من خلال توظيف المفهوم الخلدوني عن النشأة المستأنفة، بمعنى القطيعة والإستمرارية معاً، يسلط هذا الكتاب ضوءاً باهراً على عملية إعادة تأسيس الإسلام القرآني في إسلام حديثي، طرداً مع التحوّل من إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ، ومن إسلام "أم القرى" إلى إسلام الفتوحات.
والخطورة لا تكمن فقط في هذه النقلة في المرجعية من القرآن إلى الحديث، بل أيضاً في تحوّل المكلّف في الإسلام إلى ما يشبه الإنسان الآلي الذي لا يتحرّك إلا بالنصوص التي تتحكم بشؤون حياته العامة والخاصة؛ فمع فرضية الشافعي القائلة بأن الرسول لا ينطق إلا عن وحي حتى عندما لا ينطق بالقرآن، أُنزلت الأحاديث التي وُضعت على لسان الرسول بعد وفاته منزلة الوحي، وتوافق أهل الحديث والفقه على إعتبار السنّة، كالقرآن، تشريعاً إلهياً متعالياً، ككل ما هو إلهي ومتعالٍ، تحرّرت السنّة وأحكامها من شروط المكان والزمان.
وهذا ما حكم على العقل العربي الإسلامي بالإنكفاء على نفسه وبالمراوحة في مكانه في تكرار لا نهاية له؛ وهذا أيضاً ما سدّ عليه الطريق إلى إكتشاف مفهوم التطوّر وجدلية التقدّم وما يستتبعانه من تغيّر في الأحكام الوضعية ذات المصدر البشري لا الإلهي؛ وهذا ما أسّسه أخيراً في ممانعة للحداثة تنذر في يومنا هذا بالتحوّل إلى ردّة نحو قرون وسطى جديدة.
بهذا الكتاب الذي يرصد الآليات الداخلية لإقالة العقل في الإسلام، يختتم المؤلّف مشروع "نقد نقدِ العقل العربي".
مفكر وكاتب وناقد ومترجم عربي سوري، من مواليد مدينة حلب عام 1939، يحمل الإجازة باللغة العربية والماجستر بالتربية من جامعة دمشق. عمل مديرا لإذاعة دمشق (1963-1964)، ورئيساً لتحرير مجلة " دراسات عربية" (1972-1984), ومحرراً رئيسياً لمجلة "الوحدة" (1984-1989). أقام فترة في لبنان، ولكنه غادره، وقد فجعته حربه الأهلية، إلى فرنسا التي يقيم فيها إلى الآن متفرغا للكتابة والتأليف.
تميز بكثرة ترجماته ومؤلفاته حيث انه ترجم لفرويد وهيغل وسارتر وبرهييه وغارودي وسيمون دي بوفوار وآخرين ، وبلغت ترجماته ما يزيد عن مئتي كتاب في الفلسفة والايديولوجيا والتحليل النفسي والرواية. وله مؤلفات هامة في الماركسية والنظرية القومية وفي النقد الأدبي للرواية العربية التي كان سباقاً في اللغة العربية إلى تطبيق مناهج التحليل النفسي عليها.
من أبرز مؤلفاته: "معجم الفلاسفة" و"من النهضة إلى الردة" و"هرطقات 1 و2" ومشروعه الضخم الذي عمل عليه أكثر من 20 عاماً وصدر منه حتى الآن أربعة مجلدات في "نقد نقد العقل العربي"، أي في نقد مشروع الكاتب والمفكر المغربي محمد عابد الجابري، ويوصف هذا العمل بأنه موسوعي إذ احتوى على قراءة ومراجعة للتراث اليوناني وللتراث الأوروبي الفلسفي وللتراث العربي الإسلامي ليس الفلسفي فحسب، بل أيضاً الكلامي والفقهي والصوفي واللغوي ، وقد حاول فيه الاجابة عن هذا السؤال الأساسي: هل استقالة العقل في الإسلام جاءت بعامل خارجي، وقابلة للتعليق على مشجب الغير، أم هي مأساة داخلية ومحكومة بآليات ذاتية، يتحمل فيها العقل العربي الإسلامى مسؤولية إقالة نفسه بنفسه؟
أهم نقاط المسار الفكري لطرابيشي هو انتقاله عبر عدة محطات أبرزها الفكر القومي والثوري والوجودية والماركسية.
انتهى طرابيشي إلى تبني نزعة نقدية جذرية يرى أنها الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنه المفكر، ولا سيما في الوضعية العربية الراهنة التي يتجاذبها قطبان: الرؤية المؤمثلة للماضي والرؤية المؤدلجة للحاضر.
من اسلام القرآن إلى اسلام الحديث ماذا يعني هذا العنوان و من هو جورج طرابيشي و ما علاقته بالإسلام حتى يتصدى لبحث خطير كهذا؟
في الحقيقة لست نائبا عن الكاتب في الرد على هكذا أسئلة و لكن لأني أعرف أنها ستثار و ستلح العقول في معرفة الإجابات المنطقية فسأحاول التوضيح من مخيلتي ما استطعت.
و لندع الترتيب جانبا و نبدأ بـ جورج طرابيشي و هو مترجم عربي سوري أقام فترة في لبنان ثم غادرها بعد الحرب الأهلية إلى فرنسا إلى أن وافته المنية في العام 2016
أهم ما يميز طرابيشي أنه لم يكن فقط مترجما بل بإمكاني أن أدعي أنه كان مفكرا يحمل هم القضية العربية النهضوية التي آمن أن نواتها الإنسان و توقيتها الأن و هنا كما يرى مثقف أخر هو الراحل عبدالرحمن منيف الذي جمعته به روح قومية اشتراكية ماركسية و لا أدري هل التقيا أو كانت بينهما ثمة صداقة و لكني أرى الكثير من المشتركات الفكرية بينهما.
قدم طرابيشي للمكتبة العربية الكثير الذي تجدونه بسهولة على صفحته و لكن ما يهمني هنا هو قراءته لمشاريع الحداثة العربية و اطلالته على التراث العربي كواحد من أبنائه الغير مخلصين للماضي بل المحلقين في أفاق المستقبل.
لن أطيل كثيرا في تلك النقطة و لعلني أطلت فعلا و لعل هناك نقطة أخرى وجب توضيحها و هي أن طرابيشي بصفته كان يعيش واقع عروبته حتى و هو مسيحي و مغترب في منفاه الاختياري الغربي إلا أنه حمل قضيته معه حيثما كان و استخدم ملكة النقد الأدبي لديه في التصدي لقراءات أدبية و نهضوية للتراث لا قراءات لاهوتية كأعمال حسن حنفي و محمد عابد الجابري و نصر أبو زيد و كذلك روايات محفوظ و عدد من الكتاب العرب سيما من كتب منهم عن علاقة الغرب بالشرق.
العنوان واضح في غموض كالشمس خلف السحاب نعرفها و نشعر بها و ان لم نرها رأي العين. فالعنوان فيه الخلاصة ان الإسلام الأصلي كان عماده القرآن و لكن الإسلام الذي بين أيدينا الأن هو إسلام أخر عماده الحديث. فماذا يعني ذلك؟ هذا ما سيتمخض عنه هذا البحث المطول.
أول القصيدة كفر كما يقال فقد افتتح بحثه بفصلين لا يمكن أن يجد له مؤيدا فيهما إلا بشق الأنفس. الفصل الأول يخلص فيه إلى أن محمدا لم يكن صاحب التشريع و لم يكن له الحق فيه بموجب نصوص القرآن و ما هو إلا مبلغ عن ربه لرسالته فكل ما أمر به أو نهى عنه لابد و أن يعرض على الكتاب أولا لأنه كان بمثابة رأى سواء تم منفردا أو بالشورى و ليس له قداسة و لا حصانة كالقرآن.
الجدلية الثانية في الفصل الثاني و هي عدم عالمية الدين الإسلامي فهو مثل أي دين كان لقوم محمد فقط كما كانت المسيحية لقوم عيسى فقط و اليهودية حصريا لقوم موسى و لكن جاءت دعوى العالمية فقط كتبرير للسياسات التوسعية للدولة الإسلامية و التي سميت بالفتوحات.
إذا تجاوزنا هذين الفصلين بنجاح فسنجد وجبة دسمة جدا تحتاج لمعدة ليست خاوية و لا متخمة فالقليل من الإحاطة بالتاريخ الإسلامي و علوم الحديث سيحول بينك و بين الوقوع أسيرا لهوى الكاتب سيما و هو قوي الحجة سهل الأسلوب و يتبع منهجا علميا بلا استعلاء و لا سخرية و لا تطاول واضح.
هو يتصور أن الشعوب المفتوحة سيما أهل فارس أصابهم الإسلام بسهم القرآن و هو الحدث الذي لم يعاصروه و يصعب تغييره لصالحهم و من ثم أصابوا هم أهل الفتح بسهم السنة و هو السهم المصنوع بأيديهم بما أثبتوا و نفوا و وثقوا و دونوا و دبجوا التفاسير و الشروح التي جاءت بالكامل من الموالي حديثي العهد باللغة و الدين كثيري الاجتهاد عظيمي الطموح.
بذلك تحول العقل الإسلامي من عقل واع منفتح لفهم النص القرآني إلى عقل تبريري متلق يبحث في الموجود للإقرار به و التوفيق بينه و إزالة تناقضاته و التسليم بكل ما فيه مهما تنافى مع العقل في أي مرحلة من مراحل التاريخ و هو يذكر أمثلة عديدة ليس هنا مجالا لذكرها.
من هنا تنشأ عقدة العقل التخريجي و العقل الجدلي التي ما زلنا أسرى لها حتى الأن فبعد ما كان العقل هاديا و دليلا و مخلصا أصبح العقل تابعا للنصوص التي تشابهت عليه و تلاعبت بها الأهواء و عصفت بها نوائب الدهر و تتابع الأزمان.
يأخذنا في رحلة طويلة لدور كبار الأئمة في التحول بالمنهج الإسلامي من منهج قرآني منفتح يترك مجالا للعقل إلى منهج حديثي سني سلفي يسد كل الثغرات و لا يدع متنفسا إلا و سده بباب من أبواب الفقه و الحديث حتى لا يجد المرء أمامه إلا العودة للنصوص السابقة على عصره بمئات السنين لينهل منها زاد يومه و غده و يتعلم منها كيف و لماذا يعيش و يتعامل مع الحياة.
و لأن الأمر كذلك فقد صار الخلاف لمنع الاختلاف فتسابقت كل الفرق على الترديد بأنها الفرقة الناجية و كل ما عداها باطل و كأنه مكتوب علينا ألا يكون بيننا أي تنوع أو خلاف في أمور الدين و هذا منبعه أن العقل الديني في مبدأه الائتلاف و لا يكون الخلاف � لو كان � إلا في منتهاه أما العقل الفلسفي فالاختلاف مبدأه و الإتلاف فيه منتهاه.
تجذر لدينا عقل ديني تبريري يظن أن الحقيقة و اليقين و الصلاح و الفلاح في التسليم التام و أن كل جديد بدعة و أنه لا خلاص لنا إلا بما تركناه وراءنا و كل قرن قادم هو أسوأ من سابقه بينما يظن العقل الفلسفي العلمي أن الحقيقة لا زال طريقها طويل و أن الأمور لا تستقيم إلا بالنقد المستمر و التطوير الذي يجعل كل قادم أصوب و أفضل من كل ما كان قبله.
و لأن الشيطان يكمن في التفاصيل فلن أتحدث في أي تفاصيل و سأترككم للكتاب الجدير بالقراءة و الذي يحتاج إلي رد علمي و قوي و واضح من المختصين.
يمارس جورج طرابيشي انتقائيته في تعامله مع النصوص غير مهتم سوى بالتدليل على فكرته، غاضا النظر عن النصوص التي أقل ما يقال فيها أنها تطرح إشكالات على منهجيته في الإستدلال، حتى أنه يدفع القارئ إلى التساؤل: هل فعلا قرأ جورج طرابيشي القرآن ؟ أم أنه يكتفي بالبحث في نص القرآن عن المفردات التي يريد الإستدلال بها ؟ فيما يلي قراءة نقدية مفصلة لأول فصلين من الكتاب واللذين هما بمثابة الأساس الذي بنيت عليه بقية الفصول:
قراءة نقدية في الفصل الأول - الله والرسول: الشارع والمُشرَّع له
قراءة نقدية في الفصل الثاني - من النبي الأمّي إلى النبي الأممي
حسناً هذه قراءة طويلة موسعة للكتاب , ما بين الاقواس بالخط العريض هو كلام جورج طرابيشى ثم تحته تعقيب لى سأقوم باضافة تعليقاتى على الكتاب تباعاً ها هنا على هذه الصفحة
فى صفحة 9 (القرآن يًسمى محمد عليه الصلاة والسلام رسول الله فى عشرات الايات ولا يسميه فى آية واحدة نبى الله ) طبعا الكلام ده سخف شديد وكارثة ..مش لانه بس غلط ولكن لان معناه ان جورج طرابيشى مقرأش اصلاً القرآن .. تخيل واحد بيضع كتاب عن القرآن ومع ذلك لم يقرأ القرآن ؟..مصيبة القرآن الكريم فى ايات كثيرة جداً اطلق وصف النبى على محمد عليه الصلاة والسلام يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأنفال (64) - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ الأنفال (65) - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ الأنفال (70) - يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ التوبة (73) -
وغيرها كتير من الايات التى تتحدث عن محمد ( النبى ) عليه الصلاة والسلام اذا كلام جورج طرابيشى كذب وتدليس قبيح ... اول القصيدة كفر ________________________ وعلى سبيل افحام الخصم لن نقف كثيراً فى البداية عند تحريف طرابيشى للاية التالية " الا كافة للناس " وسنتجاوزها عن طريق ايراد عدد آخر من الايات التى تنص صراحة على عالمية الاسلام وأنه عليه الصلاة والسلام كان رسولا للدنيا بأسرها لا للعرب فقط ... ﴿إِن� هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ � آية 27 من سورة التكوير (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا.) آية رقم 1 من سورة الفرقان ( و مَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) سورة القلم آية 52 من سورة القلم
وكلمة ( العالمين ) فى هذه الايات واضحة الدلالة فى أنه عليه الصلاة والسلام كان مرسلاً الى العالمين جميعاً , الى آهل الارض كلهم على اختلاف مللهم والوانهم واشكالهم وأجناسهم ولو نظرنا الى هذه الاية " وما هو الا ذكر للعالمين " وردت فى سورة القلم و علمنا ان هذه السورة هى ثانى السور التى نزلت على محمد عليه الصلاة والسلام فى مكة لتأكدنا من أن القرآن ينص من اول يوم ظهر فيه على عالمية الاسلام ..وان هذه الاية التى نزلت حينذاك فى صدر الاسلام كانت نوعاً من التمهيد لرسول الله لتحمل اعباء الدعوة وان يعد نفسه لذلك . لكن طبعاً طرابيشى كعادته فى التدليس لم يذكر هذه الايات الواضحات القاطعات ولم يأتى بكلمة عنها .. واكتفى فقط بممارسة قدر هائل من التحريف حول آية " وما ارسلناك الا للناس كافة " محاولاً أن يُقنع القارىء أن هذه الاية هى الدليل الوحيد على عالمية الاسلام فى القرآن وأنها لا تدل على ذلك لان كلمة الناس معناها العرب فقط .
ويثرثر الرجل كثيراً حول الايات الكريمات التى تنص على عربية القرآن بحجة انها دليل على ان الرسول مرسل الى العرب خاصة ..فلا ادرى هل مثلا يتخيل الكاتب ان الرسول كان يجب ان يكون متكلماً بكل اللغات او تكون للقرآن نسخ كثيرة بكل لغات العالم ؟ . هذا تخيل يعد ضرباً من ضروب العبث وهو اقرب ما يكون للسفسطة لان حفظ الدين في الأرض في أول ظهوره يستلزم أن تقوم أمة واحدة ذات قوة ومنعة، في قوم قد اصطفاهم الله لذلك وجهزهم تجهيزا، ومن ذلك الاصطفاء والتجهيز أن يكونوا على لسان واحد ومن مجتمع واحد، ثم يجري على أيديهم نشر ذلك الدين في العالمين، بتعليم الناس لسانهم المختار للقرءان، من بعد أن تتحقق لهم المنعة والقوة في أرضهم، وهذا ما كان في جزيرة العرب، ولا يمكن تصوره أصلا إلا أن يكون نبيا واحدا مرسلا إلى أمة واحدة بلسان واحد!
والقرآن حجة على العرب وعلى غير العرب , معجزة بذاته للعرب وغير العرب على السواء , لان الاعجاز اللغوى , الاعجاز اللفظى فى القرآن هو احد اوجه الاعجاز , نوع من انواع الاعجاز الكثيرة التى يتمتع بها القرآن , فاعجاز القرآن فى الناحية التشريعية وموافقته للطبيعة البشرية هذا النوع من الاعجاز يفهمه العربى وغير العربى على السواء ..كذلك هذا الضرب من التوافق المذهل بين موضوعات القرآن والترتيب المدهش للايات كل الناس فى استطاعتهم الوقوف عليه وانيتأكدوا منه سواء كان عرباً ام عجماً .... ولو ذهبنا نستعرض التاريخ من اوله لآخره لرأينا أن غير العرب الذين دخلوا الاسلام كانوا اساساً مهماً من الاسس التى قامت عليها حضارة الاسلام . فهؤلاء لم تمنعهم اعجميتهم من فهم الاسلام بل أن يكونوا هم اساساً فى حضارته وتشييدا لعلومه الكثيرة لا يمكن حصر معجزة القرآن في العصر الحديث من جهة البلاغة فقط حتى يقال إنها ليست من اختصاص غير العرب بل أوجه الإعجاز القرآني الآن واسعة المرامي كثيرة الإبعاد فلدينا ما ينطبق من علوم القرآن على فضاءات رحبة من العلوم المعاصرة، والكثيرة والتي منها معالجاته المطابقة لعلوم النفس المعاصرة وحديثة عن العلوم الفلكية والمغيبات والرياضيات وعلم الاجتماع وفن الإدارة والقضاء والحرب وأصول الأخلاق وغيرها الكثير والكثير.. وهذا جميعاً غير موقوف على معرفة اللغة بما هي لغة بل يمكن متابعتها عن طريق المصاحف المترجمة والتفاسير المترجمة والكتب العلمية التي تناقش هذه العلوم الكثيرة والمترجمة أيضاً, فقد أصبح كل شيء تقريباً الآن - وببركة تطور وسائل البحث والمخاطبة والتواصل - في متناول الأيدي فلماذا لا يعتمد غير العربي هذه الوسائل والسبل إذا كان جاداً في طلب الحقيقة. كما يمكن الإيمان بمعجزة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) من خلال دراسة نفس شخصية النبي محمد (صلى الله عليه وآله) من الجهات الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية بل والنفسية وكذا دراسة آثاره وقدرته على تغيير مَن حوله والظروف التي نشأ فيها ولياقته العالية في تغييره للسائد من الأفكار والعبادات والمعاملات المستحكمة في عصره وتأثيره الرفيع على قناعة أصحاب العلم والثقافة والديانات السابقة, ثم عدم القدرة على طمس هذه الآثار رغم شناعة الأحداث وقساوة المعادين وتعسف الطرق المتبعة ضده وضد دينه وأتباعه، مما يعني أن هذا الدين محفوظ بقوة خفية عظمى تجعل القرآن عصياً أمام عوامل التعرية التي يفرضها جهل الإنسان وحقد المتلاعنين ويصمد أمام التحريف وأمواج محاولاته العاتية طول التاريخ مما يجعلنا نطمئن أن فيه من عوامل القوة ما يجعله باقياً خالداً.
يقول طه "وأغرب من ذلك أن أممًا أخرى ليس بينها وبين العرب سبب قد قرأت القرآن وسمعته في القرون المتطاولة والأجيال المتعاقبة فدانت له وآمنت به واستحبَّت قراءته والاستماع له على كل شيء غيره يُقرأ ويُسمع أو يُمتِع الأسماع والقلوب والعقول معًا. ونحن نعلم أن أروع البيان وأبرعه وأعلاه درجة في الحسن إنما يروع من يقرؤه أو يسمعه من أصحاب اللغة التي أنُشِئ فيها، فإذا تجاوزهم إلى غيرهم من الأمم فَقَدَ كثيرًا من روعته، ولا كذلك القرآن حين يقرؤه أو يسمعه من لم ينشأ تنشيئًا عربيٍّا، بل هو يحتفظ بروعته على اختلاف الأزمنة والأمكنة وأجيال الناس."80
وعربية اللسان لا تمنع عالمية الدعوة والرسالة، وليس معقولا أن ينزل القرآن بجميع اللغات، وقد جرت سنَّةُ الله -عزّ وجلّ- أن ينزل الوحي بلسان واحد، هو لسان البيئة التي نشأ فيها الرسول -صلّى الله عليه وسلّم-، كما أنّ عالمية الإسلام لم يحل بينها وبين الأمم والشعوب كون الرسول ولغته، والقرآن ولغته عربية، وهذا واقع ملموس لا يُنْكَر، فالمسلمون من غير العرب أضعاف أضعاف المسلمين العرب، فهل في ذلك من شك؟ فالإسلام يلائم كل الأجناس والبيئات في كل العصور، بدليل اقتحامه الأسوار على كل البيئات والأجناس، وسيطرته على قلوب أهلها، وتجنيدهم للدفاع عنه.
و التوراة نزلت باللسان العبراني والإنجيل بالرومي، فلو صحَّ ما يقوله طرابيشى لكانت النصارى كلهم مخطئين في اتباع أحكام التوراة، فإن جميع فرقهم لا يعلمون هذا اللسان إلا كما يعلم الروم اللسان العربي بطريق التعليم، وأن تكون القبط كلهم والحبشة مخطئين في اتباعهم التوراة والإنجيل؛ لأن الفريقين غير العبراني والرومي، ولو لم ينقل هذان الكتابان بلسان القبط، وترجما بالعربي لم يفهم قبطي، ولا حبشي، ولا رومي شيئا من التوراة، ولا قبطي ولا حبشي شيئا من الإنجيل إلا أن يتعلموا ذلك اللسان، كما يتعلمون العربي.
لو كنت عالم حديث لجعلت هذا الكتاب شرطاً لإجازة كلّ طالب علم حديث! فإمّا أنْ يفنّده وينق� بنيانه فيكون أهلاً لعلم الحديث أو أنْ يدفعه الكتاب للتواضع الفكري، والشكّ العلمي اللاز� لكلّ عالم وباحث. � فهذا كتابٌ مهمّ جدًا جدًا جدًا لكلّ باحث أو مهتم في علم السنّة النبوية و في أسس الفقه الإسلام� بصورته التي انتهى إليها. � بدايةً تكمن أهمية هذا البحث في كونه على يد شخص من خارج المنظومة الحديثية، بل ومن خار� الدائرة الإسلامية بل والدينية بشكل عام. مما يعني خلّوه –افتراضيً� وكما تثبت كتابته- من التحيزا� المعرفية التقديسية أوالدعوية أو العدائية. � كما أنّ "طرابيشي" يمتاز بالموسوعية المعرفية وحرصه على توثيق أصول استشهاداته، و معطياته الت� يبني عليها رأيه. ويمتاز أسلوبه بلغة سلسلة وعبارة مباشرة، مما يجعل القاريء يأمن كثيرًا غوائ� التورية و مكر ما بين السطور. � يعرض الكتاب لجوانب عدّة مثل : النبوة ودورها، و الانتقال من إسلام الرسالة إلى إسلام الفتوحا� مما استدعى توسيع النصّ واختلاق التبرير الأصولي للسياسة. وفي هذا أخالف الكاتب فيم� ذهب إليه من (اللافاعلية النبوية) والتي تجعل من النبي صلى الله عليه وسلّم مجرد ساعي بريد� لا رأي له، ولا شأن له بما يحمل. � كما أخالفه في الطعن في عالمية الرسالة الإسلامية وأنها ما كانت إلا محاولة لتبرير الفتوحات! فاستخدا� عالمية الدين كمبرّر لا يعني أنّ هذه العالمية مختلقة. وإن نجح في عرض حججه عن وه� الأصل الحديثي للمسألة (تفرّد هُشيم) و نقاش استخدام كلمة "الناس" قرآنياً. � ما بعد هاتين النقطتين فإني أجد الكتاب كنزًا معرفيًا في نقاش دخول "السنة" نظريًا وعمليًا في حيا� المسلمين الشرعية، وما صاحب ذلك من إقصاءٍ للعقل� � على يد الفقهاء الأربعة وابن حزم وغيره�. � ومن أهم ما يعرض له الكتاب الأسس التنظيرية التي أدّت إلى تضخم المدونة الحديثية أضعافًا مضاعفة� والعقلية "التخريجية" التي حاولت بشكل مستميت –ومضح� أحيانًا- أن تجد مخرجًا أ� "تبريرًا" للتناقض بين الروايات تنزيهاً للنبي صلى الله عليه وسلّم ظاهريًا وتقديسًا للرواة والأساني� والمتون حقيقةً. � ولا يعدم القاريء المرور على إطلالات تاريخية مهمة في ثنايا الكتاب. كمثل الحديث التاريخي عن م� سمّي بـ "فتنة خلق القرآن". � وأمّا حديثه عن دور الموالي في تشكيل الدين بصورته "المستأنفة" على حدّ تعبيره، فهذا زعم لا يعد� أدلته لكنّه يحتاج إلى مزيد بحث ودراسة، وإن أعجب أصحاب نظريات المؤامرة والتي ألمح له� طرابيشي نفسه. كما أنّه يفتح بابًا للسؤال عن حقيقة التآمر الشعبوي مقابل التخاذل العلمي العربي� والانشغال بالسلطان والجاه وما يرافقهما، وهل كان هناك توجّه واحد يمكن استقراؤه أم مجر� استئثار علمي وغلبة في البحث؟
مراجعة متأخرة وخجولة ، ما زلتُ مذ أنهيتُه أفكر ملياً في كتابة شيءٍ يفيه لكني عاجزة ، ليس بالضرورة من منظور موافقتي الكلية لما ورد فيه ، بل من منظور مقدار ما غيّر وقلب من موازيني .
أستطيع قول إن قراءتي كتاب عبد الجواد ياسين ( السلطة في الإسلام : العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ ) ثم من بعده كتاب طرابيشي هذا ، كانت منعطفاً حقيقياً في طريق خطواتي _ ولا أسميه�� مسيرة _ الفكرية .
إذًا خلاصة هذا الكتاب أن الله أرسل رسولاً (وليس نبي) إلا العرب والعرب فقط وبرأي جورج العرب موجودون فقط في أم القرى وما حولها وأرسل مع هذا الرسول كتابًا هو في الغالب لمناقشة حياة محمد الخاصة ورغباته. ثم، جاء بعد محمد هؤلاء العرب الذين أرادوا تحويل أيديلوجية الإسلام من أيدولوجية خاصة إلى أيدلوجية أممية بهدف السيطرة على العالم. بالطبع لولا جورج طرابيشي ما كان لأحد أن يكتشف هذه المؤامرة ولعله أيضًا يساعدنا في مؤامرة نزول الأمريكان على القمر! إحدى أغرب الأمور التي تظهر في هكذا كتب هو عندما يقول لك الكاتب أن كل الحديث ورواية الحديث هي تلفيق وكذب وغير منطقية ثم يستخدم روايات ضعيقة جدا إن لم تكن موضوعة للمز الرسول والصحابة. أي منطق هذا! ربما على الكاتب اختيار مبدأ إما الأخذ بالحديث او تكذيبه ثم العمل عليه عوضاً عن هذا اللعب لا أعلم لماذا استمر باضاعة وقتي على كتب كهذه. كنت أقرأ قبله كتابين لباغيني وآلان دي بوتان والاثنان فيلسوفان ملحدان لكن كلاهما مهتمان بتطوير فكر وروحانية وسعادة البشرية، أتسائل هنا ما هو هدف جورج طرابيشي من هذا الكتاب ؟ أعني ان الكاتب يظهر أنه قد صرف الكثير من الوقت في استخراج هذه الروايات الغريبة العجيبة وإن صح قوله بأنه قد صرف 6 سنوات على ذلك فهذا أغرب. وهو جهد ربما لا يبذله المؤمنون على أديانهم، كل هذا بهدف ماذا؟ إن كان هم جورج طرابيشي القيام بالعقلية العربية كما هو عنوان السلسلة فليس هذا الموضوع الذي يطور العقليات؛ لم أشاهد في السلسلة كلها عنوان مثل: الفاهمة البشرية، معمار السعادة، المعنى، الأخلاق... كلها كانت الإسلام المعطل، الإسلام وكذا، الأحاديث الملفقة... السبب وللأسف أن النخبة المثقفة لدينا لا يهمها تطوير الفكر والمجتمع بل يهمها الجلوس على برجها العاجي الواهن والقول من فوقه: انظرو أيها الجهلاء كم أنتم عميان وسذج، نحن هنا فوق فقط من نفهم !!
الكتاب رائع جدا, دراسة يعرض فيها الكاتب تحول الاسلام من القران الى الحديث مع تطور هذه النقله واضافات الفقهاء والمحدثين على عملية تدوين الحديث, وآلياتهم في تتريس آلة الحديث.
الكاتب يبدوا انه تعمق جدا في دراسة شخصيات كان لها اليد في تكريس الانتقال من القران الى الحديث ويعرض الياتهم وتنظيراتهم ويناقشها او على الاقل يعرض نتائجها على الشارع الاسلامي (المعاصر) .
استمتعت جدا بالكتاب ولم اشعر بالملل عند قرائته, قد تختلف مع الكاتب لكن لاتملك الا ان تحترم اطلاعه وتجرده البحثي
اعتقد اني سأقرء كتب هذا الباحث, استمتعت بأسلوبه السلس وانتقاله بين الافكار واستدراج الكاتب حتى انه يتمكن بعض الاحيان من تعطيل حسك النقدي :)
سأترك تقييم هذا الكتاب إلى أن أتحقق بنفسي من كل ما ورد فيه وذلك بعرضه على من لهم تخصص في علم الحديث لكنّي لن أمتنع عن إبداء إعجابي الشديد بتماسك النظرية التي طرحها الأستاذ جورج طرابيشي وتنظيم الكتاب وتدرجه التاريخي السلس وعرضه لجُلّ الآراء، مؤيدة أو معارضة، التي تكلمت عن الأمر مما يعطي القارئ رؤية فوقية ممتازة للأمور.
الكتاب هو رحلة شيقة وممتعة للغاية.. مثيرة للفكر وللجدل.. قد يخالف بل يصادم ما تعتقده أو تؤمن به بخصوص المسألة الحديثية لكني لا أنكر ما أصابني من لذة فكرية عندما قلب هذا الكتاب أفكاري تقليباً.. لكني على ما يُعرف عني من حذر شديد بخصوص مثل تلك المواضيع، فقد آثرت أن أترك إبداء رأيي في النظرية نفسها إلى أن أعرض الأمر على أهل الاختصاص ثم أضع كلا الرأيين أمامي متجرداً لأصل إلى نتيجة نهائية.
ينطلق الكاتب من نظرية أن الرسول - ص - كان مشرَّعاً له لا مشرِّعاً ويسوق الكاتب أدلته على ذلك من القرآن. ثم يأخذ بيدك صعوداً في التاريخ إلى الإمام الشافعي محمد ابن إدريس والذي وضع بذرة أهل السنة والجماعة بافتراضه أن الرسول - ص- كان في كل سكناته وحركاته ناطقاً بالقرآن أو غير ناطق متحركاً ومتكلماً بالوحي مما فتح الباب أمام القول بأن السنة مثلها مثل الكتاب وحييْن يكمل بعضهما الآخر.
