ŷ

نورة's Reviews > الطريق إلى مكة

الطريق إلى مكة by Muhammad Asad
Rate this book
Clear rating

by
5144725
's review

it was amazing

محمد أسد ذو الأصول النمساوية، والجذور اليهودية، أضاع نفسه ليجدها في الصحراء العربية، كلما ازداد تيها في مفازات الصحراء اقترب من المعنى، وكلما التقى الموت وهبه الحياة، وعندما ارتحل عن مسقط رأسه وجد الوطن، وحينما أطلق روحه عرف الحرية، ولما ابتعد عن زيف المدينة وصل إلى الهدف، لقد تجرد من أي شيء، ليصل لكل شيء.
هذا ما كنت أردده طوال القراءة.

أقرأ النص، ثم أعيد قراءته بصوت أعلى تلذذاً بعباراته، الوصف ساحر بشكل مهيب، سامحه الله فلغته الأدبية تركتني حيرى أمامها، ماذا أقتبس وماذا أدع؟ لذا فقد حاولت أن أتمسك ولو بالقليل في "تحديثات القراءة للكتاب" لعله يعطيك نبذة عن علو كعبه.

يصف أسد بدايات حياته واهتماماته بدراسات التحليل النفسي لا سيما فرويد والذي شكل ثورة علمية في وقته، وكيف أن الحيرة والقلق حلّا عليه بسبب عجرفة وتعالي العلم الجديد، الذي حاول أن يختزل ألغاز الذات البشرية ويحولها إلى سلاسل من ردود الأفعال العصبية.
هذا النوع من ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة من قبل أصحاب أي علم أجده أزمة لعصرنا الحديث، فالعلم أكسب الناس عجرفة وغرورا، ودعاهم لحوسلة الأشياء وتشييء البشر من حولهم، فما عادت التفسيرات الميتافيزيقية مقبولة، وما عاد أصحابها قادرون على حق نسب مشاعرهم وأحاسيسهم لها، كما أفقد العالِم والمتأثر به الشعور بروحه الداخلية، وأقصاها بشكل عنيف أوقعه اليوم في أمراض لا يستطيع العلم التعامل معها.
ما أصاب أسد في شبابه إبان الحداثة هو ما أتلمسه في واقعنا اليوم. يقول أسد بأنه شيئا فشيئا شعر بتعاسته في عالم اعتنق "وثنية التقدم"، هذا العالم الذي أصبح فيه الدين كما وصف: “موسيق� خلفية ملطفة في حياة البشر. يسمح بملازمة الحياة لا التأثير فيها في السعي للحياة الحقة�.
مال للعزوف عن المشاركة الاجتماعية والسياسية، لكن دون انطواء تام، ليصل لمرحلة من عدم الانتماء مع الرغبة العارمة بذلك، لكن لا يدري لمن؟ وأن يصبح جزءًا من كل، لكن لا يدري أي كل؟

من هنا ابتدأت رحلته .. ذكر أسد بلسانه أنه رجل حر طليق، لذا وجد نفسه في الصحراء، لأنها مطلقة، لا نهائية، رحبة، واسعة، أرض جرداء كما هو الفكر الصافي النقي، لذا تصلح أن تكون الانطلاقة.
من يقرأ هذا الكتاب يشعر بذرات التراب تندفع من بين الصفحات، وأشعة الشمس تتسرب من طياته،
والحقيقة أن وجود الصحراء في حياة محمد أسد ليست بمعناها الحقيقي فقط، بل والمجازي كذلك.
الصحراء عظيمة، مهيبة، مخيفة.. ليست مكانا لأحد سوى المرتحل، الجريء، الباحث عن الحقيقة .. الصحراء هنا تتجلى حقيقة ورمزا في رحلة محمد أسد، وفي كل منعطفاته.
بصراحة أنهيت الكتاب وشعور الخروج لصحراء النفود في نجد يجتاحني، ربما شعرت بالغيرة من ذلك الأجنبي الذي أوتي حظا باكتشاف كنز هذه الصحراء، بالعثور على نفسه من خلالها، ذلك الشعور الذي حرم منه أبناء الجزيرة العربية بعد الحداثة، فقد صنعنا جدرانا إسمنتية متينة تقف أمام الصحراء التي أتينا منها، تقف أمام تجرد الرمال، واتساع الأفق.

