إذا كان فتح الذاكرة الجماعية يتحقق من خلال العودة إلى نصوصها ومحفوظاتها إرشيفها، فأن هذا الكتاب متورط بالذاكرة والتذكر،وهو مبتلى بالتاريخ وعبئه تماماً كما المجتمع الذي يتناول هذا الكتاب أمراضه بالدرس والتشخيص،إلا أن عزاءه الوحيد أنه يمارس التذكير بالمسائل الأخلاقية المحتجبة خلف صخب الجدال السياسي وضجته، كما أنه يسعى إلى تحرير الذاكرة من الاستعمال الموجه أيديولوجياً،والمنخرط في صراعات القوة. من خلال تذكير الجميع بأن الصراع الكبير على امتلاك القوة يكون مدمراً في معظم الأحوال، وحين يرتكز على الذاكرة فأنه يكون خائناً لا محاله. ويتطلب هذا التذكير إعادة توجية الذاكرة لتكون في خدمة التوافق العام داخل الدولة، والتعايش السمح بين البشر أفراداً وجماعات، وكذلك من أجل إفساح المجال أمام العيش في هذا العالم بنوع من الأمل في المستقبل.
نادر كاظم (1973م) كاتب وناقد ثقافي وأكاديمي بحريني ، ولد في قرية الدير بمدينة المحرق
مجالات الاشتغال ؛ النقد الثقافي وترابط العلوم الإنسانية والنظرية النقدية
درس المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس البحرين درجة الدكتوراه في الأدب العربي من معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة في العام 2003 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف. درجة الماجستير في النقد الحديث من جامعة البحرين في العام 2000/ 2001 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف. درجة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من جامعة البحرين في العام1994/ 1995 بتقدير امتياز.
لا أزال أتذكر جواب الدكتور حين طرحتُ عليه سؤالاً عن جدوى وأهمية البحث في التاريخ، وذلك في مناقشتنا لكتابه "لا أحد ينام في المنامة" في ندوة نظمتها مبادرة "القراء البحرينيون". قال ما مضمونه أن التاريخ يعطينا شيئا كبيرا من سعة الأفق، ويجعلنا نفهم جيدا "كيف ولماذا آلت الأمور لما آلت إليه"، وأن هذا بدوره يعيننا على فهم الأوضاع الجارية. وقال أيضا فيما قاله، متسائلا، أنه ما هو الحدّ الفاصل بين الحاضر والماضي؟ وعلى أي أساس نفصل بينهما، وخصوصا إذا كانت آثار ذلك الماضي ممتدةً إلى اللحظة الحاضرة إلى درجة يعسر معها تصنيفه على أنه "ماضٍ"؟!!
أثناء قراءتي هذا الكتاب، ترجّع صوت الدكتور وهو يفوه بتلك المعاني في أرجاء عقلي. استذكرتُ كلماته وأجوبته، وتبيّن لي صوابها أضعاف ما تبيّن فور إجابته على السؤال عندما طرحته عليه. ففي هذا الكتاب، يحفر الدكتور نادر كاظم في ماضي المجتمع البحريني، قبل وبعد دخول العتوب. بل لعله يجدر بنا أن نقول، أنه يحفر في "ذاكرة" المجتمع البحريني في كتابه هذا، ليبيّن كيف أصبح البحرينيون -ولا سيما الشيعة منهم "أي البحارنة"- يفكرون على النحو الذي يفكرون به الآن. ولم يكتفِ الدكتور بذلك، بل إنه شخّص في كتابه هذا عدداً من الأمراض التي يعاني منها المجتمع البحريني "وذاكرته وطريقة تفكيره"، ثم قدّم الحلول التي يمكن عن طريقها علاج "أو تخفيف أعراض ونتائج" تلك الأمراض.
الكتاب عميق، وقد أخبرت الدكتور أنه من أفضل كتبه التي قرأتها حتى الساعة. وفي رأيي، أنه من الضروري لكل بحريني أن يقرأ هذا الكتاب، ذلك أنه يعيننا على فهم حقيقة الوضع في المجتمع البحريني.
