"معرفة أن هذا الكتاب عبارة عن مقالات متسلسلة في الموضوع نفسه تُفسِّر لي التناقض الفج الذي وقع فيه د. مصطفى محمود -رحمه الله- من فصل لآخر، فالرجل ينشر مقالًا ينفي فيه الشفاعة، فيتلقى هجومًا حادًّا يجعله يخفف من نبرته ويحاول الاستشهاد لرأيه، فتجيء استشهاداته في غير محلها وتنبئ عن سوء فهمٍ صارخ، ثم يُرسل له شيوخ الأزهر رأيهم في المسألة وهو رأيٌّ يدحضُ رأيه كليةً لكنهم يصوغونه في عبارات متلطفة، يسوق الدكتور آراءهم ويقول للقارئ: "انظر! ألم أقل لك"!

ثم هو يدعو للاكتفاء بالقرآن الكريم ويُشكك في صحة كتب الصحاح، يقول بوجوب التعامل معها من باب أن من كتبوها كانوا بشرا -غالبًا لم يقرأ عن العلوم التي أنشأها المسلمون لخدمة حديث رسول الله كعلم الجرح والتعديل وعلم علل الحديث ومصطلح الحديث وغيرها- وبوجوب إخضاعها للعقل، هذا العقل الذي دفع الدكتور لإنكار ثابتٍ في القرآن لأنه لم يتمكن من الجمع بين النصوص وبتَّ في المسألة برؤاه وفلسفته وتصوره الخاطئ عن مسألة الشفاعة، وعندما يُرسل له أحد مشايخ الأزهر يخبره أن لولا السنة ما عرفنا كيف نصلي وكيف نتوضأ، وأن الله قال لرسوله صلى الله عليه وسلَّم في القرآن: {وأنزلنا إليكَ الذكرَ لتُبيِّن للناسِ ما نُزِّلَ إليهم من ربهم} كان رد فعل الدكتور غريبا عجيبا غيرَ مفهوم: ساقَ كلام الشيخ واتفق معه ثم في الفصل التالي عاد إلى الرأي نفسه بوجوب الاكتفاء بالقرآن!

هذا كله فضلًا عن حجج كثيرة في غاية الضعف ويمكن لطفلٍ أن ينقضَها من أساسها، مثلَ احتجاجه بقتلة المسلمين في كوسوفا وهل نتقبل أن يجيء سيدنا عيسى -عليه السلام- يوم القيامة ليشفع لهم ويُخرجَهم من النار رغم ما فعلوه، غافلًا عن أن أولئك ليسوا مؤمنين حسب شريعة سيدنا عيسى نفسه -ناهيك عن أنهم أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم- ليشفع لهم، ومنشأ هذا الخلل في فهم الدكتور هو تصوره الخاطئ والغريب عن الشفاعة أنها واسطة وقياسها على واسطات الدنيا!

والسؤال الذي وددتُ لو عاصرتُ الدكتور -رحمه الله- وعاصرتُ مقالاته تلك لأطرحه عليه: أنت تقول يا دكتور بعدم التطهير بالنار وأن كلَّ مَن يدخلُها يخلدُ فيها، فماذا تقول عن رجلٍ عمل عملًا صالحًا وآخرَ سيئًا كان أكثر من الصالح، هل يخلدُ في النار أبدا؟ ألا يدعو هذا إلى اليأس من رحمة الله؟ ألا يُشوِّه نفسية الإنسان التي تهدمُ من أجلها الشفاعة بالكلية حتى لا يتواكل عليها في عمله فتدفع به في المقابل إلى أن يترك إصلاح نفسه إذا ما فعل كبيرةً من الكبائر قنوطًا وعجزا؟

في هذا الكتاب أدركتُ ما الذي تفعلُه بنا الكبرياء في اعتناق الرأي، إنها تضع غلالةً على العينين فلا تريان أشدَّ الحقائق وضوحًا، ولربما لو لم يُتلقَّ نفي الدكتور للشفاعة بذلك الهجوم الحاد -الذي انتقده خلال الكتاب- لكان أكثر انفتاحًا لقبول شروح المسألة التي أرسلت له ولم يبعُد إلى هذا الحد في الإصرار على الرأي.

رحم الله دكتور مصطفى محمود وعفا عنه ورزقه شفاعة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم."