"

الوطن الذي نحبه
صار قبرا كبيرا وأخذ يردمنا واحدا بعد الآخر
وبدلا من أن يعانقنا
صار يدفعنا إلى التيه
ويركض وراءنا حافيا
الوطن الذي نحبه يفرق أيدينا المتعانقة
ويصنع منا فرقا وأحزاب وقبائل
وينصب بيننا أسلاكا شائكة
وبدلا من أن يضعنا في ميزان واحد
يجردنا في قوائم سوداء وبيضاء وحمراء وصفراء..
وبدلا من أن يجعلنا نقول ما نفكر به
يخيط أفواهنا
ويسحق رؤوسنا
ويعبث بمصيرنا
وبدلا من أن يحكم بيننا
يحكم علينا بالموت والهجرة والخوف والعذاب
حين يقولون للساكنين فيه.. ستبقون فيه، يقولون: حسبنا الله..
حين يقولون للمهاجرين عنه ستعودون إليه.. يفزعون
حين يقولون للعائدين إليه ستبقون فيه.. يتجهمون
حين يقولون للشاردين منه: إلى أين؟ يقولون أرض الله واسعة
أي وطن هذا؟

- خزعل الماجدي

يقول أحد المؤخين أن سنوات العنف الطائفي في العراق تعد الأسوأ في تاريخه كله. وهذا ليس شيئا هينا لبلد يمتد تاريخه لخمسة آلاف عام.
لقد كنت طفلة في تلك الفترة، وأتذكر أن الصورة التي تكونت لدي هي أن الانفجارات لابد أن تحدث كل يوم في بغداد، هذا كالمسلمات، حتى أن اليوم الخالي من الأحداث الدموية كان غريبا. وكنا نسخر من الدول التي تحدث ضجة إعلامية شديدة لمجرد انفجار واحد في أحد مدنها. لقد كانت كوميديا سوداء تثير القشعريرة. لقد كان العنف جزءا من حياتنا.
هناك موقفان مساني مباشرة من تلك الأحداث: يوم فررنا من المدرسة راكضات للبيت بعد سماع دوي انفجار قريب واهتزاز الزجاج في النوافذ. ويوم عادت صديقتي زينب للمدرسة بعد غياب طويل مبتورة الساقين بسبب انفجار.

أنا محظوظة أني كنت طفلة لم تفهم معنى الموت بعد، أما جواد، بطل الرواية ، فقد كان ملتحما مع الموت بوثاق عجيب.

هذه الرواية تحكي قصة العراق من منظور إنساني، تحكي عن حياة الناس ومشاعرهم، مسراتهم وأحزانهم، بغض النظر عن الانتماءات السياسية والدينية. إنها تتبع مراحل تحطم الإنسان، وانكساره للأبد. جواد في نهاية الرواية لم يعد سوى بقايا إنسان، لا روح فيه. وهو يمثل روح تلك السنوات. إن ذلك العنف والفوضى التي سادت البلاد، وتعدد الحروب والأزمات، والحصار، قد أثرت في تكوين الشخصية العراقية، فزادت ربما قسوة الناس وغلظة قلوبهم بسبب العادة، ولعلها هي التي أنمت الفساد في المجتمع حتى نخر كل شيء فيه بعد عشرين سنة.

كل هذا في الرواية.
إنها كئيبة، حزينة؛ لأنها واقعية، والواقع الذي تصوره فاحم السواد. أتساءل لم لم يختر سنان انطوان النجف بدلا من بغداد، فهي مدينة غسل الأموات في النهاية. لكن ربما لأنها كانت أقل عنفا مقارنة ببغداد بعد السقوط.

هذه كتابة بديعة، تحفة أدبية يحتفى بها، مكتوبة ببراعة فائقة بتداخل بين الواقع والكوابيس، والماضي والحاضر من غير تشتيت القارئ، غنية بتفاصيل محببة ومختارة بعناية، والحوارات باللهجة العامية زادتها جمالا، وهي فوق ذلك تؤرخ معايشة لفترة يجب أن لا تنسى.

سعيدة لوجود العديد من الكتاب العراقيين الموهوبين: أحمد السعداوي، علي بدر، مرتضى كزار، أزهر جرجيس، وبالتأكيد سنان أنطوان. أبهرتني رواياتهم التي قرأتها، ولعلها تتشارك جميعها بالثراء بالأحداث والتفاصيل."