يستكمل صعوده في التاريخ إلى محنة الإمام ابن حنبل ومسنده الذي أتى فيه بالآلاف من الأحاديث من مختلف الدرجات سواء كانت صحيحة أو حسنة أو ضعيفة ويطرح نظرية تقول بأن المحنة بالصورة التي وصلتنا كان مبالغاً في شدتها لإظهار ابن حنبل بمظهر البطل الثابت على مبادئه وذلك لنشر التعاطف معه ولكسب الشارع في صف أصحاب الحديث مشيراً إلى أن هناك من ابتلوا ابتلاءاً أشد بمراحل من ابتلاء ابن حنبل ومتسائلاً لماذا كان ابن حنبل دون غيره الذي أثيرت حوله هذه الضجة ملمحاً كإجابة إلى أن ذلك كان بسبب امتلاكه مسنده المليء بالأحاديث.
يشير طرابيشي إلى أن ابن حزم ليس من أنصار العقل كما أشار بذلك الجابري لكنه على العكس كان من ألد أعدائه وأن الأمر لا يُعَدُّ إلا أن يكون قراءة خاطئة للجابري لفكر ابن حزم مدعماً - أي طرابيشي - قوله بأقوال لابن حزم توضح مفهوم ابن حزم للعقل وهو لا يخرج عن كونه تبعاً للنص بحذافيره.
ضحكت كثيراً عندما استخدم الكاتب آلية ابن حزم نفسها لمعارضته فيما توصل إليه.. فابن حزم، على سبيل المثال، في قوله - تعالى - "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما" يقول أن لفظة أف هي ما وردت في النص وما عداها ليس منهي عنه - في تصنيم واضح للنص - وأن ما ينفي ما سواها هو قوله - تعالى "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة" وهو ما يشير إليه قائلاً بأن النص لا يصرفه إلى تأويل ظاهره إلا نص آخر وهو ما يستخدمه الكاتب بأن يقول لو أن ابن حزم التزم بالظاهر من النص حقاً كما يقول لحصر ما قاله في حالة كبر السن فقط وذلك في قوله "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما".
الكاتب يبدأ بعد ذلك في التحدث عن العقل التأويلي ثم التخريجي ثم التوهيمي والتي كانت كلها آليات صنعت بيد المحدثين لرأب الصدوع التي تبدت مع ازدياد التضخم في المدونة الحديثية ومع ظهور أحاديث ذات نصوص متعارضة مع بعضها أو مع كتاب الله مشيراً في الوقت نفسه إلى موضوع الناسخ والمنسوخ وكيف أن القرآن والسنة كلاهما ينسخ بعضه بعضاً وموضحاً للقارئ أن آلية النسخ قد اشتغلت في اتجاه واحد وهو نسخ الأحاديث للقرآن لا العكس.
يتكلم الكاتب أيضاً عن ابن الجوزي والذي نقض كثيراً من الأحاديث من جذورها نقضاً قوياً لكن الكاتب يشير إلى أن ما فعله ابن الجوزي قد أعطى ضمنياً الإجازة للآلاف والآلاف من الأحاديث الأخرى التي لم يأت على ذكرها ابن الجوزي مما يمنع من التشكيك فيها.
باختصار، إذا كنت تريد أن تقرأ هذا الكتاب فاقرأه بنفسك ولا تسمع عنه من أحد.. الكتاب نظريته "تبدو" معقولة ومتماسكة وتسلسله وتنظيمه رائعان..
كتاب أنصح بتملكه وقرائته.. مؤيداً كنت أو معارض ففي كلا الحالتين سيعود بالفائدة على قارئه.
ملاحظة هامشية: - الكاتب تحدث عن غسل الأرجل في الوضوء وذكر فيما ذكر أن ذلك مخالف للنص القرآني "فاغسلو وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبيْن" لكنّه أخطأ في هذا الأمر خطأً لم أكن أحسب أن مثله يخطئه وذلك لأن "أرجلَكم" هنا منصوبة لا مجرورة وذلك يجعلها مجتمعة في الحكم مع الأيدي والوجه لا الرؤوس.
لأنه كتاب ضخم، دسم، وثقيل جداً، ولأن كاتبه ليس سوى جورج طرابيشي، كان من البدهي أن أعيد قراءته مثنى وثلاث. ويفترض أن في "الإعادة إفادة" كما يُقال. لكنّي بدلاً من الإفادة والتفحص الدقيق لما ورد، وجدتُ نفسي أمـرُّ بنفس نلك المشاعر التي انتابتني في المرتين الأوليين. ذهول، غضب، شعور بالمرارة والخداع، ومن ثم ابتسامات ساخرة، فسرحان حزين، على ما آل إليه الإسلام على أيدي أولئك "الأئمة" وما أورثوه إياناً من متاهات وقيود، وخرافات، تراكمت بعضها فوق بعض، حتى أفل نجم العقل تحت وطأتها، فكان من المحتم أن يستقيل - بعد أن تم ازدارئه وتهميشه - ولندخل على إثر ذلك في ليلٍ من التدين العجائبي، اقترن بانحطاط طويل، وبإسفاف على الدين، وتطاول على الله، الذي تم انتزاع حق التشريع منه، ومنحه للرسول "نظرياً" الذي أصبح هو المشرِّع وإن بأثر رجعي.
كيف يمكن لكتاب واحد - مهما كانت مادته ضخمة - أن ينسف شطراً واسعاً من الدين؟ وأشدد هنا على كلمة "الدين" فبتصدي طرابيشي لما سُمي بـ "حجية السنة" ومن ثم تعميد الرسول عن طريقها مشرِّعاً بعد أن كان بعدة نصوص قرآنية مشرَّعاً له، وظيفته تتمثل في الإبلاغ فقط، بدليل "إنما" التي تفيد الحصر والواردة في عدة آيات قرآنية، تارة بقول الله، وتارة على لسان الرسول نفسه. وإنما قلتُ إن أطروحة طرابيشي نسَفَت شطراً واسعاً من الدين، لأن مذهب اهل الحديث هو الذي كُتب له الإنتصار مبكراً، واحتكر لوحده حق الفهم عن الله ورسوله. حتى أصبحوا يطلقون على انفسهم "أهل السنة والجماعة" وهو المذهب الذي يدين به اليوم مئات الملايين حول العالم، المؤمنين بكل تصورات ومفاهيم أولئك "المحدثين" ومن بعدهم "الفقهاء" عن الدين.
الكتاب يتحدث كما هو اسمه، عن تحوّل الإسلام من إسلام الرسالة في العصر الذي كان فيه الله هو المشرع الوحيد عن طريق ما أنزله في القرآن من أحكام، والرسول مشرّع له، مُكلّف بنقل هذا التشريع إلى الناس وتطبيقه عليهم، إلى إسلام الحديث، إسلام الفتوحات و الفقهاء والمحدّثين، الذي تم فيه تحويل الرسول إلى شريك في التشريع، وذلك بتدشين مفهوم "السنة" وإحالتها إلى مصدر إلهي، لتصبح مساوية للقرآن في التشريع وإصدار الأحكام، بناءً على زعْمٍ يفيد باشتراكهما في مصدر واحد هو الله. ومستقبلاً وبعد تضخّم "صناعة" الحديث، وإعمال آلية الناسخ والمنسوخ، أصبحت السنة عملياً هي القاضية على الكتاب، وان ادّعى المحدّثون عكس ذلك نظرياً.
كالعادة لا يُقدّم طرابيشي أطروحاته الجريئة والصادمة، من منطلق أيديولوجي أو سياسي، وإنما من منطلق معرفي همّه هو الإجابة عن السؤال الذي أرّق الكثيرين .. ما سبب استقالة العقل في الحضارة العربية الإسلامية؟ فيتصدّى طرابيشي للإجابة عن هذا السؤال، بالرجوع إلى الثرات الذي تمّ فيه تشكيل العقل الإسلامي او إلغاؤه أو تحجيمه أو تحييده، او أي وصف آخر يعبّر عن استقالة العقل في الإسلام. لا يقوم طرابيشي بهذا البحث بدافع الشهرة وإثارة الجدل التي عادة ما ترافق معالجة هكذا إشكاليات، فما أرفع طرابيشي - لمن يعرفه - عن هذه الغايات الوضيعة، وإنما يقوم بذلك بصفته باحثاً فـذّا، صاحب ثقافة ثراتيّة وفلسفية واسعة ومتعمّقة، تجعله يعرف جيّداً ما الذي يتحدث عنه، متسلّحاً بمصادره المختلفة من ثرات وفلسفة وتاريخ ولغة ولاهوت، ومن نباهة ودقة في الملاحظة وربط للمفاهيم. مكّنته من معالجة كل جزئية من زوايا مختلفة ومتعددة والأهم من ذلك، أنّه أدان المنظومة الحديثية من أفواه - أو بالأصح من كتابات - أبنائها أنفسهم، مُعملاً في نصوصهم آليات الحفر والتفكيك على ضوء آخر ما وصلت إليه مناهج البحث العلمي الحديث، بل وفي أحيانٍ كثيرة، يلجأ إلى "علومهم" و "شروطهم" التي وضعوها حولها، ليثبت مرارمخالفتهم لها، واعتمادهم على المداورة والتمحل، والسفسطات الواهية (يمثل ابن حزم نموذجاً مثالياً في ذلك).
نظرياً كان يفترض بالكتاب أن يكون الجزء الأخير من مشروع طرابيشي الضخم (نقد نقد العقل العربي) الذي جاء ردّاً على مشروع الجابري (نقد العقل العربي) لكن لأن الجابري وأطروحاته لم تظهر في الكتاب إلا بشكل عرضي بسيط، فقد تم اعتبار الكتاب مستقلاً عن مشروع نقد النقد.
في الجزء الأول من الكتاب، عمَد المؤلف - بعد حصره للشواهد واستقصائها قدر المستطاع - إلى عرض أطروحته بأن الله حصراً هو الشارِع، والرسول هو مشرَّع له، مكلّف بالتبليغ فقط. وبأنه بشر بنص القرآن مرة آخرى، بل وعلى لسان الرسول نفسه، مما أتاح لطرابيشي ان يمهّد للقارئ الانعطافة الحادة التي ستمر بها شخصية الرسول، من مجرد بشر مبلّغ عن الله، إلى معجزة تمشي على قدمين، شاركت الله في كثير من الصفات، كالعلم بالغيب والتبشير بالجنة وبالنار، وإتيان الخوارق من الأفعال، ومن ثم ليصبح متاحاً بان يكون قوله تشريعاً نافذاً، بدليل (وما ينطق عن الهوى) هذه الآية التي مزالت إلى اليوم مُنزاحة عن دلالتها الأصلية.
ثم يبدأ طرابيشي تناوله بالتحليل والمراجعة والنقد أعلاماً وأسماءً تحيط بها حالة من التبجيل و القداسة، كمالك والشافعي (الذي يسميه الكاتب صاحب الإنقلاب السني) وأبو حنيفة وابن حنبل وابن حزم الذي قال عنه الكاتب أيضا " لم يحدث قط في تاريخ الفكر في الإسلام أن أشاد أحد بسؤدد العقل كما أشاد به ابن حزم .. ولكن لم يحدث قط في تاريخ الفكر في الإسلام أن أقال أحد العقل كما أقاله ابن حزم."
