يوسف الأندلسي's Reviews > قصة الحضارة: الشرق الأدنى
قصة الحضارة: الشرق الأدنى
by
by

-- بعد تلك السياحة التاريخية الممتعة التي ظفرنا فيها بروح الشغف و التشويق ، و أصبنا فيها ما لذ و طاب من كل ما هو مفيد و نفيس ، حيث سار بنا ويل ديورانت سابقا من خلال الجزء الأول من ( قصة الحضارة ) و طاف بنا في أغوار التاريخ المجهولة ، و قام بتعريفنا على البدايات الأولى للحضارة الإنسانية بصفة عامة و وجيزة ، و هي و إن كانت مقدماتها و نتائجها مبنية في مجملها على الظنيات و التخمينات كما يصرح المؤلف بذلك و بكل صراحة و موضوعية ! إلا أن ذلك في حقيقته يعتبر هو كل ما لدينا من تصور حول تاريخ الخطوات الأولية للحضارة البشرية و بدايات الإنسان الأولى على مسرح الأرض حتى الآن .
-- يواصل ويل ديورانت في هذا الجزء السير على نفس السياق في تفصيل أحوال الحضارات و تواريخ الأجناس البشرية و التطورات العلمية و الصناعية التي كانت وليدة الإبداع و الإختراع اللذين لا يزالان يمثلان القوة الدافعة في نفس الإنسان لطلب الرقي و تحصيل السمو الذي يرتقي بحضارته من حضيض البدائية إلى سلم التحضر و المدنية ، و قد خصص هذا الجزء بالتحديد للحديث عن حضارات سومر و مصر و بابل و آشور و تاريخ اليهود و بلاد فارس . و لم يكن اختياره لهذه الحضارات اعتباطيا ! بل لأنه كان يعتقد بأسبقيتها التاريخية في ميادين العلوم و المعارف و الصناعات ( كما ذكرنا ذلك في مراجعة الجزء الأول من الكتاب ) و أن البشرية عموما و أوربا خصوصا تدين للشعوب الشرقية بالكثير في تحضرها و تقدمها .
-- قسم المؤلف هذا الجزء إلى سبعة أبواب و وضع تحتها مجموعة من الفصول ( على عادته ) ناقش فيها الجوانب السياسية و صور الحياة الإجتماعية و أحوال الإقتصاد و القانون و العلوم و الآداب و الفن و الصناعة و تواريخ الحروب و الصراعات و آفات التدهور و السقوط و الإنحطاط لأهم الحضارات الشرقية التي اعتبرها الأساس التاريخي الذي قامت عليه نهضة العالم و أوربا ، حيث نشأت في مهدها الحرف و الصناعات و الشرائع و الحكومات و علوم الرياضة و الطب و الهندسة و الفلك و التقويم ، و عرفت فيها الحقن الشرجية و طرق الصرف الصحي ، و ألفت في زمنها الكتب و شيدت المكتبات و المدارس ، و نشأت في ظلها الآداب و الموسيقى و النحت و هندسة البناء و غير ذلك من المعارف التي استمدت منها الإنسانية تحضرها على مدى القرون .
-- و أول هذه المدنيات القديمة التي استهل بها المؤلف بداية الجزء الأول هي الحضارة السومرية العريقة التي قام شعراؤها بتدوين تاريخها القديم مسطرا في تلك الحكايا الأسطورية الجميلة التي تتضمن قصصا عن بدايات الخلق و عن جنة بدائية و عن طوفان مروع غمر هذه الجنة و خربها عقابا لأهلها على ذنب ارتكبه أحد ملوكهم الأقدمين . و هنا يلفت ديورانت انتباهنا إلى ما جاء في تلك السجلات القديمة المكونة من ألواح الطين التي كان الكهنة يحتفظون بها و التي وجدت في خرائب أور عن قصة دقيقة عن قيام ملوك المدائن و تتويجهم و انتصاراتهم و جنائزهم الفخمة في مدن : أور و لكش و أرك . و كانت هذه المدن محافظة على استقلالها الذاتي إلى أن ازدهرت تجارتها و عظمت ثروتها فاستحال عليها عندئذ أن تظل منفصلة عن بعضها ، فنشأت منها جميعا إمبراطوريات استطاعت فيها شخصيات عظيمة أن توحد المدن و الأقاليم ، و أن تؤلف من كل ذلك وحدة سياسية و اقتصادية . و من الجدير ذكره هنا أن مجتمعها كان مجتمعا دينيا كهنوتيا و كان الملك فيها هو رئيس الكهنة إلى جانب أمراء الإقطاع و كبار التجار . و قد اعتبر ديورانت أن الكتابة ( بالخط المسماري ) تعد أروع ما خلفه السومريون في الميدان الثقافي ، و قد كانت اللغة عندهم صالحة جدا للتعبير عن الأفكار المعقدة في التجارة و الشعر و الدين ، كما لم ينس المؤلف أن يشير و لو بشيئ من الإيجاز إلى أثر هذه الشعوب الآسيوية في الحضارة المصرية القديمة في الدين و الأساطير و الكتابة و صناعة الفخار و نحت التماثيل و غير ذلك . و قد استمرت مدن هذه الإمبراطورية تخرج العشرات من الصناع و الشعراء و الفنانين و الحكماء و رجال الدين ، و انتقلت حضارتها على طول مجرى دجلة و الفرات إلى بلاد بابل و آشور و كانت هي التراث الأول لحضارة الجزيرة كلها . و في حوالي 45 صفحة لخص المؤلف التاريخ الكامل لهذه المدائن و شتى التطورات التي سارت في خلالها عظمة حضارتها إلى أن أفلت و انزاحت عن مسار التاريخ العام .
