وكنت ما زلت أجد الحديث عنه شائقا لا يمل. وكم دفعني ذاك إلى الطواف ببيته الكبير لعلي أفوز بنظرة منه ولكن دون جدوى. وكم وقفت أمام بابه الضخم أرنو إلى التمساح المحنط المركب أعلاه، وكم جلست في صحراء المقطم غير بعيد من سوره الكبير، فلا أرى إلا رؤوس أشجار التوت والجميز والنخيل تكتنف البيت، ونوافذ مغلقة لا تنم على أي أثر لحياة.
أليس من المحزن أن يكون لنا جد مثل هذا الجد دون أن نراه أو يرانا؟
أليس من الغريب أن يختفي هو في هذا البيت الكبير المغلق ونعيش نحن في التراب؟!
وإذا تساءلت عما صار به وبنا إلى هذا الحال سمعت من فورك القصص، وترددت على أذنيك أسماء أدهم وجبل ورفاعة وقاسم، ولن تظفر بما يبل الصدر أو يريح العقل.

المتأمل لحال حارتنا لا يصدق ما تقول الرباب في القهوات. من جبل؟! و من رفاعة؟! و من قاسم؟! وأين الآثار التي تدل عليهم خارج نطاق القهوات؟ أما العين فلا ترى إلا حارة غارقة في الظلمات وربابا تغني بالأحلام. وكيف آل بنا الأمر إلى هذه الحال؟

وجدنا هذا لغز من الألغاز. عمر فوق ما يطمع إنسان أو يتصور حتى ضرب المثل بطول عمره. واعتزل في بيته لكبره منذ عهد بعيد. وقصة اعتزاله وكبره مما يحير العقول، ولعل الخيال أو الأغراض قد اشتركت في إنشائها. سمعت مرة رجلا يتحدث عنه فيقول:" هو أصل حارتنا، وحارتنا أصل مصر أم الدنيا، عاش فيها وحده وهي خلاء خراب، ثم امتلكها بقوة ساعده ويمنزلته عند الوالي. كان رجلا لا يجود الزمان بمثله، وفتوة تهاب الوحوش ذكره".

دون كيخوتي ولد لي وحدي، وأنا ولدت له وحده، هو عرف تحقيق الأمجاد ،وأنا عرفت الكتابة، اثنان في واحد وحدنا. وأنا سأبقى راضيا ومتفاخرا أن كنت أول من تمتع بثمار مكتوبك كاملا.

تعال، حضرتكم هنا، أيها الرفيق والصديق ، والصابر على متاعبي وبؤسي، عندما كنت متواضعا معك، ولم أكن أفكر في شيء سوى تعديل عدتك أو تغذية معدتك ،كانت ساعاتي سعيدة ومثلها أيامي وأعوامي، لكن بعد أن هجرت حضرتكم، وامتطيت أبراج الطموح والغرور، دخل نفسي في أعماقها ألوان البؤس، وألف جهد جهيد، وأربعة آلاف لون من القلق.
ولنعد للسير على الأرض بأقدام حافية

ايها الساذج، من أدخل في مخك أنك فارس مشاء؟ وأنك تهزم مردة وتبارز أشرارا؟ اهلا وسهلا! وحول هذا أقول لك: عد إلى بيتك، وقم بتربية أولادك إن كان لك أولاد، وعالج خلل ارضك وثروتك، واترك التشرد في أنحاء العالم، ماضغا الريح، ومثيرا ضحكات السخرية عند كل من يعرفك ومن لا يعرفك.

أوه، أيها السيد ،غفر الله لك الإساءة التي اقترفتها ضد كل العالم في رغبتك أن يعود عاقلا ألطف مجنون فيه. ألا ترى أن جدوى تعقل دون كيخوتي لن تستطيع قط أن تبلغ السرور الذي يبثه فساد عقله

لاتمت فخامتكم، سيدي ، وإنما خذ بنصيحتي وعش سنوات طويلة، لأن أعظم جنون يرتكبه الإنسان أن يترك نفسه تموت دون سبب، ودون أن يقتله احد، ودون ان تقضي عليه ايد غريبة، باستثناء أيدي الحزن. لاتكن كسولا ، انهض من هذا السرير