الكتاب أيضاً يتناول بالنقد والتفكيك، المنهجيات والآليات التي اعتمدها أهل الحديث لإثبات حجية السنة ولضمان "صحتها" وعدم تضاربها، كآلية النسخ، والتاويل، وصحة السند، وآلية الجرح والتعديل (اللاعب والملعوب بها في رأي المؤلف) مستدلاًّ بالمصنفات التي وضعها أمثال ابن قتيبة وابن سلامة الطحاوي وغيرهم.
يعرج الكاتب على مسألة "خلق القرآن" و "المحنة" عارضاً فيها مختلف الآراء والأقوال، لينهي الكتاب بفصل "انتصار أهل الحديث" الذي ترافق مع هزيمة آخر فرق العقل "المعتزلة". وفي الختام يبدي الكاتب رأيه في أسباب استقالة العقل في الإسلام، والذي يرى أنه جاء من أسباب داخلية صنعتها الحضارة الإسلامية نفسها عن طريق الفقهاء وأصحاب الحديث، وليس عن طريق عامل خارجي " الغنوص والعرفان " كما يرى الجابري وغيره.
أيضاً في سطور العمل الأخيرة، نعى الكاتب "صديقه اللدود" عابد الجابري الذي قضى معه ربع قرن من "حوار بلا حوار" كما يقول طرابيشي، خبر وفاة الجابري وصل إليه أثناء تحرير وتنقيح الكتاب.
من الطبيعي أن يثير هذا الكتاب مخاوف كبيرة - يدفع بالبعض لاستشارة "أهل الاختصاص" - وانزعاجاً وربما غضباً و صدمة حادة، لأنه يتعرض لمسائل قديمة قِدم الدين نفسه، تقع ضمن "اللا مفكر فيه ". بحيث أصبحت بمرور الوقت وتوالي الأزمان هي (الدين) بألف ولام التعريف. لكن مع هذا لايمكن للقارئ الواعي وللباحث الجاد، إلا بأن يُسلّم لطرابيشي بقوّة الحُجّة وسلامة المنطق وترابط المنهج. والموضوعية الكبيرة، رغم انه يصدر من موقع علماني نهضوي بارز لا يُماري فيه ولا يُهادن. طبعاً توجد مؤاخذات بل واعتراضات على بعض ما ذكر، لكنها في المجمل تبقى ملاحظات لا تضير العمل كثيراً، لأن القصور والنقص والتضارب، من سِمات العمل البشري، مهما توخّى فيه صاحبه الكمال.
أخيراً أقول، لو لم يفعل جورج طرابيشي إلاّ أن يدفعنا لإعمال عقلنا وللتفكير في المسكوت عنه لكفـاه، فهو واحد من القلّة الذين تجرؤوا وحركوا المياه الراكدة و كان قد حذّرنا مراراً من اننا نقف عند عتبة "قرون وسطى جديدة" وقد كان كذلك بالفعل، فبعد صدور الكتاب في 2010،دخلنا في عـقـدٍ قروسطي شديد الدموية، ترجم بشكل عملي، ما كان يُنظّر له منذ عقود، من تخلف وأصولية واستبداد.
الكتاب عظيم، ويتضح فيه جهد الكاتب وجديته وتدقيقه فيما يكتب. نظرا لطرحه العديد من اﻷفكا� الجديدة. يصعب على المرء أن يتفق مع كل ما فيه، ولكن وبالتأكيد إن كل من يقرأ الكتاب فلن يفكر في هذا الموضوع بعده كما كان يفكر قبله.
الغرض الرئيس من الكتاب ليس فقط، عرض أركيولوجي (تأريخي) لعملية الانتقال، وإنما توضيح كيف تم القضاء على دور العقل، أو لنقل تحجيمه، في التراث العربي اﻹسلام�... كما يعبر طرابيشي في خاتمة كتابه.
لتحجيم دور الرأي (العقل) كان لا بد أولا من إعطاء نص شرعي في كل المسائل، وهو ما لا يوفره القرآن، فضلا عن كون القرآن خطاب مفتوح للتأويل؛ فتوجب إذا 1) رفع الحديث إلى مرتبة القرآن بوصفه قرآنا غير متلو (حسب تعبير اﻹما� الشافعي) وهو ما يعتي ضرورة تحويل مكانة الرسول من مبلغ إلى مشرّع (فصل الكاتب في هذه العملية بالفصل اﻷو� من كتابه) 2) ولاحقا إلى قاض على القرآن وحاكما عليه (حسب اﻷوزاع�) 3) وبالتأكيد، كان لا بد أن تتضخم المدونة الحديثية (أي الدس) لتشمل سائر شؤون الحياة، وتحسم الجدل والنقاش. فيصبح لكل مسألة هناك أحاديث توضح للمؤمن المكلف الحكم اﻹله� بدقة. ولا يبق له إلا التطبيق. فلا داع للعقل ولا للرأي.
يؤرخ الكاتب لهذه الخطوات، وكيفية بناء ما أسماه الأيديولوجيا الحديثية، بأحسن طريق. فالكاتب (على خلاف من اطلعت لهم من الكتاب العلمانيين العرب) متقن تماما للتعاطي مع كتب التراث اﻹسلام�. باحث مدقق، لا يتساهل بأخذ الخلاصات والجمل الجاهزة التي سادت بين الباحثين. بل يمحصها ويعرضها للنقد.
يخلص الكاتب إلى أن هذا الانتقال إلى "اﻹسلا� الحديثي" أدى إلى 1) تغييب القرآن 2) تغييب العقل 3) والقضاء على التعدديات سواء في العلاقة مع اﻷديا� اﻷخر� أو داخل اﻹسلا� نفسه. وهذا منطقي، حيث تواجدت نصوص تشريعية حاسمة لكل خلاف في كل مسألة.
أرى الكتاب لازم القراءة لمن يريد كلاما بعيدا عن المسلمات المتوارثة. هو بالنهاية جهد بشري، لذا لا بد أن يختلف المرء مع كاتبه مرارا، ولا سيما أن الكتاب يعتمد كثيرا على التحليل والتأويل ﻷسبا� خطوات ونوازع القول برأي ما. ولكن تبقى قيمة الكتاب كامنة في طرح العديد من اﻷسئل� المهمة وتقديم رأي مستند إلى بحث وتحقيق جادين لا يخلوان من أخطاء طبعا.
الفصل اﻷو� على أهميته، استخدم فيه الكاتب الكثير من اﻷمثل� الحساسة والمستفزة لدى جمهور المسلمين وكانوا قد توارثوا اﻷجوب� عليها، والفصل الثاني يقدم رأيا لا يمكن أن يستسيغه المسلم بسهولة. أظن أن تصدير الكاتب لهذين الفصلين، سيمنع معظم المسلمين التقليديين من المتابعة بقراءة الكتاب. وأرجو أن أكون مخطئا.
آخر ما يجب علي قوله، هو أنني وخلال طلبي المتواضع للعلم الشرعي، كنت لاحظت أن هناك اختلافا جليا بين اﻹسلا� القرآني واﻵخ� الحديثي؛ كما كنت أرغب بالقيام ببحث عن كيف تم إغلاق نوافذ الاجتهاد، وأبواب إعمال العقل عبر آلية نصية تصادر التنوع عبر مصادرة أسبابه أساسا. فكان أن عثرت على هذا الكتاب، فكنت مقبلا عليه لعنوانه وموضوعه المتعاطف معه، ومترددا لسوء التجارب السابقة من اطلاعي على كتابات العلمانيين العرب في نقدهم للتراث، والتي يعتريها من التسرع والتهاون وقلة المعرفة بالباب اﻷم� الكثير. وجدت كتاب طرابيشي أحكم مما كنت أرغب، ووصل إلى خلاصات أبعد وأخطر مما كنت أتوقع.
العلاقة التاريخية بين الفقه (التشريع) والحديث (السنة): لعل تتبع نشأة الفقه من مالك وحتى الشافعي من خلال المرور على كتابات كل منهما، وتعليق لاحقهما على سابقهما، من أهم النقاط التي ناقشها هذا الكتاب.. في الجزء الخاص بمالك بن أنس يبين المؤلف من خلال تتبعه لمصنف مالك الأشهر (الموطأ) أن مالكاً كان يُخالف الصحابة بل ويرد ما هو مأثور عن النبي. وقد يوحي الكلام بأن مالك يخالف الصحابة رغم ثبوت الرواية لديه ويرد كلام النبي من حيث هو كلام النبي ، ولكن المقصود - بلا شك- أن مالك كان يرد الروايات من حيث إنها لم تثبت عنده سواء سندا أو متنا أو معنى، ويعارض بعمل أهل المدينة روايات الآحاد أو الروايات الغريبة (التي ليس عليها العمل بلفظه)، فعمل أهل المدينة عنده أثبت من القول.. وفوق ذلك فهو يعمل بالمصالح المرسلة والاستحسان.. وفي هذا علامة كبيرة واضحة للحرية النسبية لمالك في التعامل مع النصوص إذا ما قورنت بموقف الشافعي الذي جاء بعده فانتقد طريقته (تحديدا في رد روايات الآحاد، وتقديم عمل أهل المدينة الذي ليس عليه نص، والعمل بالاستحسان)، ثم بموقف التابعين للشافعي من حنابلة وأهل حديث، لنرى كيف أن مفهوم حجية الحديث قد تطور كثيراً حتى صارت الحجية مسألة آلية تثبت بمجرد ثبوت السند فيصب�� الحديث بألفاظه مقدسين كآية!
ولعل أهم فائدة لهذا الكتاب هو تسليط الضوء على تشكُّل مفهوم الشريعة ومصادرها كما نراه الآن، وبما إننا غير متخصصين فإننا نقف إزاء أغلب الآراء الجديدة موقفاً محايداً، موقف الذي يتطلع إلى المزيد من التدقيق والتحقيق حتى يكون له رأي صلب، غير أن أكبر إفادة من أول غمسة مركزة في كتب التراث التي كتبت قبل القرن الثالث الهجري تخبرنا بجلاء أن مفهوم السلفية كما نختبره الآن مفهوم محدث لم يكن مستقراً لا عند الصحابة ولا عند تابعيهم بل تم رسم خطوطه الأولى على يد الشافعي ثم تم تثبيته على يد أحمد بن حنبل ثم لم يكتسب شكله الحالي إلا على يد التابعين من الحنابلة وأهل الحديث ثم المتأخرين مثل ابن تيمية. ولذلك لا عجب أن تجد أن الأغلبية العظمى من أنصار الأيدلوجية السلفية في عصرنا هذا حنبليين أو غير متمذهبين لكنهم يبالغون في تعظيم عمل أحمد بن حنبل مقارنة بمالك أو أبي حنيفة. لا شك أن ذلك التنقيب يحطم الأسطورة التي تقول إن منهجية السلفية المعاصرة والتي شعارها "القرآن والسنة بفهم سلف الأمة" هي منهجية القرون المفضلة، ذلك أن السلف زمنا كانوا مختلفين ما بين مذاهب شتى حتى قبل أن تتحدد ملامح مذاهب الفقه . بل إن المتقدمين من مؤسسي مذاهب الفقه مثل مالك وأبو حنيفة والليث بن سعد كانت طرقهم أكثر اختلافا عن الطريقة السلفية ممن جاء بعدهم مثل الشافعي وابن حنبل.