-- و في الباب الثاني يتناول المؤلف بشيئ من التوسع البسيط حضارة هبة النيل العريقة التي كان لها شأنها و صداها . و من حرارة طيبة و تمثال أبي الهول و أهرامات الجيزة و آثار الأقصر و معابد الكرنك و أخبار الملكة حتشبسوت و مينا و رمسيس الثاني و خفرع و أخناتون و بطليموس و كليوباترا يسير بنا المؤلف على خطى وئيدة ليلخص شيئا من تاريخها المترامي الأطراف ، و هو يلخص عظمة هذه الحضارة في تلك البنايات الضخمة التي لا تزال تذهل الواقفين على عتباتها من الزوار و السياح بقوله ( ألا ما أعظم ما كان يتمتع به أولئك المصريون القدماء من ثراء . و ما أقوى سلطانهم و أعظم حذقهم في طفولة التاريخ نفسها ! ) ، و قد كان النظام السياسي في مصر الفرعونية قائما على حكم الأسر ، حيث تشمل كل أسرة مجموعة من الملوك ( الفراعنة ) ، و كان من هؤلاء الملوك شخصيات قوية كان بعضهم بنائين عظاما شيدوا الأهرامات و القصور و الهياكل و خلفوا بعدهم للفن آيات عجيبة ، و كان منهم الفاتحون الكبار و الغزاة المغامرون الذين توسعوا في الغزو و الفتوحات شرقا و غربا ، و كان منهم كذلك الملوك الضعفاء و ذو الشخصيات الفاشلة . أما عن الحالة الإقتصادية للمصريين القدماء فقد كان أساسها متمثلا في الزراعة التي قاموا بتطويرها و كذا الصناعة التي بلغت مبلغا عظيما عندهم ، و كان فن الهندسة بالخصوص عند المصريين أرقى من كل ما عرفه اليونانيون و الرومان . إلى جانب الرقي الثقافي و تعميم التعليم و بناء المكتبات و خزائن البردي ( التي احتوت على الرسائل الرسمية و الوثائق القانونية و القصص التاريخية و الطلاسم و الترنيمات ) ، و هذا ما أثمرت نتائجه في هذه الحضارة و ظهرت في ازدهار الأدب و الشعر الديني و الهندسة و الرياضة و الفن و الرسم و النحت و التصوير و غير ذلك . و من الجدير ذكره أن كتابة التاريخ في مصر قديمة قدم التاريخ نفسه ! حيث كان المؤرخون الرسميون يصحبون الملوك و يدونون الإنجازات و الوقائع التي حدثت في العصور التي حكموا البلاد فيها .
-- و أما الباب الثالث الذي افتتحه المؤلف بقوله : الحضارة كالحياة صراع دائم مع الموت ، فقد عاد فيه مرة أخرى للحديث عن واحدة من أرقى الحضارات العراقية القديمة و هي حضارة بابل العريقة ! و التي يعيد أصول عرقها إلى امتزاج الأكديين و السومريين معا ، فقد انتهت الحروب التي نشأت بينهما بانتصار آكد و تأسيس مدينة بابل لتكون حاضرة أرض الجزيرة السفلى بأجمعها . و من أهم شخصيات هذه الحضارة و التي نوه بها المؤلف كثيرا هي شخصية الملك حمورابي الفاتح المشرع الذي دام حكمه ثلاثا و أربعين سنة . و قد كشف قانونه في أنقاض مدينة السوس سنة 1902 م الذي احتوى على أرقى القوانين و أعظمها استنارة بأقصى العقوبات و أشدها وحشية . كان البابليون كما يقول المؤلف مجتمعا راقيا جدا ، فقد أوتوا نصيبا عظيما من الثروة و النعيم و خلع شعبهم على نفسه كل مظاهر الزينة و الفخامة ، و لهذا لم يعتبروا تاريخيا كمجتمع زراعي ، حيث كان الإشراف على فلاحة الأراضي الزراعية موكولا للمستأجرين و الرقيق ، فقد كان الأهالي من غير الفلاحين القلائل يعتمدون على الصناعة بكثرة ، فكانوا يحفرون الأرض و يستخرجون من باطنها : النحاس و الرصاص و الحديد و الفضة و الذهب ، و إن قطع القرميد التي طليت و صقلت بأعظم عناية و الحجارة البراقة و أدوات البرونز الدقيقة و التطريز الجميل و الأقمشة المزركشة و السجاجيد الوثيرة كلها تخلع عليها ثوبا فنيا من الجمال و الجلال ، كما كانوا ينسجون القطن و الصوف و كانت الأقمشة تصبغ و تطرز بمهارة جعلتها من أثمن السلع التي بالغ كتاب اليونان و الرومان في وصفها و مديحها حتى جعلوا مدينة بابل في موضة الملابس و المدنية كمدينة باريس اليوم ، و لهذا كثرت الصناعات و الحرف و تألفت في عهد حمورابي خصوصا نقابات خاصة بالصناع . و لكن حكومات هذه الحضارة لم تفلح في إقامة نظام اقتصادي في أرض الجزيرة كالذي أقامه الفراعنة في مصر ، حيث كانت التجارة تتعرض للعديد من الأخطار و تفرض عليها شتى الإتاوات . و من الطبيعي ( كما استنتج المؤلف ) أن مجتمعا كهذا لا تدور بخلده فكرة الديموقراطية ، ذلك أن نزعته الإقتصادية تتطلب أن تكون له حكومة ملكية مطلقة تسندها الثروة التجارية أو الإمتيازات الإقطاعية . أما الكتابة البابلية التي حيرت العلماء فظلوا مئات السنين عاجزين عن حل رموزها فقد نشأت كلغة سامية من تطور لغتي سومر و أكد ، و لكنها كانت مجرد وسيلة لتيسير الأعمال التجارية . إلا أن أروع الآثار الأدبية التي خلفتها هذه الحضارة هي ملحمة جلجميش الذائعة الصيت ، و تتألف من طائفة من القصص ضمت بعضها إلى بعض في عهود مختلفة . و على الرغم من كون البابليين مجتمعا تجاريا إلا أنهم توصلوا في الكثير من العلوم و المعارف إلى العديد من الإكتشافات في علوم الرياضة و الفلك و الجغرافية و الطب .
