محمد سيد رشوان's Blog
July 18, 2012
فى رثاء الحالة _ محمد البساطى
تتكون الملَكة الروائية عند الكاتب من شيئين :
الخبرات الحياتية والتجارب المـُعاشة على مدى سنوات عمره طالت أو قـصـُرت
وقراءاته الأدبية وغير الأدبية التى تشكل أسلوبه والأداة التى يوظف بها أدبه ..
لا حيلة من تفادى إحداهما .. ولا جدوى من الاستغناء عن إحداهما بالأخرى ..!ـ
فلا يمكن لحكيم او رحال او منهك بالتجارب ان يكتب رواية ولا حتى قصة دون قراءة
ولا يمكن لمنعزل بالكتب من يلوذ فقط بالقراءة دون تجارب حقيقية ملموسة أن يلفظ ذهنه حبكة روائية أو يتمخض عن خيال أدبى محترم ..
لابد من الاثنين معاً
فالأدب ليس غير ذلك الواقع المجـرد الذى نسطره على أوراق كما هو ولكن مع إضفاء تلك القيمة الروائية له .. تلك النكهة التى لا يتذوقها إلا القارئ مطيل النظر فى الأدب و إنتاج الادباء
فالحروف ليست لها قيمة إلا متآخية ، والفرق بين ورق التواليت و ورق الكتب بمحتواه .ـ
الكشكول الفارغ لا قيمة له ولا ثمن .. بينما كشكول مطبوع عليه القليل من آلاف الحروف قيمته لا تقدر بثمن
فالأهم من اللفظ معناه ، والأهم من الكلمة أثرها ، والأهم من الرواية فحواها ..ـ
ولا وسيلة لإيجاد شعب متحضر بدون ثقافة حقيقية التى يحتل الأدب_ والأدب تحديداً_ أحد أركانها ..ـ
وقاعدة من قواعدها الراسخة عليها
أعتقد ان محمد البساطى كان من هؤلاء من أركان الأدب ، وتحديداً بما يعرف باسم الأدب الستينى
او ماهو مصطلح عليه بين النقاد وأهل الرواية باسم " ادب الستينيات "ـ
الذى يعتبر ثورة من ثورات الأدب فى العصر الحديث _ بغض النظر عن الاختلاف مع هذى الثورة أو لا_ـ
الفكرة تكمن فى كون الرجل لديه مشروع أدبى معين يريد أن ينجزه .. وهو أن لايكون لديه مشروع من الأدب ..ـ
عاش الرجل واهباً حياته للأدب .. لا شئ غيره ..ـ
منحازاً للبسطاء والمهمشين من البشر .. غائصاً فى نفوسهم وتفاصيل حياتهم اللانهائية
كان البساطى أديباً .. بكل ماتحمله الكلمة من معانِ
لن اتحدث عن هؤلاء الذين يأخذون من الأدب (سبوبة) .. أو مصلحة
كالذين تحدث عنهم باولو كويلو فى مقدمة مجموعة " كالنهر الذى يجرى " الذين يرون انفسهم افضل من الناس الذين يستخدمون كلمات وجـُمـَل من نوعية " القطع المعرفى " و "الرؤية المندمجة مع المحور الموافق" .. ويتحدثون طيلة الوقت عن كتب لا يعرفها أحد لثقافتهم الواسعة كما يدّعون .. ويسفهون من رأى البعض من يرونهم بالنسبة لهم مبتدأين ..ـ
فهم أقل من أن اذكرهم ..ـ
ولا لهؤلاء الذين تنكروا لأباء هذا الجيل .. جيل الستينات ..ـ
ولا من لهثوا وراء الظهور الإعلامى وكاميرات التلفزيون وساعات البث المباشر وغير المباشر
ولا من تقربوا لرجال السلطة وباعوا اقلامهم مقابل أثمان بخسة مقابل ضمائرهم
..
