ŷ

نورة's Reviews > قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام

قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام by محمود محمد شاكر
Rate this book
Clear rating

by
5144725
's review

really liked it

هذا الكتاب في أصله محاضرة، تلك المحاضرة البديعة يقول صاحبها في مقدمتها:
"فهذه ليست صناعتي، لم آلفها ولم أمارسها قط، صناعتي هي حمل القلم بين أناملي في خلوة بعيدة عن الناس، في كنف السكينة والاطمئنان، حيث لا يشغلني عما أريده خوف ولا تردد، ولا عين تحملق في وجهي، ولا أذن تصغى تنازعني لساني، وحيث لا يبلبلني صوت نفسي وأنا أسمع كلاما قد فصم عني، ثم لا أملك رده أو تغييره إن أخطأت أو جرت أو تهاويت في زلل، فإن هذه البلبلة بين البسط والقبض، خليقة أن تتركني كالمخنوق لا يجد مساغًا للتنفس. نعم، فأنا لا أجد حريتي إلا مع القلم، فهو وحده الذي يستطيع أن يتحدث عن نفسي مبينًا عنها، غير متردد ولا خائف ولا متهيب ولا متلجلج. ألفت هذه الحرية وأحببتها، حتى بطل عمل لساني وشفتي أو كاد، وصار القلم وحده هو لساني الذي أتحدث به إلى جموع الناس. هذا عذري، فإن قبلتموه فهي منة لكم علي، وإن كرهتموه فلم تقبلوه، فأنا على كل حال لا أستطيع أن أفارق حريتي، لأقع في أسر من لا يرحمني. ولستم به إن شاء الله."
"…وأن� في شرخ الشباب، أن أعتزل الحياة العامة بعض الاعتزال، فلم أسمع في خلال هذه العزلة سوى محاضرات قليلة جدًا، كنت أسمعها أحيانًا غارقًا في الدهشة من قدرة المحاضر المرتجل على التدفق في حديثه، كأنه يقرأ من كتاب. كيف يتم له هذا؟ لا أدري. وكنت أتمنى بيني وبين نفسي أن أكون كمثله، ولكن العجز كان يقف دائمًا حائلاً بيني وبين ما أتمنى. كنت أقول لنفسي أحيانًا: هذا المحاضر بلا شك، قد أوتي قدرًا كبيرًا جدًا من شيء حرمته، وهو شجاعة النظرة، وإلا فكيف يلقي هذا الجمع الكبير من الناس وعيناه في عيونهم؟ مئات العيون تنظر في عينيه، كيف يتلقى هذه السهام النوافذ بلا رهبة؟ مئات العيون تحيط به وتجشه وتقلبه وتروزه، تأخذه وترفعه وتضعه، وتنشره وتطويه، وتتداوله بالمس الرفيق والمس الخشن، كأنه ثوب عند بزاز تقلبه أيدي المشترين. كيف يطيق هذا؟ كيف يصبر له؟ لا أدري. وأنا الآن بينكم قد وقعت في مثل هذه التجربة المخوفة، ولا أدري كيف أجد عواقبها في نفسي، بعد أن أنزل عن هذا المنبر، ثم أفارقكم إلى الفندق، ثم أخلو بعد ذلك في غرفتي أتأمل ما كان مني ومنكم كيف كان. تجربة جديدة، أرجو أن أجد لها لذة كل جديد، إن صدق الحطيئة في قوله:
لكل جديد لذة، غير أنني ...... وجدت جديد الموت غير لذيذ
وقد صدق في الثانية بلا ريب، فهل هو صادق في الأولى حيث جعلها عامة مستغرقة لكل شيء؟ لا أدري الآن. والله أستعين على ما كتب علي، وأسأله اللطف في قضائه وقدره. بيد أن الأساتذة الكبار من المحاضرين المتمكنين، قادرون على معونتي، وعلى التخفيف عني، بإرشادي إلى حقيقة هذه التجربة، وهم الآن جلوس معنا يسمعون ما أقول، فعسى أن يتكرموا على متطفل وابن سبيل، يسألهم ما لا يرزأهم شيئًا، إلا أن يأخذوا بيده ليخرجوه من ورطته وحيرته ومخاوفه، وهذا قليل من كثير فضلهم على كل طالب علم مسترشد."
هكذا يصف رفيق القلم حاله مع الحديث الشفهي، ولربما كان في وصفه وتعليله شفاء لكثير من رفقاء القلم، وعشاق الكتب، أولئك الذين لا يتفهم الناس وجلهم من المواجهة، ولا يعتذرون لأخطائهم في اللقاءات المسجلة، وهم إنما كان عذرهم ما وصفه أبو فهر.

"ولقيت العنت وما فوق العنت في التردد ما بين الخطأ والصواب في فهم بعض ما يقولون، فأسلمني ذلك إلى حالة من الشك تأخذ بأكظامي، وأنا أقرأ بعض كلامهم، حتى ما أطيق أن أتنفس، وأظل حائرًا متهيبًا أن أقول برأي قاطع في فهم ما أقرأ، وتغلبني غمرة طاغية من قلة الثقة بفهمي وبمعرفتي. ورب حرف واحد في كلامهم ينقلني من موقف الواثق، إلى موقف مناقض ينفي هذه الثقة، ثم يأتي بعده حرف آخر يحملني من موقفي هذا، فيطرحني مرة أخرى إلى الموقف الأول في الثقة والاطمئنان، وهكذا دواليك حتى أضق بما أنا فيه. فمن أجل ذلك ألجأ دائمًا إلى إعادة النظر مرة بعد مرة، وأحاول أن أستوعب في كل مرة قدرًا من الشكوك وقدرًا من اليقين، وأعرض هذا على الكلام كله شيئًا بعد شيء، حتى أزيل التخالف الداعي إلى الشك ما استطعت."
وقد يطيف بك ما طاف بأبي فهر، إلا أنك لا تملك جرأته، ولا أسلوبه، ولا حمولته المعرفية.. فتبتلع اعتراضك، حتى تغص به نفسك.