-- و وصولا إلى الباب الرابع الذي يستعرض فيه ديورانت موجزا لتاريخ مدينة آشور و هي الأخرى حضارة عراقية كان لها صيت عظيم ذات يوم في غياهب الماضي . و التي يقول عنها المؤلف إن شعبها كان يحيا حياة عسكرية شاقة أرغمهم عليها أعداؤهم المحيطون بهم من كل جانب ، و قد ظلوا مائتي عام يسيطرون بقوتهم الوحشية على بلاد الشرق الأدنى ، إلا أن إمبراطوريتهم هذه سمحت لأقاليمها بالإحتفاظ بحظ موفور من الحكم الذاتي المحلي ، و من شأن هذا النظام المفكك أن يؤدي كل تراخ في سلطته المركزية إلى الثورات الشعبية ، و من أجل هذا كان الجيش أقوى دعامة للدولة و أهم مقوماتها ، و لم تكن الحياة الإقتصادية عند الآشوريين تختلف كثيرا عنها عند البابليين ، و ذلك لأن هؤلاء و أولئك لم يكونوا في كثير من الأحوال سوى أبناء الشمال و أبناء الجنوب من حضارة واحدة ، و كان مجتمعهم مقسما إلى خمس طبقات : الأعيان و رجال الصناعة و الطبقة الثالثة تشمل أرباب المهن و العمال و تشمل الرابعة الأقنان المرتبطين بأرض المزارع الكبرى ، و بما أنهم كانوا مجتمعا حربيا فلم يكن جو هذه الظروف ليزدهر فيه من العلوم إلا علم الحروب ، فقد كان الطب الآشوري هو الطب البابلي لم يزيدوا عليه شيئا ، و لم يكن علم الفلك الآشوري إلا التنجيم البابلي ، و معظم الألواح التي عثر عليها لا يصح ( في رأي المؤلف ) أن نسمى محتواها أدبا فأغلبها سجلات رسمية و أرصاد يقصد بها التنجيم و وصفات طبية و رقى سحرية و ترانيم و صلوات و أنساب للملوك و الآلهة . أما عبقرية الآشوريين الحقيقية فترجع إلى الفن الذي بزوا فيه البابليين كثيرا ، فقد حفزتهم الثروة التي تدفقت عليهم إلى البناء و التشييد ، فصهروا المعادن و برعوا في تشكيلها و صناعتها و بالأخص تصنيع الأثاث الفخم و التصوير بالطلاء و فن النقش ، و قد أقاموا قصورهم و هياكلهم على مساحات واسعة من الأرض و كان أعظم المحاربين الستة من ملوك آشور هم أيضا أعظم البنائين منهم .
-- أما عن الباب الخامس الذي استرسل فيه المؤلف في عرض حضارة اليهود و أخبار ممالكهم و حروب ملوكهم ، من أزمان العبودية الطويلة في مصر إلى خروجهم منها مع موسى عليه السلام و التيه الذي قضوا فيه سنوات طوالا ، وصولا إلى استقرارهم في أرض كنعان ( فلسطين ) بعد أن طردوا منها سكانها الأصليين ( العماليق ) ثم استوطنوها و أقاموا عليها مملكتهم التي ازدهرت سياسيا و حضاريا أيام حكم نبيي الله داود و ابنه سليمان عليهما السلام ، ثم إنقسام المملكة الموحدة إلى دولتين متحاربتين : مملكة إفرايم و مملكة يهودا . أما عن أصولهم العرقية الغامضة فقد اكتفى ديورانت في تعريفها بقوله : كل ما نستطيع أن نقوله عن أصل اليهود من ناحية جنسهم هو ذلك القول الغامض ، و هو أنهم ساميون لا يتميزون تميزا واضحا ، و لا يختلفون اختلافا كبيرا عن غيرهم من الساميين سكان آسيا الغربية ، و أنهم لم يوجدوا تاريخهم ، بل تاريخهم هو الذي أوجدهم ! . أما لغتهم فقد مدحها المؤلف قائلا : إنها من أعظم اللغات الطنانة الرنانة على ظهر الأرض ، ألفاظها مليئة بالأنغام الموسيقية رغم ما فيها من حروف حلقية . و قد ظل اليهود زمنا طولا يؤلفون اثني عشر سبطا مستقلين استقلالا واسعا نظامهم و حكمهم لا يقومان على أساس الدولة ، بل على أساس الحكم الأبوي في الأسرة ، إلى أن دخلت الصناعة مدن اليهود فأضعفت سلطان الأسرة و اضمحل هذا النظام الذي كانت تقوم عليه الحياة اليهودية ، و حل محله نظام الدولة الملكية . و يعتبر ديورانت أن بناء الهيكل يعد أعظم الحوادث في تاريخ اليهود ، ذلك أن هذا الهيكل لم يكن مجرد بيت للإله ( يهوه ) بل كان أيضا مركزا روحيا لهم و عاصمة لملكهم و وسيلة لنقل تراثهم و ذكرى لهم . كما رأى المؤلف أن اليهود في ظهورهم على مسرح التاريخ كانوا بدوا رحلا يخافون شياطين الهواء و يعبدون الصخور و الماشية و أرواح الكهوف و الجبال ، و لم يتخلوا قط عن عبادة العجل و الكبش و الحمل ، كما أن آثار عبادة الآلهة الكثيرة البدائية قد بقيت في عبادة الملائكة و القديسين ، ثم ما لبثت فكرة اتخاذ يهوه إله اليهود القومي الأوحد أن تبلورت و أكسبت الديانة اليهودية وحدة و بساطة كانت سببا في انتشالها من فوضى الشرك التي كانت تسود أرض الجزيرة . إلا أن الظاهر من عقيدة اليهود التي عرضها المؤلف هنا أنها عقيدة قومية عنصرية و وثنية محضة ، حيث يصف اليهود إلههم هذا بصفات بشرية كثيرة و مستشنعة جدا ، فهو كثير الكلام و شره و متعطش للدماء و متقلب الأطوار . و في نهاية المطاف يصل بنا المؤلف إلى الحلقة ما قبل الأخيرة في تاريخ بني إسرائيل بعد دمار ممالكهم و إحراق مدنهم بعد أن أعمل فيهم نبوخدنصر سيف القتل و التدمير و ساقهم إلى إمبراطوريته كعبيد ، و هو ما عرف تاريخيا باسم الأسر البابلي ، ثم استقروا لسنين طويلة في أرض بابل يخدمون الشعب البابلي و يرزحون تحت ذل العبودية ، إلى أن غزا كورش ملك الفرس بلاد بابل و سمح لهم بالعودة إلى الأرض التي كانوا قد استوطنوها من قبل .
