Mariam Hamad's Reviews > الحرب والسلم #1
الحرب والسلم #1
by
by

** راجع هذه التدوينة:
إذا أردت قراءة المراجعة بجانب خارطة للشخصيات والأحداث التاريخية **
الرهبة هو أول شعور شعرت به ما أن تناولت أول جزء من الحرب والسلم، ولفرط ما كان طاغياً قمت بكتابته على صفحة الكتاب الأولى بجانب تاريخ بدء القراءة. أعتقد أنه يحق لكل قارئ مدرك لأهمية رواية الحرب والسلم (الحرب والسلام في بعض الترجمات) أن يشعر بالرهبة من قراءتها؛ من ناحية لقيمتها الأدبية الكبيرة ومن ناحية لثقل شهرة كاتبها ومن ناحية أخرى لطول الرواية التي يقارب عدد صفحاتها ٢٥٠٠ صفحة في نسختها المترجمة الكاملة. وما جعل الشعور هذا يزداد عندي أن هذه هي أول قراءة لي لتولستوي، ولا أعرف لماذا اخترت قمة نتاجه الأدبي وأطول مؤلفاته كمصافحة تعارف بيننا. لكن شعور الرهبة هذا يبدأ بالتلاشي بعد الفصول الأولى وتحل محله عشرات المشاعر الأخرى التي تتناوب خلال فصول الرواية وأجزاءها. وبعد أن اعتقدت أن الأربعة أشهر التي استغرقتها لقراءة هذه الملحمة التاريخية هي مدة طويلة للغاية، وجدتُ نفسي أستغرق شهراً آخراً محاولةً الخروج من عالمها.
لا يمكن أن نتحدث عن الحرب والسلم بدون ذكر الجملة الشهيرة المرتبطة بها؛ التي لا تنصفها حقها، وهي ما كتبه تولستوي بنفسه في مقدمته: ”ه� ليس برواية، ولا هو بقصيدة، ولا سجل لوقائع تاريخية. إن كتاب الحرب والسلم هو ما أراد المؤلف وما استطاع أن يعبر عنه في هذا الشكل الذي عبّر به عنه.� تولستوي أراد أن يخرج عن التصنيفات ويعيد تقديم التاريخ كما قرأه، لم يكترث بمسمى عمله الأدبي بل قدمه كما هو، وكما هو شأن المبدعين العظام فإن تولستوي لم يكن مقتنعاً كفاية بهذا العمل، لكن التاريخ والقراء هم الذين أنصفوه.
الحرب والسلم هي نتيجة مباشرة لقراءة فنان وأديب للتاريخ، تولستوي قدم لنا فترة زمنية مؤثرة في تاريخ روسيا بمنتهى الإنسانية والواقعية المفرطة والعاطفة الغامرة، ولم يفته أن يطرح التساؤلات الملحة عن الحياة والموت التي لابد أنها أرّقت من عاشوا في تلك الفترة الزمنية وعاصروا تلك الأحداث المروعة المتلاحقة. وهذا هو لب الفرق بين الفنان والمؤرخ، فالمؤرخ بالمقابل يقدم لنا التاريخ متمحوراً حول أخيار وأشرار حسب الطرف الذي يؤرخ لصالحه، وكما يقول تولستوي: ”المؤر� الذي يدرس الدور التاريخي الذي قام به شخص في تحقيق هدف واحد من الأهداف، يقع على أبطال. أما الفنان الذي يدرس أفعال فرد من الأفراد في جميع ظروف حياته، فإنه لا يمكنه ولا يجب عليه أن يرى أبطالاً إنما هو يرى بشراً.�
تولستوي أراد أن يعيد قراءة التاريخ، ما فعله هو أنه قرأ كتب المؤرخين والوثائق الرسمية والمراسلات الباقية من ذلك الزمن، لكن من يقرأ الحرب والسلم يشعر أن تولستوي قد عاد بالزمن إلى الوراء فعلياً ورأى كل شيء! تولستوي دخل قاعات الرقص الأرستقراطية وشاهد الفتيات ينتظرن بشوق من يدعوهن للرقص، وكان متواجداً في بلاط الإمبراطور ومع حاشيته عند اتخاذ أصعب القرارات، كان هناك برفقة نابليون وهو يجتمع بجنرالاته، ووقف في منتصف ساحة قتال معركة أوسترلتز وبوردينو وتجول في شوارع موسكو المحترقة وطارد الفرنسيين مع جيوش الأنصار ثم عاد مرةً أخرى لزمنه وراح يكتب كل ما رآه. وفوق كل ذلك هو لم يكتفي برواية الأحداث بل راح يتساءل عن معناها، راح يلاحظ أبسط الانفعالات والمشاعر والتفاصيل التي لا يلاحظها المؤرخين وربطها بما حدث على أرض الواقع، وجدها مسببات تتظافر مع بعضها ومع غيرها ليتجه سير الأحداث نحو ما حدث.