وأنا مع أبي فهر في مؤلفاته، وقعت في تتبع مشاعره وتعبيراته عما يجول في نفسه، يجيء القاصدون لهذا الكتاب بحثا عن قضاياه، وأجيء أنا باحثة عن خواطره.

وإن أردت تلخيصا لمقاصد الكتاب، فدونك ما كتبت:

المقص� الأكبر: إزالة الإبهام الذي اكتنف رسالة ابن سلام، والكشف عن الكثير من الغموض الذي أحاط بالشعر الجاهلي وروايته. 

وينطو� تحته ثلاث قضايا هي:
القضي� الأولى:قضية عمر الشعر الجاهلي الذي وقع إلينا، وهي قضية متفرعة عن أولية الشعر نفسه في لسان العرب.
والقضي� الثانية:قضية شعراء الجاهلية المعروفين، وما انتهى إلينا من أشعارهم، ومقدار هذا الشعر.
والقضي� الثالثة:قضية وضع الشعر ونحله شعراء الجاهلية، أهي صحيحة أم باطلة؟ فإن صحت فأين المنحول في ما وصلنا عن العلماء الرواة من أشعارهم؟

المقاص� الثانوية: 
�*مقدمة في منهج أبي فهر مع كتب القدماء:�-إعادة النظر مرة بعد الأخرى في الكلام وتتبع تاريخه.�-استيعاب الكلام وعرض بعضه على بعض حتى يزول التخالف الداعي إلى الشك.�-تحليل الألفاظ ثم الجمل تحليلا دقيقا مع الوقوف على مقاصد الكاتب.�-إعادة تركيب النص بعد زوال الغموض عن اللفظ، والتشقق عن الجمل.

القضي� الأولى، وهي قضية عمر الشعر الجاهلي وأوليته:
�*عمر الشعر الجاهلي ورأي الجاحظ فيه لكونه من أقدم من كتب في القضية:
�-يرى الجاحظ أن عمر الشعر قصير, وأن أول من نهج سبيله امرؤ القيس ومهلهل ربيعة.�-يستخدم الجاحظ الأسلوب الحسابي البحت في تقرير هذا الرأي، فيرى أن الشعر ولد قبل الإسلام بمئة وخمسين سنة. أو إن كما قيل أن امرؤ القيس كان يتكئ في بعض شعره على من سبقه كابن حذام الطائي وأبي دؤاد الإيادي, فيكون مئتي عام.�-تفنيد رأي الجاحظ:�-أن الحساب وحده لا يكاد يغني شيئًا في ميلاد الشعر وحداثة سنه. �-عدم النظر في شعر امرئ القيس نفسه، كيف جاء موزونًا مقفى على ضروب مختلفة من الأوزان والقوافي، كيف تسنى لمهلهل وابن أخته أن يستحدثنا هذا القدر في البحور المختلفة الأوزان والقوافي؟ ولا كيف يمكن أن يقع لهما هذا القدر من الابتداع جملة على غير مثال سابق؟�-قول الجاحظ:" كتب أرسطاطاليس، ومعلمه أفلاطون، ثم بطليموس وديمقريطس وفلان وفلان، قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب" دعوى، والدعوى لا تقرر بمثلها تفتقر هي نفسها إلى برهان يجليها ويثبتها. وكلتاهما تحتاج إلى دليل غير الدليل الحسابي المعتمد على زمن الميلاد وزمن الوفاة.�-اعتماد الجاحظ على خبر واه ضعيف: 
بد� أن أبا عثمان قد أخذ أن امرأ القيس هو أول من نهج سبيل الشعر من هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (رقم: 7127)، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار<. وهذا الخبر نفسه رواه البخاري في الكنى قال: >قال مسدد، حدثنا هشيم، حدثنا شيخ يكنى أبا جهم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: >صاحب لواء الشعراء إلى النار، امرء القيس، لأنه أول من أحكم الشعر<. وأبو الجهم هذا قال فيه ابن عدي >شيخ مجهول، لا يعرف له اسم، وخبره منكر، ولا أعرف له غيره<، وقد أفاض السيد أحمد محمد شاكر رحمه الله في شرح إسناد هذا الخبر، وذكر إجماع علماء الجرح والتعديل على أن أبا الجهم معروف برواية هذا الخبر، وأنه خبر واهٍ ضعيف جدًا.�* فإذن: قضية أبي عثمان في أولية الشعر دعوى باطلة مركبة على دعوى باطلة أخرى لا أصل لها، وكلتاهما لا حجة عليها يجب التسليم لها من نص أو نظر.
�*محمد بن سلام وكتابه الطبقات:
�-تبرير الإقبال على كتاب ابن سلام، والاستفادة منه في هذه القضية:

أن� أشد من أبي عثمان تحريًا وضبطًا، وأبلغ منه تحققًا وتثبيتًا في رواية الشعر ونقده، وهو بلا ريب أعلم به منه وأخبر. كما أنه أقدم كتاب وصل إلينا من كتب قدماء نقاد الأدب والشعر، بل لعله طليعة كتب النقد في الأدب العربي.
�*رسالة طبقات فحول الشعراء وسياقاتها:
�-حاول أبو فهر فيها ترتيب السياقات، والإشارة إلى الأوهام التي توحي بها، والنص على غياب إحدى الفقرات في إحدى الطبعات، وهو ما قاد أول المشككين في الشعر الجاهلي النافين لصحة ما روي منه، إلى فساد كثير في الرأي، وإلى خلل مفزع في النظر. فلما حضرت هذه الفقرة نفسها، فهمت على غير وجهها، ووضعت في غير موضعها، وصارت حجة في معان هي في الحقيقة حجة عليها لا لها، ثم أفضت إلى تفسير سائر كلام ابن سلام في رسالة كتابه تفسيرًا غير صحيح. 
�-عرض لكتاب ابن سلام:

بد� ابن سلام عرض كتابه وسبب تأليفه في الفقرة الثانية (ص3 من المطبوع) فقال:�>ذكرنا العرب وأشعارها، والمشهورين المعروفين من شعرائها وفرسانها وأشرافها وأيامها، إذ كان لا يحاط بشعر قبيلة واحدة من قبائل العرب، وكذلك فرسانها وساداتها وأيامها. فاقتصرنا من ذلك على ما لا يجهله عالم، ولا يستغنى عن علمه ناظر في أمر العرب، فبدأنا بالشعر<....
وواض� أنه أراد هنا أن يبين منهجه في تأليف الكتاب، وأنه سيذكر بعقب ذلك تتمة عرضه لعمله في التأليف، ولكنه قطع هذا العرض فجأة، ولم يعد إلى وصل الحديث عنه إلا في الفقرة الحادية والثلاثين (ص: 23) فقال متممًا ما بدأ به: >ففصلنا الشعراء من أهل الجاهلية والإسلام، والمخضرمين الذين كانوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام، فنزلناهم منازلهم، واحتججنا لكل شاعر بما وجدنا له من حجة، وما قال فيه العلماء ...<، ثم استطرد بعد ذلك في حديث متصل عن هذا الشعر منذ انتهى من هذه الفقرة الحادية والثلاثين، ثم عاد في الفقرة الخامسة والخمسين (ص: 49) فقال متممًا عرض كتابه أيضًا فقال: >ثم إنا اقتصرنا بعد الفحص والنظر والرواية عمن مضى من أهل العلم، إلى رهط أربعة، اجتمعوا على أنهم أشعر العرب طبقة...< وختم بتمام هذه الفقرة رسالة كتابه أو مقدمته. وفي خلال ذلك بعض الاستطراد وهو لا يعنينا هنا. هذا هو السياق الأول في مقدمة كتابه.
ث� يأتي سياق ثان معترض يبدأ من الفقرة الثالثة (ص: 4)، وينتهي عند آخر الفقرة الثالثة عشرة (ص: 11) يبدأه بقوله: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه ...<، يتعرض فيه لبيان رأيه في هذا الموضوع، ويكشف عن حقيقة بطلانه.
ث� يبدأ سياقًا ثالثًا يذكر فيه علماء العربية، منذ الفقرة الرابعة عشرة (ص: 12) إلى أن ينتهي بالفقرة الثلاثين (ص: 23)، بادئًا بذكر أبي الأسود الدؤلي، ويحيى بن يعمر العدواني، وقتادة، وإسحق بن سويد، وميمون الأقرن، وعنبسة الفيل، ونصر بن عاصم الليثي، وعبد الله بن أبي إسحق الحضرمي، وعيسى بن عمر، وأبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، ومسلمة بن عبد الله الفهري، وحماد بن الزبرقان، ثم الخليل بن أحمد الفراهيدي، ثم أبي محرز خلف بن حيان، وهو خلف الأحمر، ثم الأصمعي، وأبي عبيدة، وكلهم من أهل البصرة، ثم يختم هذا السياق، فيقول: >وأعلم من وردّ علينا من غير أهل البصرة المفضل بن محمد الضبي الكفوي>
�-ترتيب سياق المقدمة جملة:
السيا� الأول:*1، 2، ثم 31 إلى 44. السياق الثاني: من 3، إلى 13. السياق الثالث: من 14، إلى 30. ووضوح هذه السياقات الثلاثة المتداخلة والفصل بينها واجب ومهم جدًا لمن يريد أن يفهم ما يريد ابن سلام بكلامه، وهو أشد وجوبًا لمن يحلل ألفاظه وجمله بغيرة الوقوف على مقاصده، بلا خلط بين كلامين مفترقين متباينين.
�*الوجوه الخمسة الملثمة في رسالة ابن سلام:

الوج� الأول:*>قوم تداولوا شعرًا من كتاب إلى كتاب<. ولا ندري من الناس يعني ابن سلام؟
الوج� الثاني:*وصف هؤلاء القوم بأنهم >لم يأخذوا هذا الشعر عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء<، فذكر >أهل البادية< >والعلماء<. وهذا أيضًا غير محدد، لأنا لا نعرف ماذا يريد بقوله >أهل البادية<، ولا نعلم من هم هؤلاء >العلماء<؟
الوج� الثالث:*ذكر قومًا آخرين سماهم >أهل العلم والرواية الصحيحة<، لهم وحدهم حق إبطال بعض هذا الشعر، ولكنه لم يبين من هم >أهل العلم< ولا معنى ما يريده بالرواية الصحيحة.
الوج� الرابع:*ذكر >صحيفة< نهى عن قبول هذا الشعر عنها، وذكر >صحفيًا< نهى كل أحد أن يروى عنه هذا الشعر. وأيضًا تركنا في عمياء دون أن يحدد لنا معنى ما يريد بالصحيفة، ودون أن يبين من يكون هذا >الصحفي<؟
وهذ� الوجوه، غير ممكن تبين ملامحها وحدودها على وجه الدقة، فيما أظن، حتى يتم توسم آخرهن، وهو الوجه الخامس.

