النيل والفرات: قد سميت هذه المحاضرة ب( قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام) وهى على صغرها شديدة الهمية في كشف الوجوه الملثمة التى أحاطت برسالة كتاب ابن سلام ( طبقات فحول الشعراء) والتى أثارت ثلاث قضايا هى : القضية الأولى : قضية عمر الشعر الجاهلي الذي وقع إلينا، وهى قضية متفرعة عن اولية الشعر نفسه في لسان العرب. القضية الثانية: قضية شعراء الجاهلية المعروفين ، وما انتهى الينا من أشعارهم ومقدار هذا الشعر. والقضية الثالثة : قضية وضع الشعر ونحله شعراء الجاهلية ن أهى صحيحة أم باطلة؟ فإن صحت فأين المنحول في ما وصلنا عن العلماء الرواة من أشعارهم؟ وقد قادت رسالة ابن سلام إلى كثير من الشك في صحة الشعر الجاهلى الذي وصل الينا وذلك لأنها لم تفهم على وجهها الصحيح، ولم تقرأ كما ينبغي لذا فقد كانت هذه المحاضرة مزيلة للإبهام الذي اكتنف رسالة ابن سلام.
أبو فهر محمود محمد شاكر أديب مصري، نافح عن العربية في مواجهة التغريب. اطلع على كتب التراث وحقق العديد منها. أقام منهجه الخاص في الشعر وسماه منهج التذوق. خاض الكثير من المعارك الأدبية حول أصالة الثقافة العربية، ومصادر الشعر الجاهلي.
خاض معركتين ضخمتين أولاهما مع طه حسين والأخرى مع لويس عوض كانتا من أبرز معالم حياته الأدبية والفكرية ويمكننا القول بأنه تفرع عنهما معارك فرعية وثانوية كثيرة، وكانت هاتان المعركتان بسبب شاعرين كبيرين من شعراء العربية هما: المتنبي والمعري.
الكتاب عبارة عن محاضرة ألقاها العلامة " محمود شاكر " في جامعة الإمام محمد بن سعود عام 1975م ، وتهدف هذه المحاضرة إلى الدفاع عن قضية الشعر الجاهلي ، فقد بذل " محمود شاكر " جهودًا عظيمة في الدفاع عن العربية و بالخصوص عن هذه القضية ، وهو من أهم الشخصيات التي ردّت على أطروحات الدكتور " طه حسين " في قضية انتحال الشعر الجاهلي ، وخاض الكثير من المعارك الأدبية إلا أنه لم يسلط عليه الضوء كثيرًا فأنا لا أنكر معرفتي الحديثة به ، لقد وقف بقوة ضد منهج الدكتور " طه حسين " ، وانطلق محمود شاكر في منهجه بقراءة كل ما وقع تحت يديه من تراث العرب القديم ، متبعًا بذلك " منهج التذوق " الذي يقرأ من خلاله ما وراء تلك الكتابات من مساجلات خفية وإيحاءات غير ظاهرة ، وهذا المنهج في الحقيقة ليس بدعًا بل هو ما كان يسير عليه الفكر العربي القديم ، وإنما استطاع "محمود شاكر " أن يستظهره من جديد ويعيد تشكيله بعد أن كان دفينًا وغائبًا ..
إن بعض النقاد الذين شككوا بصحة الشعر الجاهلي وعلى رأسهم الدكتور " طه حسين " كانوا يتتبعون بعض النصوص التي قد توحي بعدم صحة الشعر الجاهلي فيتوصلوا من خلالها إلى أنه لا وجود لهذا الشعر ، فهم لا يتصورون أن العرب كانوا بهذا المستوى من الفصاحة والبلاغة ، إلا أن " محمود شاكر" بيّن في كتابه هذا العثرات والأخطاء التي وقع فيها هؤلاء النقاد والمستشرقون بفهمهم الخاطئ لهذه النصوص ، ومن ضمن هذه النصوص ما ذكره " ابن سلام الجمحي " في كتابه " طبقات فحول الشعراء " ! يعتبر هذا الكتاب دراسة قيمة تحوي أفكارًا ومعلومات لم أألفها من قبل ، ولذلك سأتناولها - بشيء من الإيجاز � ويمكن الرجوع للكتاب للاستزادة
أولًا : تناول مسألة أولية الشعر الجاهلي فأغلب المصادر ترجح أن الشعر الجاهلي بدأ على يد " المهلهل بن ربيعة " و " امرؤ القيس " ، وبالتحديد بين 150 سنة إلى 200 سنة قبل الدعوة الإسلامية ، وهذا الأمر بدأه الجاحظ في كتابه " الحيوان " ، إلا أن " محمود شاكر " يرى افتقار هذا الكلام للدقة ، فمن المعروف أن " الجاحظ " كان معاصرًا لـ " ابن سلام الجمحي " وقد اتضح تأثره به ، فقد نقل من كتاب " طبقات فحول الشعراء " ، إلا أنه لم يفهم مقالة " ابن سلام الجمحي " حيث ذهب بفهمه إلى أن امرؤ القيس هو الأسبق في هذا المجال أي أولية الشعر .. وهذا الأمر غير صحيح ، لأن قصد " ابن سلام " واضح وهو تقصيد القصائد وتطويلها ، فـ " الجاحظ " نقل المعنى الخاص إلى المعنى العام ووقع في مغالطة ، ويذكر " محمود شاكر " أنه لا بد من الأخذ بكلام " ابن سلام " في هذا الشأن لأن الرجل أشد تحريًا وضبطًا من " أبي عثمان "
: ثانيًا : قسّم " محمود شاكر " الشعر إلى ثلاثة أنواع - شعر صحيح وسليم أي مبرأ من الأخطاء ويعرفه أهل البادية والعلم - شعر صحيح معروف أيضًا إلا أنه اختلط بغثاء مصنوع ليس بشعر - غثاء مصنوع لا يُعد شعرًا
" فقول " ابن سلام الجمحي:
وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع ، كثير لا خير فيه
بعد التحليل يتوصل " محمود شاكر " إلى أن المقصود هنا بالشعر هو القسم الثاني ، فلا يمكن أن يكون المقصود بالشعر هنا المصنوع فقط ، وأشد استحالة أن يكون المقصود به الشعر الذي نعرفه أي الصحيح ، فلم يتبق إلا الصنف الثاني وهو أن يكون شعرًا مخالطًا لمصنوع ، ولذلك يقول " محمود شاكر " :
وهو الشعر الصحيح الذي يعرفه العلماء ، ولكنه خلط بمصنوع ليس شعر
ثالثًا : إنكاره مقالة " ابن سلام الجمحي " عندما قال أن المسلمين قد انشغلوا عن الشعر وتركوه بسبب الغزو والجهاد حيث ذكر أن العرب لم يلهوا عن الشعر حتى في وقت الجهاد ، وإنما اتسع الأخذ به في وقت لاحق ، فهم لم ينقطعوا عن روايته وقت الغزوات
رابعًا : أشكل على من ادعى أنه لا وجود للشعر الجاهلي مبينًا أن هذا الادعاء يُعد طعنًا بالقرآن وإعجازه فكيف يتحدى الله أناسًا عاجزين عن الإتيان بكلام فصيح وبليغ ، فقد كانوا يملكون قدرًا لا يمكن تحديده من القدرة على تذوق البيان والنظم ، هذا بالإضافة إلى أنهم كانوا متذوقين للشعر فابستطاعتهم التمييز بين كلام الله تعالى وكلام البشر ، وهذا إن دل دل على تمكنهم في الشعر في ذلك العصر ، فهذا القدر من التذوق لا يمكن أن ينال في فترة قصيرة ، وإنما الأمر يتطلب قرونًا متطاولة في القدم ..
