ŷ

البشير عصام المراكشي > Quotes > Quote > Aymen liked it

البشير عصام المراكشي
“وكانِت تلكَ اللحظة القاتمَة، برزخًا بين بُرهتَينِ من عمرِي متباينتَين.

كُنت فِي الأولىَ أحملُ بينَ جنبيّ ماردًا جبارا، مستعصيًا على الخوف، مستعليًا على الكسل، دائمُ الانطلاقِ، لا يكادُ ينهِي قسمة غنائِم فتحٍ مجيدٍ من فتوحِهِ المتكاثرَة حتّى يفزَع إلى ميدانٍ آخر من ميادينِ النضَالِ والجِلاد.

كنتُ فِي الأولَى صقرًا حائما، بل طيفًا حالما، لا يمس الأرض إلا بمقدَار ما يُعد للتدوِيم تارةً أخرَى فِي سباسب الفضاءِ الرحيب.

كنتُ في الأولى قويًا كالأمل.. حالمًا كالطفل.. حازمًا كالصيقَلِ فِي يدِ الكميّ المغوار..
راسخًا كالطودِ السامق.. جريئًا كالإقدام نفسِهِ، لو تجسّد شخصًا منَ البشَر.

كنتُ فِي الأولى أرى القناعة بما دونِ الكمال موتًا زؤامًا، بل دونها الموت!

ثمَّ كانَ ما كان..

فصرتُ فِي الثانيةِ بعكسِ ذلِك كلهِ: حائرًا فِي دروبِ الحياة، مضطربَ العزمِ، مترددَ الفكرِ بينَ قبوٍ وضيّاء، وبين حضيضٍ وفضاء.

صرتُ أتحسسُ موقعَ كلِ خطوةٍ قبلَ أن أخطوهَا، وأحرر كلَّ كلمةٍ قبلَ أن ألفظهَا، وأغالِبُ كل فكرةٍ قبل أن أسلّم قيادِي لهَا. ثمَّ أعود على نفسِي بعد ذلِك كله بالعذلِ المرّ، والعتابِ المؤلِم.

صرتُ كالشَاةِ الفاترةِ التي يسحبها جزارٌ غليظُ القلبِ إلى موتِها المحتوم. تتمنّعُ تارةً، وتصاوِلُ جلّادهَا تارةً أخرى، ثمّ لا تلبثُ بعد حظٍ من النصَب غيرِ قليل، أن تستسلمَ لما يرادُ بهَا، فتسلم الروح بينَ جثةٍ هامدة، ونظرةٍ شاردة.

صرتُ كالهائمِ في متاهات الحياة، تتراءى لهُ سماديرُ الغفلَة، فتنبعثُ بهِ صُبابةُ نفسٍ أبيةٍ لتدفعهَا، فهو معها أبدَ الدهر في جلادٍ لا ينقضِي أمده، كذاك كنت..

وكذا صرت.


- من مقالةِ الشيب.”
البشير عصام المراكشي, فيء الخمائل

No comments have been added yet.