قبل سنوات ليست بعيدة كان كشفُ المرء عن ذاته ونقاش أسراره في المجال العام (التلفاز والمجلَّات ومواقع الإنترنت) كحكايا الزيجات والأمراض الخفية محصورًا في رموز المشاهير من الفنانين والممثِّلات وأضرابهم ممن يشغف بهم أهل الصحافة والإعلام، وكان هذا «الكشف» مع ذلك مقيَّد بسياجٍ من التحفُّظ الاجتماعي والالتزام أحيانًا ببعض حدود اللياقة العامة. ثم جاءت شبكات التواصل الاجتماعي لتقلب المعادلة كليًّا؛ ففي غضون سنوات قليلة أصبح ملايين المشاركين حول العالم لا يجدون حرجًا في فضح شئونهم الخاصة، بل أصبحت المواظبة على عرض «اليوميات» الحميمة سلعة ثمينة في سوق واعدة لـ «اقتصاد الانتباه». يسعى هذا الكتاب لفحص خلفيات هذا الانقلاب السلوكي، ويتتبَّع التاريخ الثقافي لنشأة التداخل بين الخاصِّ والعامِّ وتبدُّل الموقع الاجتماعي للأسرار في القرن العشرين؛ منذ ظهور الحكايات الجنسية والاعترافات السرية في الصحافة الشعبية في المدة ما بين عامي (1930-1960)، ثم بروز «برامج الحوارات الاعترافية» في الإعلام الجماهيري في المدة ما بين عامي (1960-2000)، ثم برامج تليفزيون الواقع منذ التسعينيات وحتى نهاية العقد الأول من القرن الجديد، وأخيرًا ثورة منصات التواصل الاجتماعي منذ عام 2010 حتى الآن. وذلك بغرض التبصُّر في دوافع الهَتك الطَّوعي للخصوصية وتطبيع ثقافة «الاعتراف» في ضوء الأبحاث النفسية والسلوكية، ودلالات أحكام الستر والنصح والفضح والمجاهرة في نظام الشريعة.
لم يشككني كتاب في جدوى المراجعات مثل ما فعل كتاب موت الأسرار للأستاذ عبدالله الوهيبي. فالقارئ الذي يعلق قراءته لكتاب من عدمه على المراجعة، هو قارئ لا يريد قراءة الكتاب غالباً. وأنا هنا أكتب المراجعة لسببين: أولاً، رد الجميل للمؤلف. وثانياً، نشر العلم بين المسلمين. يتناول الكتاب موضوعاً غاية في الأهمية، يكاد لا يتحدث عنه أحد لشدة ما اعتاده الناس في عصرنا، ولكثرة الأفكار المغلوطة حوله، ولكسل الناس المعرفي. الكتاب دعوة عامة للتأمل في الأسباب حول ميل الناس اليوم للإفصاح الذاتي المفرط، والتعري الطوعي، وتسليع اليوميات، وتطبيع التلصص. جميع العبارات في الجملة الأخيرة مقتبسة من الكتاب، الذي تتميز فصوله وعناوينه الفرعية بمسميات دقيقة وبديعة. الإطار العام الذي يستخدمه المؤلف لنقاش الموضوع إطار نفسي تحليلي، إلا أنه يستعين بمجالات أخرى متعددة لتوضيح الصورة مثل علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والإعلام التقليدي والرقمي وغيرها. ويستشهد بجملة من الاحصائيات والدراسات المتنوعة مع بيان قصورها وتحدياتها وضرورة الانتباه للاختلافات الثقافية لأصحابها. ومراجع الكتاب وحدها تحتاج عناية خاصة ونظراً فاحصاً متأملاً وباحثاً لتنوعها وثرائها. تشرح مقدمة الكتاب موضوعات الفصول، كما يبدأ كل فصل بتمهيد لفكرته العامة وينتهي بتلخيص يسير لما نُوقش فيه من أفكار رئيسية وكل هذا مما يساعد القارئ على فهم هذه المادة العلمية الدسمة والإلمام بتفاصيلها وفروعها. وإقرار المؤلف في مقدمته بأن التحليلات الواردة في الكتاب لا تتناسب أحياناً مع تعقيدات الواقع إنما هو تهيئة للقارئ حتى إذا ما بلغ نقطة ما في الكتاب ردد: ليته أفاض هنا. موت الأسرار كتاب يحترم قارئه. فهو يستخدم لغة عربية رصينة، ويترجم الاقتباسات باحترافية نادرة، بل ويستخدم المصطلحات المترجمة كما يفضلها أهل الاختصاص (مثل كلمة موعي). وهو يبدأ دائماً بتعريف المصطلحات حتى يبعد القارئ ما استطاع عن سوء الفهم، فالتعريف يحدد مجال النقاش وما يبنى عليه لاحقاً من أفكار ومآلات. والبناء المعرفي للكتاب منطقي وسلسل ومفهوم. فيستطيع القارئ العادي غير المتخصص أن يفهم تسلسل الأفكار ويربطها بغيرها. ولا يكاد القارئ أن يكتب سؤالاً أو تعليقاً على حواف الصفحات حتى يجد جوابه وشرحه في الصفحات والفصول القادمة. كما يبدأ الكتاب بشرح الأفكار البسيطة التي لا تستدعي الجدل، ويصل لذروة التحليل في الفصلين الثاني والثالث بعد أن ملّك القارئ اللغة المناسبة للنقاش والنقد مع المؤلف، ثم يصافح قلب القارئ في الفصل الرابع ببيان ملامح من الرؤية الايمانية للأسرار. يختفي صوت المؤلف وسط الاستشهادات والاقتباسات أحياناً، ويغلب على ظني أن هذا الاختفاء مقصود. وكأن المؤلف يرى أن يشاطره القارئ جهد التفكير والقياس والحكم. ويشعر القارئ أثناء القراءة بأن المساحات بين السطور تحتوي كتاباً آخر. فلا يمكن أن تقرأ عن فضيلة كتمان السر وصعوبته دون أن تفكر بالصمت، أو بالعزلة على أنها جزء طبيعي من الوجود البشري. ولا يمكن أن تقرأ في سرد أمثلة الافراط في المشاركة الذي يقوم به الأباء والأمهات من نشر صور أبنائهم وما يتعلق بهم، دون أن تفكر بالسن المناسبة للسماح للأطفال باستخدام هذه التطبيقات والنشر عن أنفسهم، وفي مساحة الحرية المعطاة لكل مرحلة عمرية ومدى تغيرها عبر الأجيال. كما أن الحديث عن أهمية أمانة الطبيب وجرم نشر أسرار المريض يقود القارئ للتفكير ببعض سلوكيات المعلمين في نشر أخطاء طلابهم وتبعات هذا الفعل على التعليم والتربية. وهناك مساحات أخرى فارغة لم تمكنني قراءاتي الأولى للكتاب من معرفة ماذا يختبئ خلفها. يصلح هذا الكتاب لأن يكون عدسة موجهة للداخل. تراقب فيها سلوكياتك الرقمية، وتتأمل بجدية ما تنشر في حساباتك والأسباب الحقيقية خلف ذلك. وهو أيضاً درس أخلاقي لما يجب أن تتوقف عن متابعته وتطبيع وجوده. موت الأسرار من الكتب التي يصعب الاقتباس منها. أولاً، لأن معنى الجملة لا يستقيم دون سياقها. وثانياً، لأن الاقتباس سرقة للقارئ المستقبلي، وحرمان له من حقه في أن يستمتع بالكتاب. وأرجو ألا تفسد هذه المراجعة بهجة قراءة الكتاب على أحد.
