أن تكون شاعرًا هو الديوان الأخير، من الدواوين الخمسة والعشرين، التي نشرها الشاعر التشيكي "ياروسلاف سيفرت"، الذي توفي في براغ في 10 كانون الثاني من العام 1986 عن عمر يناهز 84 عامًا.
كان كتابه هذا، قد صدر العام 1983، في عدد من النسخ لم تصل إلا لقلة من المعجبين بالشاعر، قبل ذلك بسنة، كانت مذكراته "كلّ جمال العالم" قد صدرت في طبعة لم تنجُ مطلقاً من قسوة مقص الرقيب.
من هنا، ثمة سؤال يطرح نفسه: لمَ كلّ هذا الحذر تجاه عميد الشعر التشيكي الذي على قول رومان جاكوبسون، صديقه والمعجب به منذ العشرينيات كان قد "وصل إلى إمتلاك مدهش للتقليد الشفهي والكتابي، للشعر التشيكي، كما وصل إلى أقصى إغراءات الطليعية، بالمعنى الأسمى للكلمة"؟.
في شعره كله، كان سيفرت، شاعر الحب: حب الإنسانية، المرأة، الأهل، الأصدقاء، الشعب، الطبيعة، حب العدالة والحقيقة، وهما رمزان تعذب من أجلهما الشعب التشيكي لفترة طويلة، من دون أن يتردد في إراقة دمه، من أجل ذلك.
مع "آن تكون شاعراً"، يعود الشاعر إلى مراهقته، إلى حبه الأول، يتذكر سنوات الحرب السوداء، ليطلق نداءً حاراً للسلام، وكما دواوينه الأخرى (أو القسم الأكبر منها)، نجد أن مدينته براغ حاضرة بقوة في هذا الكتاب، والشاعر يستدعي ويتذكر كل أولئك الذين أغرموا بها قبله، "موتسارت" و"ماشا"، فضلاً عن الكتاب والشعراء المعاصرين الذين رحلوا عن الوجود، عبر قصائده هذه، الأخيرة، المليئة بالأحاسيس، يصل سيفرت إلى قمة فنه (على قول الناقدة "يانا بوشبرغر") كما يقدم فيها، وداعه للحياة التي طالما أحبها.
نقرأ مقطع من قصيدة "آن تكون شاعراً"... "علمتني الحياة، منذ زمن طويل... أن أجمل الأشياء... التي يمكنها منحنا إياها: الموسيقى والشعر... إن استثنينا الحب بالطبع... في كتاب مختارات قديم... نشره مستودع كتب صاحب الجلالة الملكية والإمبراطورية... سنة وفاة فرشيكلي... وجدت بحثاً عن الفن الشعري... والمحسنات الأسلوبية... إذ ذاك، وضعت زرّ ورد في كأس... أشعلت شمعة... وبدأت كتابة قصائدي الأولى".
Awarded 1984 Nobel Prize in Literature "for his poetry which endowed with freshness, and rich inventiveness provides a liberating image of the indomitable spirit and versatility of man."
الديوان الأخير للشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت صدر عام 1983 وحصل بعدها سيفرت على جائزة نوبل عام 1984 قبل وفاته بعامين تدور قصائده عن الحب والحرب, الذكريات والأصدقاء ومدينة براج
علمتني الحياة منذ زمن طويل أن أجمل الأشياء التي يمكنها منحنا إياها الموسيقى والشعر.. إن استثنينا الحب بالطبع
مثل وريقات وردة ذابلة تطير الليالي من حياتنا لتحط أمام أبواب الماضي المعتمة ولا تعود سوى ذكرى
أحالت الحرب الليالي أكثر سوادا والصباحات أكثر كآبة تمر الأيام ببطء والأمل يختنق.. لتتوقف هذه الحرب اللعينة
أقول وداعا للعيون التي أحببتها حتى اليوم والتي رافقتني طوال أيامي مثل النجوم وكلما عدت إلى ماضيّ بدا لي أنها كانت حقا سبب حياتي الوحيد
ثمة لحظات نفكر فيها بأننا نحسد الموتى كما لو أن لا وجودهم لم يكن سوى لحظة راحة, في سلام عذب لا ألم فيه
أن تكونَ شاعراً الديوان الأخير للشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت والحائز على جائزة نوبل 1984 .. ديوان لا بأس به لشاعر متمكن طبعا ، فهو يكتب الشعر أكثر من 60 عاما .. قصائده سلسة .. يتحدث عن الحب ، الحرب ، السلام ، الإنسان والوطن .. عن العالم الذي عاش فيه ، عن النضال الذي خاضه مع أصدقائه الشعراء والأدباء .. وعن براغ وشوارعها ومدن تشيكية أخرى لا أعرف حتى مكانها على الخريطة .. هناك أبيات حالمة ، وأبيات مليئة بالوفاء لأصدقاء ماتوا منذ زمن طويل هناك بحث طويل عن الأمل ، والسلام في أنقاض بلد دمرته الحروب ..
