Ahmad Ebaid's Reviews > داروين مترددًا: نظرة مقربة لتشارلز داروين وكيف وضع نظريته عن التطور
داروين مترددًا: نظرة مقربة لتشارلز داروين وكيف وضع نظريته عن التطور
by
by

إلى أتباع مذهب «دعنا وشأننا، فنحن نشاهد التلفاز». واللي في حالتنا تصير كالتالي « دعنا وشأننا, فنحن نقرأ الروايات », فالكتاب هو أنسب حاجة لكم كمبتدئين عن سيرة داروين, أو سيرة داروين كمقدمة للقراءة عن التطور, الكتاب في غاية السلاسة, وهو أقرب لسيرة ذاتية مطعّمة بحُلِي من العلم, إنها فرصتكم لتبدؤوا في اكتساب العلم!!
الكتاب ممتع بطريقة مدهشة, حتى أن الكاتب صاغ الأجزاء المعروفة جدا عن داروين والتطور بطريقة جذابة وشيقة, واللي في المؤلفات الروتينية كانت ستصيبك بالملل.
"صورة روشة لداروين"

رأيت الكتاب أول مرة عندما كنت أتصفح جديد كتب مؤسسة هنداوي, ولم أعره انتباهاً, فماذا عساه يفيدني؟ مجرد كتاب آخر عن حياة داروين.
وبعد فترة رأيت اقتباسا بسيط من الكتاب غير نظرتي له تماماً, ففي سطور قليلة رأيت أسلوب أدبي عن الجانب الإنساني يجلب الإمتاع كرواية مثيرة عن حياة رمز لأحد أبرز التغييرات في نظرتنا للحياة, فكما يقول الناشر: لو طبع العلماء ورقة نقدية خاصة بهم، لظهر وجه داروين عليها.
وصاحب الأسلوب الأدبي "ديفيد كوامن" هو أحد الصحفيين العلميين, تعلّم كل ما يعرفه عن البيولوجيا التطورية ذاتياً بالقراءة وبالأسئلة المزعجة الموجهة للخبراء. رافق البيولوجيين الميدانيين فانبهر لجمعهم كلا من القوة الجسدية والذهنية كما أنهم شغوفون ودودون للغاية, فهم يُعدون, إجمالًا، طائفة من الأشخاص الاستثنائيين, ويمتهنون أعظم مهنة إطلاقاً.
ويطالعنا في هذا الكتاب عن أحد هؤلاء البيولوجيين الميدانيين, تشارلز دارون. وكما يوضح العنوان الفرعي فالكتاب هو "نظرة مقربة لتشارلز داروين وكيف وضع نظريته عن التطور", وقد قرر الكاتب من أجل الاختصار أن يحكي لنا حياة داروين الشخصية من بعد رحلته على متن سفينة البيجل, فقد تناولتها بكل تفصيلاتها العديد من الكتب السابقة عن حياة داروين, رشح لنا منها مؤلَّف "جانيت براون" الجليل ذي الجزأين « تشارلز داروين » ويتميز بعرض الوسط الاجتماعي الذي عاش فيه داروين، إلى جانب العمل الجماعي لكل من "أدريان ديزموند" و"جيمس مور" في كتابهما المميز ذي الثمانمائة صفحة « داروين : حياة تطوري معذب » و يعرض على نحو قوي للسياق السياسي الذي أحاط بداروين وأفكاره.
يعدنا الكاتب بأن نرى داروين الذي بات الناس يخلطون بينه وبين التطور كعلم كامل, لكنهم لا يعرفون الكثير عن داروين مربي الحمام, الذي يميل إلى العزلة والهدوء, والذي كان يعاني من القيء المتكرر بسبب مرض مجهول. داروين الذي كان يميل لحساب كل شيء بالورقة والقلم, بما في ذلك مميزات وعيوب الزواج, الذي فضله في النهاية على أن يقضي بقية حياته مع كلب.