هل كان الشيعة في البحرين قبل العتوب في سعادة ونعيم كما يحاول البعض أن يصور؟ ماذا عن العمانيين والبرتغاليين والمجازر التي ارتكبوها؟ ماذا عن الشتات الذي تسببوا به في حق أهل البحرين؟ وما هي حقيقة معضلة الولاء بين الولاء للطائفة أو للوطن أو للقبيلة.. إلى آخره -وخصوصا عند الشيعة-؟ ومنذ متى شرعت أواصر الثقة تنعدم بين الشيعة وآل خليفة -في حال أن أوائل وزراء الأخيرين، تاريخيا، كانوا من الشيعة-؟ وما علاقة الفكر الشيعي الموجود الشائع في البحرين حاليا بفكر القوميين في خمسينات القرن الماضي، وفكر اليساريين والليبراليين في الستينات والسبعينات؟ وما كان أثر بزوغ التيار الديني منذ السبعينات وحتى الأعوام الحاضرة مرورا بالثمانينات والتسعينات؟ وما هو أثر الهوية على الإنسان والجماعة والمجتمع؟ وكيف السبيل إلى حل المعضلات التي يعاني منها الوطن؟ جميع هذه الأسئلة، أجاب عليها الدكتور برصانة في كتابه القيّم والمتميز هذا.
تغريدات عن ومن الكتاب: ١. ل� شيء أضعف من نظام سياسي لا يكترث بالحقيقة، لكن لا شيء أخطر من نظام سياسي يدعي تحديد الحقيقة. || ميشيل فوكو، مسارات فلسفية. ٢. وف� كتابه "استعمالات الذاكرة"، يقول د.نادر كاظم: "والذي يقوله فوكو عن الحقيقة ينطبق على حقيقة التاريخ والذاكرة، فلا شيء أخطر من نظام سياسي يدعي تحديد حقيق التاريخ ويخضع فعل التذكر لقانون الممنوع والمسموح". � ٣. وم� إن يغادر الماضي أرضية الحدث ويدخل في دائرة الصورة والتمثل الذهني حتى يغير جلده، ويصبح خاضعا لعمل المخيلة كما يقول كولنجوود، وعندئذ فقط يصبح التاريخ قابلا للنسخ والتكرار وحتى التلفيق والاختلاق والفبركة بصور متعددة وإلى ما لا نهاية. || د.نادر كاظم، استعمالات الذاكرة. ٤. فإ� هذه العلاقات -علاقات الموالاة والمكافأة- والمديونيات لا يتصور وجودها في أنظمة حكم ديمقراطية؛ لأن المواقع والمصالح وموازين القوى متحركة باستمرار، مما يعطل أية إمكانية لنشوء جماعات طفيلية ونفعية وانتهازية تعتاش على ما تبيعه من ولائها. || د.نادر كاظم، استعمالات الذاكرة. ٥. وق� تنشط الديمقراطية النزاع، كما أنها قد تقوض الإجماع العام. في حين أن الموالاة حالةٌ مرضية وطفيلية وانتهازية، ويشير ظهورها إلى أن النظام السياسي بات قلقا على مواقعه، مما يضطره إلى تحريك جماعات الموالاة، أي جماعات مستعدة لبيع ولائها في مقابل مكاسب (..) طويلة الأجل. || نادر كاظم. ٦. لأ� التسامح هو في أن أتقبل الآخر كما هو أي بوصفه آخر مختلفا، أما أن أتقبله بعد أن يتحول ليكون على شاكلتي فهذا أبعد ما يكون عن حقيقة التسامح. || د.نادر كاظم، استعمالات الذاكرة. ٧. فإنن� ننتهي إلى حقيقة مهمة وهي أن الأمة لا تتأسس بالضرورة على قواسم مشتركة عرقية (..) أو ثقافية (..)، بل إن الحاسم في تكوين الأمة هو ما يسميه إرنست رينان "إرادة العيش سويا" بين مجموعة من الأفراد يشتركون في الاقتناع والاعتقاد بأنهم أمة واحدة. || د.نادر كاظم، استعمالات الذاكرة.
أكثر كتاب أعجبني لنادر كاظم لحد الان.. يسبر الكتاب الذاكرة الجماعية للبحرينيين وخصوصا الشيعة.. وقد منع في بداية طرحه.. أجمل ما فيه هو استعراضه لذاكرة الربط بين الشيعة والمعارضة وتبيان عدم صحة هذه المقولة في اوقات تاريخية كثيرة.. وكذلك تحديه لتلك الفكرة الجماعية بأن المظالم ابتدأت على الشيعة مع العام ألف وسبع مئة وثلاثة وثمانين وانهم قبل ذلك كانوا يعيشون في نعيم.. يطرح الكاتب تاريخ ألف وسبع مئة وسبعة عشر وهو تاريخ الغزو العماني الاباضي كبداية للشتات البحراني الكبير..