"أما عرب الصحراء فلا يوجد في صحاريهم وبواديهم الواسعة الممتدة ما يغري بالحلم. الصحراء قاسية واضحة كالنهار لا تعرف لون المشاعر.
لا تهيمن على حياة العربي مخاوف دفينة، وحين يقوم بفعل فإنه يقوم به لضرورة خارجية. نتيجة لذلك لم يتقدم في الإنجاز المادي بنفس سرعة الرجل الغربي، إلا أنه احتفظ بروحه سليمة"

محمد أسد هنا يصف الكرم البدوي، ويتشرب المعاني العربية، تثيره الأمثال الشعبية، والطبائع القبلية، ويتتبع العبارات الحوارية بين الناس ودلالاتها بشكل أحسده عليه، فما عاد العربي يرى عربيته كما يراها أسد، وبات يشعر بالخجل والتنكر لكثير منها، لقد ذاب العربي في سيل الحداثة حتى فقد شكله، يؤسفني أن أقرأ وصف العربي من عيني أسد، لأتلفت ولا أراها، لقد استثار حميتي للعروبة بوصفه العذب للعربي الأصيل.
أشعر بالخزي، لأنني تعرفت على العرب من خلال عينين أجنبيتين، وربما حين أسأل عن كتاب يصف العرب -البدو منهم خاصة- فلن يخطر في بالي كتاب كهذا الكتاب، والذي كتب بواسطة أجنبي! لقد رأى العرب في أعماقهم، وحينما كتب عنهم، كتب بقلبه.
حديثه جاء منسابا دافئا، يقارن فيه بين العالم الأوروبي والعربي بكثرة، وسيلفت نظرك لنعم أوتيها العرب، لكنهم رفسوها ظانين أن الحضارة لن تفتح لهم أبوابها وهم متمسكون بها.
ستشعر بالحزن مثلي وأنت ترى نفسك خالية من كل ما يوصف به العربي..كرمه، حديثه، بل وصمته، رحابة نفسه، ضيافته.. لا بالصورة المعهودة من حيث الكرم بالمأكل والمشرب فقط، بل بضيافته المطلقة وترحابه اللامحدود، لدرجة يعد فيها الضيف كأحد أفراد العائلة بمجرد أن تطأ قدمه المنزل، حتى أن أسد ذكر مرة إتيانه بمخالفة يعاقب عليها القانون، ومع ذلك ذكرها أمام ضيفه واثقا أنه لن يؤلب عليه السلطة احتراما لقداسة الضيف. لقد تحدث عن الكثير الكثير مما تنصلنا منه، تحدث عن المساحة القصيرة بين العربي وعمله، فالعربي ببساطة يعمل ما يرغب به، لذا فإنه يحبه، يستغرب أسد كيف أن العربي كان يفتح محله حتى في يوم الجمعة، بينما يهرب الأوروبي إلى المقاهي والنوادي في إجازته لاعناً فيها عمله. لقد لاحظ كيف أن العمل بالنسبة للعربي لم يكن ضمن منظومة وسوق عمل يلزم الإنسان بوظيفة ويتعامل معه كما تفعل الرأسمالية -وهذا ما لم يعد له وجود في عصرنا الحالي الذي أصبحت أغنية "هلا بالخميس" شعارا له :)-، لذا أظن "الوضوح" "البساطة" "الصدق" هو ما سحر ذلك الأوروبي الذي ضاق بالحداثة ذرعا وهرب منها للعالم العربي.
لكن آه أشعر بالحسرة، فأنا اليوم أقرأ كتابه كما يقرؤه الأوروبي في زمنه، ألمح الرجل العربي وأقع في غرامه كما تقع الفتاة في غرام بطل خيالي. أتلفت من حولي بحثا عن ذلك العالم الساحر ببساطته، الصادق بتجرده، فلا أراه.

يصف أسد المسلمين اليوم بقوله: "تحت وطأة ثقافة الفكر الغربي، ترتجف أرواح كثير من المسلمين".
وإن كنت تتساءل مثلي هل سيحدث معه مثلما حدث في السابق بدخوله الإسلام لو كانت رحلته في مدن عالمنا العربي اليوم، فسأحمل إليك الإجابة بكل أسف عبر ابنه طلال -والذي كان من زوجته الشمرية- والذي طرح عليه هذا السؤال وهو على فراش الموت: لو كان العرب حين عرفتهم في شبابك مثلما هم الآن هل كنت ستعتنق الإسلام؟
‏فر� عليه: �"أغلب الظن أنْ لا. العرب اليوم غير عرب بداية القرن، لقد أضاعوا الكثير من أخلاقهم." *رواء مكة، ص٢٤٧-٢٤٨، نقلا عن الأحمري.
ألا تشعر مثلي بالحرقة؟ لقد أضعنا تراثنا وطبائعنا، ولم ننل بذلك رقيا ولا حضارة، فأضعنا أنفسنا، ولم نكسب المعركة، وإنما أصبحنا مسوخا لا لباس يميزنا، ولا فكر يهذبنا، فالله المستعان، وإليه نرجو الهدى.

أظن أن سيرته مهمة حتى من الناحية التاريخية لتلك الفترة الهامة في العالم العربي والإسلامي، حيث تنقل في صحراء الجزيرة العربية، وليبيا، ومصر، والأردن، ودمشق، وطهران، واسطنبول، وكابول. ونقل لنا بعينيه الصافيتين ما خلف كثير من الكواليس لشخصيات حساسة ومؤثرة (الملك عبدالعزيز، عمر المختار، السنوسي الكبير -والذي أشعرني بالخزي بحديثه الملهم عنه، إذ لا أعرف عنه الكثير، ذلك الرجل الذي كان يرى أن دعوته السنوسية حينها الأمل في عودة الإسلام إلى قوته تحت قيادة راشدة لولا انتهاك مجاهدي هذه الحركة من قبل الحرب العالمية، وذلك لمشاركتهم في الحرب مع تركيا حينها، والتي أنهكت هذه الحركة بشكل واضح، وحرب التحرير الليبية من المحتل الإيطالي، يقولها وهو الخبير الذي لم يدع بقعة إسلامية لم يطأها، وقد عرف كوامن نفوس حكامها، وقد راوده الأمل حينها في حمل الملك عبدالعزيز لراية الإسلام إلا أنه سرعان ما خبا كما سيتبين لك من خلال التفاصيل التي أوردها في الكتاب، ثم بعد لقائه بذلك السنوسي رأى فيه القائد الحقيقي -لا الملك- تحت راية الإسلام-).
بصراحة من أراد أن يقرأ بدايات تأسيس المملكة العربية السعودية، فليقرأها هنا .. لقد كان عادلا في وصفه، نقيا في نظرته، دقيقا في تحليله، لم يرفع الملك عبدالعزيز فوق قدره، ولم يضعه، ومن كان مشوش التفكير حول بدايات المملكة ورؤيتها حينها، ودعوة محمد بن عبدالوهاب، فليقرأ بعين منصفة لا ترجو شيئا، وهي ليست بعين مطلع من برج عاجي، بل مرتحل بين البدو، وحالٍّ في قصور الأمراء آنذاك، لقد وصف الحقيقة كما هي، والتي أظنها أتعبتنا نحن أبناء المملكة فيما بعد، فيما يسميه البعض بالازدواجية، وما هو إلا آثار لمرحلة مهمة عبرناها، فخلفت فينا آثارها بكل ما تحمله من حسن وقبح، صدق وتناقض. لقد تأسست المملكة كما وصفها أسد بنية صادقة في محاولة تحرير الناس من كل بدعهم وأهوائهم، إلا أن الشدة والغلظة في العربي أوقعته في أمرين: الأول: اهتمامه بتنفيذ الأوامر حرفيا دون النفاذ لجوهرها، والثاني: شدته وغلظته في التعامل مع الأخطاء. وبالرغم من ذلك فإن بدايات السعودية أعطت بقية الدول المسلمة أملا بهذا القائد المجدد لتنتشر دعوته في الآفاق، ويحررها من قيود الاستعمار آنذاك. لكن ابن سعود لم يكن أكثر من ملك! نعم .. لقد أنصفه بهذا الوصف، لقد كان ملكا عادلا كريما شجاعا، لكن فكر القبيلة وطبع البدو في الاكتفاء بما في أيديهم أوقفهم حتى عن التخطيط كما ذكر أسد، فقد كان يتحسر على وادي بيشة، والذي كان في رأيه يحمل جواز عبور لمستقبل زاهر، إلا أنه حينما أشار على الملك بالاهتمام به، وأجاب عليه بأن ذلك سيحتاج لوقت طويل -ما يقارب العشرة أعوام- أجاب الملك بأنه وقت طويل، فالبدو مهما كان في أيديهم، فإنهم سيضعونه في أفواههم مباشرة.