لا غنى لنا عن الدراسة الكرونولوجية/الزمنية للتراث المكتوب فيما يشبه قاعدة البيانات المتكاملة من خلال العلاقات الزمنية والمكانية التي تربط بين الأشخاص وأفكارهم وبعضهم البعض حتى يتسنى لنا تكوين رأي هو أقرب للصحة من الناحية التاريخية عن أشياء تلقيناها مجزوما بصحتها أو أخرى مقطوعاً بزيفها دون تمحيص..
بدأ جورج طرابيشي بكتابة هذاالكتاب ليكون الجزء الخامس والأخير من سلسلة "نقد نقد العقل العربي" التي كانت عبارة عن ردود على مشروع الجابري: نقد العقل العربي...عارض طرابيشي رسالة الجابري الذي عزى استقالة العقل العربي إلى عوامل خارجية تسللت إليه كحصان طروادة يؤرخ طرابيشي هنا لكيفية استقالة العقل العربي التي جاءت من الداخل
فانتهى إلى دراسة معرفية متعمقة تقف بذاتها على تاريخ التحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ ، حيث انتقل الثقل في دين التوحيد واللارهبانية من الرسالة الروحانية التي أتى بها سيدنا محمد بلسان عربي مبين في ، كتاب معجز يدعو الناس إلى التدبر وإعمال العقل الذي لابد سيدل صاحبه في النهاية على الإيمان، انتقل من هذا إلى إسلام طارد للعقل يصنمه ويوثن النص على حد تعبير طرابيشي "وثنية النص"
" "....... على أن هزيمة العقلانية العربية لاتقف عند حدود العلاقة مع الآخر، بل تمتد إلى داخل علاقة الأنا مع ذاته...... هذا التدامج بين الفقه والحديث تمخض عن تسييد إيديولوجيا شمولية غير مسبوق إليها في تاريخ الإيديولوجيات لأنها تتدخل في الجزئيات كما في الكليات، ولا تترك مجالا من مجالات الحياة العامة أو الخاصة إلا و تعطي حكمها المسبق فيه، بحيث تحول من يسميه أهل الفقه بالمكلف إلى إنسان آلي لايختلف عن الإنسان الآلي كما خلقه العلم الحديث إلا بكونه يتحرك لا بالأزرار بل بالنصوص وأحكام النصوص"
اتفقت مع جورج طرابيشي أم لا، إلا أن هذا الكتاب يضع الكثير من النقاط على الحروف و لن يسعك إلا أن تقف أمام هذا العمل مشدودا، استقالة العقل العربي لم تأت بين عشية و ضحاها، لكنها نتيجة أحداث بعد أحداث وتراكمات فكرية بعضها فوق بعض يأخذك هذا الكتاب في رحلة مؤلمة من عهد الرسول المهدى رحمة للعالمين إلى عهد فقيه المدينة مالك الذي لم ينكر إمكانية تناقض النصوص و تميز بالانفتاح العقلي النسبي، ثم أبي حنيفة فالشافعي وأحمد بن حنبل، مرورا بابن حزم وفقهاء "العقل التخريجي" الذين حاصروا العقل وسيجوه ونقلوا الثقل المعرفي من متن الحديث إلى سنده .....
" الآلية الإسنادية التي تحكمت بالصناعة الجماعية المنسوبة إلى الرسول ليست آلية صاعدة متقدمة إلى الأمام، بل نازلة ومتراجعة إلى الخلف. ليست آلية تبدأ من الرسول و تنتهي إلى "الثقة" ف "الثقة" بل آلية تبدأ من "الثقة" ف "الثقة" و تنتهي إلى الرسول، و من هنا كانت قابلية المدونة الحديثية للتضخم اللامتناهي ... وهكذا بقيت المدونة الحديثية مفتوحة للتراكم إلى ما بعد قرن الصحاح أي القرن الثالث الهجري، و لم يعدم من يضيف إليها أو يعيد تجميعها امتدادا إلى القرن الثامن الهجري"
في آخر الكتاب يذكر طرابيشي أنه و حين فراغه من كتابة الكتاب وحين كان في المطبعة جاءه خبر وفاة المفكر الجابري فكتب هذا المقال في رثاءه بعنوان: ربع قرن من حوار بلا حوار
النجوم الخمس ليست للمعلومات الواردة(و أن كانت تلك عظيمة و تستحق التقدير) بقدر ما هي للأسئلة التي يطرحها الكتاب حول علم الحديث و مدى أتصاله بخط القرأن و حول رسالة الرسول و حدودها و مكانته التشريعية بحثا عن عناصر الخلل التي أورثتنا العقل العربي الخامد المتخلف ....المواضيع تحتاج بحث أطول و أعمق للجزم فيها برأي
كأي مفكر يحمل هماً معرفياَ تجاه قضايا يراها تمس جانباَ علميا أو فلسفياَ او لاهوتيا, يحاول الكاتب أن يتوجه بنقده إلى جذور الأشياء, مستعيناَ بمعاول منهجه النقدي مُعملاَ فيه شتى ضروب التحليل والتفكيك حتى يصل إلى مكمن مراده من عملية الإشتغال المعرفي,وليبنى على ذلك أطروحته الذاتية في قبال ذلك المعضل الفكري .
جورج طرابيشي , تنقل كثيراَ بين المحطات الفكرية _حسب ماتشي به سيرته الذاتية- من ماركسية وقومية إلى نزعة تفكيكية خالصة يدعي فيها عدم إنتماءه إلى مشرب فكري أو فلسفي بعينه .وكمترجم لأعمال فرويد في التحليل النفسي , يتضح مدى إنسياب القراءة الفرويدية بين ثنايا نصه وسط معمةنص يدور حول المدونة الحديثية برواياتها وإشكالات مرسلها إلى متواترها , وحجية خبر الواحد ورواة الحديث وأسلوب الجرح والتعديل إلى علم الرجال وغيرها مما يتصل بعلم الحديث.
من أولى الصفحات تتضح نزعة طرابيشي التفكيكية التي تحيل النص مواد أولية , ليخرج منها المضمرات الكامنة في ثنايا النصوص الحديثية التي أدت مع تكالب الزمن وتضخم المدونة إلى سلب العقل من وظيفته النقدية إلى تابع خاضع كل الخضوع للنص .هذا السلب لوظيفة العقل لم يحدث في يوم وليلة كما يقول طرابيشي ولكنه تأتى بشكل رئيسي من قلب محورية الإسلام من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث, الإنقلاب الذي جعل بدوره القرآن أسيراً لإملاءات الحديث بكل مايحتويه من الوضع والدس والضعيف والسقيم مما يتعارض مع نص القرآن بالأصل.
ومع جعل الحديث مسلطاَ على القرآن , كان لابد أن يجرى تسييج الحديث بأسياج القدسية التي تجعله عصياَ على محاولة قراءته وإظهار عيوبه وإشكالاته.على الرغم من أن طرابيشي يجنح كثيراَ في تعريفه لدور الرسول كناقل لكلام الله لا يملك من الأمر شيئا ,مسقطاَ عنه جميع أدواره التشريعية,وفاصلاَ الرسول المبلغ عن الرسول الإنسان البشر , لغرض نزع رداء القداسة عن الحديث بإنه كلام بشر لا عن وحي من الله , أدى به جنوحه إلى إختزال الرسول كمبلغ لا أكثر لايملك حق الإجتهاد أو التصرف جاعلاً إياه مسيراً فاقداَ للإرادة التشريعية.
مع ذلك , يظل الجهد المعرفي المبذول في الكتاب يحمل أهدافاَ معرفية أولاها , محاولة الوغول إلى أسباب توثين النص وجعل العقل مكبوحا به , وإفساح القراءة النسبية للنصوص التي تتيح الخروج عن القراءة التقليدية النصية إلى قراءة تلائم الواقع لا منفصلة عنه , وأخيراَ معرفة مكانة العقل في حضارة مرتكزة على نص -بما يعطيه هذا النص للعقل من فسح للإشتفال والتنفس-.
الأمر الحسن في هذا الكتاب , أنه حسب طرابيشي -الكتاب ليس تبعاَ لسلسلة نقد نقد العقل العربي- ,وإنما كتاب منفصل عن السلسلة ,الجيد في ذلك أنه ابتعد عن المساجلة والمناكفة التي تدور بينه وبين الجابري ,لأنه طرابيشي في نقده للجابري قد يسف أحيانا كثيرة ويخرج عن النقد الابستيمولوجي إلى نقد شخصاني يؤمن بتآمرية الجابري ومركزيته بعيداَ كل البعد عن القراءة الحوارية الاختلافية المنتجة.
كتاب ثوري بالمعني الحرفي لمفهوم الثورة ، وهو واحد من الكتب التي تجعلنا شديدي الأمتنان لشغف القراءة والبحث عن المعرفة ، وأيضاً صناعة العقل النقدي الذي يجعل شغفنا للمعرفة تقترن بتشغيل العاقل بكامل طاقته بحثاً عن الصواب المدفون تحت ركام تكّون على مدار قرون طويلة جمد الفكر الأسلامي وشذبه بحيث أصبح حسب تعريق الكاتب كا لو كان ألة تتحرك وليس بشراً يفكر ويحلل ويخطئ ويصيب .
هذا الكتاب ليس بالضرورة يطرح الصواب ، ولكنه بلا شك يلقي حجراً ضخماً في المياه الراكدة ، انه يستحثنا على البحث والبحث والنظر من زاوية أخري لكل الموروث وتشغيل ملكة العقل النقدي لنا في جل تاريخنا الزاخر بكتب اكتسبت معظمها سمة القداسة شأنها شأن القرأن .