كيف أقرأ مقالاً كتبه عبد الله الوهيبي؟ أطبعه، ولا أقرأه عن شاشة الهاتف، ثم أجعل له وقت خلوة وصفاء. وأقرأه متأنياً ومتأملاً، بيدي قلم للتظليل، ثمّ أتتبع فوائده بالتقييد في دفتر الأفكار. فما بالكم وبين يديّ كتابه! فأنت إذ تقرأ لعبد الله الوهيبي تجد قارئاً نهماً، وباحثاً جاداً، وكاتباً مُجيداً. يجُيد اقتناص الأفكار، ويحيط بها إلى قدرٍ كبير إذ يكتبها ويكتب عنها، ثمّ هو بديع في اقتباساته واستخداماتها. في كتبه أفكار تقفز بك خارج غلاف كتبه، وفيها مفاهيم مجموعة تحتار بأيها تبدأ وأيها تترك إلى حين. هذا كتاب عن "التعري الطوعي" و"الانكشاف الاختياري" الذي اختاره ناس هذا العصر على "مسرح التواصل الاجتماعي" المفتوح بلا حدود. في تنازل غريب عن الخصوصية وتجاوز مسموح للحدود الطبيعية. وقد مضى البحث في مراحل أخذتنا من عالم الأسرار ودلالاتها النفسية والاجتماعية، ثمّ المحاولات الأولى لكشفها المحدود، ثمّ كشفها العام. ثم انتقل الكاتب بنا إلى واقع هذا الانكشاف في عالم الانترنت ومواقعه. وأناخ بنا عند باب ربنا في دينه وشريعته. وتلك رحلة فيها من بديع الأفكار والمفاهيم ما يستحق العودة مراراً، والتفكّر طويلاً وكثيراً. في الكتاب تكرار تمنيت لو تحرّر منه. وكأني بالكاتب لم يضع حداً فاصلاً بين الاحساس بالحاجة إلى محض الحضور في عالم التواصل المفتوح وفتنة التكشّف الطوعي على مسرحه. ولربما كان الحدّ غائماً وغائباً إلى الدرجة التي يقارب فيها خداع الوهم أو دقة الشعرة. لقد أهدى عبد الله الوهيبي إلى المكتبة العربية كتابين مهمين موضوعاً عاليين محتوىً، أقصد (معنى الحياة) و(موت الأسرار)، فشكر الله له!
"كان جدي متهربًا من التجنيد في حرب السادس من أكتوبر" استوقفتني تلك التغريدة لأحد الحسابات المصرية أثناء تصفحي لموقع تويتر في خضم ذكرى الحرب وتسائلت : هل هذا كلام ينبغي أن يُنشر على الملأ؟ لم يكن هذا قطعًا أول تعجب لي ولن يكون الأخير بالتأكيد عن ماذا يغرد البشر وكيف لو كان بهذا الكلام من سنوات لاعتبر مدعاة للعار وشيئًا يخجل منه الإنسان. ليس فهذا فحسب بل كمية الأحداث والمواقف التي يتم مشاركتها عن أدق تفاصيل الحياة اليومية والعلاقة مع الأهل والأصدقاء وزملاء العمل. ومشاركة كل لحظة في يومك على المواقع المتمايزة. نشر نشر نشر وكل هذا معتادٌ ومن طبيعة تصفحك اليومي لكن حين تتوقف لحظة للتساؤل؟ كيف وصلنا إلى هنا وما الذي يجعل الناس يفصحون ويعلنون عن أنفسهم حتى بأشياء تعتبر من الخصوصيات بهذا اليسر والتطبيع. يعزو البعض هذا إلى الرغبة في "الريتش" وإلى توثيق دقائق الحياة والذكريات ومنهم من يذهب إلى الرغبة في التربح أو إثارة الإنتباه أو حتى بدون وعي لأي شئ. هنا يبدأ موضوع الكتاب: يذهب كاتب الكاتب إلى أعمق جذور الفكرة مجردة ألا وهي فكرة "السر" كيف تحول السر من شئ يختص به أقرب الخاصة إلى نشر عامٍ أمام الحشود وكيف تم التطبيع مع هذا عبر العقود المنصرمة. يعرج الكاتب على الحاجه النفسية الإنسانية لدى كل البشر في الرغبة بالبوح والرغبة في أن يكون الإنسان مرئياً ومنتميًا وينطلق في شرح الثقافة العامة التي شجعت على البوح من أساسها سواء كانت ثقافة نفسية فرويدية تشجع على البوح وعدم الكبت والكتمان. وكيف تطورت تلك الأطروحة لتشكل ما يسمى بالثقافة العلاجية therapeutic culture ومن سماتها استخدام المصطلحات النفسانية في رؤية العالم. ثم ينتقل إلى فكرة المجال العام والخاص والفارق بينهما الذي يضمحل عبر العصور وكيف بدأت مقالات عن سرائر الأزواج في الظهور على استحياء في أواسط القرن الماضي ثم ظهور ما يسمى بتلفزيون الواقع والبرامج التي تحض على البوح والاعتراف بوصفه فعلاً علاجيًا. واعتبار القيمة الأسمى هي أن تكون صادقًا مع نفسك أياً كان ما ارتكبته. وأيضًا جانبه الجيد متمثلاً في اعتراف بعض الضحايا بما تعرضوا له تشجيعًا لمن مر بمثل التجربة. ومن هناك إلى الثورية التقنية وعالم الشبكات المجنون الذي أزال كل جانب من جوانب الخصوصية وجعل المستخدم يذهب بنفسه لإفشاء كافة معلوماته بسعادة. اسمه وسنه وسكنه وأصدقائه وعاداته وما يحب ويكره ويقرأ ويشاهد. ويحلل تلك الظواهر بشكل رائع لا تكفي مراجعة لتلخيصه. ولعل فكرة بارزة منها فقط هو الرغبة المحمومة لدى الجميع أن يكون فاعلاً ومرئيًا كما شبه الظهور على الشبكات بمشهد المسرح وبدأ يعرج على ظاهرة المؤثرين وكيف يتم المتاجرة بالعواطف وإظهار كافة جوانب الحياة من أجل بناء ارتباط عاطفي بين المتابعين ومنتج المحتوى الذي يتحول بعد هذا لإدمان نفسي وبالطبع أرباح تجارية على جانب آخر. لكن التركيز يظل مجمله على الجانب النفسي. والاجتماعي. ثم في الفصل الأخير يطرح ماهو موقف قيم المؤمن من هذا والفارق بين مفهوم الخصوصية والسرية والبوح والكتمان لدى الثقافة المعاصرة ولدى التراث. اختصارًا قراءة هذا الكتاب واجبة لمن يقضي في وقته أكثر من ساعة يومياً في تصفح المواقع الاجتماعية. رأيي الشخصي : استمتعت للغاية بمطالعة هذا الكتاب وعلى هامش الموضوع كان هناك بضعة مواضيع رائعة تم إثارتها للوصول إلى فهم أعمق للفكرة مثل هيمنة أفكار العلاج النفسي وشيوعها الشديد وتأثير هذا على منظور الأفراد للحياة ، وتطور فكرة الاعتراف الكنسي وكيف نشأت ، والكثير مما لا يتسع المقام لذكره وهذا الكتاب هو القراءة الثانية للكاتب عبدالله الوهيبي بارك الله فيه وقلمه وعلمه وهو ممن أستمتع بقراءة كل ما يكتب وسماع ما يقول لحيازته على جانبين : العلم الشرعي ، وسعة الثقافة والإطلاع. وقد سعدت بكوني من أوائل مشتريه حتى قبل نزوله للمكتبات في مصر ولم يخيب ظني إطلاقًا. خمس نجوم مستحقة بجدارة لهذا العمل الممتاز. انتهت المراجعة
يجيد الوهيبي الربط بين الأفكار، وهذا ما يجده قارئ مدونته جليًا فضلًا عن كتبه. وفي كتابه الأخير «موت الأسرار: الكشف عن الذات في العصر الرقمي» (مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، 2024)، يتلمّس أثر "اقتصاد الانتباه" في هذا الزمن المُعَلْمَن على إنسانه وتحديدًا إزاء الأسرار وذيوعها عبر عدة منطلقات فكرية ومعرفية وشرعية مشيرًا بإصبعه إزاء الجميع، فلا مُتّهم واحد لديه، وهذه فضيلة كبرى يحمد لها، تدفع القارئ بعد أن تأمّل الوجود الرقمي والقوى التي تحركه في الكتاب إلى الانتهاء منه ثم التأمّل في ذاته وسلوكياته على الصعيد الشخصي.
