بدأت هذه الرواية بفكرةٍ مُعينةٍ راودتني منذ أولي صفحاتها، وأنا في استراحةِ عمل مقيدة بوقت دوام محدد، دون أن أفهم القصة تماماً بعد، وقبل أن أغوص بأبعادبدأت هذه الرواية بفكرةٍ مُعينةٍ راودتني منذ أولي صفحاتها، وأنا في استراحةِ عمل مقيدة بوقت دوام محدد، دون أن أفهم القصة تماماً بعد، وقبل أن أغوص بأبعادها، راودتني فكرة مفادُها كم نحنُ مساجين جميعًا، في زنازين افتراضية، يحكُمها زمان ومكانٌ وقوانين وأوراق وسلسلة من الختمات التّي من الصعب التحرر من براثنِها، لا بُد من إثبات لكلُ شيءٍ، وُجودك وحده غير كافٍ لتثبت وجودك وأنك هُنا تنتمي، كما كنتَ دومًا. كان أول ما استثار دموعي مشهد وداع رشيد لجدته، وعلمت حينها أنّني موعودة بمزيد من الأسي والدموع وبالفعل كان، حين خرج بعد أعوامٍ كثيرة ماسكًا بذاك المحروقِ بين يدهِ، ثُم ازدادت حِدّة الأسي والمعاناة شيئًا فشيئًا، وتعقدت الأمور، حتّي أننا كلما ظنّنا الكابوس قارب علي الإنفراج أعقبهُ كابوس أشد منه، المشهد الدامي كان بالنسبة لي يوم طرد مجدي من المدرسة و تم استدراجه لما غيّر شكل حياته القادمة. تمنيت أنه لم يكن. أغلقت الكتاب وقتها ولم أقوي علي الإستمرار. أما ما أثار قشعريرتي ولم يكن ضمن توقُعاتي بتاتًا، لحظة الإنتقام، كيف تدور الأيام لتضع الضحية أمام جلادها، ليتقتص منها ويتحول بدوره لجلادٍ أخر. وحين استطردت واستمريت في القراءة شعرت أنّه رُبما أبرح لحظات الحُرية كانت في أخر المشاهد، هناك تماما علي الكورنيش، حين نعود لنقطة البداية، نعود متخففين من أعباء أثقلتنا، نلتجئ لقلوبٍ كانت ملاذنا، نتنصلُ من الأوراق الرسمية والختمات وإثباتات الهويّة، التّي كُنا نأمل أن يحصل عليها مجدي طوال رحلة حياتِه، ظنًّا منا أن حياتَه ستصيرُ أهون، لكنّها مازادتها إلا تشابُكًا. نعود كما كُنا غارقين في الظلم وغياب العدل والحقوقِ، التّي باءت كل الوسائل لإنتزاعها بالفشل الذريع. تجذبُني الأستاذةُ كوثر لقصصها لأنّني في كل مرة أشعر أنها تسردُ القصة من ذاكرتِي، تتحدث من أرشيف ذكرياتِي وتسرد نمط حياةٍ عاشهُ جيل كامل حتّي أشعر أن مجدي شخصيًّا كان زميلا لي في صف الابتدائية مثلا، أشعر أنه ليبيّ لا يختلف عنّا بشيء. ولكنّها مجددًا لعنة الوثائق الرسمية ماتُفرقنا وتُصنفنا. تنتهِي مُراجعتِي هُنا، لرواية أخري تؤكد لي أن كاتبتها من كُتابي المُفضلين دومًا، ولا أدري لما أخذت مُراجعتي هذا المنحي والأسلوب، ربما لأنّ وقت إستراحتِي انتهي لأعود مجددًا لدوامٍ محكومةٌ فيه بزمانٍ ومكان وحضورٍ وانصراف !
لكوثر الجهمي قلم فاتن يشد القارئ من أعماق قلبهِ ويؤثر به وقد يُبكيه حتّي ، بارعةُ في تسليط الضوءِ علي أشياءٍ قد نعتبُرها من روتينيات الحياة لكنها حين لكوثر الجهمي قلم فاتن يشد القارئ من أعماق قلبهِ ويؤثر به وقد يُبكيه حتّي ، بارعةُ في تسليط الضوءِ علي أشياءٍ قد نعتبُرها من روتينيات الحياة لكنها حين تُكتبُ بقلم كوثر تصير أحداثًا تستحقُ أن تُروي وأن نلتفت لها وننظُر عن كثب ، ونستقِي منها العِبر .
أمّا عن هذه المجموعة القصصيّة فهي لطيفة جدًا ، رفيقةٌ مناسبة لأوقات الإنتظار المُملة ، تنوُع القصصِ بها كان شيئًا مُلفتًا وجذابًا ، ففي كُل مرة تختلفُ الشخصيّات يختلفُ معها أسلوبُ السرد و الكتابة ويختلفُ نوعُ القصّة ، و بالرغم من قُصر كُلّ قصة إلّا أنّي كُنت أستغرقُ وقتًا بعد إنهاءِ أيٍّ منها في تأمُل ما قرأتُ لتوِيّ ولأُعطِي لنفسي فُرصةً للتعافِي من الأفكارِ والمشاعر التّي عصفت بي بسببها ، ببساطة كُلّ قصّة كانتْ تُحفة فنيّة مُتفردة بذاتِها تستحقْ أن تُحكي ، أيضًا العناوين كانت مُلفتة ومُنتقاة بعبقريّة تتناسب مع مضمون كُل قصة وفكرتها التّي وصلتْ في كُل القصص -دون استثناء - ببراعة .