تحدث نادر في هذا الكتاب القيم عن طبيعة حركة الموالاة للحكومة وكونها حالة شاذة نفعية قائمة على بيع ولاء مقابل امتيازات، وأوضح أنها علامة على ضعف النظام في أي دولة كما صرح بذلك مكيافللي في الأمير وابن خلدون في مقدمته. وكمحاولة لمقاربة موضوعية للوضع في البحرين يشتغل نادر كاظم على اثبات أن حكم آل خليفة اول ما ابتدأ في البحرين لم يكن طائفيا بل كانت تجمعه مصالح مشتركة وارتبط بوثائق تحالف مع أفراد بحارنة شيعة، في حين كان أبرز أعداء الحكام من آل خليفة سنة من قبائل عربية وصلت العداوة بهم الى حد الاقتتال المسلح.
ومضى كاظم يصف التحولات السياسية التي طرأت في البحرين من العشرينات الى بداية السبعينات، حيث كانت المعارضة تنتمي الى جميع أطياف البلد بدافع قومي ولم تكن المعارضة حكرا على الطائفة الشيعية، وتحدث عن جذور الطائفية التي تبلورت في العشرينات، وكيف نضجت ثمرتها المرة في السبعينات مع صعود التيار الشيعي إبان انتصار الثورة في إيران. وفي الأثناء ألمح مرارا إلى ما يمكن أن أسميه ترشيد التذكر؛ وذلك ردا على استخدام المعارضة والحكم ومن يتبعه التاريخ لتمزيق الطرف الآخر استنادا على حقائق تارة وفي كثير من الأحايين اعتمادا على أساطير ومرويات مشكوك في صحتها. ولفهم البنية التفكيرية عند المجتمع البحراني غاص كاظم في تفاصيل وقعات الخوارج (الأباضيين العمانيين المتنافسين مع الفرس) وهجماتهم التي ابتدأت 1717 ميلادية، وكيف مزقت هذه الهجمات البحرين ففر كثير من وجهائها وعلمائها وعموم أهلها في الشتات إلى القطيف والعراق وفارس مدشنيين بذلك مرحلة الشتات لدى البحارنة ويستطرد نادر كاظم في وصف هذه الفترة الزلزال الذي أثر كثيرا في البحرين وظل في الذاكرة الجمعية للبحرينيين. وبالنتيجة يدفع نادر كاظم الى الديمقراطية التوافقية التي تبقي الحقوق الأساسية فيها محفوظة للجميع بقوة الدستور المصانة، فلا يبقى فيها معنى للحرص على التفوق العددي لحفظ الحقوق.
كتاب قيم لفهم التعدد في مجتمع البحرين وجذور المشاعر الحقيقية للجماعات التي تتقاسم سكنى هذه الجزيرة الصغيرة.
يبهرك نادر كاظم بقراءاته الواسعة وفهمه العميق وربطه بين الافكار حتى وإن كنت تريد مخالفته في بعض الأطروحات. يستعرض كاظم في هذا الكتاب كيف تشكل الذاكرة أزمة في بناء الذات والمجتمعات والدول. يعيد كاظم في هذه الدراسة أهمية دور الذاكرة في تفسير وقراءة الأحداث ليست التاريخية وحسب بل وحتى الحاضرة. صحيح أنه اقتصر تحليلاته على حالة البحرين، إلا أن كثيرا من النقاش في هذا الكتاب جدير بالاطلاع. قررت الاطلاع على هذا الكتاب منذ فترة طويلة، لكني لم ابدأ في قراءته إلا بعد الأحداث المؤلمة التي صارت في نيوزلندا قبل عدة أشهر (الإرهابي الذي قتل بدم بارد أكثر من خمسين شخصا في مسجد جنوب نيوزلندا). جاء في التقارير أنه قد كتب على أسلحته وعتاده بعض العبارات العنصرية وبعض الأحداث التاريخية. ومع نهاية قراءة هذا الكتاب يبقى السؤال مشروعا، متى وكيف تتعافى ذاكرتنا، وهل ستتعافى؟!