لقد عاد داروين من رحلته حول العالم, بعد 5 سنوات تقريباً, وقد بدا عليه التغيير كثيراً, حتى لقد قال والده مازحاً أمام أخواته أنه قد عاد برأس أخرى!!
وبعدما قام بتعويض ما عاناه طوال رحلته من حرمان من الاجتماع بالناس والأكل الجيد عن طريق الحفلات التي كان يدعوه إليها أخيه الأكبر, اتجه ليتابع العينات التي كان قد أرسلها بحراً إلى المختصين ليصنفوها, كما أنه قام بتخصيص مفكرتين للجيب ليخفي فيهما ملاحظاته عن سره الصغير الذي عاد به, والذي كان يسميه في ذلك الوقت بكثير من الاعتزاز "نظريتي". الأولى منهما حملت رقم "أ" عن الجيولوجيا, والثانية ذات غلاف بني على صفحتها الأولى رقم "ب" وعَنْوَنَها باسم "فسيولوجيا الحيوان", وهو نفس عنوان كتاب جده إرازموس والذي اقترح فيه أن « الحيوانات حارة الدماء نشأت كلها عن خيط حي واحد ».
لقد أراد تشارلز داروين أن يفسر لغز الألغاز بالنسبة له, والذي لاحظه عندما كان في الرحلة
والذي يبدأ من سؤاله لماذا كان هناك العديد من الطيور التي تختلف مع بعضها في شكل المنقار فحسب, بينما تشبه تلك التي توجد على الجزر المجاورة؟ فهناك « ثلاثة عشر » نوعًا من الحسون وثلاثة أنواع متمايزة من الطير المحاكي!.
لماذا يملك الرجال حلمات أثداء؟
يريد داروين ذلك الباحث القَلِقْ أن يعرف السبب. لماذا يملك بعض أنواع الخنافس, خاصة في الجزر العاصفة, أجنحة مثبتة جيدًا لا فائدة لها تحت جنيحات غمدية مدمجة (تلك الأغطية الصدفية للأجنحة) لا يمكن لها أبدًا أن تنفتح؟ لماذا يُخلق شيء لا لزوم له كهذا؟. كان يتعجب أيضًا من الطيور التي لا تطير, بما لديها من أجنحة ضئيلة ناتئة, كالنعام والبطريق والريّة, التي رآها في باتاجونيا, وطيور الأبتركس (الكيوي) في نيوزيلندا.
لكنه, لم يكن يميل إلى التطورية اللاماركية, فهو يعتبرها هراء, كما أنه إذا صرح بما يفكر فيه الآن لعُد منهم, وهم الذين يُحاجون بالتطور في صراعهم السياسي لإثبات فكرة صراع الطبقات الاجتماعية, وهذا سيسبب له المزيد من المشاكل في ظل الجو المشحون بسبب حالة الكساد التي كانت تمر بها بريطانيا, واحتجاجات العمال المدعومين من اللاماركيين.
كما أنه لم يكن قد صاغ أي أدلة, أو حتى قد حدد ماهيه نظريته التي تفسر ملاحظاته, فكتم ما كان يفكر فيه, وعاش حياة غريبة مزدوجة, كجاسوس في دهاليز المؤسسة العلمية البريطانية, التي كانت وقتذاك تتناغم تناغمًا وثيقًا مع الفكر الأنجليكاني التقليدي وتحتل مكانة راسخة في تراث التاريخ الطبيعي اللاهوتي الذي يقر بثبات الأنواع التي انبثقت في لحظة ما, بالشكل التي هي عليه الآن.
لقد بدأ رحلته كمؤمن قد أعد نفسه ودرس ليرسّم كقس لأحد البلدان في مكان هادئ, ليس لورعه وإنما هرباً من دراسة الطب الصعبة. ولكنه أيضاً لم يكن كوالده وجده المتشككان الماديان.
لقد كان قبل أن تخطر له فكرة التطور شابًّا متمسكًا بالإيمان التقليدي. وعندما كان مبحرًا على السفينة « بيجل » كان عرضة للسخرية لتدينه واستشهاده بالكتاب المقدس.