**
أعرف ليست الحياة سوى ودَاع مستمر لا تعرف العصافير هذا الإحْسَاس، تغني ما يطيب لها على أي غُصن وتشعرَ بالسعادة .. ....
العمل الأخير لياروسلاف سيفرت حامل نوبل 84 و هو في نهاياته يقول الكثير عن براغ و طفولته و ما خلفته الحروب و الزمن. يمجّد الشعر - و هو خليق بذلك - و يذكرنا بأن استعارة مدهشة أجمل و أثمن بكثير من خاتم ذهبي و يحيي أصدقائه الشعراء الذين غادروا مبكراً بمرثية يعنونها بتحية لفلاديمير هولان. يعود كثيراً لبراغ و الجنون الذي غمر العالم مطلع القرن المنصرم و ما أعقبه من دمار و قتلى ليثني على الليل بسكونه الذي يدني الأموات. يسهب في حكاياه العاطفية في شبابه و أفكاره الحالمة حين يقول : " كم من مرة فتحت ذراعيّ / كي لا أحتضن سوى هذا الهواء / الذي اجتازته لتوها / حاملةً ابتسامتها الناعمة / إلى الغرفة المجاورة " ثم يعود ذلك الثمانيني الطاعن في السن : " اليوم حين أضع وجهي العجوز في يدي / أشعر بجلاء فوق الأصابع باستدارة جمجمتي / قبلاً ، لم أكن أفكر بذلك مطلقاً / ما من سببٍ يدفعني لذلك "
في آخر مقدمة هذا الكتاب : " ثمة شعر يبقى منه شيء حين ينقل ، و ثمة شعر آخر يضيع كليا .. سيفرت من شعراء الفئة الثانية ، ربما لأن اللغة حاضرة بقوة في عالمه الشعري . "
تبدو هذا العبارة التي اختتمت بها المقدمة ملخصة لمشكلة الترجمة ، و لدي شعور داخلي - انا لا اعرف النص الأصل - أن الترجمة سيئة .
في الديوان عالم جميل .. براغ و الحرب و الحب ، كلها إشارات ، لأجل ثقة عمياة بطاقة الشعر تتحول إلى عوالم باطنية لديها ما أبحث عنه ..
يتقاطع هذا الديوان مع أزمة كونديرا مع الوطن .. رائحة تشيكوسلوفاكيا ال " بلا هوية " ، مرة سألني أحدهم : ماذا كانت ستعني لنا " براغ " لولا ميلان كونديرا ؟
شعر جارسلوف ملئ بقصص لا يستطيع كتابتها إلا جارسلوف بطريقته في الكتابة رغم أنني قرأت هذا الكتاب بترجمة فقط إلا أن المعاني عموما لم تخدش ولو أن هناك خسارة في الجانب البنيوي و صوتي للقصائد لكن هكذا الترجمات لم أعطه 5 نجمات رغم أن من حقه حصول عليها لأن القصائد في بعض المرات أحسستها تخرج عن نفسها وهذا قد لايكون مشكلة الشاعر ربما هي مشكلة المترجم ولكن هذا تقييمي
كل ما يغادرنا ويغور في الماضي يفقد في طريقه جزءا كبيرا من ملكياته. يشجب الألم، ننسى الخطيئة، يتخلل النبيذ والقبل المسمرة تحت القبة السماوية تصير إزعاجا . عندما كنت أحلم بذراعيك، كنت أبدع قصائد، أذرع غرفتي وألقيها على نافذة فارغة. آه . أي قصائد هي؟ لم تكن كثيرة الجودة، لكنها مليئة برغبة شرهة وبكلمات شغوفة. تضغطين راحتك على فمي کي اصمت وتدافعين بحدة عن أذنتيك الصغيرتين المتفاجئتين في حين طرف لساني كان يتوه في ثنياتهما الزهرية كما لو يضيع في متاهة . غالبا ما كنت أنام على قلبك متنشقا بشراهة عطر جلدك الحارق . **
غالبا ، ما بحثت عن الحب تلمسا مثل الذي فقد بصره ومثل الذي - على أغصان شجر التفاح - يبحث عن استدارة الفاكهة التي تحلم بها راحة يده . ومع ذلك ، أعرف أبياتا قوية كأنها تعزيمة للجحيم تدفع حتى أبواب الجنة همست لها بعينين مندهشتین. كيف إذا لن ترفع الأيادي المذعورة الضعيفة التي تمنع الأذرع عن احتضان الحب! لكن إن سئلت امرأتي ما هو الحب لربما تهالكت من الدموع . **
بدوره ، الحب الكبير ، يخمد ذات يوم. رغم أن ما من عاصفة في العالم يمكن لها أن تقتلع ، بدفعة واحدة ، آثاره المضيئة .