هذا أول كتاب أقرأه لأبي فهر محمود محمد شاكر وقد قرأت كتابي أساس البلاغة ودلائل الإعجاز للقاضي الجرجاني بتحقيقه، فكان في تحقيقه وتذييله حريصا دقيقا ماتعا، وقد وجدته في تأليفه كذلك بل يزيد.
وكتاب ابن سلام المقصود في العنوان هو كتاب طبقات فحول الشعراء، وقد بين المؤلف رحمه الله تعالى لم اختص هذا الكتاب بالذكر، وتطرق قبل تناول إلى كلام الجاحظ حول الشعر الجاهلي في كتاب "الحيوان"، وفند كلامه فيه مستفيضا ومحللا كل لفظة واستنتاج وفرض أقامه الجاحظ في كلامه ذلك، ثم هو بين كيف اعتمد في كلامه ذلك على كلام ابن سلام وعلى حديث لا يصح في استنتاج ما توصل إليه.
ثم هو تناول مقدمة كتاب طبقات فحول الشعراء وبين أنه كتب في ثلاث نسخ مستدلا على ذلك بسياق الكتاب وبتأريخ المؤرخين له خاصة فيما يتعلق بتأخره في الكتابة حتى كبر سنه وعجلته فيما أراد خوفا من أن توافيه المنية ولما يتمه وأثر المحدث يحي بن معين في تحول تفكيره ومراده إلى تأليف كتاب في الأدب والشعر يكون له مثل ما للحديث الشريف من التوثيق والصحة، وكيف أن مرضه وتقدم سنه جعله يعدل عن ذلك إلى الإضافة إلى كتابه طبقات فحول الشعراء، تلك الإضافة الثالثة والأخيرة.
ولولا أن كتابه هذا هو مجموعة محاضرات ألقاها في جامعة الإمام محمد بن سعود لكنت أخذت عليه –وه� المعروف بدقته- أنه لم يرجع في الحواشي كل خبر أو سياق تاريخي إلى مصدره وهذا مما يعاب لولا ما ذكرنا، ففي المحاضرة لا يتسع الأمر لمثل هذا ولعل أحد المهتمين يقوم به، وقد نوه المؤلف رحمه الله إلى ذلك في مقدمته البديعة لهذه المحاضرة.
وقد صادف ما قاله حول التذوق اللغوي أثرا في نفسي كانت تحدثني به، إذ كنت أتساءل عن سبب انعدام تذوقنا لكتاب الله وكيف كان يسمع أحد العرب كلام الله فيؤمن من ساعته على عكسنا اليوم إذ نسمعه ليل نهار ونحن به مؤمنون إلا أننا لا نعي أو نفقه منه إلا القليل فضلا عن أن نتذوق منه شيء، ووقع في خاطري أن ذلك راجع لبعدنا عن العربية الحقة فكأننا من المستعربين الي ما تعلموها إلا ليتفاهموا كما يتعلم أحدنا من الإنجليزية ما يكفيه ليخبر أهلها بما يريد أو ليفهم منهم ما يريدون دون إحاطة بلغتهم أو بمعانيها.
أما قضية الشعر الجاهلي نفسها فبعد أن نقد الجاجظ ثم بين الملابسات التي عاصرت تأليف ابن سلام للكتاب ومقدمته على الخصوص فإنه انتقل إلى الحديث عن إعجاز القرآن وارتباطه باللغة العربية وكيف أن العرب كانوا في حاجة إلى مقياس يقيسون عليه إبداع وإعجاز القرآن الي تحداهم وكيف أن الصحابة والتابعين احتفظوا بهذا المقياس للتدليل مع إيمانهم على إعجاز هذا القرآن وتبيين ما بلغه العرب من بلاغة وفصاحة والتي فاقها القرآن مع ذلك.
كما ذكرت هذا أول ما قرأته لأبي فهر وقد أسرني كما أسرني مالك بن نبي، وقد عزمت كما عزمت فيما مضى أن أقرأ كل حرف خطه قلمه في تأليف أو تحقيق أو تعقيب أو تقديم، وحري بكل محب لهذه اللغة أن يقرأ لأبي فهر وللرافعي، فهما –بلاش�- جناحا اللغة العربية في العصر الحديث.
هذا لقائي الأول بشيخ العربية (محمود شاكر)، وهو لقاء حسن من وجه وسيء من وجه آخر، وكتابه هذا كتاب نقدي بالمقام الأول، وأنت ترى في هذه الأيام كل من هب ودب والمتردية والنطيحة وما أكل السبع أصبح توسم أسمائهم بـ(الناقد فلان)، ولكن كما يقول الشاعر: (إني لأفتحُ عيني حين أفتحها على كثيرٍ ولكن لا أرى أحداً). ولكن قارن نقدهم ونقد محمود شاكر لجزئية بسيطة وردت في مقدمة كتاب (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام الجمحي (المتوفى: 232 هـ) حتى تعرف ماهو النقد فعلاً!
والكتاب يتكلم عن 3 نقاط كما أفتتح المؤلف كلامه (القضية الأولى: قضية عمر الشعر الجاهلي الذي وقع إلينا، وهى قضية متفرعة عن اولية الشعر نفسه في لسان العرب. القضية الثانية: قضية شعراء الجاهلية المعروفين ، وما انتهى الينا من أشعارهم ومقدار هذا الشعر. والقضية الثالثة : قضية وضع الشعر ونحله شعراء الجاهلية أهى صحيحة أم باطلة؟ فإن صحت فأين المنحول في ما وصلنا عن العلماء الرواة من أشعارهم؟).
وأصل الكتاب هو سلسلة محاضرات ألقاها المؤلف في جامعة (الإمام محمد بن سعود) في السعودية.