كلما انغمست في الحرب والسلم كلما تشكلت شخصيات الرواية (سواء التاريخية أو الخيالية) بشكل أوضح وأدق أمام عينيك، فتراهم وتسمعهم وتشعر بما يشعرون به، تشعر بهم كأشخاص حقيقين يشبهونك ويشبهون من حولك. مثلما لدى تولستوي قدرة مذهلة على تقديم الشخصية الخيالية بشكل واقعي للغاية وملموس للغاية، فإن لديه القدرة كذلك على ”أنسنة� الشخصيات التاريخية التي جعل منها المؤرخين أبطالاً وبشراً خارقين (مثل نابليون بونابرت) ينفض عنهم تحنيط كتب التاريخ ويعيد بث الحياة البشرية فيهم، فتراهم بشراً عاديين، يمرضون ويغضبون ويسيؤن الحكم ويشعرون باللامبالاة في أصعب الظروف. في إحدى الفقرات يتهكم تولستوي على المؤرخين الذين يلجؤون لمفهوم ”العظمة� عندما يكون الفعل متعارضاً مع قواعد الخير والعدل، فيقول: ”يقو� المؤرخون: ”هذ� عظيم!� ومنذ ذلك الحين ينعدم الخير والشر ويبقى ما هو عظيم وما ليس عظيماً. فما هو عظيم خير، وما ليس عظيماً شر. والعظمة عندهم هي خاصية تلك الكائنات الفذّة التي تسمى أبطالاً؛ أن نابليون يحس وهو يفرّ في معطفه الدافئ ليعود إلى بيته تاركاً للضياع لا رفاقه وحدهم، بل وباعترافه هو نفسه رجالاً ساقهم إلى هذا المكان، يحس أن هذا أمر عظيم فتستريح نفسه.�
الشخصيات التي نسجها تولستوي من خياله هي ليست خيالية تماما، فبطرس بيزوخوف وأندريه بولكونسكي يحملان ملامح من تولستوي نفسه، ورغم أن أندريه الجامد والكئيب وبطرس الطيب والمندفع يبدوان مختلفين ظاهرياً، إلا أنهما يحملان ذات الروح الساعية لفهم الهدف من الحياة والموت. جميع شخصيات الرواية قادرة على خلق عالمها الخاص وتستطيع إقحامك فيه بكل سهولة، وأنت كقارئ تشهد نضوج هذه الشخصيات عبر الأحداث وتقلب بعض أفكارها ومبادئها تبعاً لما تواجهه. (إقرأ هنا مقال ممدوح عن الحرب والسلم الذي حلل فيه أهم شخصيات الرواية بشكل موسّع وجميل).
وكما هي أحداث الحياة، فإن أحداث الحرب والسلم لا تصل لنقطة نهاية وتترك مفتوحة وقابلة للاستمرارية، بل في الصفحات الأخيرة تجد خططاً ومشاريع للشخصيات تعتقد وأنت تقرأها أن هناك جزءاً خامساً سيكمل سرد ما سيحدث حينها، لكن السرد يتوقف، بينما الأحداث لا تزال مستمرة في مخيلة تولستوي.
ينهي تولستوي ملحمته بعدة فصول قيمة عن تأملاته في التاريخ والمصادفة والسلطة والشعب والحرية. هذه الملحمة العظيمة جاءت لتجيب سؤالاً واحداً: ”لماذ� يتقاتل البشر؟�. هل يستطيع رجل واحد أن يدفع بكل هذه الآلاف إلى حتفها، أم أن التقاتل طبيعة بشرية لا مفرّ منها! إذا نظرنا للتاريخ نظرة عامة شاملة نرى أن هناك قانون أبدي يحكم الأحداث، وإذا نظرنا له نظرة مدققة متفحصة قد نرى أن المسببين هم هذا وذاك. لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون المسبب هو شخص واحد أو مجموعة أشخاص محدودة فقط. في النهاية يجيب تولستوي على السؤال بقوله أن هذه هي طبيعة البشر:
”نح� لا نستطيع أن نقول في كلامنا عن النتائج الأولية للحرارة والكهرباء والذرات ما سبب هذه الظواهر، بل نقول أن هذه طبيعتها، وهذا هو قانونها. وكذلك شأن الظواهر التاريخية، لم تحدث الحرب أو الثورة؟ إننا نجهل ذلك، ونحن نعلم فقط أن الناس لكي ينجزوا هذا العمل أو ذاك يتجمعون في تجمّع معين ويشاركون فيه جميعاً؛ ونقول: إن هذه هي طبيعة البشر، وهذا هو قانونهم.�
إذا أردت قراءة المراجعة بجانب خارطة للشخصيات والأحداث التاريخية **