-- و أخيرا نصل إلى الباب السادس و الأخير و الذي أرخ فيه ديورانت لمدنية بلاد فارس و حضارتها و اعتبر عرقها راجعا لمجموعة من الأقوام التي تنتمي للجنس ( الهندوأوربي ) قدمت من شواطئ بحر الخزر قبل ميلاد المسيح بنحو ألف عام . ثم استرسل في عرض حضارة الميديين و مملكتهم و ملوكهم و هم أول من حكم بلاد عيلام ( فارس ) و أقام فيها مدنية زاهرة عمرت طويلا ، و لما كانوا قوما أشداء بسطاء في معيشتهم فقد أخذوا يفلحون أرض السهول و سفوح التلال و عاشوا منها عيشة رخية ، و قد أخذ الفرس لغتهم الحالية عن هؤلاء الميديين كما أخذوا عنهم كذلك الكثير من المعارف الأخرى كطرق البناء و التشييد ، ثم بادت هذه الحضارة في نهاية المطاف لترثها إمبراطورية الفرس الواسعة و التي كانت تضم تحت جناحها حوالي عشرين إمارة من مصر و بلاد الشام و فينيقيا إلى بابل و أرمينيا و أفغانستان ، و يقول المؤلف إن التاريخ لم يسجل قبل هذه الإمبراطورية أن حكومة واحدة حكمت مثل هذه الرقعة الواسعة من البلاد . كما يرى صاحب الكتاب أن الفرس كانوا من أجمل شعوب الشرق الأدنى في الزمن القديم ، فقد وهبتهم حياة الجبال شدة و صلابة ، و لكن ثروتهم الطائلة رققت طباعهم ، كما كانوا محتشمين للغاية و كانوا يعدون من سوء الأدب كشف أي جزء من أجزاء الجسم ما خلا الوجه . و قد كانت حياتهم حياة سياسية و حربية أكثر منها إقتصادية ، عماد ثروتها القوة لا الصناعة ، و من أجل هذا كانت مزعزعة الكيان أشبه ما تكون بجزيرة حاكمة وسط بحر واسع خاضع لسلطانها خضوعا غير قائم على أساس طبيعي ، و كان النظام الإمبراطوري يمسك هذا الكيان بقوة و لا يوجد له شبيه ! . أما حياتهم الدينية فتروي أساطيرهم أن نبيا عظيما ظهر في إيريانا ( موطن الآريين و منه استنبط إسمها فقيل : إيران ) قبل ظهور المسيح بمئات السنين و هو الحكيم المعروف باسم : زرادشت ! الذي حملت به أمه حملا إلهيا قدسيا ، ثم ولد و نشأ على حب الحكمة و اعتزل الناس في الكهوف و الجبال إلى أن تجلى له الإله ( أهورا مزدا رب النور ) و وضع في يديه كتاب ( الأبستاق ) أي كتاب العلم و الحكمة ، ثم يعلق ديورانت قائلا : و لسنا نعرف ما في هذه القصة من حق و ما فيها من باطل ! . غير أن هذه الديانة التي جاءهم بها زرادشت كانت قائمة على تعدد الآلهة و ذلك من حيث اعتقاد المنتسبين إليها في إلهين هما إله النور و إله الظلمة ، و حيث أن رمز النور عندهم هو النار فقد قدسوها و عبدوها و بنوا لها المعابد و الهياكل و وهبوا لها الخدم و الكهنة الذين لا يدعونها تخبو أبدا . و يقول المؤلف إن الزرادشتيين صوروا العالم في صورة ميدان يصطرع فيه الخير و الشر و كانوا يمثلون النفس البشرية كما يمثلون الكون ، في صورة ميدان كفاح بين الأرواح الخيرة و الأرواح الشريرة ، و هي فلسفة تحض على الأخلاق الفاضلة بدعوتها إلى امتثال الأخلاق الطيبة المنسوبة لإله النور و التبري من الصفات القبيحة المنسوبة لإله الظلمة . و قد كانت الشرائع الفارسية صارمة في عقاب خطايا الجسد صرامة الشرائع اليهودية ، كما كان للمرأة في عاداتهم مقام سام ! حيث كانت تسير بين الناس بكامل حريتها و كانت تمتلك العقار و تصرف شؤونه و كان في وسعها أيضا أن تدير شئون زوجها باسمه أو بتوكيل منه . أما في مجال الأدب و الثقافة فقد ذهب المؤلف إلى القول بأن الأدب كان في رأي الفرس ترفا قل أن يحتاجوا إليه ، و أما العلوم فقد كانت سلعا يستطيعون أن يستوردوها من بابل ! كما كان الطب عندهم من أعمال الكهنة ، أما الشعر فقد كان يغنى أكثر مما يقرأ . و فيما يخص الفنون فقد كان نصيبها نصيب العلوم و الآداب و هذا بسبب أن وقتهم لم يتسع لغير الحرب و القتال و لذلك كان جل اعتمادهم في الفنون على ما يأتيهم من البلاد الأجنبية . إلا أنهم امتلكوا مع ذلك بيوتا و قصورا جميلة و حدائق غناء ، و كان لهم أثاث قيم غالي الثمن ، و لم يكن لهم طراز فني خاص إلا في العمارة . و في الأخير لم تكد إمبراطوريتهم التي أقامها ( دارا ) أن تعمر إلا قرنا من الزمان حتى تصدعت إثر الهزائم التي منيت بها ، و زاد الطين بلة إهمال الأباطرة شئون الحرب و انغماسهم في الشهوات ، بالإضافة إلى تردي رعاياهم في مهاوي الجمود و الفساد ، و اقترن عنف حكامهم بفساد أخلاقهم فسقطت حضارتهم و اضمحلت مدنيتهم و صاروا كغيرهم في خبر كان .