وابن سلام هو من أوائل الذين ألفوا في النقد والتاريخ الادبي، وقد ولد في بيئة بلغت فيها البصرة أوجها العلمي وبدأت تؤسس العلوم وتوضع القواعد الاولى لها، فعلم الحديث والجرح والتعديل أُسس والنحو كذلك أُسس، وكان ابن سلام قد بزغ وتخصص في أيام وأخبار العرب واشعارها وفرسناها، وأراد هو كذلك يؤسس علم محاكي لعلم الجرح والتعديل في مصطلح الحديث ولكن في باب الشعر، والمشكلة أن هذه الرغبة أصبحت مُلحة بعد أن بلغ الـ80 من العمر وبلغ من العمر عتيا، فكان يسابق الزمن لإنجاز مشروعه، ولكن هذه السرعة المُفرطة وتفاقم المرض أديا الى وجود خلل في منهاجية الكتاب -فشذ ابن سلام عن المنهج الذي وضعه وتجاوزه ولم يلتزم به-.
ونقد محمود شاكر له، رغم أنه حصره في مقدمة الكتاب في الغالب، إلا أنه أطال النفس في سبر حال ابن سلام الجمحي، وتتبع تراجمه وأقوال الناس عنه ومعاصريه ومتى تمت اللقيا بينه وبينهم وماذا جرى ثم بنى على هذه أستنتاجات تفسير لنا خطأ ابن سلام في مقدمة الكتاب، وهذا يعطيك دلالة أن العلوم متداخلة مع بعض، فالتراجم مرتبطة ارتباط بالنقد الأدبي، فلا يمكن أن تدرس حال شخص بفصلة عن محيطة وبيئته. وأن الناقد الذي لا علم له بفترة المنقود ولا سيرته ولا طبقته ولا معاصيره فليس بناقد!
ولكن لماذا كان اللقاء سيء في الشق الآخر؟ يَرجع هذا الى أن من خلال تصفحي لبقية كتب محمود شاكر (وهذا ليس حكم قطعي بلا شك) أن كُتبه تحتاج الى مقدمات، فلا يمكن أن تقرأ كتاب (المتنبي) وتستمع غاية الاستسماع وأنت لم تقرأ للمتبني أولاً ولم يكن لديك صورة تمثل الحد الأدنى من السجال الذي حصل حوله وحول شعره، وكذا كتاب (قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام) لابد أن تَشرع في قراءة كتاب ابن سلام أولاً (طبقات فحول الشعراء) ثم يكن لديك تصور حول المعركة الأدبية التي أشعر أوارها طه حسين حول الشعر الجاهلي حتى يكون لديك تصور صحيح. والقفز على هذا كله قد لا يجعلك تفهم الصورة بشكل جيد.
وثانياً: وهذا تصور شخصي من خلال قراءتي لكتب النقد الأدبي، أن هذه الكتب تستلزم منك أن يكون لديك معرفة أبجدية بقواعد اللغة والشعر، فلن تستمع بنقد محمود شاكر وهو يَستلُّ حَرفًا من حروف ابن سلام لياول كلامه على قواعد اللغة! فهذا المشهد سوف تكون الغائب الحاضر فيه إن لم يكن لديك معرفة بالقواعد! ويمكن أن تسقط هذا على كتابه (نمط صعب ونمط مخيف) الذي يدور كله أو جله على الشعر وقواعده.
هذا الكتاب في أصله محاضرة، تلك المحاضرة البديعة يقول صاحبها في مقدمتها: "فهذه ليست صناعتي، لم آلفها ولم أمارسها قط، صناعتي هي حمل القلم بين أناملي في خلوة بعيدة عن الناس، في كنف السكينة والاطمئنان، حيث لا يشغلني عما أريده خوف ولا تردد، ولا عين تحملق في وجهي، ولا أذن تصغى تنازعني لساني، وحيث لا يبلبلني صوت نفسي وأنا أسمع كلاما قد فصم عني، ثم لا أملك رده أو تغييره إن أخطأت أو جرت أو تهاويت في زلل، فإن هذه البلبلة بين البسط والقبض، خليقة أن تتركني كالمخنوق لا يجد مساغًا للتنفس. نعم، فأنا لا أجد حريتي إلا مع القلم، فهو وحده الذي يستطيع أن يتحدث عن نفسي مبينًا عنها، غير متردد ولا خائف ولا متهيب ولا متلجلج. ألفت هذه الحرية وأحببتها، حتى بطل عمل لساني وشفتي أو كاد، وصار القلم وحده هو لساني الذي أتحدث به إلى جموع الناس. هذا عذري، فإن قبلتموه فهي منة لكم علي، وإن كرهتموه فلم تقبلوه، فأنا على كل حال لا أستطيع أن أفارق حريتي، لأقع في أسر من لا يرحمني. ولستم به إن شاء الله." "…وأن� في شرخ الشباب، أن أعتزل الحياة العامة بعض الاعتزال، فلم أسمع في خلال هذه العزلة سوى محاضرات قليلة جدًا، كنت أسمعها أحيانًا غارقًا في الدهشة من قدرة المحاضر المرتجل على التدفق في حديثه، كأنه يقرأ من كتاب. كيف يتم له هذا؟ لا أدري. وكنت أتمنى بيني وبين نفسي أن أكون كمثله، ولكن العجز كان يقف دائمًا حائلاً بيني وبين ما أتمنى. كنت أقول لنفسي أحيانًا: هذا المحاضر بلا شك، قد أوتي قدرًا كبيرًا جدًا من شيء حرمته، وهو شجاعة النظرة، وإلا فكيف يلقي هذا الجمع الكبير من الناس وعيناه في عيونهم؟ مئات العيون تنظر في عينيه، كيف يتلقى هذه السهام النوافذ بلا رهبة؟ مئات العيون تحيط به وتجشه وتقلبه وتروزه، تأخذه وترفعه وتضعه، وتنشره وتطويه، وتتداوله بالمس الرفيق والمس الخشن، كأنه ثوب عند بزاز تقلبه أيدي المشترين. كيف يطيق هذا؟ كيف يصبر له؟ لا أدري. وأنا الآن بينكم قد وقعت في مثل هذه التجربة المخوفة، ولا أدري كيف أجد عواقبها في نفسي، بعد أن أنزل عن هذا المنبر، ثم أفارقكم إلى الفندق، ثم أخلو بعد ذلك في غرفتي أتأمل ما كان مني ومنكم كيف كان. تجربة جديدة، أرجو أن أجد لها لذة كل جديد، إن صدق الحطيئة في قوله: لكل جديد لذة، غير أنني ...... وجدت جديد الموت غير لذيذ وقد صدق في الثانية بلا ريب، فهل هو صادق في الأولى حيث جعلها عامة مستغرقة لكل شيء؟ لا أدري الآن. والله أستعين على ما كتب علي، وأسأله اللطف في قضائه وقدره. بيد أن الأساتذة الكبار من المحاضرين المتمكنين، قادرون على معونتي، وعلى التخفيف عني، بإرشادي إلى حقيقة هذه التجربة، وهم الآن جلوس معنا يسمعون ما أقول، فعسى أن يتكرموا على متطفل وابن سبيل، يسألهم ما لا يرزأهم شيئًا، إلا أن يأخذوا بيده ليخرجوه من ورطته وحيرته ومخاوفه، وهذا قليل من كثير فضلهم على كل طالب علم مسترشد." هكذا يصف رفيق القلم حاله مع الحديث الشفهي، ولربما كان في وصفه وتعليله شفاء لكثير من رفقاء القلم، وعشاق الكتب، أولئك الذين لا يتفهم الناس وجلهم من المواجهة، ولا يعتذرون لأخطائهم في اللقاءات المسجلة، وهم إنما كان عذرهم ما وصفه أبو فهر.
"ولقيت العنت وما فوق العنت في التردد ما بين الخطأ والصواب في فهم بعض ما يقولون، فأسلمني ذلك إلى حالة من الشك تأخذ بأكظامي، وأنا أقرأ بعض كلامهم، حتى ما أطيق أن أتنفس، وأظل حائرًا متهيبًا أن أقول برأي قاطع في فهم ما أقرأ، وتغلبني غمرة طاغية من قلة الثقة بفهمي وبمعرفتي. ورب حرف واحد في كلامهم ينقلني من موقف الواثق، إلى موقف مناقض ينفي هذه الثقة، ثم يأتي بعده حرف آخر يحملني من موقفي هذا، فيطرحني مرة أخرى إلى الموقف الأول في الثقة والاطمئنان، وهكذا دواليك حتى أضق بما أنا فيه. فمن أجل ذلك ألجأ دائمًا إلى إعادة النظر مرة بعد مرة، وأحاول أن أستوعب في كل مرة قدرًا من الشكوك وقدرًا من اليقين، وأعرض هذا على الكلام كله شيئًا بعد شيء، حتى أزيل التخالف الداعي إلى الشك ما استطعت." وقد يطيف بك ما طاف بأبي فهر، إلا أنك لا تملك جرأته، ولا أسلوبه، ولا حمولته المعرفية.. فتبتلع اعتراضك، حتى تغص به نفسك.
وأنا مع أبي فهر في مؤلفاته، وقعت في تتبع مشاعره وتعبيراته عما يجول في نفسه، يجيء القاصدون لهذا الكتاب بحثا عن قضاياه، وأجيء أنا باحثة عن خواطره.
وإن أردت تلخيصا لمقاصد الكتاب، فدونك ما كتبت: المقص� الأكبر: إزالة الإبهام الذي اكتنف رسالة ابن سلام، والكشف عن الكثير من الغموض الذي أحاط بالشعر الجاهلي وروايته. وينطو� تحته ثلاث قضايا هي: القضي� الأولى:قضية عمر الشعر الجاهلي الذي وقع إلينا، وهي قضية متفرعة عن أولية الشعر نفسه في لسان العرب. والقضي� الثانية:قضية شعراء الجاهلية المعروفين، وما انتهى إلينا من أشعارهم، ومقدار هذا الشعر. والقضي� الثالثة:قضية وضع الشعر ونحله شعراء الجاهلية، أهي صحيحة أم باطلة؟ فإن صحت فأين المنحول في ما وصلنا عن العلماء الرواة من أشعارهم؟ المقاص� الثانوية: �*مقدمة في منهج أبي فهر مع كتب القدماء:�-إعادة النظر مرة بعد الأخرى في الكلام وتتبع تاريخه.�-استيعاب الكلام وعرض بعضه على بعض حتى يزول التخالف الداعي إلى الشك.�-تحليل الألفاظ ثم الجمل تحليلا دقيقا مع الوقوف على مقاصد الكاتب.�-إعادة تركيب النص بعد زوال الغموض عن اللفظ، والتشقق عن الجمل. القضي� الأولى، وهي قضية عمر الشعر الجاهلي وأوليته: �*عمر الشعر الجاهلي ورأي الجاحظ فيه لكونه من أقدم من كتب في القضية: �-يرى الجاحظ أن عمر الشعر قصير, وأن أول من نهج سبيله امرؤ القيس ومهلهل ربيعة.�-يستخدم الجاحظ الأسلوب الحسابي البحت في تقرير هذا الرأي، فيرى أن الشعر ولد قبل الإسلام بمئة وخمسين سنة. أو إن كما قيل أن امرؤ القيس كان يتكئ في بعض شعره على من سبقه كابن حذام الطائي وأبي دؤاد الإيادي, فيكون مئتي عام.�-تفنيد رأي الجاحظ:�-أن الحساب وحده لا يكاد يغني شيئًا في ميلاد الشعر وحداثة سنه. �-عدم النظر في شعر امرئ القيس نفسه، كيف جاء موزونًا مقفى على ضروب مختلفة من الأوزان والقوافي، كيف تسنى لمهلهل وابن أخته أن يستحدثنا هذا القدر في البحور المختلفة الأوزان والقوافي؟ ولا كيف يمكن أن يقع لهما هذا القدر من الابتداع جملة على غير مثال سابق؟�-قول الجاحظ:" كتب أرسطاطاليس، ومعلمه أفلاطون، ثم بطليموس وديمقريطس وفلان وفلان، قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب" دعوى، والدعوى لا تقرر بمثلها تفتقر هي نفسها إلى برهان يجليها ويثبتها. وكلتاهما تحتاج إلى دليل غير الدليل الحسابي المعتمد على زمن الميلاد وزمن الوفاة.�-اعتماد الجاحظ على خبر واه ضعيف: بد� أن أبا عثمان قد أخذ أن امرأ القيس هو أول من نهج سبيل الشعر من هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (رقم: 7127)، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار<. وهذا الخبر نفسه رواه البخاري في الكنى قال: >قال مسدد، حدثنا هشيم، حدثنا شيخ يكنى أبا جهم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: >صاحب لواء الشعراء إلى النار، امرء القيس، لأنه أول من أحكم الشعر<. وأبو الجهم هذا قال فيه ابن عدي >شيخ مجهول، لا يعرف له اسم، وخبره منكر، ولا أعرف له غيره<، وقد أفاض السيد أحمد محمد شاكر رحمه الله في شرح إسناد هذا الخبر، وذكر إجماع علماء الجرح والتعديل على أن أبا الجهم معروف برواية هذا الخبر، وأنه خبر واهٍ ضعيف جدًا.�* فإذن: قضية أبي عثمان في أولية الشعر دعوى باطلة مركبة على دعوى باطلة أخرى لا أصل لها، وكلتاهما لا حجة عليها يجب التسليم لها من نص أو نظر. �*محمد بن سلام وكتابه الطبقات: �-تبرير الإقبال على كتاب ابن سلام، والاستفادة منه في هذه القضية: أن� أشد من أبي عثمان تحريًا وضبطًا، وأبلغ منه تحققًا وتثبيتًا في رواية الشعر ونقده، وهو بلا ريب أعلم به منه وأخبر. كما أنه أقدم كتاب وصل إلينا من كتب قدماء نقاد الأدب والشعر، بل لعله طليعة كتب النقد في الأدب العربي. �*رسالة طبقات فحول الشعراء وسياقاتها: �-حاول أبو فهر فيها ترتيب السياقات، والإشارة إلى الأوهام التي توحي بها، والنص على غياب إحدى الفقرات في إحدى الطبعات، وهو ما قاد أول المشككين في الشعر الجاهلي النافين لصحة ما روي منه، إلى فساد كثير في الرأي، وإلى خلل مفزع في النظر. فلما حضرت هذه الفقرة نفسها، فهمت