المبهر في عمل الوهيبي ومزية كتبه أنها تغنيك عن كتب أخرى في نفس الباب. وأحسن ما فيها -وهذا يظهر جداً في كتابيه؛ هذا و- ما يفعله من رفع الواقع وفقهه ثم توجيهه الشرعي للموضوع الذي طرقه في الفصل الأخير من كل كتاب، ويحسن في هذا أيما إحسان.
بسم الله الرحمن الرحيم، الهادي إلى سواء السبيل، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين. أثار الكتاب في نفسي شجونا وهواجس بعثتني على كتابة كليمات تناقش بعض ما جاء فيه، وتبتغي إقامة ما للكتاب من حق علينا، فإن قصرنا عن بلوغه فلنا العذر بحول الله. في هذه المقالة عرجت في أولها على معنى الحياد والكلام عنه. والحياد ضروري في هذا المقام بعدما كثر النقد المرسل المضل الذي لا يهدي لأنه لا ينطلق من منطلقات سليمة، فلا يصل بهذا إلى غايات مثمرة. ثم عرجت على ما فعله الكتاب عندما لم ينتهج منهج الحياد النقدي، ثم اختتمته بنقاش عن الكتاب وبعض الرؤى والأفكار.
-1- يطغى على الدراسات والبحوث الحديثة في جملتها، والأكاديمية منها على وجه الخصوص، سمة "الحياد" العلمي، حتى أنه قد يعد المحك الأول والأهم الذي تقاس عليه جودة البحوث وصدقها وأمانتها. وبهذا قرن بين الحياد وبين الصدق والعدل، وصار الصادق هو من يقف من مادة بحثه موقف المحايد الذي لا يبتغي غاية من بحثه إلا البحث نفسها، وفي هذا إشكال كبير. فالأدوات لا تكون غايات تطلب في ذاتها، وبهذا لا يكون الحياد، وهو أداة من جملة أدوات، غاية تطلب في ذاته. فالحياد إن لم ينظم في ناظم ينظمه جنبا إلى جنب مع جملة من الضوابط الأخرى التي تأخذ بيد الباحث نحو تطلب غايات محددة واضحة تبتغي الحق الذي يعتقده حقاً وعدلا، وإلا آلت به إلى فراغ في أحسن أحواله لا يقول شيئاً يحتكم إليه، أو أنه سيؤول إلى شر لا يراد في حالات أخرى. فمركزية الحياد في البحوث وتقديمه وعده فضيلة تعلو كل الفضائل البحثية والعلمية تقديم لا يخلو من أصول أيدولوجية في ذاتها، وهو ما جاء أصالة لينفي عنه كل أثر لمؤثر من خارجه. وهذا التناقض التأسيسي سمة عامة في غالب المنطلقات الليبرالية التي تستخدم سلطة الحرية لفرض الحرية. والحياد في أصله تطلب لهذه الحرية المنشودة التي لا تُطال. فالحياد في جملته عزل لذات الباحث عن مادة بحثه ودراسته عزلاً قيمياً وأخلاقياً، عزلاً لا يجعله متحيزاً إلى منهج عن آخر، أو شواهد عن أخرى. فهو يقارب مادة بحثه مقاربة يجرد فيها ذاته عن الأهواء والميول وكل ما قد يشوش على عدل المبحوث وتطلب الحق فيه. وهذا غرض نبيل ومحمود ومطلوب. إلا أنه لا يجب أن يطلب لذاته ثم نتوقف عنده، بل الواجب أن تستخدم نتائجه التي أنتج لغايات أسمى تفسر وتشرح وتربط المبحوث بقيم العدل والإنصاف والحق التي يعتقدها الباحث. وهذا المنحى الذي نحته الطرق الأكاديمية في البحث هو ما زاغ بها عن الغاية المنشودة، حتى صارت كثير من الدراسات الأكاديمية تكتب كلاماً كثيراً من غير أن تقول شيئا ذا بال. وكل ذلك مرده إلى النهاية التي انتهت إليها طريقة الدرس والبحث بحسب شروط الحياد العلمانية الحديثة، وغرقت الدراسات والبحوث بالصيغ الكمية والجداول البيانية والمسوح الاستبيانية التي تقدم أرقاماً ونتائجاً جامدة لا تستطيع تفسير نفسها ولا فهم ذاتها، وتبقى معلقة بدون حكم واضح يبين عن غرض سام أو غاية منشودة. أو أنها تغرق في دراسات وصفية تهذ فيها تفاصيل كثيرة لا طائل منها ولا غرض، من غير روابط تفسر، ولا جوامع تشرح.
إن أرغب ما يرغبه الدرس الأكاديمي الحديث هو عزل قيمة الحق والصواب الذي ينطلق من أصول خارجة عن منظومة البحث ذاتها ومقاربة المبحوثات بمصطلحات تبتغي الحياد. فالمرض مرض، والمرض بهذا المعنى ليس خطأ ولا باطلاً، أو هذا ما ادعاه الدرس الأكاديمي على أقل تقدير في بداياته. وهذا ما لم يصمد كثيراً عندما تسربت نتائج الدراسات إلى العامة فصارت أحكاما أخلاقية. فالوصمة على سبيل المثال تعني في معناها الاجتماعي تحول المرض النفسي بحكمه مرضاً تشخيصياً إلى منظومة قيمية اجتماعية تبني علاقات الناس بعضهم ببعض. وكل هذا الانتقال من الحياد الأكاديمي المجرد إلى القيم الاجتماعية الخالصة الحاكمة لبواطن الناس وأخلاقهم، المبنية على مفاهيم ومصطلحات الحياد الأكاديمي، يصير ونحن لا نعلم في أي شرعة تكون هذه الظاهرة التي تدرس ضارة أم نافعة، حقاً أم باطلاً. أما كون الدراسة تربط ربطاً علائقياً بين السلوك والمرض النفسي على سبيل المثال، فهذا ليس حكماً كافياً تحكم به على صواب السلوك من عدمه، فكون السلوك الفلاني يسبب المرض النفسي الفلاني تسبيباً علائقياً لا يعني كونه خطأ في ذاته، فالمرض ليس خطأ وحكماً أخلاقياً وقيمياً، وإنما هو مرض وانتهى. وعند نهاية المرض يتوقف البحث الأكاديمي ليلحق به التفعيل الاجتماعي لمادة البحث من غير ضابط يضبط هذا التفعيل، ولا شرعة ولا عرفاً ولا نظاماً.