أم� الوجه الخامس:*فهو وجه >الشعر<، وهو أخفاهن صورة، وأعسرهن على التوسم، وهو أحق بالتقديم، لأنه هو الحقيقة المشتركة الموزعة بين جميعهن. وتحليل معانيه عند ابن سلام في سياق هذه الفقرة، هو الذي سيضيء بنوره معارف هذه الوجوه الأربعة، فنخرج من الشك والتردد، إلى اليقين والاطمئنان.
�-تحليل كلام ابن سلام:

قا� ابن سلام : " فبدأنا بالشعر، وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه":
�-قسم الشعر إلى قسمين: الشعر المصنوع المفتعل )وهذا ظاهر بصريح لفظه(.
�-الشعر غير المصنوع )مضمر بدلالة المخالفة(.
�-متعلق اختلاف العلماء في نص ابن سلام:
�-إما أن يكون الشعر المصنوع. 

وهذ� القول يعترض عليه باعتراضات: أنه إذا كان جوهر الحديث كله عن >الشعر المصنوع< وحده، فعرضه على العلماء وترك عرضه عليهم سواء، فإن عرضه عليهم لا ينفعه شيئًا، ومحال أن يصححوه أو يصححوا شيئًا منه؛ لأن الحديث هنا عن >الشعر المصنوع< لا عن غيره من الشعر. ثم إنهم على أي وجه يختلفون؟ أيختلفون فيمن صنعه وافتعله ووضعه؟ من يكون أو من يكونون؟ هذا سخف وقلة عقل، وهو بيقين باطل وفوق الباطل، ومحال أن يريد هذا المعنى رجل متهافت العقل، فما ظنك بابن سلام.
�-وإما أن تكون جملة معترضة قائمة على حيالها في خلال الحديث عن >الشعر المصنوع<. كأن ابن سلام أعرض عنه إعراضة ليحدثنا مبتدئًا عن >العلماء< الذين عندهم شعر شعراء العرب، ويدلنا على أن هؤلاء العلماء قد اختلفوا في بعض ما عندهم من شعر العرب، واتفقوا على بعض، فما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه = فإن كان هذا منه، فمعنى ما حدثنا عنه صحيح لا غبار عليه، وهو حق كله، لا يقدح فيه أنه لم يبين لنا معنى اختلافهم هذا، وهذا الفرض هو ما ذهب إليه أبو فهر.
�-الاعتذار لابن سلام في تعجله ووقوعه في الزلل عند حديثه عن الشعر في الفقرة الثالثة من مقدمة كتابه.
�*أسانيد الطبقات وأهميتها:

عندن� اليوم نسختين عتيقتين من كتاب >طبقات فحول الشعراء<، أقدمهن نسخة محمود شاكر المنشورة، والأخرى نسخة المدينة شرّفها الله، وهي على النصف منها، لأن صاحبها اختصرها اختصارًا شديدًا. ولهاتين النسختين ثلاثة أسانيد عن أبي خليفة: إسنادان في نسخة محمود شاكر، وإسناد نسخة المدينة.
�-بيان أن أبا خليفة لم يخرج كتب خاله )ابن سلام( إلى الناس إلا بعد دهر طويل، فقرأها على الناس بالبصرة ما بين سنة 295 وسنة 300.
دليل�: 
�-كتب ابن سلام الثلاثة، وكتاب الطبقات خاصة، لم يذع ذكره في الناس إلا بعد وفاة ابن سلام سنة 231، بأكثر من خمس وستين سنة.
�-جاء في إسناد ابن أُسيد والطبراني كليهما: >قرئ على القاضي أبي خليفة، وأنا أسمع<، فهذا أول ذيوع خبر كتاب >طبقات فحول الشعراء< وغيره من كتب ابن سلام ما بين سنة 295، إلى سنة 300، حين نقلت كتبه من بغداد إلى البصرة، والله أعلم.
�-أسانيد الطبقات:

الإسنا� الأول:*رواية أبي عبد الله محمد بن أحمد بن أسيد الأصفهاني (المتوفى سنة 336) عن القاضي أبي خليفة الجمحي. وأبو خليفة ولى قضاء البصرة في سنة 293، وابن أسيد الذي سمعها منه، رحل من أصفهان إلى بغداد، ومر في رحلته بالبصرة، فسمع من أبي خليفة، وذلك قبيل وفاة أبي خليفة سنة 305، فبين هذين التاريخين قرأ على القاضي كتاب الطبقات. (293 � 305) على أكثر تقدير.
والإسنا� الثاني:*رواية أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني (260 � وتوفى سنة 360) عن القاضي أبي خليفة أيضًا، والطبراني نزل أصفهان واستوطنها ستين سنة إلى أن توفى، وذلك في سنة 300. وإذن، فهو قد قرأها على القاضي أبي خليفة ما بين سنة 293 وسنة 300.
والإسنا� الثالث:*رواية أبي طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر بن بجير الذهلي القاضي، عن أبي خليفة. وأبو طاهر ولد سنة 279 وتوفى سنة 367 بمصر، وانتقل إلى بغداد في خلال ذلك وولى قضاءها سنة 329. وظاهرٌ من تأخر ميلاده إلى سنة 279، يدل على أنه قرأ على أبي خليفة هو أيضًا قبل سنة 300 بقليل، أي في نفس الوقت الذي قرأها على الناس أبو خليفة، وسمعها منه ابن أسيد والطبراني.
�-متى ألف ابن سلام كتبه؟
الراج� أنه ألفها في آخر حياته.
دليل�:�-ما ذكره الحلبي اللغوي في مراتب النحويين: أن الرياشي كان يختلف إلى ابن سلام ليستعير منه كتابه في الطبقات، *فقيل للرياشي في ذلك فقال: "لو عاش يومين لسمعته منه". والرياشي بصري، وابن سلام بصري رحل عن البصرة سنة 222هـ، إلى بغداد، وكانت وفاتها بها = فلو كان ابن سلام ألف الكتاب وإخوته، وهو بالبصرة، لعرف ذلك الرياشي، ولم يؤجل ذلك إلى أن يصير ابن سلام في بغداد سنة 231، فيزوره ليأخذ منه جزءًا جزءًا. 
�-ونستظهر من هذا الخبر أيضًا أن ابن سلام كان قد فرغ قبل قليل جدًا من وفاته، من تأليف هذه الكتب، وأنه كان قد عزم على إقرائها للناس، ولكن المنية فاتتهم به، فلم يسمعوا منه شيئًا، ولم يسمع منه سوى ابن أخته أبي خليفة وحده، لأنه كان يومئذ معه ببغداد.
�-قول ابن سلام -فيما نقله الخطيب البغدادي-: "والله ما ذاك لحرص على الدنيا مع اثنتين وثمانين سنة،ولكن الإنسان في غفلة حتى يوقظ بعلة"، وقوله: "لو وقفت بعرفات وقفة، وزرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم زورة، وقضيت أشياء في نفسي، لرأيت ما اشتد علي من هذا قد سهل"، يدل على أن هذه العلة الشديدة قد أهبته من غفلة عن أشياء كانت في نفسه، ويتمنى أن يكتب الله لو أن يقف حيث يستجاب الدعاء، فيسأل ربه أن ييسر له قضاءها والفروغ منها وتقر عينه، فلا يأخذه من أمر هذه الدنيا جزع. وأكبر الظن أن هذه الأشياء التي كان يتمنى قضاءها هي تأليف كتب جامعة، كان يحب أن يتعجل كتابتها، بعد أن قضى اثنتين وثمانين سنة لم يؤلف كتابًا، ولا يبقى من علمه عند الناس إلا الشيء من الأحاديث التي أثرت عنه، والأخبار سماعًا ورواية. والكتابة قيد العلم ووعاؤه.�
(يتبع في التعليقات)
2 likes · flag

Sign into ŷ to see if any of your friends have read قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام.
Sign In »

Reading Progress

October 17, 2021 – Started Reading
October 17, 2021 – Shelved
October 17, 2021 –
page 12
9.16% ""فكل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها على ضرب من الضروب، وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها ... وذهبت العجم على أن تقيد مآثرها بالبنيان ..."
*الجاحظ

تتفقون معه؟"
October 17, 2021 – Finished Reading

Comments Showing 1-2 of 2 (2 new)

dateDown arrow    newest »

نورة �*أثر تأخر سن ابن سلام على كتاب الطبقات، والخلل الظاهر في رسالته نتيجة لكتابتها مرتين:
�-العجلة الظاهرة البينة في مواضع من كتابه "طبقات فحول الشعراء".
�-الاستطراد المقحم على نهج الكتاب. 
�-زيادة أشياء لا ذكر لها في عرض كتابه.
�-نسيان تغيير ما كتبه في رسالة كتابه بعد ما أضافه في النسخة الأخيرة.