" وأقول وداعاً لأناشيد العصافير أمام النافذة لعطر الورود وداعاً للعيون التي أحببتها حتى اليوم والتي رافقتني طوال أيامي مثل النجوم وكلما عدت إلى ماضيّ بدا لي انها كانت حقا سبب حياتي الوحيد." ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
" ليست الحياة إلا وداع مستمر. لا تعرف العصافير هذا الإحساس، تغني ما يطيب لها على أي غصن وتشعر بالسعادة."
"ثمة شعر، يبقى منه شيء، حين ينقل، وثمة شعر آخر، يضيع كلياً.."
كما هو معروف لدى الكثير إن ترجمة الشعر من لغتهِ الأم إلى لغةٍ أخرى تفسد الكثير من شاعريـة النص و صورهِ الحقيقية و معانيـهِ الغنائية التي كانت عليه إلا أني لامست بعضاً من المعاني الخلابة في شعرِ ياروسلاف : "مثل وريقات وردةٍ ذابلة ، تطير الليالي من حيواتنا بلا هموم .. لتحط أمام أبواب الماضي المعتمة ، و لا تعود .. سوى ذكرى نصف شفافة " الشاعر التشيكي الحاصل على جائزة نوبل للأداب 84 ، هنا ياروسلاف يتحدث في ( أن تكون شاعراً ) عن الوطن و بالتحديد براغ الذي أخذت النصيب الأكبر من شعره .. يقول : "الليل شلال نجوم ينهمر على المدينة لكن شخصٍ ما ، من فوق كتفي أَمرَ بلهجةٍ محتقرة .. لا أعرف من .. أعطوه عوداً ، و ليحاول أن يغني "
"هذه الليلة سأحلم بأنها حاصرت براغ من جميع الجهات ، و بدأت التقدم إلى قلبها ، تريد إلتهام حائط الجوع و أشجار البلوط المنتصبة على طول الطريق و أن تعض العشب الريان و كل أحواض الزهر "
أيضاً يتحدث عن الشعب الذي كان يعاني حينذاك من إراقةِ الدماء و الحرب الذي عاشها التشيك في ذلك الوقت ، و عن حبيبته الأولى في فترةِ مراهقتهِ ، يقول عنها : "كل الذين عرفتهم فيما مضى ، كانوا قد رحلوا منذ زمن ، وحدها فقط هذه الفتاة التي في القبر ، كانت لا تزال حية .. كانت أول امرأة نفحت ، على وجنتي شعلة الشغف المتأجج وحين تدافع بعنادٍ ، عن جمالها السحري ، الذي لم يكن حبي يجرؤ بعد على دخوله ماتت في أول أيام الربيع في التاسعة عشر كانت متواضعة ، ناعمة و حنونة ، يخيفها الحب .. لا الموت " ..
أيضاً رثى أصدقائه الشعراء أمثال : فلاديمير هولان ، يندريتش ، يوسف هورا ، فرانتشيك ..
ياروسلاف الشاعر المناضل ، الحر ، البطل ، قد غنى : "أعرف ، ليست الحياة إلا وداعٍ مستمر ، لا تعرف العصافير هذا الإحساس تغني ما يطيب لها على أي غصنٍ و تشعر بالسعادة " و بكى أيضاً بشعرٍ : "كنت أعتقد أن الشعر في عيدٍ دائم يحميني مثل ملاكٍ حارس ليعرج معي في الغبار و الطين حافظ القدمين " تمنيت لو أني أعرف اللغة التشيكية لأعدت قراءة هذه النصوص بلغتهِ الأصلية ، التي في ظني أن المترجم لم يوفق في نقل النص بمعانيه الصحيحة و صوره الطبيعية و الحقيقة ، لكن على أيةِ حال تمكنت من إنهاء الكتاب بشعورٍ أكثر من جيد .
أول تجربة في قراءة الشعر المترجم تجربة ليست سيئة ، ولن تكون الأخيرة . تعجبت من ان هذا الديوان هو الديوان الوحيد الذي ترجم للعربية للشاعر ياروسلاف سيفرت من بين خمسة وعشرون ديواناً ، يقول المترجم عنه :( قد يكون من أولئك الشعراء الذين ينبغي علينا أن نقرأهم بلغتهم الأصل ، إذ ما من ترجمة إلى لغة أخرى تستطيع ان تقدم هذه الصورة الحقيقية التي كان عليها الشاعر في وطنه ) وانا اظن ان قوله صحيحاً .
الشعر ؛ الجنس الأدبي الذي يُصعّب ترجمته دون أن يفقد الكثير من معناه في رحلة عبوره محيط اللغات المختلفة في " عمق الدلالة " .. اقتباس : علمتني الحياة منذ زمن طويل أن أجمل الأشياء التي يمكنها منحنا اياها الموسيقى والشعر أن استثنينا الحبّ بالطبع .