لذلك تتوقف كثير من المعالجات الحديثة عند حد الظواهر الفردية، ولا تتجاوزها إلى إدماجها في منظوماتها المعرفية الكلية التي تنتظم فيها وتشتمل عليها، وجعلها فروعا عن كليات، تنتظم كلها في خيط ناظم، لتصل إلى غاية كلية. فلا شيء هنالك في العلم ولا البحث يخبرنا أن علاج جملة الأمراض النفسية، على سبيل المثال، التي تنتشر في عصرنا سيقودنا إلى خير عميم يعم البشرية. فعلاج هذا المرض النفسي لا يتجاوز كونه علاج مرض نفسي لفلان من الناس، لفرده ولذاته، وهو خير له، لكنه لا يعدو هذا إلى ما وراءه. وهذا ما يفسر تفسيراً جزئيا توالد الإشكاليات إثر الإشكاليات في عصرنا، الذي يزعم في نفس الوقت أنه بلغ الغاية في الإنتاج العلمي والمعرفي والاهتمام بصحة الإنسان. وما ذلك إلا لأن معيار الحق والباطل معايير خارجة عن العلم ومصطلحاته، فما كل مرض باطل، وما كل صحة حق. والربط بين الحق والصحة، على سبيل المثال، تنطع يعتسف العلم الحديث اعتسافاً ويريده أن يقوده إلى غايات لم يخلق لها ولم يؤصل لأجلها، وما ذلك إلا لأن المجتمع الحديث، بما فيه دوائره البحثية، تعجز عن ابتكار منظومة فلسفية تشرع مبادئ الحق والباطل والعدل والحيف تشريعاً كاملاً متكاملاً يشمل جميع جوانب الإنسان النفسية والروحية والمعيشية، بعدما جزئوا الإنسان إلى أجزاء حتى صار مرة اقتصادياً ومرة سياسياً ومرة دينياً ومرات كثيرة أشياء غير ذلك، وأنبتوا له في كل جزء معايير حق وباطل محدودة بحدود الجزء الذي يحيط به. فهناك حق وباطل في حدود الإنسان الاقتصادي وهي حدود الربح والخسارة، فكل عمل يؤدي إلى ربح مادي وتعظيمه فهو حق، وكل ما يؤدي إلى خسارة فهو باطل. وكذلك فعلوا مع الإنسان الاجتماعي الذي يحيط به الأخرين من كل جانب بعدما اكتشفوا مأزق الباطن المضمحل وتحلل كل البنى الاجتماعية الحاكمة والتي يعوم في بحرها الإنسان، وبها ينجو وفيها يغرق أو يموت، فحدوا حدود عالمه الاجتماعي الذي يحيط به الآخرون من كل جانب بحدود القانون وغلبته، وصار الغالب المشرع لقانونه هو الحق الاجتماعي. وربما تعارضت عوالم عالمين فيما بينها، وصار باطل عالم ينقض حق عالم آخر كم قد رأينا في انقلاب مفاهيم الشذوذ على سبيل المثال في عالم الصحة النفسية فصارت حق "وصحة" بعدما كانت باطلاً "ومرضا". وما مرد كل هذه الفوضى إلا إلى تجزئة الإنسان إلى أجزاء، وتجزئة حقه وباطله إلى أجزاء.
وكما أسلفنا فالحق والباطل عندما يكون من خارج دائرة البحث، قد يكون حينها "الخلل" في مجال معين حق في ميزان الحق الكلي. وهذا شواهده كثير في جملة حياة الإنسان. فالصوم بحسب كثير من الدراسات فيه ضرر على البدن، لكنه حق وصواب، وفعله فريضة، ويقود إلى خير الإنسان والإنسانية جمعاء في عاجل أمرهم وآجله، حتى وإن رأينا وبان لنا أنه مضر بالجسد في عصرنا هذا.
وهذه المنطلقات الكلية التي ينطلق منها الإنسان لمعالجة شؤون حياته ويومه، تقوده إلى غايات شديدة الوضوح، لا تلتبس فيها الرؤية ولا تتداخل فيها الأحكام ولا تختلط عليه فيها القضايا. فتصبح عنده معايير الحق والباطل معايير قبلية هادية ومرشدة، يستنير بها في دربه، وتوجهه في بحثه ودرسه وفهم قضايا حياته مقرونة بالمادة العملية المدروسة، فهي معايير كلية لا تفرق بين الباحث وبين مادته، ولا بين الذات والموضوع، وإنما تصهرها في وحدة جامعة لغاية كلية تبتغي الخير كما يراه مصدر الخير والحق.
-2- ومن هذا الباب يعالج الكاتب مادة كتابه. فهو وإن كان يستغرق جل مادته في نقد الظواهر الجديدة التي تعترض حياتنا الراهنة نقداً يخاطب المجتمع العلمي الحديث بأدواته، إلا أنه نقد واضح المبادئ والمنطلقات والغايات التي يبتغيها وينطلق منها. فنحن نعرف من فهرس الكتاب تقريباً، ومع معرفة جدية بخلفية الكاتب العلمية والبحثية، جواب السؤال: لماذا نستشكل هذه الظواهر الحديثة وننتقدها نقداً مطولاً؟ نعم، هذه الظواهر تستولي على حياتنا وتحتلها احتلالاً، فهي معاشنا ويومنا وجل همومنا ومشاكلنا. لكنها ليست جديرة بالمناقشة لهذا الداعي فقط، وإن كان وجيهاً، وهذا فعله أهل هذه الظاهرة كما لم يفعله أحد سواهم. فهم أرباب الحداثة وأهلها وخالقوها، وهم أول من اكتوى بنارها، وأول من يعايش سعير مشاكلها، وأبرع من ينتقدها نقداً موضوعياً يقتصر على ظواهر الإشكال نفسه لا على أصوله ومسلماته. فهذه الظواهر المنقودة في الكتاب ما نقدت إلا لأنها باطل في ميزان الإسلام، وما جعلها سبباً لكل هذه المشاكل إلا لخلل هذا الأصل فيها الذي لم يراع فيه الإنسان وجوانبه عندما شرع له ما شرع من أنظمة وقوانين، وعندما رسمت له حدود حياته ومعالمها. فهو يغلب نقودات الغربيين لواقعهم في الغايات التي تنشأ في عالم "ما بعد النقد" والفراغات التي يتركها النقد عندهم. فكل منقود هو نقض، وكل نقض يلحقه فراغ وخلو مكان، وكل فراغ يستلزم البديل، ولا بديل عندهم إلا من نفس حوض المشكلة، فتعاد الكرة إثر الكرة. لذلك، كثيراً ما توصف الحضارة الغربية بأنها حضارة نقدية، فهي مشغولة بالنقد المتصل الذي لا ينقطع، وكل نقد ينتج نقداً لأن النقد عندهم مصدر للحلول كما يرون وكما هو ظاهر في تاريخهم المعرفي. فالظاهرة تولد إثر نقد حاضر على ظاهرة سابقة، ثم ما تفتأ هذه الظاهرة الجديدة حتى تنقلب إلى إشكال جديد ينتج نقداً جديداً ينتج ظاهرة جديدة تتجاوز الظاهرة المشكلة القديمة. وهذه السلسلة الطويلة من نقد النقد أفضت إلى ركام معرفي لا قيمة له في نهاية المطاف. فلا بناء معرفي رصين ينتج عن النقد المستمر، وهذا واضح جلي كما نرى اليوم. فلا معرفة رصينة تنتج الآن إلا ما ندر.