أن الأمتنان الذي نشعر به للمؤلف هو أمتنان أولاً للجهد الموسوعي الفذ الذي بذله فى الكتاب ، وأمتنان أيضاً لتلك الروح التي تسري داخلنا بعد الأنتهاء من النص ، الروح التي تستحث على أستفزاز العقل والبحث الدءوب فى ذلك الطريق الوعر الجميل
هذا الكتاب يتناول فيه جورج طرابيشي موضوع موقعية الحديث في التاريخ الاسلامي و الحضاري بشكل مسهب، أجمل ما فيه أنه ينزع القداسة عن موضوع قد يعتبر مقدساً و لكن يتضح بالغوص بالتفاصيل عن نشأة الحديث و تضخمه و الزيادات التي أضيفت له ، كيف أن عالم الحديث ليس كما قد يعتقد البعض محاط بقدسية مطلقة
ضحل جداً من الناحية العلمية/الشرعية .. غزير فلسفياً .. لو سلمت للكاتب عقلك فيه لتهت معه ، وجدته مليئاً بالمغالطات ونتائجه مبنيه على افتراضات وضرب للروايات ببعض بأساليب الصبيان ومحبي الجدل .
عمل مهم وأضاف لي كثيراً. جهد أسطوري، ومختلف عن كل ما قرأت بنفس مجاله .. مثلاً نصر حامد أبوزيد يستخدم الادوات المعاصرة أكثر منه باحثاً تراثيا، وفي المقابل جمال البنا وأبورية مثلاً تراثيون أقحاح يحاكمون التراث بنفس أدواته أو ينتقدون الأدوات دون تأصيل وافٍ، كطريقة أبورية مثلاً في "أبوهريرة ِشيخ المضيرة" باستعراض كل ما وجه ضد أبوهريرة تراثيا كوقائع عائشة وعمر ضده .. لكن الأستاذ طرابيشي منهج مختلف، باحث تراثي متعمق، وبنفس الوقت متمكن من أدواته العلمية المعاصرة، ولا عجب انه استغرق 6 سنوات لكتابة هذا العمل متعدد الطبقات. في طبقة منه يُحاكم أدوات النصوص لا النصوص نفسها بشكل شديد العمق، وبهذا مثلاً في نقطة أبوهريرة يختلف مع أبورية ويرى أن أبوهريرة ليس أكثر من كَذَب، بل هو أكثر من كُذب على لسانه من طبقات أهل "صنعة الحديث"، اسمه مفعولُ به لا فاعل. ويقدم تفنيداً مطولاً حول علمية أدوات الرواية، مثل مبحث أحاديث الآحاد، و مثل قراءته لـ "علم الرجال" الذي يشكك بكونه علماً أصلاً بتأصيل تأثير انحيازات الرواة السياسية والايدلوجية على مروياتهم وكتابتهم، واختلاف الآراء الشخصية في تقييم الرواية بين "علماء الرجال" وبعضهم، فالراوي كذاب عند هذا وصادق عند هذا، فأحدهم مثلا يحكم بالتعديل لصالح كل رواة أحاديث فضل معاوية ويحكم بالجرح على كل رواه أحاديث فضل علي، لكن المشكلة ان نفس الرواه الذين نالوا أوصاف الصدق والكذب بناء على هذا هم من رووا مئات الأحاديث الاخرى، فوجدت هذه مكانها بكتب الصحيح، ووجدت هذه مكانها بالموضوع! كما يرصد تواطؤ أهل الصنعة مع بعضهم، حتى أن الحاكم النيسابوري بعد مستدركاته للبخاري يقول أنه لن يذكر أسماء المدلسين من الأئمة صيانة للحديث. .. وعبر نموذجه التفسيري "النشأة المستأنفة" يتتبع كيف تضخمت المدونة الحديثية عبر العقود فمن 496 حديث فقط في موطأ الإمام مالك -ولهذا دلالة هامة وهو إمام أهل المدينة الذين يفترض أن يكونوا الأكثر رواية - إلى 3 آلاف حديث ثم إلى 30 ألف ثم إلى مئات الآلاف. وعبر نفس النموذج نشاهد "النشأة المستأنفة" لكل نص على حدة، فهذا مثلاً حديث "فضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" يظهر عند مالك في المدينة، ليعود بعد عشرات السنوات بعد روايته على لسان من كان مع معاوية ضد عائشة مضيفاً إليه المقطع الأكثر شهرة "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع" ليصبح اهانة مبطنة لعائشة. أو كما قال الزهري "يخرج الحديث من عندنا شبراً فيعود في العراق ذراعاً" كما تُتستخدم الأحاديث في التراشق المذهبي، فحديث "ناقصات عقل ودين" في الواقع لم يكن متداولاً بهذا العصر بما يخص حقوق المرأة كما هو موضع الخلاف حوله اليوم، بل كان وقتها هو موضع خلاف بين الشافعية والحنفية حول هل الإيمان يزيد وينقص أم لا. .. ثم عبر طبقة أخرى من القراءة الأشمل يتتبع تدرج انتصار أهل النصوص على أهل العقل، سواء بانتصار أهل الحديث على المعتزلة بشكل عام، أو تهميش مذاهب القرون الأولى تدريجياً لصالح المتأخر عنها، فمذهب مالك الذي استعان بأقل قدر من النصوص قياسا للاحقيه، والذي كان يرفض الأحاديث بالمتن ويعلي من "الرأي"، وقريب منه الليث والاوزاعي، وكذلك حنيفة، تم تهميشهم تماماً لصالح الشافعي الذي كان منشئاً لا كاشفاً لنسخة الاسلام التي نعرفها اليوم، ثم لصالح ابن حنبل الذي تم به النصر المؤزر لفريق الحديث - وهنا يُخضع قصة محنة ابن حنبل لقراءة علمية مُفصلة غير مسبوقة حول روايات تعذيبه، ثم حول لماذا تم تصعيده بينما لم يكن الأكثر تعذيباً فيمن "امتُحنوا"، فأحمد بن نصر الخزاعي مثلاً تعرض لمحنة أشد بكثير من محنة بن حنبل.
وفي النهاية يربط بين كل ذلك وبين وصولنا لنتائج هي تغييب العقل، تغييب القرآن، تغييب التعددية، وأن ذلك كان صاحب تأثير عام في تراجع الأمة الاسلامية حضارياً في مقابل منافسيها الغربيين مما أدى لهزيمتها في النهاية، وهنا هو يرد على أطروحة الجابري في "نقد العقل العربي" حول تأخر العقل العربي بسبب العوامل الخارجية من غزو فكري أو عسكري، بينما يراها طرابيشي ذات دوافع داخلية. ..
في بعض المقاطع اختلفت مع الكاتب، أو شعرت ان أطروحته أضعف من أن تثبت رأيه، وتحديداً في الفصل الخاص بالتحول من النبي الأميّ إلى النبي الأمميّ، كان هذا أضعف فصول الكتاب وللأسف فهو يأتي ببدايته، وكذلك بالجزء الاخير الذي يربط فيه مجمل هذا التفكير بالتراجع الحضاري، كُتب هذا الجزء على أهميته البالغة بشكل أكثر اختصاراً من اللازم، وأخذ قفزة تاريخية واسعة بين آخر محطات تتبعه للتراجع التراثي وبين العصر الحديث، وهو نفسه يقول انه يعرف ان نقدا قد يوجه له بان هذه نزعة مثالية تاريخية ويناقش هذه الفرضية، لكن باقتضاب غير كافٍ برأيي.. ويظل الكتاب عملاً مؤسساً، وقراءة شديدة الأهمية تنتظر من يتمكن من الاشتباك معها بنفس القدر من العلمية والقدرة..
كتاب مهم وعظيم وعظمته في كمية المجهود المبذول في كتابته وأطروحته المرعبة بالمعنى الحرفي ! وأرى أنه وفق فيها لأنها كانت نظرة من الداخل كما هي من الخارج ! من داخل المنظومة العملاقة أو "المدونة الحديثية" -بلغة طرابيشي-ولقد قضيت مع هذا الكتاب ما جاوز الشهر تقريباً من قراءة وإعادة قراءة لبعض الفصول لما لها من أهمية لاهويتة وأهمية تعريفية للإسلام من الداخل ووصف لنكوص العقل العربي الأسلام في ليل الانحطاط الطويل وأسباب هذا الانحطاط الذي ما زال مستمراً !! لم يكن طرابيشي معنياً بالدفاع عن نبي الأسلام أكثر من أنه جاء ليضع فاصلاً عملاقاً بين إسلام الرسالة -إسلام محمد- وإسلام الفتوحات الذي كان متغيراً بتغير الظروف ... ولإن لم يعِ المسلمون هذا الفرق فلا أمل لهم ولا مستقبل إلا في الاستمرار فيما هم فيه من تخبط وهم ... ملاحظة : ملخص الكتاب مازلت أعمل عليه وما هذا الا تعليق مقتضب على هذا الكتاب الذي يغيّر معرفياً بشكل مرعب - وأصر على استخدام هذه الكلمة- عن عمد
بدايةً، لا أدري أشعرتُ بهذا لأن الكتاب كذلك فعلًا، أم لأنني أشعر بضجر الامتحانات فكان هذا الكتاب بمثابة الملاذ الترفيهيّ لي، ولكني حقيقة وجدته غاية فالإمتاع.. فطبيعة السرد التاريحي، والتفنيد العقلي والمنهجي (وإن لم يخلو فيما بدا لي من إشكاليات سأتطرق لها)، وتعليقات الكاتب والهوامش التي لا تخلو من فائدة ولا من طرافة، وكمية المعلومات المهولة الجديدة على أذنيّ (أو بالأحرى عينيّ)، كل تلك العوامل ساهمت في أني لم أحسّ قط بطول الكتاب نسبيًا، وإنما كلما أنهيت فصلًا لم أتريّث للشروع في الذي يليه، فهناك ذلك..
لنتطرق الآن إلى المحتوى العلمي للكتاب..
بدايةً، بدا لي الكتاب فيما بدا، أنّه مكتوب بمنهج علميّ غاية في الإتقان والتماسُك، إلى أن انتهيت من قراءة أول فصليْن، فبعلمي الضئيل المتهافت بكتاب الله (الذي هو قطعًا وحصرًا القرآن)، بدا وكأن "جورج" لم يقرأ القرآن كاملًا، وإنما عُرِضت عليه آياته الستة آلاف ونيف جزافًا، فانتقى منها واقتطع ما يخدم "أيدولوجيته" التي لا أدري صراحةً هل الغرض منها التجني على الإسلام ودسّ السم في العسل، أم الغرض منها (وهو ما أرجّح) تنقية وتنقيح الإسلام مما لحق به من الدنس على أيدي الحديثيّين..
ومن معرض تلك الانتقائية مثلًا، قوله أن الله لم يخاطب، أو يصف محمد ب"النبيّ" قطّ وإنما وصفه حصرًا ب"الرسول" بما يرتبه ذلك من استنتاجات غير هيّنة.. متناسيًا (عن عمد أو عن غير) كل تلك الآيات المبتدئة ب"يا يا أيّها النبيّ"، وقس على هذا. والفصل الثاني صراحةً أشنع بكثير في هذه الانتقاية المنهجيّة مما جعلني أضع الكتاب وأحجم بضع شهور عن استكماله..