على غير وجهها، ووضعت في غير موضعها، وصارت حجة في معان هي في الحقيقة حجة عليها لا لها، ثم أفضت إلى تفسير سائر كلام ابن سلام في رسالة كتابه تفسيرًا غير صحيح. �-عرض لكتاب ابن سلام: بد� ابن سلام عرض كتابه وسبب تأليفه في الفقرة الثانية (ص3 من المطبوع) فقال:�>ذكرنا العرب وأشعارها، والمشهورين المعروفين من شعرائها وفرسانها وأشرافها وأيامها، إذ كان لا يحاط بشعر قبيلة واحدة من قبائل العرب، وكذلك فرسانها وساداتها وأيامها. فاقتصرنا من ذلك على ما لا يجهله عالم، ولا يستغنى عن علمه ناظر في أمر العرب، فبدأنا بالشعر<.... وواض� أنه أراد هنا أن يبين منهجه في تأليف الكتاب، وأنه سيذكر بعقب ذلك تتمة عرضه لعمله في التأليف، ولكنه قطع هذا العرض فجأة، ولم يعد إلى وصل الحديث عنه إلا في الفقرة الحادية والثلاثين (ص: 23) فقال متممًا ما بدأ به: >ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية والإسلام، والمخضرمين الذين كانوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام، فنزلناهم منازلهم، واحتججنا لكل شاعر بما وجدنا له من حجة، وما قال فيه العلماء ...<، ثم استطرد بعد ذلك في حديث متصل عن هذا الشعر منذ انتهى من هذه الفقرة الحادية والثلاثين، ثم عاد في الفقرة الخامسة والخمسين (ص: 49) فقال متممًا عرض كتابه أيضًا فقال: >ثم إنا اقتصرنا بعد الفحص والنظر والرواية عمن مضى من أهل العلم، إلى رهط أربعة، اجتمعوا على أنهم أشعر العرب طبقة...< وختم بتمام هذه الفقرة رسالة كتابه أو مقدمته. وفي خلال ذلك بعض الاستطراد وهو لا يعنينا هنا. هذا هو السياق الأول في مقدمة كتابه. ث� يأتي سياق ثان معترض يبدأ من الفقرة الثالثة (ص: 4)، وينتهي عند آخر الفقرة الثالثة عشرة (ص: 11) يبدأه بقوله: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه ...<، يتعرض فيه لبيان رأيه في هذا الموضوع، ويكشف عن حقيقة بطلانه. ث� يبدأ سياقًا ثالثًا يذكر فيه علماء العربية، منذ الفقرة الرابعة عشرة (ص: 12) إلى أن ينتهي بالفقرة الثلاثين (ص: 23)، بادئًا بذكر أبي الأسود الدؤلي، ويحيى بن يعمر العدواني، وقتادة، وإسحق بن سويد، وميمون الأقرن، وعنبسة الفيل، ونصر بن عاصم الليثي، وعبد الله بن أبي إسحق الحضرمي، وعيسى بن عمر، وأبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، ومسلمة بن عبد الله الفهري، وحماد بن الزبرقان، ثم الخليل بن أحمد الفراهيدي، ثم أبي محرز خلف بن حيان، وهو خلف الأحمر، ثم الأصمعي، وأبي عبيدة، وكلهم من أهل البصرة، ثم يختم هذا السياق، فيقول: >وأعلم من وردّ علينا من غير أهل البصرة المفضل بن محمد الضبي الكفوي> �-ترتيب سياق المقدمة جملة: السيا� الأول:*1، 2، ثم 31 إلى 44. السياق الثاني: من 3، إلى 13. السياق الثالث: من 14، إلى 30. ووضوح هذه السياقات الثلاثة المتداخلة والفصل بينها واجب ومهم جدًا لمن يريد أن يفهم ما يريد ابن سلام بكلامه، وهو أشد وجوبًا لمن يحلل ألفاظه وجمله بغيرة الوقوف على مقاصده، بلا خلط بين كلامين مفترقين متباينين. �*الوجوه الخمسة الملثمة في رسالة ابن سلام: الوج� الأول:*>قوم تداولوا شعرًا من كتاب إلى كتاب<. ولا ندري من الناس يعني ابن سلام؟ الوج� الثاني:*وصف هؤلاء القوم بأنهم >لم يأخذوا هذا الشعر عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء<، فذكر >أهل البادية< >والعلماء<. وهذا أيضًا غير محدد، لأنا لا نعرف ماذا يريد بقوله >أهل البادية<، ولا نعلم من هم هؤلاء >العلماء<؟ الوج� الثالث:*ذكر قومًا آخرين سماهم >أهل العلم والرواية الصحيحة<، لهم وحدهم حق إبطال بعض هذا الشعر، ولكنه لم يبين من هم >أهل العلم< ولا معنى ما يريده بالرواية الصحيحة. الوج� الرابع:*ذكر >صحيفة< نهى عن قبول هذا الشعر عنها، وذكر >صحفيًا< نهى كل أحد أن يروى عنه هذا الشعر. وأيضًا تركنا في عمياء دون أن يحدد لنا معنى ما يريد بالصحيفة، ودون أن يبين من يكون هذا >الصحفي<؟ وهذ� الوجوه، غير ممكن تبين ملامحها وحدودها على وجه الدقة، فيما أظن، حتى يتم توسم آخرهن، وهو الوجه الخامس. أم� الوجه الخامس:*فهو وجه >الشعر<، وهو أخفاهن صورة، وأعسرهن على التوسم، وهو أحق بالتقديم، لأنه هو الحقيقة المشتركة الموزعة بين جميعهن. وتحليل معانيه عند ابن سلام في سياق هذه الفقرة، هو الذي سيضيء بنوره معارف هذه الوجوه الأربعة، فنخرج من الشك والتردد، إلى اليقين والاطمئنان. �-تحليل كلام ابن سلام: قا� ابن سلام : " فبدأنا بالشعر، وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه": �-قسم الشعر إلى قسمين: الشعر المصنوع المفتعل )وهذا ظاهر بصريح لفظه(. �-الشعر غير المصنوع )مضمر بدلالة المخالفة(. �-متعلق اختلاف العلماء في نص ابن سلام: �-إما أن يكون الشعر المصنوع. وهذ� القول يعترض عليه باعتراضات: أنه إذا كان جوهر الحديث كله عن >الشعر المصنوع< وحده، فعرضه على العلماء وترك عرضه عليهم سواء، فإن عرضه عليهم لا ينفعه شيئًا، ومحال أن يصححوه أو يصححوا شيئًا منه؛ لأن الحديث هنا عن >الشعر المصنوع< لا عن غيره من الشعر. ثم إنهم على أي وجه يختلفون؟ أيختلفون فيمن صنعه وافتعله ووضعه؟ من يكون أو من يكونون؟ هذا سخف وقلة عقل، وهو بيقين باطل وفوق الباطل، ومحال أن يريد هذا المعنى رجل متهافت العقل، فما ظنك بابن سلام. �-وإما أن تكون جملة معترضة قائمة على حيالها في خلال الحديث عن >الشعر المصنوع<. كأن ابن سلام أعرض عنه إعراضة ليحدثنا مبتدئًا عن >العلماء< الذين عندهم شعر شعراء العرب، ويدلنا على أن هؤلاء العلماء قد اختلفوا في بعض ما عندهم من شعر العرب، واتفقوا على بعض، فما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه = فإن كان هذا منه، فمعنى ما حدثنا عنه صحيح لا غبار عليه، وهو حق كله، لا يقدح فيه أنه لم يبين لنا معنى اختلافهم هذا، وهذا الفرض هو ما ذهب إليه أبو فهر. �-الاعتذار لابن سلام في تعجله ووقوعه في الزلل عند حديثه عن الشعر في الفقرة الثالثة من مقدمة كتابه. �*أسانيد الطبقات وأهميتها: عندن� اليوم نسختين عتيقتين من كتاب >طبقات فحول الشعراء<، أقدمهن نسخة محمود شاكر المنشورة، والأخرى نسخة المدينة شرّفها الله، وهي على النصف منها، لأن صاحبها اختصرها اختصارًا شديدًا. ولهاتين النسختين ثلاثة أسانيد عن أبي خليفة: إسنادان في نسخة محمود شاكر، وإسناد نسخة المدينة. �-بيان أن أبا خليفة لم يخرج كتب خاله )ابن سلام( إلى الناس إلا بعد دهر طويل، فقرأها على الناس بالبصرة ما بين سنة 295 وسنة 300. دليل�: �-كتب ابن سلام الثلاثة، وكتاب الطبقات خاصة، لم يذع ذكره في الناس إلا بعد وفاة ابن سلام سنة 231، بأكثر من خمس وستين سنة. �-جاء في إسناد ابن أُسيد والطبراني كليهما: >قرئ على القاضي أبي خليفة، وأنا أسمع<، فهذا أول ذيوع خبر كتاب >طبقات فحول الشعراء< وغيره من كتب ابن سلام ما بين سنة 295، إلى سنة 300، حين نقلت كتبه من بغداد إلى البصرة، والله أعلم. �-أسانيد الطبقات: الإسنا� الأول:*رواية أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أسيد الأصفهاني (المتوفى سنة 336) عن القاضي أبي خليفة الجمحي. وأبو خليفة ولى قضاء البصرة في سنة 293، وابن أسيد الذي سمعها منه، رحل من أصفهان إلى بغداد، ومر في رحلته بالبصرة، فسمع من أبي خليفة، وذلك قبيل وفاة أبي خليفة سنة 305، فبين هذين التاريخين قرأ على القاضي كتاب الطبقات. (293 � 305) على أكثر تقدير. والإسنا� الثاني:*رواية أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني (260 � وتوفى سنة 360) عن القاضي أبي خليفة أيضًا، والطبراني نزل أصفهان واستوطنها ستين سنة إلى أن توفى، وذلك في سنة 300. وإذن، فهو قد قرأها على القاضي أبي خليفة ما بين سنة 293 وسنة 300. والإسنا� الثالث:*رواية أبي طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر بن بجير الذهلي القاضي، عن أبي خليفة. وأبو طاهر ولد سنة 279 وتوفى سنة 367 بمصر، وانتقل إلى بغداد في خلال ذلك وولى قضاءها سنة 329. وظاهرٌ من تأخر ميلاده إلى سنة 279، يدل على أنه قرأ على أبي خليفة هو أيضًا قبل سنة 300 بقليل، أي في نفس الوقت الذي قرأها على الناس أبو خليفة، وسمعها منه ابن أسيد والطبراني. �-متى ألف ابن سلام كتبه؟ الراج� أنه ألفها في آخر حياته. دليل�:�-ما ذكره الحلبي اللغوي في مراتب النحويين: أن الرياشي كان يختلف إلى ابن سلام ليستعير منه كتابه في الطبقات، *فقيل للرياشي في ذلك فقال: "لو عاش يومين لسمعته منه". والرياشي بصري، وابن سلام بصري رحل عن البصرة سنة 222هـ، إلى بغداد، وكانت وفاتها بها = فلو كان ابن سلام ألف الكتاب وإخوته، وهو بالبصرة، لعرف ذلك الرياشي، ولم يؤجل ذلك إلى أن يصير ابن سلام في بغداد سنة 231، فيزوره ليأخذ منه جزءًا جزءًا. �-ونستظهر من هذا الخبر أيضًا أن ابن سلام كان قد فرغ قبل قليل جدًا من وفاته، من تأليف هذه الكتب، وأنه كان قد عزم على إقرائها للناس، ولكن المنية فاتتهم به، فلم يسمعوا منه شيئًا، ولم يسمع منه سوى ابن أخته أبي خليفة وحده، لأنه كان يومئذ معه ببغداد. �-قول ابن سلام -فيما نقله الخطيب البغدادي-: "والله ما ذاك لحرص على الدنيا مع اثنتين وثمانين سنة،ولكن الإنسان في غفلة حتى يوقظ بعلة"، وقوله: "لو وقفت بعرفات وقفة، وزرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم زورة، وقضيت أشياء في نفسي، لرأيت ما اشتد علي من هذا قد سهل"، يدل على أن هذه العلة الشديدة قد أهبته من غفلة عن أشياء كانت في نفسه، ويتمنى أن يكتب الله لو أن يقف حيث يستجاب الدعاء، فيسأل ربه أن ييسر له قضاءها والفروغ منها وتقر عينه، فلا يأخذه من أمر هذه الدنيا جزع. وأكبر الظن أن هذه الأشياء التي كان يتمنى قضاءها هي تأليف كتب جامعة، كان يحب أن يتعجل كتابتها، بعد أن قضى اثنتين وثمانين سنة لم يؤلف كتابًا، ولا يبقى من علمه عند الناس إلا الشيء من الأحاديث التي أثرت عنه، والأخبار سماعًا ورواية. والكتابة قيد العلم ووعاؤه.� (يتبع في التعليقات)
كنز. يتجلى فيه ذكاء وفصاحة وتواضع أبي فهر -رحمه الله-، ولتحقيق النفع المرجو من الكتاب لا بد من قراءة رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ومعرفة محنة الشعر الجاهلي التي ظهرت في وقت الأستاذ، وقصة مرغليوث وطه حسين.. كل هذا مهم أن يكون القارئ على علم به.
قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلّام، هي محاضرة ألقاها العلامة محمود محمد شاكر في جامعة الإمام محمد بن سعود عام 1975م . وهي على صغرها شديدة الأهمية في كشف الوجوه الملثمة التي أحاطت برسالة كتاب ابن سلّام )طبقات فحول الشعراء) التي أثارت ثلاثة قضايا ناقشها الأستاذ محمود شاكر وهي : القضية الأولى: قضية عمر الشعر الجاهلي الذي وقع إلينا(أولية الشعر الجاهلي) في هذه القضية يرد محمود شاكر على الجاحظ لأنه هو من حدد أولية الشعر الجاهلي بأنه بدأ قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- ب 150/200 سنة وبأن هذا الشعر بدأ مع امرئ القيس وخاله المهلهل. وتبعه الناس في ذلك لثقتهم الكبيرة به، وأخذ محمود شاكر عليه أسلوبه، لأنه أسلوب حسابي بحت (من خلال بعض الأبيات)، والحساب وحده لا يغني بل ينبغي أن ننظر في شعر امرئ القيس نفسه كيف جاء موزونًا مقفّى على ضروب مختلفة من الأوزان والقوافي، فكيف استحدث المهلهل وامرؤ القيس هذا القدر من البحور المختلفة في الأوزان والقوافي؟ ومن الخطأ الادعاء بأن امرأ القيس أول من نهج سبيل الشعر دون دليل مقنع، ويرى محمود شاكر أن الجاحظ قد وصل إليه كتب ابن سلّام الجمحي قبل أن تنتشر، ونقل عنه قوله أن امرأ القيس "أول من قصّد القصائد" ولكنه نقل الأوليّة من معنى خاص محدود، هو تقصيد القصائد وتطويلها، إلى معنى عام مطلق جامع هو الشعر نفسه فقال: "امرؤ القيس أول من نهج سبيل الشعر" . والقضية الثانية : قضية شعراء الجاهلية المعروفين، وما انتهى إلينا من أشعارهم، ومقدار هذا الشعر. حلل فقرة من فقرات رسالة ابن سلام لأن فهم هذه الفقرة كان عصيًّا على محمود شاكر نفسه وعلى غيره من الدارسين، وتوصل بعد بحث وتحليل طويل إلى شرح هذه الفقرة . قسم محمود شاكر الشعر إلى ثلاثة أنواع: _ شعر صحيح يعرفه أهل العلم والرواية الصحيحة عن أهل البادية . _ شعر صحيح يعرفونه أيضًا خُلط بغثاء مصنوع ليس بشعر، وإنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ. _ غثاء مصنوع ليس بشعر لا خير فيه وتوصل إلى أن قول ابن سلام في الفقرة " وفي الشعر مصنوع مفتعل كثير لا خير فيه" المقصود هنا بالشعر هو الثاني، فلا يمكن أن يكون المقصود بالشعر هنا هو الشعر المصنوع فقط، وأشد استحالة أن يكون المقصود به الشعر الذي نعرفه الصحيح. وحلل هذه الفقرة تحليلًا رائعًا، لا يرضى إلا أن يزيح اللثام ويوضح لنا قول ابن سلام الجمحي الذي لم يفهمه أحد لما فيه من تشتت، وقد شوّه هذا قضية الشعر الجاهلي. وبين محمود شاكر أن هذا الارتباك في قول ابن سلام، في هذه الفقرة خصوصًا، كان بسبب عجلة ابن سلام في التأليف، لأنه لم يشرع في تأليف هذا الكتاب إلا في آخر سنوات عمره بعدما أصيب بعلة دفعته للتأليف. ولهذا السبب أيضًا نرى في كتاب ابن سلام تشتت واضح عن المنهج الذي وضعه في رسالة الكتب ولم يلتزم به. أما القضية الثالثة والأخيرة: قضية وضع الشعر ونحله شعراء الجاهلية، أهي صحيحة أم باطلة؟ كان يرد في نقاشه عن هذه القضية على من يدعي بأن الشعر الجاهلي كله منحول ولم يكن له وجود في الجاهلية، ولا شك في أنه كان يقصد طه حسين، واستخدم محمود شاكر هنا منهجه كما استخدمه في سائر المحاضرة وفي سائر كتبه وهو منهج التذوق. فكيف يكون الشعر الجاهلي كله منحولًا؟ والله تعالى أنزل على هذه الأمة العربية التي لا تتحدث إلا بلغة بليغة مبينة = بعث فيهم الرسول ومعه القرآن ليتحداهم في لغتهم وليجعلهم يتبعوا نبيهم من خلال تذوقهم لآيات القرآن الكريم فيعرفوا أن هذا البيان ليس من بشر مثلهم، وما كانت هذه القدرة العالية على التذوق لتكون عندهم، لولا أن حياتهم كلها كانت منقوعة في تذوق الشعر والبيان العالي منذ قرون . ولولا ذلك ما كان الله ليتحداهم وليطلب منهم أن يتدبروا القرآن ويؤمنوا به. حاولت الإيجاز قدر الإمكان، فهذه المحاضرة تزخر بالكثير والكثير، ما كان لأحد أن يتوصل فيها لمثل هذه النتائج إلا شخص مثل محمود شاكر، وهو الذي يعرف العربية حق معرفة ..
بلغة قوية وبلاغة في مذاقها خمراً وبعقل مطلع، يكتب إلينا الكاتب الكبير: محمود محمد شاكر. نقده اللازع لمقالة الجاحظ ، الواقعة في كتابه"الحيوان" والتي تحتوي على إقتناع الجاحظ بأن أغلب الشعر، المسمى بـ " الشعر الجاهلي" ليس منتمياً إلى العصر الجاهلي وإنما منتمياً إلى ما بعده، ثم نقده لمقالة العلامة ابن سلام والتي في كتابه " طبقات فحول الشعراء" وما تضمنته من دراسته وإجابته على مسألة: هل كل "الشعر الجاهلي" لشعراء جاهليين بالفعل؟ وهذا قد يكون بالسؤال بسيط الصيغة ولكنه ليس بسيط الإجابة فقد اختلف عليه الكثير من العلماء وتحدد عيه مصائر الكثير.