البساطى رفض ان يـُمنح أى جائزة فى عهد المخلوع من الدولة ، الجائزة الوحيدة التى منحتها له الدولة .. هى الجائزة التقديرية منذ أيام قليلة ( أى بعد الثورة )
حاز بالطبع على جائزة سلطان العويس عن " الخالدية " و رشح للبوكر لأفضل رواية عربية عن " جوع " .. وكذلك أفضل رواية عربية وأشهر رواية له " صـخـب الـبـحـيـرة "
كان طيباً هادئاً يتميز بروح الدعابة
يقول عنه ابراهيم اصلان فى كتابه " خلوة الغلبان :ـ
ـ" حدث أن أخذه أحد الزملاء _ البساطى _ من جوارى ليعرفه على الكاتبة المصرية الكبيرة المقيمة فى فرنسا أندريه شديد ، وقد قام البساطى فرِحاً كمن نال استقلاله حديثاً وقد كان الزميل قد انتهى من تقديمه لها ، فيما وقف هو ( يعنى البساطى ) يخبرها بأنه قد قرأ كل أعمالها المترجمة بواسطة الهيئة العامة للكتاب واعجبته كما اعجبت سائر الجيل .. أردت دفعه خلسة إلى أنه لم تترجم لها إلا رواية واحدة، ولكن السيدة جنبتنى مشقة المحاولة وقد انصتت فى هدوء للحديث ثم استفسرت عما يعنيه لأنها لم تفهم منه شيئاً .. وعندما شرح لها البساطى مايعنيه
علقت أنها لا تعرف السيدة أندريه شديد تلك ولم تلتق بها أبداً من قبل
كانت محنة ..
وأوضحت للبساطى أن صدمة حضارية كتلك يمكن استيعابها وتركت له حرية الاختيار بين الوقوع فى تلك الفضائح مرة أخرى او الالتزام بنصائحى ..
أما الزميل صاحب المبادرة فقد تركت مؤاخذته لأنه كان يظن أن أى امرأة فى فرنسا تتكلم العربية هى اندريه شديد "ـ
وقد حدث أن سافر إلى باريس بصحبة بهاء طاهر وجمال الغيطانى للمشاركة فى مؤتمر أدبى. لم يكن مستعدا للحديث فى الندوة الأولى بصحبة بهاء قال أنه سيتحدث "أولا".. وقال لبهاء ورينى ورقتك كده اشوف انت كاتب إيه؟ ووضعها امامه وكأنه يقرأ..وبدأت الندوة وراح يقرأ ورقة بهاء الذى لم يملك أمام المفاجأة سوى الابتسام ..وبعد ان انتهى قال لبهاء أصلى انت تعرف تتكلم بدون ورق قول أى كلمتين وخلاص. فى الندوة الثانية إراد أن يفعل الشئ ذاته مع جمال الغيطانى..ولكن جمال لم يكن قد كتب أيه أوراق، سيتحدث من ذاكرته، وقع البساطى فى مأزق كبير ، وطلب أن يبدأ الغيطانى الحديث...وترجاه أن يطيل ...وبعد أن انتهى الغيطانى وجاء دور البساطى .. فقال : أوافق فقط على كل كلمة قالها جمال.
* * *
فى مرضه الأخير _ وقد كان مريضاً بسرطان الكبد _ـ
لم يشغل أحداً بالبحث عن مستشفى أو علاج على نفقة الدولة. حين حاول الأصدقاء اقناعه بأن يتحمّل اتحاد الكتّاب تكاليف العلاج رفض رفضاً باتـّا ..!!ـ
وهكذا .. مات البساطى دون أن يعلم أحدٌ عنه شئ ..ـ
دون حتى أن يهتم به شباب الكـُتاب ويحضر أحد منهم جنازته أو حتى يصنعون لموته اهمية ولو حتى من خلال مواقع التواصل الاجتماعى
وإن دل هذا على شئ .. فإنما يدل على المستوى الثقافى الذى وصلت إليه البلاد حتى على يد المثقفين انفسهم أو من يسمون أنفسهم كذلك .
وقريباً كما ننعى البساطى ، سننعى الثقافة كلها فى مصر ..ـ
البساطى
مات فى هدوء ، كما آثر دائماً ان يعيش فى هدوء
محمد البساطى ..
السلام عليك .!!ـ
July 18, 2012 at 12:54am ·محمد البساطي
Published on July 18, 2012 10:22
•
Tags:
محمد-البساطى