-- كان هذا الجزء مهما جدا بالنسبة إلي من ناحية كم المعلومات التي كنت أجهل جزءا كبيرا منها ، و كذا من ناحية الفائدة المجتناة من تعليقات المؤلف و التي زين بها الكتاب و جعلها متماشية مع السرد الشيق و سيرورة عرض الأحداث ، و لابد أن نشير في الأخير إلى أن دراسة ماضي الجماعة الإنسانية و المجرى العام لتطور الإنسان ليؤكد أن علم التاريخ علم متغير و محير في نفس الوقت تماما مثل الناس الذين هم مادته ، و هو الذي قد وضع أساسا لتسجيل أحداث حياتهم و تاريخ حضاراتهم و تفاعلهم مع بعضهم .
-- يواصل ويل ديورانت في هذا الجزء السير على نفس السياق في تفصيل أحوال الحضارات و تواريخ الأجناس البشرية و التطورات العلمية و الصناعية التي كانت وليدة الإبداع و الإختراع اللذين لا يزالان يمثلان القوة الدافعة في نفس الإنسان لطلب الرقي و تحصيل السمو الذي يرتقي بحضارته من حضيض البدائية إلى سلم التحضر و المدنية ، و قد خصص هذا الجزء بالتحديد للحديث عن حضارات سومر و مصر و بابل و آشور و تاريخ اليهود و بلاد فارس . و لم يكن اختياره لهذه الحضارات اعتباطيا ! بل لأنه كان يعتقد بأسبقيتها التاريخية في ميادين العلوم و المعارف و الصناعات ( كما ذكرنا ذلك في مراجعة الجزء الأول من الكتاب ) و أن البشرية عموما و أوربا خصوصا تدين للشعوب الشرقية بالكثير في تحضرها و تقدمها .
-- قسم المؤلف هذا الجزء إلى سبعة أبواب و وضع تحتها مجموعة من الفصول ( على عادته ) ناقش فيها الجوانب السياسية و صور الحياة الإجتماعية و أحوال الإقتصاد و القانون و العلوم و الآداب و الفن و الصناعة و تواريخ الحروب و الصراعات و آفات التدهور و السقوط و الإنحطاط لأهم الحضارات الشرقية التي اعتبرها الأساس التاريخي الذي قامت عليه نهضة العالم و أوربا ، حيث نشأت في مهدها الحرف و الصناعات و الشرائع و الحكومات و علوم الرياضة و الطب و الهندسة و الفلك و التقويم ، و عرفت فيها الحقن الشرجية و طرق الصرف الصحي ، و ألفت في زمنها الكتب و شيدت المكتبات و المدارس ، و نشأت في ظلها الآداب و الموسيقى و النحت و هندسة البناء و غير ذلك من المعارف التي استمدت منها الإنسانية تحضرها على مدى القرون .
-- و أول هذه المدنيات القديمة التي استهل بها المؤلف بداية الجزء الأول هي الحضارة السومرية العريقة التي قام شعراؤها بتدوين تاريخها القديم مسطرا في تلك الحكايا الأسطورية الجميلة التي تتضمن قصصا عن بدايات الخلق و عن جنة بدائية و عن طوفان مروع غمر هذه الجنة و خربها عقابا لأهلها على ذنب ارتكبه أحد ملوكهم الأقدمين . و هنا يلفت ديورانت انتباهنا إلى ما جاء في تلك السجلات القديمة المكونة من ألواح الطين التي كان الكهنة يحتفظون بها و التي وجدت في خرائب أور عن قصة دقيقة عن قيام ملوك المدائن و تتويجهم و انتصاراتهم و جنائزهم الفخمة في مدن : أور و لكش و أرك . و كانت هذه المدن محافظة على استقلالها الذاتي إلى أن ازدهرت تجارتها و عظمت ثروتها فاستحال عليها عندئذ أن تظل منفصلة عن بعضها ، فنشأت منها جميعا إمبراطوريات استطاعت فيها شخصيات عظيمة أن توحد المدن و الأقاليم ، و أن تؤلف من كل ذلك وحدة سياسية و اقتصادية . و من الجدير ذكره هنا أن مجتمعها كان مجتمعا دينيا كهنوتيا و كان الملك فيها هو رئيس الكهنة إلى جانب أمراء الإقطاع و كبار التجار . و قد اعتبر ديورانت أن الكتابة ( بالخط المسماري ) تعد أروع ما خلفه السومريون في الميدان الثقافي ، و قد كانت اللغة عندهم صالحة جدا للتعبير عن الأفكار المعقدة في التجارة و الشعر و الدين ، كما لم ينس المؤلف أن يشير و لو بشيئ من الإيجاز إلى أثر هذه الشعوب الآسيوية في الحضارة المصرية القديمة في الدين و الأساطير و الكتابة و صناعة الفخار و نحت التماثيل و غير ذلك . و قد استمرت مدن هذه الإمبراطورية تخرج العشرات من الصناع و الشعراء و الفنانين و الحكماء و رجال الدين ، و انتقلت حضارتها على طول مجرى دجلة و الفرات إلى بلاد بابل و آشور و كانت هي التراث الأول لحضارة الجزيرة كلها . و في حوالي 45 صفحة لخص المؤلف التاريخ الكامل لهذه المدائن و شتى التطورات التي سارت في خلالها عظمة حضارتها إلى أن أفلت و انزاحت عن مسار التاريخ العام .
