“دق قلبي و انقبض انقباضة غريبة, فى لحظة بعينها, أثناء قيامي باستجواب ضابط الاستخبارات البريطاني الهارب العائد, ديفيد شيلر, في حلقة استثنائية أذيعت على الهواء من برنامج "سري للغاية" من لندن ليلة السابع من أيلول/سبتمبر عام 2000 و أنا لا أؤمن كثيرًا بأمور الميتافيزيقا. و بعد إنتهاء الحلقة دعوت زملائي في فريق العمل إلى مشروب على شرف ديفيد و صديقته, آني ميشون, و إنضم إلينا زميلي فى مكتب قناة الجزيرة فى لندن , مفتاح سويدان, و الصحفي اليهودي من أصل يمني , يوسي أفيشاي, الذي كان ساعدني كثيرًا على إنجاز تحقيقي فى تعذيب الاسرى المصريين.
ثم دق هاتفي فكان ابن عمي يقول لي فى صوت منكسر: "البقية فى حياتك يا يسري". اسودت لندن فى وجهي فجأة و كرهتها و كرهت التليفزيون و كرهت قناة الجزيرة, وكرهت أصدقائي. كيف يمكن لمثلي أن يأتيه خبر أبيه و هو فى منفى اختياري أن يغالب الدموع لأول مرة فى حياته؟ و كيف يمكن لمثلي يحبسه عمله طوال حياته داخل دائرة من الموضوعية أن يكون موضوعيًا فى لحظة كهذه؟ لقد كان شأنًا شخصيًأ زاد من شخصانيته علاقة خاصة جمعتني بهذا الرجل الطيب الذي لم يعش يومًا لنفسه و رضي أن يموت لنفسه بالسرطان دون أن يعلم به إلا طبيبه.
يتملكني إحساس بالعجز, يكرس إحساس بالذنب يكرس إحساس بالعبثية.كم يمكن أن أدفع مقابل آخر خمس دقائق من عمر أبي؟ ماذا كنت سأقول له؟ و ماذا كان سيقول لي؟ .. يقولون لي أنه حين كان يشاهدني على التليفزيون كان يصعد إلي عينيه بريق . و أعلم أنا علم اليقين أنه مات و في صدره ألف رسالة لي. كم يمكن أن أدفع مقابل أن يتركني الزميلان أحمد منصور و أيمن جاده في تلك الليلة لخمس دقائق أخرى؟ ماذا كان سيقول لي أبي فى أخر عشرين دقيقة رآني فيها؟ .. عشرون دقيقة هي كل ما استطعت ان اقدمه له فى عرس أختي بين حفل إفتتاح مكتب الجزيرة "القاهرة" و موعد الطائرة العائده إلي لندن ليلة 17 أبريل/نيسان 2000. كم يمكن أن أدفع مقابل لقطة أخيرة مع أبي؟ أين كنت سأتخذ موضعي منه؟ عن يمينه؟ أو عن شماله؟ أو تحت قدميه؟ .. يقولون لي أنه كان يحترم قناة الجزيرة و يحب برامجي و يتجنب الحديث عنها. و أعلم أنا علم اليقين أنه كان يتمنى أن أتركها و أعود إلي مصر كي أعيش فى "سلام".
استأذنتك يا ولدي
أن أهبط فى عينيك, و لا أخرج؛
فاعذرني
استأذنتك ألا أسأل: "ما هذا؟"
استأذنتك يا ولدي
كي لا اصبح فى وطني منبوذًا
***
و تداعبني � أذكر-
تنفث فى وجهي خيط دخان,
و تقول:
"لو تفعل يومًا يا ولدي .. لن تبقي ولدي",
لكنّك تهفو ,
و تلملم كفك فوق جبيني,
و تمر إلي إطراقة
***
أعلم أني لست وحيدك
لكنك أنت وحيدي,
كفك و جبيني,
وعيونك و عيوني,
أملك جلدًا و عظامًا و فصيلة دم:
هل تكفي؟
يتملكني إحساس بالعجز يكرس إحساسًا بالذنب يكرس إحساسًا بالعبثية, ابتعدت عنه فى الشهور الأخيرة و لم أكن أدري أنه يموت و لم يشأ هو لي أن أدري, و المقابل "تحقيق مثير يستحق الإعجاب". و يتملكني إحساس غامر بالضآلة أمام لحظات الغضب التي كنت أتخذ منها , بروح التحدي, وقودًا لحياتي. غضب مني مرّة حين غافلته و حولت أوراقي من القسم العلمي إلي القسم الأدبي في الثانوية العامة لأنة كان يريد لي أن أكون مثله طبيبًا. و غضبت منه مرة لأنه لم يكن يعير تفوقي الدائم فى الدراسة أي إهتمام يذكر. و غضب مني مرة حين رفضت أن ألحق به إلي السعودية التي أفنى بها 23 عامًا من عمره القصير. و غضبت منه مرة فى سن المراهقة لأنه لم يزوجني بنت الجيران . و غضب مني مرة لأنني قدمت إستقالتي من التدريس فى جامعة الاقهرة و قررت الرحيل. ثم توقفت عن الغضب منه, و لكنه غضب مني مرة أخرى عندما إلتحقت بقناة الجزيرة.
يومان لا حيلة لابن آدم فيهما: يوم ولد و يوم يموت. نختار عدا ذلك من نعم الله ما نختاره و نعتز بإختياراتنا التس تصنع شخصياتنا و تميزنا عن الآخرين, و نكره كره العمى ما يفرض علينا فى الطريق. لكن ما يثير السخرية أن شيئين آخرين فرضا علينا فرضًا هما فى الوقت نفسه أعز ما نملك فى الدنيا من جواهر و أحبها إلى قلوبنا: الأرض التي ولدنا عليها نحن و آباؤن. فاللهم طهّر أرضي من الفساد و اللهم إغفر لأبي و أسكنه فسيح جناتك.”
―
Yosri Fouda