ومثا� ذلك: أن ابن سلام في رسالة كتابه قال: >فاقتصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعرًا، فألفنا من تشابه شعره منهم إلى نظرائه، فوجدناهم عشر طبقات، أربعة رهط كل طبقة متكافئين معتدلين<، يعني عشر طبقات من أهل الجاهلية، وعشر طبقات من أهل الإسلام. فهؤلاء ثمانون شاعرًا. هذا ما قصده ابن سلام حين بدأ كتابه، ولكنه لم يكد يفرغ من أمر شعراء الجاهلية، حتى بدا له أن يقحم بين الأربعين من شعراء الجاهلية، والأربعين من شعراء الإسلام، طبقات أخرى لم يذكرها في عرض كتابه، كما حدده حين بدأ تأليف كتابه، فقال في آخر طبقات الجاهلية: >انقضى خبر الطبقات العشر<.
�*نبذة عن ابن سلام وعصره:
�-كان حفيا بالشعر وأخباره، وقد ورث ذلك عن أبيه، كما ورد في كتابه إكثاره من سؤال أبيه. وظل متقصيا للشعر والشعراء حتى بلغ التسعين من عمره، فتلقى من كبار الأئمة حتى نال الراية في ذلك.
�-العصر الذي عاش فيه كان زاخرا بالعلم والأدب, لا في بغداد وحدها بل في كل أرجاء الخلافة.
�-دوافع كتابته للطبقات ومحركاتها:
�-كان علم العلماء في صدورهم, وقلما قيدوه في كتبهم، فقل الاهتمام بالتأليف، بيد أن بعض التلامذة خالفوا تلك السنة، كما فعل الفراهيدي في كتاب العين، والموصلي في الإيقاع والنغم، وسيبويه في الكتاب. وقد شهد ابن سلام هذا التلاقي وما كان من أثره، منذ كان يحضر مجالس أبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، والأصمعي، وأبي عبيدة والخليل بن أحمد وسيبويه، والأخفش، فنازعته نفسه منذ ذلك الوقت أن يفعل في شأن الأدب والشعر وأخبار العرب ما فعل هؤلاء بعلم >العروض< و >علم النغم<، و>علم النحو والعربية<، ولما ارتحل إلى بغداد وشهد ما شهد من الحفاوة، عاد له ذلك الهاجس، ولكن لم يكد حتى مرض ... وزاره الطبيب ابن ماسويه، فقال له فيما قال: >الإنسان في غفلة حتى يوقظ بعلة .. ولو قضيت أشياء في نفسي، لرأيت ما اشتد علي من هذا قد سهل<. فبدأ بعد أن استبل، في وضع منهج كتابه الأول >طبقات فحول الشعراء<، وكتب هذا المنهج في صدر كتابه، ومضى يؤلف، ليؤسس بهذا الكتاب >علم الأدب والشعر<.
�-لما فرغ من نسخته الأولى فوجئ برجل كان واحد الدنيا في زمانه، فذكره بأشياء كان ينبغي أن تكون أساس منهجه ولكنه غفل عنها أو نسيها، أو لم تخطر له في أول التأليف على بال، مع تقدم السن، ومع العجلة، ومع غموض تأسيس منهج شامل لعلم الأدب والشعر. هذا الرجل، هو يحيى بن معين بن عون، وذلك أن تأسيسه لعلم معرفة الرجال والجرح والتعديل، والموضوع من الحديث على رسول الله، قد أثار ابن سلام إلى أن يؤسس هو أيضًا أساسًا لمثل هذين العلمين في ناقلة الآداب والأخبار والشعر، لينفي عن الشعر خبث ناقلته ورواته. وخبث الموضوع على ألسنة شعراء الجاهلية وغيرهم في كتب كان قد آذاه رؤيتها وقراءتها من قبل.
�- تفكك فقرات رسالة ابن سلام وتعليل ذلك:
�*أنه كان بين حاديين: الموت، والمرض المفضي إلى العجز. اللذان يمنعانه من الجمع بين إتمام كتاب الطبقات والبدء بكتاب مؤسس في علم الأدب والشعر، مما أدى به إلى إقحام موضوعات الثاني في الأول مع الاختصار الذي يدفعه التعجل، ولم يبال أن يقحم، ما يريد بين الكلامين المتصلين المترابطين إقحامًا، فبدأ الفقرة الثالثة، بقوله: >وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع لا خير فيه ...<، وعجل عجلاً شديدًا فيما كتب حتى كاد يضطرب الأمر في هذه الفقرات، من الثالثة إلى الفقرة الثالثة عشرة. ثم عجل أيضًا فأتبع ذكر الموضوع، بذكر طبقات علماء البصرة من أهل العلم والرواية الصحيحة، فذكر من ذكر، ثم ضعف بأخرة في آخر فقرة بعد أن مضى على سننه من الفقرة الرابعة عشرة إلى الفقرة الثلاثين، فاختصر الكلام اختصارًا شديدًا، فقال: >وكان الأصمعي وأبو عبيدة من أهل العلم، وأعلم من ورد علينا من غير أهل البصرة المفضل بن محمد الضبي الكوفي<. فانظر إلى هذا الإيجاز في ذكر الأصمعي وأبي عبيدة، وهما شيخاه وصاحباه! ثم انظر إلى عجلته وخوفه من تفلت الأمر، فاقتصر من كل علماء الكوفة على رجل واحد من كثير ممن ورد عليه بالبصرة من علماء الكوفة!
�- الذين عناهم ابن سلام بقوله (القوم(:
�-نستطيع أن نعد بعضا منهم، ممن عد ابن سلام لهم كتبا: عبيد الجرهمي، وله من الكتب "كتاب الأمثال"، ووهب بن منبه، وله "الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم"، ومحمد بن إسحاق وله "السيرة".
�- هذه الكتب وإن صح اعتبارها من الأمثلة على الشعر المصنوع إلا أننا نقرر وجود هذه الأصناف الثلاثة فيها: الشعر الصحيح، والشعر الصحيح المخلوط بالغثاء، والغثاء المحض.

قا� ابن سلام: >فبدأنا بالشعر، وفي الشعر مصنوع مفتعلٌ موضوع كثير لا خير فيه ... وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد � إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه � أن يقبل عن صحيفة أو يروى عن صحفي<.
�-المراد بالشعر في النص: 
�-الشعر المصنوع وحده. وهو مردود فيما بين سابقا.
�-الشعر المعروف ببديهة اللغة. وهو أشد استحالة من الأول.
�-فيبقى: الشعر الصحيح الذي يعرفه العلماء، ولكنه خلط بمصنوع ليس بشعر، في قصيدة واحدة. 
�-بيان عودة الضمائر الأربعة إلى هذا الصنف وحده. بدلالة أن:
�-الضمير الأول: >قد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب<، واضح لا يحتاج إلى بيان.�-والضمير الثاني: >ولم يأخذوه عن أهل البادية< صحيح أيضًا، فإنهم لو كانوا أخذوه عنهم لما خالطه هذا الغثاء، ولكان مطابقًا لما عند العلماء بالشعر بلا زيادة، فقد أخذوا جميعًا من مصدر واحد. 
�-والضمير الثالث: >ولم يعرضوه على العلماء<، يجعل الكلام بعودته إلى الصنف الثاني صحيحًا ذا فائدة، فإنه إذا عُرِض على العلماء، استخلصوا الصحيح المعروف عندهم، ونفوا الغثاء الباطل الذي خُلط به. 
�-والضمير الرابع في قوله: >وليس لأحد � إذا أجمع أهل العلم على إبطال شيء منه � أن يقبل عن صحيفة، أو يروى عن صحفي<، إذا هو عاد أيضًا على هذا الصنف، استقام معنى الكلام، وصار تمامًا للكلام الأول بلا غضاضة، وصار أيضًا للتبعيض في قوله: >على إبطال شيء منه<، معنى، لأن الذي يبطلونه >بعض< من كل، وهو هذه القصيدة الملفقة بالتخليط.
�*طرق تلقي الشعر:
�-أثبت طرق تلقي الشعر على عهد رسول الله بعدة استشهادات منها: ما رواه مسلم في صحيحه في كتاب الشعر، والبخاري في الأدب المفرد، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي قال: >ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال لي: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيئًا؟ قلت: نعم! قال: هِيه! فأنشدته بيتًا، فقال: هيه! ثم أنشدته بيتًا فقال: هيه! حتى أنشدته مئة بيت<، هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: >حتى أنشدته مئة قافية<.
�-كان هؤلاء العرب على عادتهم التي كانوا عليها في جاهليتهم، وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تناشد الأشعار في مجالسهم، وتذاكر أمر الجاهلية. ثم بدأ عمر في تمصير الأمصار، فكانوا في هذه الأمصار على عهدهم في ذلك كله، وتوارث ذلك عنهم أبناؤهم وأهل المدن التي هم فيها. فلما كان زمان أبي الأسود الدؤلي، على عهد علي بن أبي طالب، بدأ يؤسس العربية، وزادت حاجته وحاجة أصحابه إلى تقصي الشعر المنحدر مع حملته من الجاهلية. فمن يومئذ افتتح ناشئة المسلمين بابًا جديدًا لحفظ شعر الجاهلية عن الصحابة وكبار التابعين، لا في البصرة وحدها، بل في الكوفة أيضًا وفي سائر الأمصار التي نزلها المسلمون من عرب الجاهلية.�-كانت الكتابة قد انتشرت في جميع أمصار الإسلام، فكان التابعون يكتبون لأنفسهم أكثر ما يسمعون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعانة بذلك على الحفظ لا أكثر، فأصبح تقييد المسموع أمرًا منتشرًا في الناس، لا على وجه التأليف والتصنيف، بل لمجرد التذكر والحفظ، وكما كان الناس شديدي الحفاوة بحفظ مآثر جاهليتهم، وشعر شعرائهم، كان سبيلهم في ذلك سبيل ما ألفوه في تقييد الحديث، لمجرد التذكر والحفظ، وكل امرئ يكتب لنفسه لا للناس.