كان يحمل صفات قائد القبيلة لا الأمة، واختار أن تكون مملكة سعودية قبل أن تكون إسلامية، فقد أشار أسد إلى أن بعض محاربيه بعد استقرار الأوضاع كانوا يشعرون بالخيبة، فقد رفعوا رايات التوحيد أملا في امتداد إسلامي، ليتوقف المد حينها أمام كنوز الأرض ولذائذها، ويتحول إلى ملك محدود جغرافيا وفكريا، حتى الإخوان الذين قاتلوا في البداية شعروا بالاستياء، إذ شعروا أن الروح الإسلامية كانت في سبيل توطيد ملك دنيوي، نعم هو عادل وشديد الانقياد للنصوص، لكن بكل حرفية، أو هو دعني ألخصه لك بعبارة: "كان يحكم بنص القرآن، لا بروحه"، وهو ما لفت نظر أسد حينها، وما يلمسه الكثير من الشعوب اليوم من الغرابة التي تحيط بالمملكة من اهتمام ملفت بالأحكام الإسلامية، وتساهل مريب في العلاقات السياسية، فجاءت ولادة المملكة خديجة غير مكتملة، ما فتئت الأعناق المسلمة تشرئب لها حتى عادت إلى واقعها محطمة، لعدم نضج التجربة السعودية في تحويل الإسلام لواقع سياسي.
كعادة التاريخ يورث أبناءه تناقض الأجداد، ويوقعهم في حيرة من تعريف أنفسهم، لذا أظن أن أبناء اليوم يعيشون تناقضا مخيفا، عبر ترديد الشعارات الإسلامية والافتخار بالقيادة الشرعية، وبين الواقع السياسي المتلون، والمد الاستغرابي الجارف، والتحكم الاقتصادي بأحكام كانت بالأمس محرمة واليوم محللة، لذا لا يشوبني شك حول بدايات تأسيس المملكة من حيث النوايا الصادقة، لكن المشكلة بانت واتضحت عبر ما نسميه بالفرق الشاسع بين النظرية والتطبيق، الإيمان بالوحي كمصدر، ومصادمة القوة الإمبريالية للغرب في الواقع، وما تتطلبه الحداثة من انفتاح، وما يشعر به الازدهار الاقتصادي من جوع يلتهم الكثير من الأسس التي دعا إليها المؤسس، لكنه لم يستطع توطيدها تحت دستور واضح، ولم تترك له اللعبة السياسية بدا من الانقياد لقواعدها، لأن كرسي الملك لا دين له.
أشار ذلك المحنك أسد إلى أمر مهم ربما بعدم إعماله يتجرع أبناء الجزيرة العربية اليوم في ظل الحكم الملكي سمه، وهو أن يكون الملك على أسس أقل فردية، فتكون الدولة منظمة ذات مؤسسات، لكن الفكر البدوي لم يكن يعمل بتلكم الطريقة، وأظن أن فكرة التوريث في الملك كانت ولا زالت طامة أمتنا، وهذا ما يبدو واضحا ومتكررا في مقابلة أسد للشرك بفكرة الملك، ففهمه الغض للإسلام جعله يستقبح فكرة الملكية التي حاربها الإسلام برد الحاكمية لله، وما سواه عبيد متساوون، لكن البصيرة بالتاريخ تقلل من شعور المرء بالحسرة، فعصر الخلافات قد ولى، ولم تزل السلطة ملكا عضوضا، ومعها سيستمر الشعور الدائم بالمخاطرة مع كل حاكم جديد.
لم يكتف أسد بتحليله الجيد لمستقبل الجزيرة العربية وطبائع أهلها، بل كان يمر على كل قطر ليمتعك بحديثه العميق عما رآه في دواخلهم، عن التاريخ الذي حمله حاضرهم دون وعي منهم، فمن ذلك حديثه الملفت بعد زيارته لإيران عن جذور التشيع وعلاقته بالشعب الذي يعود لأصول فارسية، عن الدافع النفسي خلف تمسكهم بالمظلومية لعلي وآله، عن الأعين الإيرانية التي كانت تلفت نظره بتعاستها المتجذرة لماضٍ سحيق، فهو يرى أنه وبانتشار الإسلام بسلاسة وسرعة كما هي عادته في الانتشار بين الشعوب، فإن الإمبراطورية الفارسية وبعد أن سقطت في أيدي الغزاة العرب -هذا ما يراه الفارسي لا وعيا منه، وإن كانت المعركة عقدية قحة-، وبعد انتشار الإسلام في تلك الأمة بما تحمله من عقائد سابقة تتصادم تصادما واضحا في شعائرها ورمزياتها الباطنية مع الدين الإسلامي، فإن الشعب لجأ ودون وعي منه لما يسميه علماء التحليل النفسي “المبالغ� المضادة� باعتبار الدين الذي دخل به العرب دينا خاصا بهم، وقاموا بإعادة إحياء شعائرهم والثأر لفارسيتهم عن طريق صياغة ذلك الدين من جديد، فتحول الإيمان الذي يمثل للعرب واقعا وإحساسا بالحاضر إلى تحرق للغيبيات والغموض والرمز عندهم، والعقيدة الناصعة بوحدانية الله إلى عقائد غامضة عن التجلي المادي لله فيمن اختارهم وورث ذلك الاختيار لأبنائهم -علي وأبنائه-، وذلك قد يبرر الكره الواضح لعمر خاصة، ذلك الذي بيديه كانت نهاية قوميتهم، وبين أنه بالصورة التي كونها من الإسلام عنه استطاع تمييز كون فكرة التشيع دخيلة عليه، وأن فيها نوعا من محاولة تمييز ذلك الشعب الذي كان يملك تاريخا عريقا عن أولئك العرب الدخلاء، فنتج عن ذلك تلك العقيدة الجديدة التي يملؤها الحزن والسوداوية، القائمة على مأتم يعود لقرون خلت، هذا المأتم في أعماقه أقيم تحسرا على ضياع تلك الإمبراطورية، وزوال عرشها.