ويوضح ما يعنيه بـ" التذوق الأدبي" وكيف كان القرآن مُعجز للعرب أكان من ناحية لغته ونحوه وصرفه أم من ناحية بيانه و"مذاقه الأدبي" إن كان أياً منهما فكان لمقدرة العرب وخلاقتهم حينئذٍ بأن يروا القرآن بأنه مُعجز والسؤال هنا: هل نحن أهلٌ لكي نرى مثلهم بأن القرآن مُعجز؟ وهناك ملحوظة هنا قبل الإجابة وهي: أن العرب كما قال محمود شاكر انهم رأوه من خلال سليقتهم اللغوية وذائقتهم الأدبية، لا بالتلقين والتعليم بأنه غير ما للبشر وأعلى منه كما يحدث في زماننا. ثم يتبع ذلك كلامه بنقده لراي د.طه حسين في إنتحال الشعر
هذه الرسالة أصلها مجموعة من المحاضرات ألقاها المؤلف، محمود محمد شاكر، في جامعة الإمام محمد بن سعود عام 1975. وابن سلام المعني في العنوان هو محمد بن سلام الجمحي، الأديب واللغوي والإخباري الذي عاش في العصر العباسي بين القرن الثاني والثالث الهجري، وكتابه المقصود هو طبقات فحول الشعراء، والذي قدم فيه لمفهوم الشعر العربي، ثم رتب الشعراء في طبقات، ابتداء من عصر الجاهلية وحتى زمانه. في هذه الرسالة، يعمد شاكر إلى بحث فكرة سادت في زمانه � ولعلها لا تزال سائدة � تتعلق بنشأة الشعر العربي، وصحته، ومقدار صحيحة إلى منحوله، حيث يرجع شاكر أصل هذه الفكرة إلى رأي أورده الجاحظ في كتابه الحيوان، وينكر شاكر على الجاحظ رأيه لأسباب يسوقها، أهمها أن رأي الجاحظ لا يعلل سبب ظهور الشعر العربي مكتمل البناء فجأة، ومن ثم يحاول بحث ما استند عليه الجاحظ في تكوين رأيه، قبل أن ينتقل إلى محمد بن سلام وكتابه طبقات فحول الشعراء، حيث يقارن بين ما ذكره الجاحظ بشأن الشعر في كتابه الحيوان، واراء ابن سلام في كتابه، ويذهب إلى أن الجاحظ قد استند في بعض أراءه إلى أراء ابن سلام، والتي اساء الجاحظ تفسيرها، وهو ما أدى به إلى تصوره الخاطئ بشأن أصول الشعر العربي، والتي انتشرت لأن صاحبها الجاحظ. يعرض شاكر أراء ابن سلام ويناقشها، مفككًا هذه الأفكار، متتبعًا أصولها، ومن ثم يعرض ما خلص إليه من أن الشعر العربي أقدم بكثير من عصر امرئ القيس، مثبتًا ما نسب لشعراء الجاهلية، ومؤكدًا على أصالة ونقاء الحس الأدبي واللغوي � الذوق الأدبي � لعرب الجاهلية، لتنتهي رسالته بمناقشة موقف الجاهليين من القرآن من خلال ما توفر لهم من حس أدبي ولغوي، مؤكدًا على أن موقفهم من القرآن يؤكد أن تعاملوا مع القرآن كنص معجز. الكتاب رحلة أدبية ونقدية ممتعة، وكفيل بأن يدفع فكر قارئه إلى تخوم بعيدة، ويحمله على قراءة العديد من المصادر التي ذكرها المؤلف.
يعجبني هذا الرجل محمود شاكر ، من القلائل الذين ينظرون إلى اللغة العربية بعلومها اللغوية وآدابها وتراثها من جهة وإلى الإسلام وعلاقته المركبة بهذه اللغة من جهة ثانية وإلى التاريخ العربي كله من جهة ثالثة، ينظر إلى هذا كله نطرة واحدة شاملة ككيان واحد متكامل أو روافد تصب كلها في نهر واحد هو الهوية العربية الإسلامية، هذا الكتاب مثال حي لهذه الرؤية فهو في الأصل نقد لمقدمة كتاب أدبي عن الشعراء ولكن الكاتب يأخذك في جولة في زمن بأكمله فيخرج بك من الشعراء إلى علماء اللغة والنحويين ثم يخرم بك على المحدثين ورجال الجرح والتعديل، والقرآن حاضر في طول الكتاب وعرضه ، ينتقل الكاتب من هذا إلى ذاك بسهولة ويربط بينها ببراعة ، وربما لهذا السبب يبالغ في تعظيم الشعر في أكثر من موضع فيصفه بأنه شعر نبيل شريف وهو تعميم غريب جدا فثمة أشعار كثيرة لا تمت إلى النبل والشرف من قريب أو بعيد ولعل هذه الرؤية الشاملة هي التي دفعت الكاتب إلى المبالغة في تعظيم الشعر باعتباره جزء من كل نبيل. لغة الكتاب قوية متماسكة ليست غريبة على محمود شاكر، كذلك الأسلوب المنطقي التحليلي الواضح وهو أيضا ليس غريبا على الكاتب
منهج التذوق، هو إن شئت ما يغلب على كتب أبي فهر، وكيف لا يكون ذلك وهو المنهج الذي أنقذه من الضلال الذي أخبرنا أنه تخبط فيه لسنوات؟ وقد استقى هذا المنهج من خلال تتبعه لكتب الأقدمين من رواد كل فن عربي أصيل، وجاء هذا الكتاب ليدافع فيه عن الشعر الجاهلي ضد من ادعى أنه شعر موضوع مكذوب على من نسب إليهم، وليس لصاحب هذه المقالة الضعيفة من علم سوى ما ارتضعه من المستشرقين الرامين لتقويض هذه الأمة دينا ولغة وفكرا... وهكذا استطاع المؤلف رحمه الله أن يتتبع في كتاب ابن سلام المواضع التي ترد على أصحاب هذا الغثاء الفكري.
كتابٌ له العديد من المزايا ويكشف عن الطرق الصحيحة في عدة قضايا، فقد استخدم طريقة منطقية عقلية في غاية الرّوعة ! قلّلت التقييم بسبب العديد من الاستطرادات التي كبّرت حجم الكتاب إلى 130 صفحة في حين أنه بيتحدث عن رسالة ابن سلام التي لاتتجاوز 50 صفحة ! فالحقُّ أنّ الاستطرادات خرجت به عن فكرة عمل كتاب، وهو طبيعي لأنّه ليس كتابًا بل محاضرة ألقاها شاكر في جامعةٍ ما .. .. ولكن أعجبني أيضًا خفّة ظلّ شاكر في الاستدلال على صحّة رأيه ! رأيي أنه مفكّرٌ رائع على كل حال ..
يذهب الشيخ محمود محمد شاكر الى صحة نسبة الشعر العربي الجاهلي الى شعرائه وأن الموضوع منه قليل لا يخفى على متذوقي اللغة العربية ويقسو على ابن سلام في عدة مواضع أنه تسرع في الاستنتاج وانه لم يتذوق الشعر العربي تذوقاً مكتملاً. لأن الكتاب في أصله محاضرة, يغلب عليه الاستطراد والتعليقات غير ذات الصلة المباشرة بالعنوان الرئيسي لذلك يمكن للقارىء أن يقفز مباشرة للصفحة 95 ان اراد فكرة الكتاب الرئيسية دون الفوائد والاضافات.
هذا الكتاب دُرّة من درر شيخ العربية محمود محمد شاكر أخلص فيها تحرّي ما كتب ابن سلّام رحمه الله وأخلص فيها شاكر إلى منهجه في التذوّق لكلام السلف ودافع فيه بشجاعة واستماتة أمام كل اتهام بانتحال الشعر الجاهلي رحمه الله شيخ العربية رحمة واسعة ورفع درجته في عليين