نورة *-يقول ابن سلام في الفقرة الثانية والثلاثين:�>وكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم، ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون. قال ابن سلام: قال ابن عون، عن ابن سيرين قال: قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علمَ قومٍ لم يكن لهم علمٌ أصحٌّ منه = قال ابن سلام: فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب. وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير<.
�-اعتراضات على المقالة:
�-لم يمنع انشغال المسلمين في بداية الإسلام من رواية الشعر، فكيف تمنعهم الفتوحات من ذلك.
�-هذه العبارة صادقة كل الصدق في جوهرها، ولكن إذا بطل ما بنيت عليه، وهو أن العرب >لهت عن الشعر وروايته< وتشاغلت عنه بالغزو والجهاد، بطل منها لزامًا قوله: >راجعوا رواية الشعر<، لأنه إذا بطل أصل القضية وهو >اللهو< عن رواية الشعر، بطل الفرعُ، وهو مراجعة روايته بلا ريب، وإذن فهم لم ينقطعوا عن روايته في زمن الغزو والجهاد، فلما استقروا واطمأنوا بالأمصار، صار اهتمام الناس بروايته أتم وأوسع. فالصواب إذن أن يحل محل قوله >وراجعوا رواية الشعر<: >اتسع الناس في رواية الشعر<.
�-العلة الصحيحة في قلته هو ما قاله ابن سلام نفسه من هلاك من هلك بالموت والقتل، وما يعرض للحفاظ من المرض والضعف والفتور، والخروج في الغزوات، والتنقل في البلدان الغريبة، وقلة اهتمام بعض السامعين بحفظ ما سمعوا أو تقييده حتى لا ينسى، في الوقت بعد الوقت.
�-إن تطلب الأبناء أخبار الآباء وأشعارهم في جاهليتهم مطلب صحيح قائم في النفوس، وفي نفوس العرب خاصة، فإن الأمر كان أجل من ذلك، ولكننا نغفل عنه، ولا يدخله أحد من المحدثين في البحث عن أمر الشعر الجاهلي إلا رمزًا.
�-سبب هذا الإغفال أمران: 

أولهم�: اتباع مناهج سقيمة سيئة مجتلبة، مبنية على التقليد، وهي في ذاتها لا تصلح للدراسة الأدبية في هذه اللغة وفي تاريخ أصحابها، مع ما في التقليد من الضعف والتهافت عن أسلوب الباحثين الذين يقلدونهم. 

وثانيهم�: أن الأمر غامض بعض الغموض، لأنه يتعلق بدخيلة نفوس ذهبت منذ قرون، لم يشهدها منا أحد فينتبه إلى توسم معالمها وخوافيها، ولأن أصحاب هذه النفوس، لم يتحروا أن يبينوا عن مكنون أنفسهم فيما وصل إلينا من مأثور أقوالهم، إلا لمحًا خفيًا في قليل من الأحيان، فهو حري أن يتجاوزه النظر، دون أن يشعر بخطره أو فائدته في الدراسة.
�*كيف كان تذوق الكلام عند العرب؟
�-كان التذوق عاما مستغرقا في العرب قبل نزول القرآن, كانوا يملكون قدرًا لا يمكن تحديده من القدرة على تذوق البيان والنظم، تتيح لهم الفصل الواضح بين الذي هو كلام البشر، والذي هو مباين لكلام البشر، وتمنحهم اليقين القاطع بأن هذا القرآن العربي المنزل بلسانهم، هو كلام رب العالمين.