إن كنت مثلي تعشق القراءة في قصص المسلمين الجدد، تبحث عن الشعور المتدفق بالنور الجديد، والفكر المرتقي في معراج الحقائق، عن لذة التعرف على الذات، على الحق، على الله .. عن لحظات الخطو الأولى في طريق التدين، وعن كيف وصل هؤلاء إلى ما ولدنا عليه وتوارثناه، فسلبنا بذلك لذة المعرفة الجديدة، والنور بعد الظلام، فستهيم في هذه السيرة، وستشعر بالطمأنينة تمرغ قلبك كلما توصل لقيمة إسلامية تلقاء نفسه، كلما عرفها بفطرته الصادقة وعقله المتوقد، لدرجة أصبح فيها يستطيع تمييز الشعيرة الإسلامية عن غيرها بشكل مدهش، كعدم تقبله للحركات الصوفية الانفعالية التي رآها غير متسقة مع صورة الإسلام التي رسمها في ذهنه، ليتأكد بعدها من نقاء صورته، واعتدال أدواته.
كان أسد شبه مسلم كما يذكر، وكما يؤكد ذلك أصحابه المسلمون حين يسمعون أفكاره، ويلجون إلى مفاهيمه، وقد ذكر هو بنفسه اقتناعه بالإسلام الذي جمع له بين روحه وجسده في رباط منسجم، وهو ما كان مفقودا لدى اليهودية والمسيحية، أو موجودا فيهما بلا اتزان، لكن الحائل الذي يقف بينه وبين اعتناق الدين كان هذا السؤال :”ه� القرآن كلام الله أم كلام رجل عظيم يدعى محمد؟� هو لا يشك في عظمته كمنهاج، بل ويستقي كثيرا من حكمه، لكن فكرة الإيمان بقداسة الوحي ونسب كلامه لله هي ما كانت تحتاج لبراهين لديه -والمهتم بالدراسات الفكرية التي تعنى بالله والدين والرسالة يعرف أن الخطوة الثانية بعد إثبات الألوهية هي إثبات الرسالة، فخطواته كانت متوقعة وطبيعية ومتعقلة-، لذا يذكر أنه بعد عودته لبرلين، وبينما كان في قطار الأنفاق يتأمل ملامح الناس التعسة رغم حسن ملبسهم، ومسحة الكآبة البادية على وجوههم رغم جودة معيشتهم، وعند عودته للمنزل والذي تركه بعد قراءة معتادة للقرآن، أراد أن يغلق المصحف فإذا بعينيه تقع على سورة التكاثر، يقول: وقفت لحظات مشدوها وأنا أحبس أنفاسي، وناولته لزوجتي، وقلت لها:”اقرئ� هذا. ألا تجيب هذه السورة عما رأينا في قطار الأنفاق؟"
يقول بعدها أنه أيقن أن الصوت الصادر من القرآن أعظم كثيرا من صوت محمد.
ياااه ما أجملها وأرقها من لحظة! هذه اللحظة الوجدانية العظيمة أجدها تتواجد كثيرا في قصص المسلمين الجدد، نور القبس الإلهي له وقع مميز على أبصارهم، وصدق بحثهم وعزيمة خطاهم لا يضيعها الله أبدا، فيمتن عليهم بلحظات نورانية قد تعيش عمرا من الزمن دون أن يكتب لك الالتذاذ بقبسها، وهذه يهبها الله لمن يشاء من عباده، وقد تأتي على صورة رؤيا -كما حدث لصاحبنا كذلك-، أو مشهد خاص يشهد الله فيه عبده على أمر يخصه به دون غيره، أو حلاوة يشعر بها وهي تتسلل إلى قلبه، فاللهم جدد الإيمان في قلوبنا، واجل عنا مرارة التقليد والاعتياد.

حين وصل أسد لمكة، للكعبة تحديدا نقطة الوصول الأخيرة لأي مسلم، ذكر كيف أنه شعر برهبة عظيمة أمامها لم يشعر بها في مساجد أخرى كانت تتميز بقبب وزخارف مدهشة، يرى أن الكعبة تقترب حقا من المفهوم الإسلامي، التخلي عن كل ادعاء بشري للجمال الفني، فإن أبسط شكل يمكن أن يدركه العقل البشري هو أعظم شكل يتناسب مع عظمة الله، حتى بعد رؤيته لها من الداخل، يذكر أنها كانت بسيطة جدا، لتؤكد المعنى الحقيقي الذي ترمز له "الوحدانية لله" وتوجه المسلمين جميعا لها كقبلة تجمعهم. يذكر أسد كيف أن الفرح والذهول يحيطان بك من أول نظرة ترى فيها بيت الله، وأن كل الأفكار التي عبر عنها لم تخرج إلا بعد زمن طويل، أما اللحظة الأولى فلم تتعدَّ شعور الشده مخلوطا بالفرحة والبهجة.
غادر أسد الصحراء العربية إبان انفتاحها على عالم النفط، فقد ذكر أسد أن الملك حينها سمح للفرنجة بالتنقيب عن النفط، وقد ساوره ذلك الشعور حينها بأن هذه البلد لن تظل على ما هي عليه الآن. وهذا ما حدث يا أسد .. لم تعد الحال على ما كانت عليه.