الرهبة هو أول شعور شعرت به ما أن تناولت أول جزء من الحرب والسلم، ولفرط ما كان طاغياً قمت بكتابته على صفحة الكتاب الأولى بجانب تاريخ بدء القراءة. أعتقد أنه يحق لكل قارئ مدرك لأهمية رواية الحرب والسلم (الحرب والسلام في بعض الترجمات) أن يشعر بالرهبة من قراءتها؛ من ناحية لقيمتها الأدبية الكبيرة ومن ناحية لثقل شهرة كاتبها ومن ناحية أخرى لطول الرواية التي يقارب عدد صفحاتها ٢٥٠٠ صفحة في نسختها المترجمة الكاملة. وما جعل الشعور هذا يزداد عندي أن هذه هي أول قراءة لي لتولستوي، ولا أعرف لماذا اخترت قمة نتاجه الأدبي وأطول مؤلفاته كمصافحة تعارف بيننا. لكن شعور الرهبة هذا يبدأ بالتلاشي بعد الفصول الأولى وتحل محله عشرات المشاعر الأخرى التي تتناوب خلال فصول الرواية وأجزاءها. وبعد أن اعتقدت أن الأربعة أشهر التي استغرقتها لقراءة هذه الملحمة التاريخية هي مدة طويلة للغاية، وجدتُ نفسي أستغرق شهراً آخراً محاولةً الخروج من عالمها.
لا يمكن أن نتحدث عن الحرب والسلم بدون ذكر الجملة الشهيرة المرتبطة بها؛ التي لا تنصفها حقها، وهي ما كتبه تولستوي بنفسه في مقدمته: ”ه� ليس برواية، ولا هو بقصيدة، ولا سجل لوقائع تاريخية. إن كتاب الحرب والسلم هو ما أراد المؤلف وما استطاع أن يعبر عنه في هذا الشكل الذي عبّر به عنه.� تولستوي أراد أن يخرج عن التصنيفات ويعيد تقديم التاريخ كما قرأه، لم يكترث بمسمى عمله الأدبي بل قدمه كما هو، وكما هو شأن المبدعين العظام فإن تولستوي لم يكن مقتنعاً كفاية بهذا العمل، لكن التاريخ والقراء هم الذين أنصفوه.
الحرب والسلم هي نتيجة مباشرة لقراءة فنان وأديب للتاريخ، تولستوي قدم لنا فترة زمنية مؤثرة في تاريخ روسيا بمنتهى الإنسانية والواقعية المفرطة والعاطفة الغامرة، ولم يفته أن يطرح التساؤلات الملحة عن الحياة والموت التي لابد أنها أرّقت من عاشوا في تلك الفترة الزمنية وعاصروا تلك الأحداث المروعة المتلاحقة. وهذا هو لب الفرق بين الفنان والمؤرخ، فالمؤرخ بالمقابل يقدم لنا التاريخ متمحوراً حول أخيار وأشرار حسب الطرف الذي يؤرخ لصالحه، وكما يقول تولستوي: ”المؤر� الذي يدرس الدور التاريخي الذي قام به شخص في تحقيق هدف واحد من الأهداف، يقع على أبطال. أما الفنان الذي يدرس أفعال فرد من الأفراد في جميع ظروف حياته، فإنه لا يمكنه ولا يجب عليه أن يرى أبطالاً إنما هو يرى بشراً.�
تولستوي أراد أن يعيد قراءة التاريخ، ما فعله هو أنه قرأ كتب المؤرخين والوثائق الرسمية والمراسلات الباقية من ذلك الزمن، لكن من يقرأ الحرب والسلم يشعر أن تولستوي قد عاد بالزمن إلى الوراء فعلياً ورأى كل شيء! تولستوي دخل قاعات الرقص الأرستقراطية وشاهد الفتيات ينتظرن بشوق من يدعوهن للرقص، وكان متواجداً في بلاط الإمبراطور ومع حاشيته عند اتخاذ أصعب القرارات، كان هناك برفقة نابليون وهو يجتمع بجنرالاته، ووقف في منتصف ساحة قتال معركة أوسترلتز وبوردينو وتجول في شوارع موسكو المحترقة وطارد الفرنسيين مع جيوش الأنصار ثم عاد مرةً أخرى لزمنه وراح يكتب كل ما رآه. وفوق كل ذلك هو لم يكتفي برواية الأحداث بل راح يتساءل عن معناها، راح يلاحظ أبسط الانفعالات والمشاعر والتفاصيل التي لا يلاحظها المؤرخين وربطها بما حدث على أرض الواقع، وجدها مسببات تتظافر مع بعضها ومع غيرها ليتجه سير الأحداث نحو ما حدث.