-- و في الباب الثاني يتناول المؤلف بشيئ من التوسع البسيط حضارة هبة النيل العريقة التي كان لها شأنها و صداها . و من حرارة طيبة و تمثال أبي الهول و أهرامات الجيزة و آثار الأقصر و معابد الكرنك و أخبار الملكة حتشبسوت و مينا و رمسيس الثاني و خفرع و أخناتون و بطليموس و كليوباترا يسير بنا المؤلف على خطى وئيدة ليلخص شيئا من تاريخها المترامي الأطراف ، و هو يلخص عظمة هذه الحضارة في تلك البنايات الضخمة التي لا تزال تذهل الواقفين على عتباتها من الزوار و السياح بقوله ( ألا ما أعظم ما كان يتمتع به أولئك المصريون القدماء من ثراء . و ما أقوى سلطانهم و أعظم حذقهم في طفولة التاريخ نفسها ! ) ، و قد كان النظام السياسي في مصر الفرعونية قائما على حكم الأسر ، حيث تشمل كل أسرة مجموعة من الملوك ( الفراعنة ) ، و كان من هؤلاء الملوك شخصيات قوية كان بعضهم بنائين عظاما شيدوا الأهرامات و القصور و الهياكل و خلفوا بعدهم للفن آيات عجيبة ، و كان منهم الفاتحون الكبار و الغزاة المغامرون الذين توسعوا في الغزو و الفتوحات شرقا و غربا ، و كان منهم كذلك الملوك الضعفاء و ذو الشخصيات الفاشلة . أما عن الحالة الإقتصادية للمصريين القدماء فقد كان أساسها متمثلا في الزراعة التي قاموا بتطويرها و كذا الصناعة التي بلغت مبلغا عظيما عندهم ، و كان فن الهندسة بالخصوص عند المصريين أرقى من كل ما عرفه اليونانيون و الرومان . إلى جانب الرقي الثقافي و تعميم التعليم و بناء المكتبات و خزائن البردي ( التي احتوت على الرسائل الرسمية و الوثائق القانونية و القصص التاريخية و الطلاسم و الترنيمات ) ، و هذا ما أثمرت نتائجه في هذه الحضارة و ظهرت في ازدهار الأدب و الشعر الديني و الهندسة و الرياضة و الفن و الرسم و النحت و التصوير و غير ذلك . و من الجدير ذكره أن كتابة التاريخ في مصر قديمة قدم التاريخ نفسه ! حيث كان المؤرخون الرسميون يصحبون الملوك و يدونون الإنجازات و الوقائع التي حدثت في العصور التي حكموا البلاد فيها .
-- و أما الباب الثالث الذي افتتحه المؤلف بقوله : الحضارة كالحياة صراع دائم مع الموت ، فقد عاد فيه مرة أخرى للحديث عن واحدة من أرقى الحضارات العراقية القديمة و هي حضارة بابل العريقة ! و التي يعيد أصول عرقها إلى امتزاج الأكديين و السومريين معا ، فقد انتهت الحروب التي نشأت بينهما بانتصار آكد و تأسيس مدينة بابل لتكون حاضرة أرض الجزيرة السفلى بأجمعها . و من أهم شخصيات هذه الحضارة و التي نوه بها المؤلف كثيرا هي شخصية الملك حمورابي الفاتح المشرع الذي دام حكمه ثلاثا و أربعين سنة . و قد كشف قانونه في أنقاض مدينة السوس سنة 1902 م الذي احتوى على أرقى القوانين و أعظمها استنارة بأقصى العقوبات و أشدها وحشية . كان البابليون كما يقول المؤلف مجتمعا راقيا جدا ، فقد أوتوا نصيبا عظيما من الثروة و النعيم و خلع شعبهم على نفسه كل مظاهر الزينة و الفخامة ، و لهذا لم يعتبروا تاريخيا كمجتمع زراعي ، حيث كان الإشراف على فلاحة الأراضي الزراعية موكولا للمستأجرين و الرقيق ، فقد كان الأهالي من غير الفلاحين القلائل يعتمدون على الصناعة بكثرة ، فكانوا يحفرون الأرض و يستخرجون من باطنها : النحاس و الرصاص و الحديد و الفضة و الذهب ، و إن قطع القرميد التي طليت و صقلت بأعظم عناية و الحجارة البراقة و أدوات البرونز الدقيقة و التطريز الجميل و الأقمشة المزركشة و السجاجيد الوثيرة كلها تخلع عليها ثوبا فنيا من الجمال و الجلال ، كما كانوا ينسجون القطن و الصوف و كانت الأقمشة تصبغ و تطرز بمهارة جعلتها من أثمن السلع التي بالغ كتاب اليونان و الرومان في وصفها و مديحها حتى جعلوا مدينة بابل في موضة الملابس و المدنية كمدينة باريس اليوم ، و لهذا كثرت الصناعات و الحرف و تألفت في عهد حمورابي خصوصا نقابات خاصة بالصناع . و لكن حكومات هذه الحضارة لم تفلح في إقامة نظام اقتصادي في أرض الجزيرة كالذي أقامه الفراعنة في مصر ، حيث كانت التجارة تتعرض للعديد من الأخطار و تفرض عليها شتى الإتاوات . و من الطبيعي ( كما استنتج المؤلف ) أن مجتمعا كهذا لا تدور بخلده فكرة الديموقراطية ، ذلك أن نزعته الإقتصادية تتطلب أن تكون له حكومة ملكية مطلقة تسندها الثروة التجارية أو الإمتيازات الإقطاعية . أما الكتابة البابلية التي حيرت العلماء فظلوا مئات السنين عاجزين عن حل رموزها فقد نشأت كلغة سامية من تطور لغتي سومر و أكد ، و لكنها كانت مجرد وسيلة لتيسير الأعمال التجارية . إلا أن أروع الآثار الأدبية التي خلفتها هذه الحضارة هي ملحمة جلجميش الذائعة الصيت ، و تتألف من طائفة من القصص ضمت بعضها إلى بعض في عهود مختلفة . و على الرغم من كون البابليين مجتمعا تجاريا إلا أنهم توصلوا في الكثير من العلوم و المعارف إلى العديد من الإكتشافات في علوم الرياضة و الفلك و الجغرافية و الطب .