أسد ممن تسلل الإسلام إلى قلبه بهدوء، يصف لحظات تعرفه على الإسلام بقوله: "وكنت كلما عرفت شيئا جديدا من تعاليم الإسلام، أشعر أني أكتشف شيئا طالما كنت أعرفه داخلي دون أن أدرك ذلك"، لذلك كانت الصحراء رمز رحلته، حين تاه فيها وجد ذاته، ليتعرف بعدها على الحقيقة بوجهها المجرد .. كما هي الصحراء تماما.

رحلة محمد أسد تتلخص في التالي:
لقد قصد مكة بجسده، فإذا به يصل إليها بروحه..


*ترجمة رفعت السيد علي عظيمة، من أفضل الترجمات التي مرت علي، لا أعلم هل تلك العذوبة المنسابة، واستخدام الألفاظ بروح عربية كان منشؤها محمد أسد أم المترجم، لا أعلم!
لم أجد فيها ذلك الانقطاع المعتاد بين العمل وترجمته، فالروح هنا تشعرك بأنها تتجسد في الحرف العربي بسلاسة، ذكرتني بترجمة المنفلوطي العظيمة لروايات الأدب العالمي، إذ كانت ترجمة مميزة، لا تهدف لنقل الحرف من لغة إلى لغة، ولكن صياغة الجملة من جديد بروح اللغة المترجم لها.
30 likes · flag

Sign into ŷ to see if any of your friends have read الطريق إلى مكة.
Sign In »

Reading Progress

March 28, 2019 – Shelved
March 28, 2019 –
page 24
4.34% "“ل� تحس بعظمة الحياة وسطوتها إلا في الصحراء، الاحتفاظ بالحياة صعب وعسير فيها، والحياة فيها كالهبة، كالكنز، تحفل بالمفاجآت. تدهشك الصحراء على الدوام بمفاجآتها حتى لو كنت خبيرا بها لأعوام طويلة�"
March 28, 2019 –
page 30
5.42% "“ل� يكن فقط طيب القلب، فطيبة القلب وحدها أحيانا ما تبدو رخيصة�"
March 29, 2019 – Started Reading
March 29, 2019 –
page 74
13.38% "لا بد أن تكون القهوة الجيدة "مرة كالموت ملتهبة كالعشق"."
March 29, 2019 –
page 86
15.55% ""وربما كان ميله إلى الوحدة ناتجا من إدراكه الدائم أن اهتماماته الحقيقية قد خذلته"

ما أدري دقة العبارة وإصابتها للمعنى يشكر فيها المؤلف أو المترجم، لكن في كلا الحالتين يخرب بيتهم جميعا 💔"
March 29, 2019 –
page 94
17.0% ""على المستوى الفردي أدى عدم استقرار المبادئ والأخلاق إلى فوضى أخلاقية وغوغائية فكرية، كما أدى بالأفراد إلى البحث عن مفاهيم شخصية وفردية لما يمكن أن يحقق حياة سعيدة متوازنة"