كلما انغمست في الحرب والسلم كلما تشكلت شخصيات الرواية (سواء التاريخية أو الخيالية) بشكل أوضح وأدق أمام عينيك، فتراهم وتسمعهم وتشعر بما يشعرون به، تشعر بهم كأشخاص حقيقين يشبهونك ويشبهون من حولك. مثلما لدى تولستوي قدرة مذهلة على تقديم الشخصية الخيالية بشكل واقعي للغاية وملموس للغاية، فإن لديه القدرة كذلك على ”أنسنة� الشخصيات التاريخية التي جعل منها المؤرخين أبطالاً وبشراً خارقين (مثل نابليون بونابرت) ينفض عنهم تحنيط كتب التاريخ ويعيد بث الحياة البشرية فيهم، فتراهم بشراً عاديين، يمرضون ويغضبون ويسيؤن الحكم ويشعرون باللامبالاة في أصعب الظروف. في إحدى الفقرات يتهكم تولستوي على المؤرخين الذين يلجؤون لمفهوم ”العظمة� عندما يكون الفعل متعارضاً مع قواعد الخير والعدل، فيقول: ”يقو� المؤرخون: ”هذ� عظيم!� ومنذ ذلك الحين ينعدم الخير والشر ويبقى ما هو عظيم وما ليس عظيماً. فما هو عظيم خير، وما ليس عظيماً شر. والعظمة عندهم هي خاصية تلك الكائنات الفذّة التي تسمى أبطالاً؛ أن نابليون يحس وهو يفرّ في معطفه الدافئ ليعود إلى بيته تاركاً للضياع لا رفاقه وحدهم، بل وباعترافه هو نفسه رجالاً ساقهم إلى هذا المكان، يحس أن هذا أمر عظيم فتستريح نفسه.�
الشخصيات التي نسجها تولستوي من خياله هي ليست خيالية تماما، فبطرس بيزوخوف وأندريه بولكونسكي يحملان ملامح من تولستوي نفسه، ورغم أن أندريه الجامد والكئيب وبطرس الطيب والمندفع يبدوان مختلفين ظاهرياً، إلا أنهما يحملان ذات الروح الساعية لفهم الهدف من الحياة والموت. جميع شخصيات الرواية قادرة على خلق عالمها الخاص وتستطيع إقحامك فيه بكل سهولة، وأنت كقارئ تشهد نضوج هذه الشخصيات عبر الأحداث وتقلب بعض أفكارها ومبادئها تبعاً لما تواجهه. (إقرأ هنا مقال ممدوح عن الحرب والسلم الذي حلل فيه أهم شخصيات الرواية بشكل موسّع وجميل).
وكما هي أحداث الحياة، فإن أحداث الحرب والسلم لا تصل لنقطة نهاية وتترك مفتوحة وقابلة للاستمرارية، بل في الصفحات الأخيرة تجد خططاً ومشاريع للشخصيات تعتقد وأنت تقرأها أن هناك جزءاً خامساً سيكمل سرد ما سيحدث حينها، لكن السرد يتوقف، بينما الأحداث لا تزال مستمرة في مخيلة تولستوي.
ينهي تولستوي ملحمته بعدة فصول قيمة عن تأملاته في التاريخ والمصادفة والسلطة والشعب والحرية. هذه الملحمة العظيمة جاءت لتجيب سؤالاً واحداً: ”لماذ� يتقاتل البشر؟�. هل يستطيع رجل واحد أن يدفع بكل هذه الآلاف إلى حتفها، أم أن التقاتل طبيعة بشرية لا مفرّ منها! إذا نظرنا للتاريخ نظرة عامة شاملة نرى أن هناك قانون أبدي يحكم الأحداث، وإذا نظرنا له نظرة مدققة متفحصة قد نرى أن المسببين هم هذا وذاك. لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون المسبب هو شخص واحد أو مجموعة أشخاص محدودة فقط. في النهاية يجيب تولستوي على السؤال بقوله أن هذه هي طبيعة البشر:
”نح� لا نستطيع أن نقول في كلامنا عن النتائج الأولية للحرارة والكهرباء والذرات ما سبب هذه الظواهر، بل نقول أن هذه طبيعتها، وهذا هو قانونها. وكذلك شأن الظواهر التاريخية، لم تحدث الحرب أو الثورة؟ إننا نجهل ذلك، ونحن نعلم فقط أن الناس لكي ينجزوا هذا العمل أو ذاك يتجمعون في تجمّع معين ويشاركون فيه جميعاً؛ ونقول: إن هذه هي طبيعة البشر، وهذا هو قانونهم.�
Sign into ŷ to see if any of your friends have read
الحرب والسلم #1.
Sign In »
Reading Progress
May 10, 2018
–
Started Reading
June 10, 2018
–
Finished Reading
October 16, 2018
– Shelved