-3- أما بالنسبة لمادة الكتاب، فهي مادة ثرية رصينة محكمة البحث والبناء، وهي ظاهرة بارزة من فهرسه إلى مراجعه، وفيه جهد بالغ ذكره الناس قبلي وهو أهل له، وإن كان لي عليها بعض المآخذ والاستدراكات. أما المأخذ الأول فالكتاب قرن السر بالخصوصية، والخصوصية مصطلح تواضع عليه أهل العصر والزمان، وهو واضح في الأذهان لكل من قرأه، خصوصاً في عصرنا هذا بعد التفشي الذي يحكم كل جوانب حياتنا لأدوات التقنية التي تسعى سعياً حثيثاً لنقل الإنسان وتحويله من ذاتية إلى عمومية متسعة لا تعرف نطاقاً ولا حداً. فصار الواحد منا يوافق يومياً على اتفاقيات "خصوصية" جديدة أو اتفاقيات معدلة سبق أن وافق عليها لكن استجد فيها ما استجد إما من أنظمة وقوانين أو رغبات عند الشركات والجهات فعدلوا على ما يريدونه منك ويودون قبولك على تعديلهم هذا. فصار الواحد منا لا يقرأ ولا يعبأ، لما في الموضوع من مشقة بالغة، ولعدم قدرة أحاد الناس على إحاطة أفهامهم بما يرد فيها من صعوبات قانونية بالغة فهي مصاغة بلغة القانون لا بلغة العموم. وبهذا التحول صار الإنسان مادة يباع ويشترى حتى في حركاته وسكناته. فشركات التأمين تستميت حتى تعرف متى تنام وماذا تأكل ومتى تغضب، حتى تقيس معدلات مرضك المتوقعة. حتى أنك قد تجد مطعماً صغيراً في حي قصي يضع صفحة تغريك بعرض مجاني مقابل معلومات تزودها إياهم عن شخصك تخبرهم فيه من أنت ومن تكون في خيارات محددة تجيب عليها في دقيقة أو أقل، حتى تنعم بالعرض المجاني.
إذا، فمصطلح الخصوصية في عصرنا هذا مصطلح مستقر في الأذهان معروف عند العموم، أما السر فهو مصطلح مستحدث في مادة الكتاب، وهو بهذا الاعتبار مشكل، فالكتاب لم يسهب في تعريف المصطلح ولا حدوده ولا ضبط علاقته بالخصوصية، وهو عمود الكتاب وعليه تقوم مادته. وهذا أفضى إلى بعض الارتباك. فالكتاب أفاض في نقاش الخصوصية وإشكالاتها في الثقافة المعاصرة، واستعرض تاريخ تحولها استعراضاً وافياً، ونحن لا نعلم هل السر هو الخصوصية، أم أنهما شيئان مختلفان، وهل أحدهما جزء من الآخر أم هما مكملان لبعضهما.
أما المأخذ الثاني فهو أن المؤلف قارب مادة موضوعه من باب التحليل النفسي ونفذ إليه عبر استقراء نشأته وما سبق النشأة تاريخياً وأصل له تأصيلاً متميزاً، وقد وفق في اختيار باب المقاربة لجملة من الأسباب منها ملاصقة علوم النفس لروح العصر وقربها من أفهام الناس، فلغتها منتشرة شائعة ذائعة بين الناس. ومنها لتلازم الموضوعان تلازماً شديداً في تمرحلهما وتطورهما، أعني الخصوصية وعلوم النفس. وقد برع المؤلف في رصد الموضوع رصداً تحليلياً وتاريخياً ربط فيه تطور المفهومين وكيف أفضيا إلى ما وصلنا إليه الآن من تفش واسع لظاهرة الكشف عن الذات والإسراف فيها. لكن ما يعيب الكتاب أنه لم يفصل ولم يؤصل لباب المقاربة هذا ولماذا وقع الاختيار عليه دوناً عن سواه، حتى وإن كان أنسب باب للمقاربة. بل إن التأصيل والتفصيل والإفاضة في سبب اختيار التحليل النفسي لمقاربة الموضوع أدعى وأكأد في هذه الحالة لما فيها من مزيد إيضاح وشرح على خطر الموضوع وأهميته. فالتحليل النفسي على وجه الخصوص، وعلوم النفس عامة، صارت نواميس تهدي عموم الناس في حياتهم إلى غايات أقرتها في أذهانهم أنها غايات عليا كالسعادة ومعرفة الذات، واكتشافها، والصحة النفسية وغيرها. ومن هذا الباب تتأكد أهمية التأصيل الذي يدلف منه البحث إلى معالجة موضوعه. وربما تكون الخصوصية والكشف من هذا الباب موضوعاً نفسياً في جملته، وقد شرح المؤلف في كتابه هذا من عدة جوانب كالجوانب الوجودية وتطلب مصادقة الآخرين على أفعالنا أو البحث عن المكانة وغيرها.
فالتأصيل النظري الذي يربط بين السر والخصوصية وتعريفهما تعريفاً وافياً يضبط العلاقة بينهما، ثم ربط هذا بمنهج البحث وهو التحليل النفسي، وشرح أسباب الاختيار وعلاقته اللصيقة بمادة البحث سيرفع من قدر الفهم المتحصل ويحكم من ضبط الكتاب ضبطاً منهجياً.
وأخيرا فهي تعليقات وملاحظات تطمع في الترغيب في نقاش موضوعات الكتاب وما تركه أو غفل عنه أو فتح له باباً ينير الطريق لمن أراد من بعده البحث والدراسة. فالكتاب ركز في جملته على باب النشر والناشر، وعلى نوع معين محدد من النشر، وهو النشر للعموم والذي يبتغي منه ناشره بلوغ مادته إلى أقصى اتساع ممكن، أو على أقل تقدير نشر عام غير منضبط وقد يبلغ أفاقاً أوسع مما أراده الناشر. وهذا النشر يشمل صنوفاً وأشكالاً مختلفة، فمنه النشر الذي يبتغي الذيوع والشيوع من غير حد ولا قيد، وكل ما زادت المادة انتشاراً كل ما كان علامة على النجاح وبلوغ المراد، وهذا سلوك كثيرين مما يصطلح على تسميتهم "بالمؤثرين". والكتاب أفاض في الحديث عنهم وأجاد، واستقرأ جملة من بواطن سلوكهم وما يثوّره من دوافع، وكيف تنقدح في أذهانهم الرغبات والشهوات، ثم كيف تتحكم بهم ويخضعون لها لتسيّر سلوكهم وأفعالهم. فهم أسرى للجديد والتجدد الدائم، والإثارة المستمرة، وتوقعات الجمهور، والإمعان في التسافل والتهريج تنافساً مع أقرانهم ممن يزاحمونهم على قيعان الإسفاف والقباحة. ومن جملة النشر الذي شمله الكتاب في تحليله تحليل حسابات "العلامات الشخصية" إن تجوزنا في نحت المصطلح هنا. يشخص أربابها ويبرزون فيها بذواتهم المهنية أو التخصصية. فهم يقدمون مواد تركز على فن وموضوع معين يرون تميزهم فيه. ويعرفون فيها بأنفسهم تعريفاً مهنياً واضحاً، إما تصريحاً في مربع السيرة الذاتية، أو من خلال المنشورات المتخصصة. لكنها لا تفتأ تتبسط مع الجمهور بين الفينة والأخرى عبر نشر خصوصيات أو يوميات أو نكت ودعابات. وقد تقود الشهرة والرواج لبعض الحسابات إلى مداخلة الهويات المتعددة في طبيعة الحساب إلى درجة يصعب التمييز فيها بين أنواع الهويات وما يمكن أن يكون متميزاً ومتخصصاً فيه. فهو في طور طبيب أو فلكي، وفي طور أخر أب وصديق ومتسوق، وفي ثالث مشهور أو مؤثر ينشر الإعلانات المتواصلة. وهو يسلك في جملة سلوكه سلوك المؤثرين، وفي أحيان أخرى سلوك المتخصصين. أما كثير منهم فإنه يسعى إلى أن يعرف في فنه، وأن يعرفه الناس في فنه، مع نشر لخصوصيات وحميميات ترفع الكلفة والحرج بين الفينة والأخرى تبسطاً وتقرباً للناس. ومنها أيضا الحسابات الشخصية العامة التي تنشر لأغراض شخصية متعددة كالتنفيس عن النفس وحديث الذات ونشر اليوميات، لكن من غير ان تهتم هماً خاصاً بالذيوع والشهرة، ومن دون أن تعرف نفسها تعريفاً محدداً. ومنها أيضا الحسابات الوهمية التي تنشر نشراً منتظماً عاما لأغراض متعددة كالترفيه أو الاستفزاز أو التنفيس عن الجوانب المظلمة للنفس أو غيرها من الأغراض. ويدخل تحت هذه الأبواب الأربعة أغلب النشر العام في شبكات التواصل الاجتماعي اليوم. وقد حلله الكتاب تحليلاً مستفيضاً شافياً. وفي هذه الأبواب الأربعة قد صرف معظم الجهد البحثي والعلمي تقصياً وتحليلاً وتشريحاً. فمادتها وافرة جداً، والوصول لها ممكن، وأهلها معروفون مشهودون يمكن الوصول لهم وسؤالهم مباشرة عن مواضيع معينة تستقصي الأثر والتحول، أو تقصي موادهم المنشورة تقصياً منهجياً يستقرئ أو يحصي جملة ما أنتجوه أو قالوه أو عبروا عنه. وهي مواد أرقامها ثرية منشورة، وتاريخها مرصود متراكم.
أما ما لم يفض فيه الكتاب، وليس بمطروق في أزقة البحث والدارسة في العموم بحسب معرفتي المحدودة، فهو على شقين. فالشق الأول هو شق التلقي والشق الثاني شق النشر الخاص. أما الأول فهو باب واسع وكبير للبحث والدراسة. فالمتلقي الآن ليس كأي متلق عرفه البشر في السابق لا من حيث حجم المادة التي يتلقاها ولا دوام وطول مماسته لها ولا من تنوعها ولا من توجيهها وأجندتها. وفي هذا تفصيل كثير جداً ليس هذا مقامه، لكن يحسن بنا ذكر بعض رؤوس الأفكار التي تشرح المراد.
هل يمكن لأحدنا أن يمر عليه يوم كامل من دون أن يستعرض، بأي صورة ممكنة، وسيلة ومن وسائل التواصل الاجتماعي؟ قد يجمع الناس على النفي. فلا يكاد يغفل الناس عن تصفح شبكات التواصل في يومهم مهما كان يومهم هذا يوم فرح أو ترح. فلا يغفلون عنه في يوم عزاء ولا في يوم زواج ولا في يوم مرض. فما دام الإنسان واعياً فهو متصفح للشبكات، ونستطيع أن نقول أنا أتصفح إذا أنا موجود. وربما كان تصفح الشبكات الاجتماعية هو الشيء الوحيد الذي نفعله كل يوم من أيامنا من غير انقطاع لسنوات. فنحن ننقطع عن الناس بكل صنوفهم، من قرابات وصداقات وغيرها، في أيام تعرض لنا فيها عوارض تلهينا، لكنا لا نفعل ذلك مع الشبكات الاجتماعية. وشيء هذا وجوده يستحق منا عناية خاصة ونظراً منعماً. فالأثر الذي يتركه على مستهلكيه بالغ حاضر في كل سلوكياتنا. وما أدل على ذلك ألا تحول شوارعنا ومحلاتنا ومنتجاتنا إلى مواد مجهزة للتصوير والنشر على الشبكات. فصار كل شيء يعد إعداداً مناسباً ليكون مادة تنشر في شبكات التواصل الاجتماعي. فالجمل صارت تصاغ في أطوال وتراكيب تناسب نموذج المستهلك الرقمي، قصيرة ممتعة تلقم المعلومة تلقيماً. وما تحول عالمنا إلى عالم يشبه البحر الرقمي الذي نخوض غماره في صحونا ونومنا إلا دليلاً على تغول هذا الشيء في حياتنا وأثره العميق. ومنه أثره على إدراك الناس لمفهوم الخصوصية والسر. وهذا جانب لا يجب إغفاله، فله أثر بين على تغير مفهوم الخصوصية في عموم الحياة. فتراجع الروادع ومنظومات العقوبات الاجتماعية التي تحكم سلوك الأفراد يرتبط ارتباطاً وثيقا ًبكثرة التعرض للمنشورات وازدياد الألفة وصعوبة نقد ما تستهلكه يومياً. فلا يمكن لأحدنا أن يستهلك مواداً رديئة يومياً ويستمر في نقدها وإنكارها بينه وبين نفسه وضميره يومياً. فآثار التعرض الكثيف الدائم كبيرة لا يجب إغفالها.
أما الشق الثاني فهو شق النشر الخاص الذي يحده ناشره على دائرة صغيرة من المتابعين والجمهور، وقد يشترط فيهم المعرفة المتعينة وفي أغلب الأحيان لا يشترط. والناشر هنا ينشر نشر دقيقاً عن نفسه ولواعجها وما يعتمل فيها، ويتفنن في الحديث عن يومياته ومجرياته وما يعرض عليه، ويحترف بث هواجسه والتلفظ بكل كلام يعن عليه أو يخطر على باله من غير أن يحسب حساب لأي حيثية تحيط بالكلام لا من صياغة فلا هو يزوق كلامه أو يراجعه، ولا من مناسبة فهو لا يسأل نفسه هل هذا مقام مناسب لهذا المقال أو لا، ولا لمتلق فلا هو يستحضر متلق بذاته يأخذ عنه كلامه ليرد عليه او يبدي له ردة فعل معينة. فهو يسرد ما يعن عليه في أي موضوع شاء بارتياح تام وضمير شبه غافل. بل إن بعضهم يبث في حساباته ما لا يستطيع البوح ففيه لأحد في واقعه لشدة كشفه وخصوصيته، وما استأمن على نفسه كل هذا الأمان إلا لشعوره بالمجهولية المنضبطة. ويسرف فيه أهل هذه الحسابات في اظهار "الجانب الحقيقي" منهم، الذي يعرونه من كل قيد يقيد الإنسان في إقباله وإدباره وكل شؤونه. وهو بهذا قد يكون أشبه ما يشبه المذكرات الشخصية التي يخبئها الو��حد عن أعين المتطفلين والمشرئبين للأخبار. وهم في حساباتهم هذه شديدو التركيز على ذواتهم، فهم يراقبونها مراقبة لصيقة شديدة، يرصدون منها كل شعور يطرأ، وكل نفس ينفث، وكل هم أقبل، حتى يقيد في سجلات الحساب وينشر للمجاهيل المنضبطين في حساباتهم. ولأنها حسابات شخصية جداً، وذاتية جداً، ومتمركزة حول الذات، ولا تقصد تشييد هوية عامة يبيعون فيها ذواتهم أو مهاراتهم، ولا تسعى في شهرة ولا انتشار، ولا تستثيرها تفاعلات الجماهير والحشود. ولأنها تخلصت من كل هذا فقد أخلصت نفسها إلى البوح واستظهار الذات استظهاراً شديداً يكاد يكون مستحيل الوجود خارج الشبكات الاجتماعية. فهو استظهار متحرر من أغلب القيود ضرورية الوجود في كل علاقة بشرية، كاستحضار الآخر المناسب لهذا النوع من البوح أو ذاك.
وهذا ما جعلها بعيدة عن الرصد والجمع والدراسة. فهي مغلقة مقيدة متحفظة. يصب الوصول لها وصولاً موضوعياً من غير سابق معرفة أو رصد شخصي لفترات طويلة. وهي حسابات كثيرة شائعة، يومية التفاعل والنشر أو قريبا منها. ولأن الواحد منهم يعتاد على مدار سنوات النشر المتحرر من كل قيد، فلا بد أن يكون له أثر بالغ على حياته وفكره وسلوكه، موجهاً ومرغباً ومقيداً ومزهداً ومحفزاً. وهذا باب واسع للبحث والدراسة، كما هو الأمر بالنسبة للشق الأول.
وفي الختام، أسأل الله لي ولكم التوفيق، وللمؤلف البركة في الجهد والوقت والعلم. والله من وراء القصد.
