف إنتيكرتي). فنلاحظ تطابق صفات الشخوص مع أدوارهم في العمل والذي أعطى بعدًا دراميًّا ساحرًا، شخصيّة حميد أنموذجًا.
حميد هو ذلك الشاب الذي فقط والده طفلًا وتخلّت عنه أمّه هربًا من الفقر، ما ولّد في شخصيّة حميد الجشع للمال تعويضًا عن الفقر، والحاجة المُلحّة للآخر، حبيبته ليلى، كردّة فعل على حرمانه من الآخر المتمثّل بعائلته.
حميد الشهم الذي أنقذ الشيخ ابراهيم عندما أصابته ضربة الشمس، هو المادّي الذي يقطع الصحاري للوصول إلى المملوكي الهارب والحصول على الجائزة التي خصّصها محمّد علي لمن يعثر على الهارب، هو نفسه حميد صاحب المبدأ الوفي والصديق الصدوق "الثرثار".
ومن الجدير بالذكر أنّ شخصيّة الشيخ ابراهيم من الشخصيّات المركّبة التي أجاد الكاتب في رسمها بعد أن غطّ رشيته بحياةٍ عشوائيّة، حياة اللانتظام، حياة البؤس والشقاء الاختياريّة. لكنّها حياة جميلة بطبيعتها الحالمة الراضية.
الثيمة الأقرب إلى قلبي هي ثيمة العبوديّة التي ناقشها عبيد من ثلاث زوايا: اقتصاديًّا (متمثّلة بشراء ابراهيم للعبد بكر وفكرة بيعه لاحقًا كنوع من الاستثمار). اجتماعيًّا ( متمثّلة أيضًا بشراء ابراهيم للعبد بكر كنوع من الرفقة والتسلية في السفر). دينيًّا (متمثّلة بفكرة عتق المسلم للعبد كنوع من التكفير عن الذنوب). والملفت هنا أنّ عبيد تناول الرقيق ليس فقط في مصر ولكن أيضًا في دول أخرى كالسودان وتحديدًا في شندي. واضعًا القارئ في مقاربات لم تكن فقط جغرافيّة ومعماريّة واقتصاديّة واجتماعيّة ولفظيّة للمدن، وإنّما تتعدّى المقاربات لكلّ ذلك وصولًا إلى تجارة الرقيق.
تزخر الرواية بالأحداث التأريخيّة كمذبحة القلعة، الوجود الوهّابي في الحجاز، العبابدة، وأسماء بعض الرحّالة الغرب الذين عملوا كمستشرقين.

عثرات الرواية كثيرة للأسف رغم جماليّتها. أذكر منها:
- الحديث عن جوهر يوم القيامة كمبدأ إسلامي تفاجأ ابراهيم به حتّى قبل اعتناقه الإسلام، رغم أن مفهوم القيامة موجود في المسيحيّة ومن قبل الإسلام بسنوات.
- طريقة اكتشاف البتراء أتت باهتة وغير مفهومة رغم أهمّيّة الحدث.
- استعمال محمّد علي باشا لابراهيم كواسطة بينه وبين بريطانيا لم يكن مُبرَّرًا، تحديدًا بسبب وجود مندوب بريطاني والكثير من الممثّلين السياسيين البريطانيين في المحروسة في تلك الفترة.
- رسائل ابراهيم لمستر بانكس كلّها غير منطقيّة، كأنّ بريطانيا لا تعرف شيئًا عن مكّة وطقوس الحجّ وتنتظر ابراهيم ليخبرهم عنها.
- عدم دراية ابراهيم بأنّ كليم الله هو موسى وتذكّره هذه المعلومة كمن سمعها منذ سنوات وغابت عنه رغم اعتناقه ودراسته الإسلام.
- رسائل مارغريتا لابراهيم ووصفها إيّاه بالحبيب رغم أنّها أصبحت راهبة!
- استعمال كلمات غير مستحبّة في نصّ عريق مثل هذا، كبسكويت وكريسماس.
بشكلٍ عام، هذه الرواية تعيد لنا الثقة بالرواية المصريّة التي وللأسف تنحدر يوم إثر يوم. نحن نقرأ لكاتب كبير وذكيّ ولمّاح... ويمتلك لغة ساحرة. والأهمّ من ذلك نحن أمام كاتب خلوق! استضفنا الكاتب في نادي صنّاع الحرف وناقشناه في الرواية وكان متقبّلًا للنقد بل موافقًا على أغلبه. كانت جلسة من العُمر برفقة كاتب مثقّف ومستنير وأعضاء نادي غير عاديين!"