هذهِ الرواية تُقرأُ علي مهلٍ وبتروٍ شديد ، رُغم أنّ لهفتِي كانتْ كبيرة للمُضيّ بين وريقاتهَا وشخصياتها ، لهفتِي كانتْ ممزوجة بتخوّفٍ أنّها ستنقَضِي لاهذهِ الرواية تُقرأُ علي مهلٍ وبتروٍ شديد ، رُغم أنّ لهفتِي كانتْ كبيرة للمُضيّ بين وريقاتهَا وشخصياتها ، لهفتِي كانتْ ممزوجة بتخوّفٍ أنّها ستنقَضِي لا محالة وتنقضِي معها مُتعتي في العيشِ فيها وفِي كلماتِها التّي كان وقعُ كثيرٍ منها علي روحِي شديدًا كأنّنِي أستمعُ لمقطوعةٍ موسيقيّةٍ أخّاذة وأغمضُ عينآي لتأخُذنِي بعيدًا نحو عالمٍ من السِحر .
الأستاذة كوثر تملك لاشك لُغةً عذبة ، تتسللُ بسهولة لقلوب قارِئِيها ، لُغةً تتقمصُ بها ببراعة شخصيّات بأطباعٍ مُختلفة ، لنرَي كلّ فصلٍ بمنظورِ صاحبهِ كأنّه هو الذِي كتبهُ لا كوثر .
شخصيّتِي المُفضلة كانت الجدّ مُصطفَي الكريتلي ، الجدّ الشغوفُ دائِمًا بالعودة ، التّي رُبما ورِثَها وأورَثَها ، لن أُبالغ في وصفِ تأثرِي وأنا أقرأُ الفصل الخاص به لكنّه بالفعل أبكانِي وجعلنِي أطبق الكتاب غير قادرة علي الإستمرار ، علقت حرفيًا في شُعورهِ بالأسي والندم ورغبتهِ بأن تغفر دُرّة القلب له ما اقترفهُ وما أخفاهُ عنها ، فهُو سيءُ الطالع الذِي ولد ليلة الكسوف كما وصف نفسه .
غزالة التّي لاذت بنفسها بعيدًا عن تعقيدات المُجتمع ومعاييرهِ ، ذهبتُ معها في جولتها عبر شوارعَ طرابلس وأزقتها ، وهِي تتجوّل بينَ محلاتِ العطارة وسوق الحوت ، أحببتُ ولعها بالمآلوف الطرابلسي ، وكيف لهُ قدرة السِحر علي روحها ، و رُغم كلّ الهواجس والمخاوُف التّي قد تُنغصُ عليها حياتها ، كانت دومًا تجدُ وسيلةً للإستمرارِ بذاتِ القُوة والثبات رُغم الحروب القائمة في داخلها .
حسناء الإبنةُ الفضوليّةُ المُتمردة التّي لا تسكُت عن حقهَا حتّي وإن كلّفها ثمنًا باهضاً ، شبيهةُ جدّها ومُهجةُ فؤاده ، ورفيقةُ أمِها في رحلتهما للتعايُشِ في مُجتمعٍ لطالما استهجن أمثالهما . كم أُعجبتُ بعلاقتها بوفاء الجارةُ والصديقة القريبة جدًا ، المُختلفةُ جدًا التّي نقلتْ لنا نظرةَ الطرفِ الأخر ، كيف ينظرُ المجتمع لغزالة وحسناء من بعيد ، لكنّها لم تتأثر بكلامهِم و رأتهُم دومًا علي طبيعتهِم المُجردةً من كُل أراء المُحيطين الذامّة ، لقد تعاطفتُ مع وفاء جدًا فهِي تُمثل فئة عظيمة من النساء في وطننا ، المُظطهدةُ المواربةُ خلفَ ظلّ الرجل .
مُمتنةٌ في نهايةِ هذهِ المُراجعة للقدرِ الذِي أتاح لي تجرُبةً بهذا الجمال ، جمال طرابلس بفتنتها وعبير ورودها الفواح ، تجرُبة زاخرة بالعِبر والحِكمة ، مُسلطة الضوء علي مواضيعَ وتساؤلاتٍ رُبما تدور بأذهانِ الكثيرين كأنّما تُعبر عن مايجولُ بخواطِرهم ، تجربة تُصوّر المشهد من أبعادٍ مُتعددة تُدرك من خلالها أنّ كلّ جانبٍ ومهما اختلفنا معهُ يملك جُزءًا من الحقيقة.
هذا الرجل مُحتال وبارع جدًا في سرد القصص وربط الأحداث بشكل عجيب قدرتُه رهيبة علي التلاعُب بالقارئ ، يرفع الأدرينالين ويجعل الجسم في حالةٍ من القشعريرةهذا الرجل مُحتال وبارع جدًا في سرد القصص وربط الأحداث بشكل عجيب قدرتُه رهيبة علي التلاعُب بالقارئ ، يرفع الأدرينالين ويجعل الجسم في حالةٍ من القشعريرة التّي لا تُفارقه ، اللغة في الرواية كانت مُبهرة بالنسبة لي الكثير من الحوارات تسللت لأعماقي حتّي أنها سببت ذرف بعض الدمعات من حينٍ لأخر كما أحببتُ الإقتباسات قبل بداية كلّ فصل، لكن للأسف مايعيبُه بالنسبة لِي النهايات ، شعرتُ بخيبة أمل حين بدأ اللغز يتكشف ، لم أشعر أنّ النهاية كانت تليق بكُل العظمةِ التّي سبقتها ، كأن الكاتب يتهرب من هذا الحِمل بهذه النهاية المُلتويةِ المحشورة ، كادت أن تكون من مفضلاتِي لكن النهاية حطمت كلّ شيء !