ما يُعجبني ويجذبُني لكتابات عبدالله الوهيبي ليست قدرته العجيبة على اختيار الموضوعات التي يتناولها، وإن كانت محل تقدير كبير بلا شك، ولكن ما يميز الوهيبي ويجعل له مكانة في عقلي ووجداني ويُحفزني لاقتناء مؤلفاته: الاحترام الذي يقدمه لقارئه والتقدير الذي يمنحه لقيمة البحث العلمي، والصرامة والجدية في البحث والكشف حول مؤلفاته ويظهر ذلك جليا في حجم ملحق المصادر والمراجع، ونتاج ذلك أنه يقدم لك شيئاً رصيناً يضيف لعقلك وأفكارك. فأنا عندما أقرأ للوهيبي تتداعى لدي الأفكار من كل صوب، وتنسال المشاريع البحثية من كل زاوية. القراءة للوهيبي تصنع منك كاتبا وتقدم لك هدايا ثمينة فكن مستعداً لاستقبالها. يتناول الوهيبي في جديد إصداراته جذور الانقلاب المعياري للسلوك المعاصر ويرصد خلفيات مشاهد عرض الذات عبر وسائل التواصل، ويستعرض تطور التاريخ الثقافي للتداخل بين الخاص والعام، ويحلل العوامل النفسية الباطنة المؤثرة في تشكيل هذه الظاهرة. ما يميز الوهيبي كذلك أنه ينقل لك سياق التطور التاريخي للظواهر والعوامل المؤثرة فيها فتستطيع استيعابها بيسر وسهولة، ولا يقدمها مجردة فيعسر هضمها. لا يتركك كذلك أمام بحث علمي أكاديمي جامد، ولكنه يوضح لك النظرة الشرعية ويعرض لقارئه تناول النصوص الشرعية للموضوع ورؤيتها له. فقلما تجد نفسك أمام وجبة فكرية دسمة وهذا الإصدار يقدم لك الإضافة بكل تأكيد. الشكر موصول ل مدارات للأبحاث والنشر للتعاون المثمر مع الكاتب المميز عبدالله الوهيبي وإثراء المكتبة العربية بمؤلف نافع ورصين.
لست بصدد ذم ولا ثناء ولا طرح رأيًا وإنما استنكارًا للمعاناة التي يكتسبها المرء من أن يحافظ على سرّه هذه الأيام، فيتعذر عليه أن يفقد وظيفته أو سلامة عقله أو صحته أو أحبائه ولا يكتب عن ذلك!
فقد تحولت الحياة الجوانية إلى سلعة جديدة ومصدرًا رائعًا للربح. بل وأن الشفاء من أي معاناة عاطفية مرهون بمشاطرة الجرح الخاص مع الآخرين! فلم يكن الاعتراف طبيعيًا ولا نتيجة حتمية ولا يلبي حاجه نفسية مزعومة وليس بمنزلة العلاج النفسي بل بدعة مخترعة وطقسًا لا هوتيًا مفتعلًا.
أن أكون ذلك المكبوت أقل ضررًا من أن أكون ذلك المراقب الصامت الباحث عن مصادر التعاسة والمرض. شكرًا أبو أنس على هذا الإسهاب الوافر.
إن سُئلت عن أجدر كتابٍ لتحقيق الفهم والإدراك لطبيعة البشرية وتطوراتها في خضّم عصر التكنولوجيا لأكتفيت بالإشارة لهذا الكتاب، أجاد الوهيبي وأفاض وأمتع، في أربعة مباحث حق لكل واحدٍ منها أن يعتزل بكتابه المنفصل، وتميز بربط المفاهيم وتوضيح المشكلات وتنسيق الأبحاث ليتجلى الكتاب بسردية تاريخية وتحليلية وبحثية واضحة ومتصلة يتحقق بها الفهم وتتبلور عنها الأفكار وتنهدم بها المُثل.
بدأ الوهيبي مبحثه الأول "الأسرار في محيط الذات وسياق المجمتع" في الكشف عن كنه الأسرار وطبيعتها الذاتية والاجتماعية، أسرار الطفولة والمراهقة، الإفصاح للمقربين، قدسية الأسرار من حيث حوزها ومطاردتها، أفاض الوهيبي في تحليل الأسرار وطبيعتها في نفوس المفصح والمتلقي على السواء، وبرع في حفاظه على تسلسلية أنواعها ومباعثها وآثارها، ووضح اللغط الصائر في فهم طبيعة العلاج النفسي المتمثل في الإفصاح والكشف عن ذات بوصفه حقيقة علمية؛ فأفرد بذكر أبحاث عديدة تتوخى الكشف والإفصاح وتدرس أثر الكبت الإيجابي على المفصح والمتلقي؛ "إن استرجاع الذكريات مع صديق أو إلقاء نكتة مع زوجتك لن تجرؤ على قولها مع أي شخص آخر، أو مساعدة قريبك في ترتيب شقته دون الحديث عن مشاكلك؛ غالبًا ما يساعد على التعافي أكثر بكثير من الجلوس في غرفة مليئة بالحزانى، ولذلك فإن العلاج النفسي قد يعيق الآليات الطبيعة للقدرة على الصمود، ويعرقل قدرة الذات على الشفاء بنفسها، وبطريقتها الخاصة، وفي وقتها المناسب."
وفي المبحث الثاني "الثقافة العلاجية والكشف عن الذات" يسرد الوهيبي تاريخ تطور العلاج النفسي المتمثل في الإفصاح بدءًا من فرويد، فيفرد لنا أثر أطروحاته على المجتمع الأمريكي وسبب تقبلهم وجهازيتهم الشديدة لها، ليأخذنا في رحلة في تاريخ تطور العلاجات النفسية وطبيعة الإفصاح والتكشف في أمريكا تحديدًا وبعض أوروبا إبان القرن العشرين؛ من مجموعات الدعم وبرامج كشف الذات وتلفزيون الواقع، والآثار الناتجة عن ذلك في تطبيع الكشف عن المثالب بوصفه آداة علاجية ودمج الفضاء الخاص والعام.
وينتقل في المبحث الثالث "الكشف عن الذات في منصات التواصل الإجتماعي" لرصد الآثار المترتبة على ذياع الكشف والإفصاح في الغرب على نشأة وطبيعة مواقع التواصل في عصرنا، فيجلي لذلك بواعث الأفراد والرغبات المختلفة في المشاركة والتغذي على يوميات وأسرار الآخرين، وتذليل السبل لقبول التعري والميولات الشاذة، “وبذل� تستحيل «الشهرة» وظيفةً بدوام كامل، ولا يحتاج صاحبها إلى مهارة أو موهبة مميزة، فهي تتمحور حول الترفيه عن المتابعين من خلال الكشف عن الذات العادية وأنشطتها اليومية ضمن مشروع بناء العلامة التجارية الخاصة، وتترسخ من خلال سلوك كل الطرف لبناء المصادفة، واستدعاء الجاذبية، ولفت الانتباه والحضور الدائم في كل مكان. وبعبارة أخرى فإن طبيعة الشهرة الجديدة ترتبط -بنحو أو بآخر- بالتعرّي الطوعي من خلال النشر التفاعلي للمعلومات حول حياة المرء اليومية.�
وينتهي في مبحثه الرابع "أسرار المؤمن" إلى موقف الشريعة من قضية الخصوصية والأسرار ، ويفرد من القرآن والسنة وآراء العلماء قرائنَ حقٍ تعين القارئ على الفهم والتمسك بما جاء به نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فكان المبحث الأخير خير مبحثٍ تتجلى به رغبة الوهيبي -جزاه الله خير الجزاء- في فهم مقتضيات العصر وقضاياه فهمًا وافيًا يعين على إدراك جلال ما جاء به الإسلام من تعاليم، "إن المعصية إذا أُخفيت لم تضرّ إلا صاحبها، وإذا أُعلنت فلم تُغيّر ضرّت العامة" -منا أقتبسه الوهيبي من أثر التابعين-.