تشخيص دقيق لفترة ما بعد الحرب العالمية.."
March 29, 2019 –
page 125
22.6% ""رمز الجنة ستجده في كل الديانات في صور تخيلية مختلفة، إلا أن المعنى هو ذات المعنى، وهو تحديدا الرغبة في التحرر من القدر والمصير""
March 29, 2019 –
page 160
28.93% ""أما عرب الصحراء فلا يوجد في صحاريهم وبواديهم الواسعة الممتدة ما يغري بالحلم. الصحراء قاسية واضحة كالنهار لا تعرف لون المشاعر.
لا تهيمن على حياة العربي مخاوف دفينة، وحين يقوم بفعل فإنه يقوم به لضرورة خارجية. نتيجة لذلك لم يتقدم في الإنجاز المادي بنفس سرعة الرجل الغربي، إلا أنه احتفظ بروحه سليمة""
March 30, 2019 –
page 221
39.96% "“الصحرا� جرداء، واضحة، نقية، لا تعرف المصالحات. تمحو من قلب المرء رغبته في متع الحياة وتحولها إلى أشكال مزيفة واضح زيفها، وبذلك تحرر المرء وتجعله يستسلم للمطلق في جوهره لا في صوره�"
March 30, 2019 –
page 245
44.3% "من أفضل ما قرأت في تحليل الحركة الوهابية، الأكثر صدقا ونقاء في عدسة الكشف، يصفها فيقول:
بأنها كانت حركة إصلاحية هامة يدفعها التصحيح والتجديد في زمن تسرب فيه الفساد للمفاهيم الإسلامية آنذاك، لكن أعاق نموها الطبعي حتى تصبح قوة روحية متنامية: ضيق النظر وإجبار الناس على أداء الشعائر حرفيا دون النفاذ لجوهرها، وتعصب الشخصية العربية بعدم تقبل أي رأي آخر واعتبارهم القيمين على العقيدة وحدهم."
March 30, 2019 –
page 246
44.48% "يكمل حديثه عن الحركة الوهابية والتي كان يرى فيها الأمل لتحرير الإسلام تحريرا كليا من كل ما شابه من مدخلات وخرافات، والتي كان لها الأثر على حركة أهل الحديث في الهند، والحركة السنوسية في شمال أفريقيا، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، إلا أنها برأيه تسرب لمعناها الروحي الفساد في اللحظة التي حصلت فيها على القوة الاجتماعية والسياسية ، فبالحصول عليهما تحولت الأفكار لمومياوات محنطة، وأصبح أتباعها يخدمون القوة لا الروح."
March 31, 2019 –
page 270
48.82% ""كان يتضح أكثر أن ابن سعود لم يكن أكثر من ملك"

حديث شجي ومهم ربما لي ولأبناء وطني فيما يخص الصورة المشوشة للبدايات والتأسيس، سأحاول في مراجعتي تلخيص نظرة أسد للملك عبدالعزيز، والصورة السياسية آنذاك للأوضاع، عن النوايا والتطبيق، عن صورة منصفة لقرارات صنعت ما يسمى اليوم "المملكة العربية السعودية" وخلفت آثارا كبرى نعيش تحت وطأتها اليوم.
إنصاف، وحسن تشخيص أجده لدى هذا المدعو أسد."
March 31, 2019 –
page 280
50.63% ""حيوان الجربوع الذي يستطيب أهل نجد لحمه، وقد تذوقته وكان لحمه بالفعل من أطيب ما تذوقت من لحوم"

طيحوه أهل نجد في الجرابيع والضبان 😂❤️"
April 1, 2019 –
page 409
73.96% ""كانوا مهذبين ذلك النوع من التهذيب الذي يبدو كأنه ينحني أمامك من فرط تأدب، إلا أنه في الواقع يوقفك على بعد ذراع.
يغلب عليهم العبوس ولا يبادرون بفتح حوار مع غريب، وإذا تحدثوا فإن شفاههم هي التي تتكلم، أما أرواحهم فإنها هناك في خلفية بعيدة، تنتظر، وتزن الأمور وتوازنها، منفصلة عن الواقع المعيش...""
April 2, 2019 –
page 423
76.49% "“كن� أدرك بالطبع أن الزواج يعد في نجد حلا لأي نوع من أنواع الحيرة�

المسكين كلما اشتكى أمرا أشار عليه أهل نجد بالزواج :)
أظن أن هذا الحل لا يزال مطروحا في البيئة النجدية، في التعامل مع الزواج كحل مع كل مشكلة .. لا أعلم ما وراء هذا الاعتقاد والذي أظنه يستحق سبرا."
April 2, 2019 –
page 452
81.74% "“إ� الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم�

يرى أسد أن هذا هو العقد الاجتماعي الوحيد المسجل تاريخيا بين الرب وخلقه."
April 2, 2019 –
page 501
90.6% ""كان يبدو واعيا بكل خلجات نفسه أن كل إنسان يحمل مصيره داخله، أينما حل، وكيفما فعل"

محمد أسد يصف عمر المختار ❤️
آه يا سادة لقد فعل الأوروبي بي الأفاعيل، تنقل بين صحاري العالم العربي، وأخذ قلبي معه .. لا زلت مندهشة من نوعية الرجال العظام الطين يلتقي بهم، ومن عجيب الطرق التي يسلكها!"
April 3, 2019 – Finished Reading

No comments have been added yet.