-- و وصولا إلى الباب الرابع الذي يستعرض فيه ديورانت موجزا لتاريخ مدينة آشور و هي الأخرى حضارة عراقية كان لها صيت عظيم ذات يوم في غياهب الماضي . و التي يقول عنها المؤلف إن شعبها كان يحيا حياة عسكرية شاقة أرغمهم عليها أعداؤهم المحيطون بهم من كل جانب ، و قد ظلوا مائتي عام يسيطرون بقوتهم الوحشية على بلاد الشرق الأدنى ، إلا أن إمبراطوريتهم هذه سمحت لأقاليمها بالإحتفاظ بحظ موفور من الحكم الذاتي المحلي ، و من شأن هذا النظام المفكك أن يؤدي كل تراخ في سلطته المركزية إلى الثورات الشعبية ، و من أجل هذا كان الجيش أقوى دعامة للدولة و أهم مقوماتها ، و لم تكن الحياة الإقتصادية عند الآشوريين تختلف كثيرا عنها عند البابليين ، و ذلك لأن هؤلاء و أولئك لم يكونوا في كثير من الأحوال سوى أبناء الشمال و أبناء الجنوب من حضارة واحدة ، و كان مجتمعهم مقسما إلى خمس طبقات : الأعيان و رجال الصناعة و الطبقة الثالثة تشمل أرباب المهن و العمال و تشمل الرابعة الأقنان المرتبطين بأرض المزارع الكبرى ، و بما أنهم كانوا مجتمعا حربيا فلم يكن جو هذه الظروف ليزدهر فيه من العلوم إلا علم الحروب ، فقد كان الطب الآشوري هو الطب البابلي لم يزيدوا عليه شيئا ، و لم يكن علم الفلك الآشوري إلا التنجيم البابلي ، و معظم الألواح التي عثر عليها لا يصح ( في رأي المؤلف ) أن نسمى محتواها أدبا فأغلبها سجلات رسمية و أرصاد يقصد بها التنجيم و وصفات طبية و رقى سحرية و ترانيم و صلوات و أنساب للملوك و الآلهة . أما عبقرية الآشوريين الحقيقية فترجع إلى الفن الذي بزوا فيه البابليين كثيرا ، فقد حفزتهم الثروة التي تدفقت عليهم إلى البناء و التشييد ، فصهروا المعادن و برعوا في تشكيلها و صناعتها و بالأخص تصنيع الأثاث الفخم و التصوير بالطلاء و فن النقش ، و قد أقاموا قصورهم و هياكلهم على مساحات واسعة من الأرض و كان أعظم المحاربين الستة من ملوك آشور هم أيضا أعظم البنائين منهم .
-- أما عن الباب الخامس الذي استرسل فيه المؤلف في عرض حضارة اليهود و أخبار ممالكهم و حروب ملوكهم ، من أزمان العبودية الطويلة في مصر إلى خروجهم منها مع موسى عليه السلام و التيه الذي قضوا فيه سنوات طوالا ، وصولا إلى استقرارهم في أرض كنعان ( فلسطين ) بعد أن طردوا منها سكانها الأصليين ( العماليق ) ثم استوطنوها و أقاموا عليها مملكتهم التي ازدهرت سياسيا و حضاريا أيام حكم نبيي الله داود و ابنه سليمان عليهما السلام ، ثم إنقسام المملكة الموحدة إلى دولتين متحاربتين : مملكة إفرايم و مملكة يهودا . أما عن أصولهم العرقية الغامضة فقد اكتفى ديورانت في تعريفها بقوله : كل ما نستطيع أن نقوله عن أصل اليهود من ناحية جنسهم هو ذلك القول الغامض ، و هو أنهم ساميون لا يتميزون تميزا واضحا ، و لا يختلفون اختلافا كبيرا عن غيرهم من الساميين سكان آسيا الغربية ، و أنهم لم يوجدوا تاريخهم ، بل تاريخهم هو الذي أوجدهم ! . أما لغتهم فقد مدحها المؤلف قائلا : إنها من أعظم اللغات الطنانة الرنانة على ظهر الأرض ، ألفاظها مليئة بالأنغام الموسيقية رغم ما فيها من حروف حلقية . و قد ظل اليهود زمنا طولا يؤلفون اثني عشر سبطا مستقلين استقلالا واسعا نظامهم و حكمهم لا يقومان على أساس الدولة ، بل على أساس الحكم الأبوي في الأسرة ، إلى أن دخلت الصناعة مدن اليهود فأضعفت سلطان الأسرة و اضمحل هذا النظام الذي كانت تقوم عليه الحياة اليهودية ، و حل محله نظام الدولة الملكية . و يعتبر ديورانت أن بناء الهيكل يعد أعظم الحوادث في تاريخ اليهود ، ذلك أن هذا الهيكل لم يكن مجرد بيت للإله ( يهوه ) بل كان أيضا مركزا روحيا لهم و عاصمة لملكهم و وسيلة لنقل تراثهم و ذكرى لهم . كما رأى المؤلف أن اليهود في ظهورهم على مسرح التاريخ كانوا بدوا رحلا يخافون شياطين الهواء و يعبدون الصخور و الماشية و أرواح الكهوف و الجبال ، و لم يتخلوا قط عن عبادة العجل و الكبش و الحمل ، كما أن آثار عبادة الآلهة الكثيرة البدائية قد بقيت في عبادة الملائكة و القديسين ، ثم ما لبثت فكرة اتخاذ يهوه إله اليهود القومي الأوحد أن تبلورت و أكسبت الديانة اليهودية وحدة و بساطة كانت سببا في انتشالها من فوضى الشرك التي كانت تسود أرض الجزيرة . إلا أن الظاهر من عقيدة اليهود التي عرضها المؤلف هنا أنها عقيدة قومية عنصرية و وثنية محضة ، حيث يصف اليهود إلههم هذا بصفات بشرية كثيرة و مستشنعة جدا ، فهو كثير الكلام و شره و متعطش للدماء و متقلب الأطوار . و في نهاية المطاف يصل بنا المؤلف إلى الحلقة ما قبل الأخيرة في تاريخ بني إسرائيل بعد دمار ممالكهم و إحراق مدنهم بعد أن أعمل فيهم نبوخدنصر سيف القتل و التدمير و ساقهم إلى إمبراطوريته كعبيد ، و هو ما عرف تاريخيا باسم الأسر البابلي ، ثم استقروا لسنين طويلة في أرض بابل يخدمون الشعب البابلي و يرزحون تحت ذل العبودية ، إلى أن غزا كورش ملك الفرس بلاد بابل و سمح لهم بالعودة إلى الأرض التي كانوا قد استوطنوها من قبل .