دليل�:
�- لما كابر المشركون وكذبوه عنادًا، تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات [هود: 13]، ثم بسورة مثله [يونس: 10]، ثم قضى غاية التحدي فقال لهم: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88]، ثم لم ينصب لهم حكمًا يحتكمون إليه = في الموازنة بين كلامه سبحانه، والكلام الذين يأتون به استجابةً لهذا التحدي = سوى أنفسهم، فالأمر كله مفوض إليهم. وذلك دليل على أنهم كانوا قادرين على هذا التمييز، وأنهم مؤتمنون على هذا الحكم. 

وبيا� ذلك في أمرين:
�-طلب إقرارهم بأن هذا القرآن المنزل مباين بنظمه وبيانه لكلام البشر.
�-وفي الحكم المفوض إليهم في التمييز بين القرآن، وبين ما عسى أن يعارض به المعارضون استجابةً للتحدي.
�-أصلان عظيمان في الاستدلال على علو كعب الشعر الجاهلي ومدى الاهتمام به وتداوله عند العرب:

أولهم�: أنه غير ممكن أن يكون نشأ الذوق فيهم ابتداءً عند تنزيل القرآن، بل هو نتيجة دهور متطاولة من تذوق البيان في أوسع نطاق من التنوع وأشمله، وعلى أعلى درجة من دقة الإحساس بالأبنية اللغوية المختلفة التي أتيحت للبيان الصادر عن الإنسان في جميع لغات البشر. 

وثانيهم�: أنه لا يمكن أن يكون كان الأمر على هذا الوجه عند تنزيل القرآن، إلا وفي أيدي الناس وفي نفوسهم أمثلة حية كثيرة متنوعة عتيقة جدًا متداولة بينهم، وأمثلة أخرى محدثة عتيدة ذائعة بين الناس، على اختلاف درجاتهم، لا يكفون عن تتبعها وتذوقها، وعن المقارنة بين قديمها ومحدثها، باهتمام وحرص وشغف غالب، يصقل التذوق صقلاً حتى تبلغ هذه الغاية.
�*القرآن ونزوله وصلته بالتذوق الشعري:
�- ست بابات توجبها مطالبة القرآن "أن يأتوا بمثله"، ينبغي لكل دارس من أديب مؤرخ أن يقف عندها، قبل أن يتكلم في شأن >شعر الجاهلية<:

أوله�: أنهم إذا أحسنوا الاستماع إلى ما يتلى عليهم منه، كانوا قادرين على أن يعلموا علمًا يقينًا أن هذا الكلام مباين لكلام البشر جميعًا، وهذه المباينة دالة على أنه كلام رب العالمين منزلاً على تاليه عليهم بلسان عربي مبين، فمبلغه عن ربه نبيٌّ ورسول أرسله إليهم ليتبعوه. ولولا هذا لم يكن لهذه المطالبة معنى يعقل.
والثاني�: أنهم لا يكونون قادرين على هذا التمييز الفاصل العجيب الذي لم يمتحن البشر بمثله من قبل، إلا وقد أوتوا قدرًا يفوق كل تصور، من القدرة على تذوق أبنية الكلام تذوقًا نافذًا إلى أعمق أعماق البيان الإنساني، ولولا هذا لم يكن لهذه المطالبة الغريبة أيضًا معنى يعقل.
والثالث�: أن هذا القدر من التذوق، غير ممكن أن يناله أحد إلا بعد قرون متطاولة موغلة في القدم، كان التذوق فيها عملاً دائبًا لجمهور العرب الذين نزل هذا القرآن بلسانهم، ولولا هذا لم يكن لهذه المطالبة أيضًا معنى يقعل.
والرابع�: أن هذا غير ممكن أن يكون، إلا وعند المطالبين بهذا الفصل الخارق، قدر هائل من الكلام الشريف النبيل الجامع لأساليب البيان الإنساني، يكون متداولاً بينهم، يمارس عليه جمهور الناس هذا التذوق، ولولا هذا لم يكن أيضًا لهذه المطالبة معنى يعقل.
والخامس�: أن هذا الكلام الشريف النبيل كان أكثره شعرًا عربيًا جاهليًا، متنوع المعاني، متعدد الأغراض، يتناول بيانه كل ما تحتاج نفوس البشر إلى الإبانة عنه، على تعدد هذه الحاجات.
والسادس�: أن تذوق ما كان في صدورهم من الشعر وغير الشعر، كان عمل كبيرهم وصغيرهم ورجالهم ونسائهم، وأشرافهم وعامتهم، وأحرارهم ومواليهم، وأن هذا التذوق كان له القسط الأوفر في حياتهم، في باديتهم وحاضرتهم، وفي جدهم ولهوهم، وأنهم كانوا على مثل تضرم النار من الشغف به والإلحاح عليه، حتى صقلت ذاكرتهم فوعته، وارهف به إحساسهم فميز بعضه من بعض، بلا حاجة إلى علم أو علوم أخرى تعينهم على تعلم هذا التذوق، وحتى صار هذا التذوق العام كأنه سجية فطروا عليها ابتداءً بلا تثقيف مؤسس على الدراسة والتعليم. ولولا هذا لم يكن لهذه المطالبة العامة أيضًا معنى يعقل البتة.
�*أشار المؤلف إلى أن هذا الذي بينه، أصل من الأصول التي بنى عليها منهجه في الدراسة، بل هو الأصل كله، وما بعده فرع عنه. 
�*أنهى المؤلف حديثه إلى أن قبول المناهج الحديثة في التقليل من الشعر الجاهلي يكاد ينتهي بالرفض الكامل لكل هذا الماضي، ولو بقي الأمر طويلاً على ما نحن عليه، فسينتهي إلى الرفض الكامل بتة، شئنا أو أبينا. وهذا الباب من المخاوف يقتضي أن تؤلف في بيانه كتب، لا أن تلقى في شأنه كلمة موجزة في ساعة سانحة.


back to top