ومع بداية بحثه عن حل اللغز, ودراسته لقوانين الطبيعة الثابتة, بدأ يميل للمادية, وتآكل تصديقه للمعجزات, فرفع يد الإله عن التدخل في نشوء الأنواع, ويعلل لنفسه بأنه قد حدث هذا أيضا مع قوانين حركة الكواكب رغم كل الاعتراضات الدينية.
بل لعل الرأي القائل بتدخل الإله بنفسه حتى فيه تجديف. ألا يتعالى الرب ساميًا كل السمو عما نسميه الآن الإدارة التفصيلية؟
فالعالم ليس خيراً مثالياً ليكون قد صنع كما هو هكذا, من قِبَل إله خير كلي القدرة, فلماذا مثلًا يصمم إله خيِّر دبابير النمس التي تضع بيضها داخل حشرات اليسروع الحية, بحيث تلتهم يرقات الدبور بعد فقسها عائليها من الداخل للخارج؟ لماذا تُصمَّم قطط تعذب الفئران من باب التسلية؟ لماذا يولد طفل بتلف في المخ, ليواجه حياة من البلاهة؟
لكن الأمر لم ينته بداروين عند هذا الحد فكلما كان يزيد في بحثه كانت تزيد شكوكه اللاهوتية, حتى لقد حذره والده، من أن الرجل الذي لديه شكوك لاهوتية ينبغي أن يحجبها عن زوجته, وهو التحذير الذي لم يستجب له.
وهكذا، تسلل عدم الإيمان في بطء ، لكنه في النهاية صار كاملًا, وانتهي به الأمر في الفترة بين وفاة ابنته الصغيرة ووفاة زوجته, إلى أنه وكما قال في أحد رسائله لصديقه المقرب بات يعتقد بأن المسيحية ليس عليها الدليل وليست وحي إلهي. أما وضع الإله المحرك الأول للكون فاتخذ منه موقف اللاأدري, كما ذكر في سيرته الذاتية التي أعدها لتكون إرث خاص بالعائلة.
لقد كان له أصدقاء مخلصين قاموا بدعمه وحثه على نشره كتابه, الذي ظل مترددا في كتابته أصلاً, حتى أنه استغرق أكثر من عشرين سنة ليبدأ بتجميعه من ملاحظاته العديدة, ولم يكن لينجزه سنة 1859 لولا المصادفة التي خلّفت معضلة بينه وبين ألفريد والاس الذي قد هم بنشر أطروحته التي تعبر عن أفكار داروين أيضا بعد أن توصل لها بصفه مستقلة,
وقد قام أصدقاءه المخلصين, والذين يعدون من أبرز العلماء في مجالاتهم في شتى أنحاء بريطانيا, بحل هذه الأزمة, ومساعدته على الترويج للكتاب رغم أنهم لم يقتنعوا بكل ما يقوله في الكتاب !!
وبعد أن نصل لنشر كتاب "أصل الأنواع" يستعرض المؤلف كيف قام داروين بالتمهيد لرأيه عبر الفصول, وكيف كانت التغييرات التي قام بها داروين في الطبعات الست المختلفة التي نشرت في حياته, وماهي نقاط الضعف والأفكار الخاطئة التي وجدت في أفكاره التي وردت في الكتاب.
وينهي بفصل عن التطور ما بعد داروين, فلم تكن الثورة الداروينية
حملة سريعة نسبيًّا دار القتال فيها وتم الفوز بها في أواخر القرن التاسع عشر. لم يكن الأمر هكذا. لقد ظلت المعركة دائرة عقودًا, يتعاقب فيها الانتصار والهزيمة.