يمتاز هذا البحث بشموله ودقائق مواضيعه أيضًا، وأجده من ضرورات هذا العصر فأحمده تعالى على أن وفق صاحبه وأعانه عليه، فبجانب لغته الرصينة وتسلسله الفريد، أضاف الوهيبي ما لا يقل عن ستين صفحة من المراجع العربية والأجنبية، وأفرد بين فقراته العديدة من الاستشهادات المفيدة ومثلها في الهوامش من دلالات واستطرادات ومراجع: مما يشير لعظيم جهد الوهيبي في كتابة هذا الكتاب.
ما اهمية الأسرار؟ وهل تزيد الترابط ؟ هل يملك الأطفال اسرارا ؟ هل تتلاشى الخصوصية في العالم الرقمي وهل هناك من فائدة من هذا التفشي في الكشف ؟ هل الافصاح علاج؟ وتطهير ؟
انت امام بحث قيم جدا ممتع و واضح ،و مختصر نعم فبعد كل فقرة وجدت نفسي أتمنى ان يفيض ويسهب ، كتاب متكامل و شامل من جميع النواحي ويتميز بتعدد المصادر والمراجع ، فتجدك ترى الموضوع متمثلا ومصادقا عليه من البرامج و من الادب و من مواقع التواصل ،و الإحصائيات بآخر المستجدات ،و من الأديان والتاريخ وكلها تتمحور حول النفس والذات وعواقب افشاء اسرارها .. . يأتي بـ٤ فصول يناقش ( الاسرار في محيط الذات وسياق المجتمع ، الاسرار عن الاطفال والمراهقين ، المنافع والمساوئ من الكشف و اثر الحداثة / الثقافه العلاجيه والكشف عن الذات، تعريف بالثقافه العلاجيه ومنشأها وملامحها ، مجموعات الدعم ، وتلفزيون الواقع ، وطمس الحدود / الكشف في مواقع التواصل ، بواعث التعري ،والتهرب من الخصوصية ، مكاره الافصاح الرقمي ،اثرها على الهويه ، المراقبه والمعاقبة ، ودوافع استهلاك يوميات الآخرين / أسرار المؤمن، اهمية استشعار الرقيب ، الخطايا والاعتراف المحمود ، حفط اسرار الآخرين ، البوح المباح ، الفرق بين الخصوصية والانعزال).. . اعتقد بأنه من الكتب الضرورية لمن يريد ان يفهم الصورة الحاصلة ، ويحكم عقلة لترشد خطوات قدمه ، وتبين عواقب الأفعال في عصر نهاية النسيان ، وتوقد الفتن ،وسهولة الميل، هذا الكتاب تبيان وحجه وتذكير ، اتى بلغة رصينة وأسلوب ينم عن تمكن ومعرفة واستبطان وسعة اطلاع ، ممتنة جدا من هذه القراءة ، التي اجابت عن الكثير من الأسئلة التي طالما دارت في عقلي ، واشعر بانه هدية ثمينة لاتقدر ، جزا الله الكاتب كل خير ، وبورك له في علمه و مساعيه .. 🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿🌿 اقتباسات: - أفضل سر هو السر الخالي ��ن المضمون . - اسرار اليافع تقوي قدرته على التنظيم الذاتي . - لايمكن لأي إنسان أن يعرف نفسه إلا نتيجة للكشف عن نفسه لشخص أخر/ سدني جورارد. - الصمت حيال المؤرقات يقلل من فرص فهمها . - الإفضاء بالأسرار ليس دليلا على الصداقة فحسب ؛ بل هو يخلق الصداقة عندما يحسن المستمع التجاوب / ديبراتانين. - الكشف الشفهي أميل الى الاعتماد على الحقائق الخالية من المشاعر ، بخلاف الكشف الكتابي فهو اكثر عاطفية. - التناقض في المجتمع الحداثي مستمر ودائم بين الرغبة بالعيش في مجتمع مترابط والنفور القوي من قواعده وحدوده .
أحب الكتب اللي تستخلصني أجوبتها من ضبابيات الحداثة وسيولتها الفكرية التي لا يُعرف اتجاهها.. تلك الأجوبة التي غالبًا تتمحور في طريقة عيش الناس في الماضي: فالصواب دوًما هو كيف كان يعيش أجدادنا؟ وما هي ثوابتهم وجذورهم التي ينداحون منها؟ وقيمهم الفاضلة التي نريد جهلًا التحرر منها؟ فكتب عبدالله الوهيبي ومقالاته هي منارات هذه الأجوبة لمن تشوّف لها.
كتاب رائع وثري ومركّز، لن أتحدث عن إيجابياته فقد جاد القرّاء بها وأجادوا، لكن سأتكلم عن بعض الملاحظات: تمنيت لو تحدث المؤلف أكثر عن الأثر النفسي والسلوكي الإيجابي لكتم الأسرار والأمور الشخصية من منظور علماء النفس والسلوك والأدباء في تراثنا العربي.. وانطلاقًا من حديث :"استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان"
أيضًا لو فصّل أكثر في المباحات التي تُقال وتُنشر، والمباحات التي تدخل في دائرة العيب أو خوارم المروءة في التراث الإسلامي.. فقد أفاض في موضوعات ومضامين التكشف الطوعي في وسائل التواصل، لكن لم يفصل أكثر في السائغ بثّه ونشره من منظور الشريعة والتراث مما هو ليس بذنب أو خطيئة.
بعض الفصول -خاصة التي تحدثت عن الاعتراف في وسائل التواصل- أحسست فيها بوعورة بعض المفاهيم وصعوبة العبارات، هذا عدا ما فيها من الحشو والإعادة والتكرار.
بارك الله في المؤلف وجهده، ونتطلع لكتب ومواضيع أخرى على نفس الشاكلة.
الجهد البحثي الذي يقوم به الوهيبي جدا ممتاز ويعجبني طريقه سرده وتلخيصه للأفكار من المصادر التي يستسقي منها محتويات كتبه.
موضوع الكتاب مثير بالنسبة لي وأعاد حقيقة تعريف كثير من المفاهيم تجاه الاسرار والتنفيس والكتم وغيرها من المفاهيم اللي ممكن نمارسها بغير قصد ويكون اثرها سئ سواء على الفرد نفسه او على الاخرين من حوله.
نحتاج قراءة اخرى للكتاب ونرجع ان شاءالله لكتابة التعليق.
أصبح من النادر أن أقرأ كتابًا بالعربية يجمع بين هذه الرصانة والسلاسة، دون أن يترك انطباعًا بأنه مترجم أو يعاني من ضعف في اللغة، كما يحدث في العديد من الكتب الأخرى. أبهرتني لغة الكاتب وصياغته الدقيقة للاقتباسات ودمجها بسلاسة مع النص، إلى جانب الترجمات البديعة للمفاهيم مثل التعري الطوعي والانكشاف الاختياري. يتناول الكتاب موضوع الأسرار، (وإن كنت أرى أنه أقرب إلى تناول الخصوصية) من منظور نفسي لا يغفل الجوانب الثقافية والأنثروبولوجية والاجتماعية والإعلامية، رغم غياب ملحوظ للبعد الاقتصادي. أحببت الجزئية التي تناولت التحول في ثقافة الخصوصية والفردانية، وكانت الأكثر قربًا لي من حيث الطرح والعمق يمتلئ الكتاب بالمراجع العلمية والاقتباسات والأمثلة الممتعة التي تضفي عليه غنى فكريًا، إلا أن هذا الإفراط أحيانًا يجعل صوت الكاتب يخفت في مواضع عديدة، ليحل محله تعداد لأفكار واستشهادات الآخرين وأمثلة قد لا ترتبط دائمًا بالفكرة المطروحة.