إنّما الفائدة الكُبرى في هذين الفصلين، هي وصولنا إلى أنه، وإن كان بعض مما قاله أو فعله النبي مما لم ينزل به القرآن هو بالفعل وحي، إلا أن قطعًا ليس "جميع" قول وفعل النبي هو وحي إلهي وتنزيل من جبريل عليه السلام، مما يجعل محمّد هو الله على قدمين والعياذ بالله.. وفي الواقع هُناك مصنّف للإمام القرافي اسمه "الإحكام في التمييز بين الفتاوى والأحكام" يفرّق بين قول النبيّ بالتبليغ، أو بالفُتيا، أو بالإمامة، وما الموجِب منه وما الغير موجِب، وهو ما أراه الصواب..
لمّا ترائى لي ما ترائى من أن طرابيشي لم يراعي الدقّة في انتقائه النصوص ليخدم ذلك إيدولوجيته، فإني عندما قررت أخيرا الشروع في استكمال الكتاب، قررت أن أقرأ ما تلى من الفصول (كما يقول الأمريكان) "مع رشة من الملح"، لسبب بسيط هو لأني على جهل شبه تام بما سيتطرق الحديث لهُ، فربما قد يكون فعل مع كلام الأئمة الفقهاء والمحدثين مثل ما فعل مع القرآن.. ولكنّي صراحةً وجدتُ نفسي مبهورًا من القوّة المنهجية في عرضه لأقوالهم وتفنيده لها، وهذا هو الجزء الأغنى والأهم والذي أنصح كل مُسلم (وأفرض إن كان لي أن أفرض) قرائته بتمعُّن.. جُزء تحوّل الإسلام الكمّي والكيفي، بداية من الشافعي، من إسلام قرآن إلى إسلام حديث.. لن أعلّق على الكثير مما ورد فيه لأن حينها ستطول تِلك المراجعة عمّا يجب، إلا أنني سأكتفي ببعض الملاحظات، بعضها على ما جاء في الكتاب، وبعضها من استنتاجاتي الشخصية المتواضعة بعد قرائته:
1- في فصل الحديث عن ابن حزم، وجدت (على الرغم من القدح الشديد لطرابيشي له) أن مذهبه في الأخذ "الجامد" من القرآن (وصحيح السنّة)، بلا بحث في علّية الأحكام، وبلا قياس، وبلا سؤال، هو أقرب ما وجدته في كل المذاهب لقلبي (مع بعض المآخذ طبعًا، منها استباحة دم من يفعل ذلك يفسّر ويقيس!)، وشعوري ذلك، هو ما حثّني على الشروع، يومًا ما، في بدء القراءة في علم المقاصد، لأرى أي الحجتين أقوى، وعلى رأس كتب المقاصد كتاب الطاهر ابن عاشور المالكيّ
2- رأيْت انتقادًا للكاتب، أنه يكثر من نقل الأحاديث المطعون في صحتها، والتي لم تذكر في الصحيحين مثلًا.. وأرى أنه انتقاد ساذج وغير مدرك للغرض من هذا الكتاب، إنّما جاء ذكر أكثر هذه الحديث في فصل "العقل التخريجي"، واختار جورج تلك الأحاديث تحديدًا ليُبرز التكلف البالغ والتحايل الشديد من الحديثيين في الالتفاف والشقلبة (باعترافهم) لتخريج هذه الأحاديث وقبولها، ولا أرى في هذا من بأس على الإطلاق.
3- إنما ملاحظتي التي قد آخذها على طرابيشي فيما يتعلق بالنقطة السابقة، وصراحةً، ليس لي أن ألومه عليها كثيرًا، هي اكتفائه، في كل قسم من أقسام هذا الفصل (العقل التخريجي)، في إيراد الأحاديث المتعلقة بباب الطهارة. التي هي، بطبيعة الحال، يجد القارئ لأحكامها ونصوصها الكثير من الحرج، لا سيّما بلغة الفقهاء والمحدثين الأوائل. وبرر طرابيشي نفسه ذلك بحجة أن جرت العادة في كتب الحديث على البدء بباب الطهارة. وأحسب أنه عندما بدأ في تفنيد تلك الكتب، فإنه عندما بدأها وجد أحاديث الطهارة الموضوعة أو الصحيحة، فرأى فيها ما رأى، فوجد أن القارئ عندما تمر عليه تلك النصوص سيشمئز منها، وسيحسب (كما ذكر طرابيشي نفسه) أن أولئك الفقهاء والمحدثين لم يشغلهم شاغل (مطلقًا!) غير أحكام الطهارة والبائل هل يبول واقفًا أم قاعدًا. وإنما الرد على هذا أنه إنما انتقى (كما فعل مع القرآن) إلا الأحاديث المتعلقة بباب الطهارة، وترك سائر الأبواب، فبدا من ذلك ما بدا. والحق يُقال، كثرة التقول على الرسول في هذه الأبواب التي ليست هي من صُلب الإسلام بحال، هي ما دفعت طرابيشي إلى "الاصطياد في الماء العكر" وإبراز (أو دعنا نقول إظهار فكفاني برازًا ما قرأت) هذه النصوص.. لهذا أقول أن ليس لي أن ألومه كثيرًا.
4- ذكر طرابيشي أن السبب الرئيسي في انتصار أهل الحديث هو الانقلاب المتوكّلي، مما يولّد في ذهن القارئ أن الأمر سياسيّ محض، وهو ما ينكره طرابيشي نفسه (وواقعة الإنقلاب المتوكّلي نفسها كما ذكرها من المصادر) ضمنيّا.. فذاك الإنقلاب حدث كما حدث لأن العامّة كانوا من أنصار الحديث (وابن حنبل) وليس العقل، ولو كان العكس لقام المتوكل بانقلابه هذا انتصارًا للمذهب العقلي المعتزلي، لذلك فالأصل ليس في الإنقلاب السياسيّ، وإنما في انتصار العامة للمذهب السنّي واجماعهم عليه الذي استغله المتوكّل انتصارًا للحكم. والسؤال ينبغي أن يكون، لماذا العامّة والأغلبية كانوا من أنصار السنّة وليس العكس؟ ولماذا لم يبقَ لنا من آثار روّاد الفكر المعتزلي شيء إذا ما قارنّا بآثار الفكر السنّي؟
لن أُطيل عن هذا لأني أطلت بما يجعلني أشكّ أن أحدًا سيقرأ كل هذا الكلام، وختامًا فقط سأقول أن الكتاب مهمّ، ورتّب في ذهني الكثير من النتائج، وفتح الكثير من سُبُل البحث، وأنصح الجميع بقرائته..
من أجود ما كتب الأستاذ جورج .. بغض النظر عن الإتفاق أو الإختلاف في التفاصيل و الجزئيات ، الفكرة العامة تضغط على جرح ينزف في جسد الأمة منذ قرون و لا من متكلم .. إنه يحكي عن أولئك الذي بدلوا و غيروا !!
أوضحت الكاتبة والمترجمة هنرييت عبودي في كتابها "أيامي مع جورج طرابيشي" أن شعوره بالتقصير في ثقافته وقاعدته المعرفية بعدما طالع كتاب المفكر المغربي محمد عابد الجابري "نقد العقل العربي" وراء إبحاره في التراث العربي الإسلامي، وعن كتابنا اليوم ذكرت أن المفكر ناشيد يعود إليه ليزداد تعمقًا في أفكاره، وقد ذهب البعض الى نعت جورج ب" لوثر الإسلام" بعد أن وصفه الناقد العراقي وليد خالص ب "ڤولتير العرب".
كتاب هامٌ جدًا بالتاكيد ليس لكل أحد، بالأخص جماعة "كيف لمسيحي أن يكتب عن الإسلام!"، فالرجل رحمه الله باحث متمكن أدهشني بسعة معرفته، إحاطته القديرة للإستدلالات من القرآن الكريم و كتب التراث الإسلامي، ليخرج إلينا بهذا الكنز الذي عالأقل يجب اعتباره مرجع موسوعي لكيفية البحوث.
الفكرة المفزعة التي يعرضها طرابيشي، ويفندها بموضوعية واخلاص حتى خلته قد أسلم والله، ماتم من إنزال أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام منزلة القرآن الكريم حتى باتت جنبًا إلى جنب مع التشريع الإلهي، بل طغت عليه مما حكم على العقل العربي الإسلامي المراوحة في مكانه.
رصد المؤلف هذا التكريس، منذ السنوات الأولى للهجرة بعد وفاة رسول الله، بادئًا بمالك بن أنس، الشافعي، أبو حنيفة، ابن حزم، ابن قتيبة، ابن حنبل، ابن الجوزي وغيرهم، شارحًا تفاصيل هذا التحول مع كل شخصية فكرية ذكرها، داحضًا بإقناع لأمور عدة مثل النقل عن الرواة، القياس، المعقولية، النسخ والتناقض، كاشفًا دور السلطة السياسية وتأثير رجال الدين!
▪️إن تغييب القرآن وتغييب العقل وتغييب التعددية في الأيديولوجية الحديثية المنتصرة هو المسؤول الأول عن أفول العقلانية العربية الإسلامية، وعما قاد إليه هذا الأفول من إنغلاق ذهني وحضاري أنهى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية ليدخلها في ليل الإنحطاط الطويل.
الكتاب يعتبر الجزء الخامس والاخير من مشروع طرابيشي "نقد نقد العقل العربي" ردًا على مشروع الجابري
لقد بنى أجدادنا أسواراً عالية و قاموا بحبسنا فيها و أضاعوا مفاتيح الأبواب. هنا جاء هؤلاء المتخصصين فى فتح الأبواب المغلقة الذين يطلق عليهم فى العامية المصرية (المطفشاتية) هؤلاء الذين لا تستعصى عليهم خزانة ولا بوابة مغلقة. بدأ هؤلاء المطفشاتية فى الظهور منذ ثلاثينيات القرن المنصرم و تتالى ظهورهم حتى اليوم. فى رأيي واحد من هؤلاء النجوم هو جورج طرابيشي. فى كتابه إسلام القرآن يحاول طرابيشى إنتزاع تلك الأقفال من على الأبواب كى نستطيع التحرر من ذلك السجن ذو الأسوار العالية. يمكننا أن نشبهه بتشبيه آخر، إنه يبدوا لى كشخص عملاق يمسك بيده هراوة تليق بحجمه و يبدوا لى أن هدفه الوحيد هو ضربنا على أدمغتنا علنا نستيقظ من ذلك السبات العميق الذى غرقنا فيه لأكثر من أربعة عشر قرن. علينا أن نلقى بتلك المدونة الحديثية فى أقرب متحف. علينا أن نوقظ عقولنا من تلك الآفة، آفة النقل. هذا الكتاب لا أنصح بقراءته لذوى الأعصاب الخفيفة و هؤلاء الذين لا يجدون فى حياتهم معنى سوى الإنخراط فى دوامات التدين و آثار الماضى.