-- و أخيرا نصل إلى الباب السادس و الأخير و الذي أرخ فيه ديورانت لمدنية بلاد فارس و حضارتها و اعتبر عرقها راجعا لمجموعة من الأقوام التي تنتمي للجنس ( الهندوأوربي ) قدمت من شواطئ بحر الخزر قبل ميلاد المسيح بنحو ألف عام . ثم استرسل في عرض حضارة الميديين و مملكتهم و ملوكهم و هم أول من حكم بلاد عيلام ( فارس ) و أقام فيها مدنية زاهرة عمرت طويلا ، و لما كانوا قوما أشداء بسطاء في معيشتهم فقد أخذوا يفلحون أرض السهول و سفوح التلال و عاشوا منها عيشة رخية ، و قد أخذ الفرس لغتهم الحالية عن هؤلاء الميديين كما أخذوا عنهم كذلك الكثير من المعارف الأخرى كطرق البناء و التشييد ، ثم بادت هذه الحضارة في نهاية المطاف لترثها إمبراطورية الفرس الواسعة و التي كانت تضم تحت جناحها حوالي عشرين إمارة من مصر و بلاد الشام و فينيقيا إلى بابل و أرمينيا و أفغانستان ، و يقول المؤلف إن التاريخ لم يسجل قبل هذه الإمبراطورية أن حكومة واحدة حكمت مثل هذه الرقعة الواسعة من البلاد . كما يرى صاحب الكتاب أن الفرس كانوا من أجمل شعوب الشرق الأدنى في الزمن القديم ، فقد وهبتهم حياة الجبال شدة و صلابة ، و لكن ثروتهم الطائلة رققت طباعهم ، كما كانوا محتشمين للغاية و كانوا يعدون من سوء الأدب كشف أي جزء من أجزاء الجسم ما خلا الوجه . و قد كانت حياتهم حياة سياسية و حربية أكثر منها إقتصادية ، عماد ثروتها القوة لا الصناعة ، و من أجل هذا كانت مزعزعة الكيان أشبه ما تكون بجزيرة حاكمة وسط بحر واسع خاضع لسلطانها خضوعا غير قائم على أساس طبيعي ، و كان النظام الإمبراطوري يمسك هذا الكيان بقوة و لا يوجد له شبيه ! . أما حياتهم الدينية فتروي أساطيرهم أن نبيا عظيما ظهر في إيريانا ( موطن الآريين و منه استنبط إسمها فقيل : إيران ) قبل ظهور المسيح بمئات السنين و هو الحكيم المعروف باسم : زرادشت ! الذي حملت به أمه حملا إلهيا قدسيا ، ثم ولد و نشأ على حب الحكمة و اعتزل الناس في الكهوف و الجبال إلى أن تجلى له الإله ( أهورا مزدا رب النور ) و وضع في يديه كتاب ( الأبستاق ) أي كتاب العلم و الحكمة ، ثم يعلق ديورانت قائلا : و لسنا نعرف ما في هذه القصة من حق و ما فيها من باطل ! . غير أن هذه الديانة التي جاءهم بها زرادشت كانت قائمة على تعدد الآلهة و ذلك من حيث اعتقاد المنتسبين إليها في إلهين هما إله النور و إله الظلمة ، و حيث أن رمز النور عندهم هو النار فقد قدسوها و عبدوها و بنوا لها المعابد و الهياكل و وهبوا لها الخدم و الكهنة الذين لا يدعونها تخبو أبدا . و يقول المؤلف إن الزرادشتيين صوروا العالم في صورة ميدان يصطرع فيه الخير و الشر و كانوا يمثلون النفس البشرية كما يمثلون الكون ، في صورة ميدان كفاح بين الأرواح الخيرة و الأرواح الشريرة ، و هي فلسفة تحض على الأخلاق الفاضلة بدعوتها إلى امتثال الأخلاق الطيبة المنسوبة لإله النور و التبري من الصفات القبيحة المنسوبة لإله الظلمة . و قد كانت الشرائع الفارسية صارمة في عقاب خطايا الجسد صرامة الشرائع اليهودية ، كما كان للمرأة في عاداتهم مقام سام ! حيث كانت تسير بين الناس بكامل حريتها و كانت تمتلك العقار و تصرف شؤونه و كان في وسعها أيضا أن تدير شئون زوجها باسمه أو بتوكيل منه . أما في مجال الأدب و الثقافة فقد ذهب المؤلف إلى القول بأن الأدب كان في رأي الفرس ترفا قل أن يحتاجوا إليه ، و أما العلوم فقد كانت سلعا يستطيعون أن يستوردوها من بابل ! كما كان الطب عندهم من أعمال الكهنة ، أما الشعر فقد كان يغنى أكثر مما يقرأ . و فيما يخص الفنون فقد كان نصيبها نصيب العلوم و الآداب و هذا بسبب أن وقتهم لم يتسع لغير الحرب و القتال و لذلك كان جل اعتمادهم في الفنون على ما يأتيهم من البلاد الأجنبية . إلا أنهم امتلكوا مع ذلك بيوتا و قصورا جميلة و حدائق غناء ، و كان لهم أثاث قيم غالي الثمن ، و لم يكن لهم طراز فني خاص إلا في العمارة . و في الأخير لم تكد إمبراطوريتهم التي أقامها ( دارا ) أن تعمر إلا قرنا من الزمان حتى تصدعت إثر الهزائم التي منيت بها ، و زاد الطين بلة إهمال الأباطرة شئون الحرب و انغماسهم في الشهوات ، بالإضافة إلى تردي رعاياهم في مهاوي الجمود و الفساد ، و اقترن عنف حكامهم بفساد أخلاقهم فسقطت حضارتهم و اضمحلت مدنيتهم و صاروا كغيرهم في خبر كان .
-- كان هذا الجزء مهما جدا بالنسبة إلي من ناحية كم المعلومات التي كنت أجهل جزءا كبيرا منها ، و كذا من ناحية الفائدة المجتناة من تعليقات المؤلف و التي زين بها الكتاب و جعلها متماشية مع السرد الشيق و سيرورة عرض الأحداث ، و لابد أن نشير في الأخير إلى أن دراسة ماضي الجماعة الإنسانية و المجرى العام لتطور الإنسان ليؤكد أن علم التاريخ علم متغير و محير في نفس الوقت تماما مثل الناس الذين هم مادته ، و هو الذي قد وضع أساسا لتسجيل أحداث حياتهم و تاريخ حضاراتهم و تفاعلهم مع بعضهم .
Sign into ŷ to see if any of your friends have read
قصة الحضارة.
Sign In »