جرى الصراع حول سؤالين رئيسيين, على نحو شبه مستقل, هما :
(1) هل وقع التطور؟
و
(2) هل الانتخاب الطبيعي هو الآلية الأساسية المسببة له؟
ووسط صيحات الرعب العنيفة التي أطلقها الزعماء الدينيون والعلماء الأتقياء من ناحية, واستهجان البيولوجيين التطوريين من ناحية أخرى, قام حلفاء داروين بتأسيس مجلة « نيتشر Nature» في عام 1869 للدفاع عن الانتخاب الطبيعي, الذي تم استهدفه من الجميع.
واستوجب الأمر مرور أكثر من سبعين سنة حتى يمكن لمزيج من فهم الوراثة المندلية والانتخاب الدارويني أن يؤدي إلى « إثبات فرضه عن الانتخاب الطبيعي هذا بالكامل ».

**
الترجمة مفيش عليها غبار, للمترجم "مصطفى إبراهيم فهمي" وهو أشهر من نار على علم بين محبين البيولوجي,
ومن مراجعة عضو مؤسسة هنداوي حالياً "محمد فتحي خضر", والذي قدّم مع زملاؤه تحت صرح "مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة" الفترة الماضية, ترجمات ممتازة,
فقد بات لدينا الآن دار نشر مصرية نستطيع أن نشير إليها بكل ثقة على أنها صاحبة ترجمات ممتازة تنافس دار المدى العراقية, فضلاً عن أنها ترجمات أمينة أيضاً في مجالات لدينا نقص خطير فيها.
الكتاب ممتع بطريقة مدهشة, حتى أن الكاتب صاغ الأجزاء المعروفة جدا عن داروين والتطور بطريقة جذابة وشيقة, واللي في المؤلفات الروتينية كانت ستصيبك بالملل.
"صورة روشة لداروين"

رأيت الكتاب أول مرة عندما كنت أتصفح جديد كتب مؤسسة هنداوي, ولم أعره انتباهاً, فماذا عساه يفيدني؟ مجرد كتاب آخر عن حياة داروين.
وبعد فترة رأيت اقتباسا بسيط من الكتاب غير نظرتي له تماماً, ففي سطور قليلة رأيت أسلوب أدبي عن الجانب الإنساني يجلب الإمتاع كرواية مثيرة عن حياة رمز لأحد أبرز التغييرات في نظرتنا للحياة, فكما يقول الناشر: لو طبع العلماء ورقة نقدية خاصة بهم، لظهر وجه داروين عليها.
وصاحب الأسلوب الأدبي "ديفيد كوامن" هو أحد الصحفيين العلميين, تعلّم كل ما يعرفه عن البيولوجيا التطورية ذاتياً بالقراءة وبالأسئلة المزعجة الموجهة للخبراء. رافق البيولوجيين الميدانيين فانبهر لجمعهم كلا من القوة الجسدية والذهنية كما أنهم شغوفون ودودون للغاية, فهم يُعدون, إجمالًا، طائفة من الأشخاص الاستثنائيين, ويمتهنون أعظم مهنة إطلاقاً.
ويطالعنا في هذا الكتاب عن أحد هؤلاء البيولوجيين الميدانيين, تشارلز دارون. وكما يوضح العنوان الفرعي فالكتاب هو "نظرة مقربة لتشارلز داروين وكيف وضع نظريته عن التطور", وقد قرر الكاتب من أجل الاختصار أن يحكي لنا حياة داروين الشخصية من بعد رحلته على متن سفينة البيجل, فقد تناولتها بكل تفصيلاتها العديد من الكتب السابقة عن حياة داروين, رشح لنا منها مؤلَّف "جانيت براون" الجليل ذي الجزأين « تشارلز داروين » ويتميز بعرض الوسط الاجتماعي الذي عاش فيه داروين، إلى جانب العمل الجماعي لكل من "أدريان ديزموند" و"جيمس مور" في كتابهما المميز ذي الثمانمائة صفحة « داروين : حياة تطوري معذب » و يعرض على نحو قوي للسياق السياسي الذي أحاط بداروين وأفكاره.
يعدنا الكاتب بأن نرى داروين الذي بات الناس يخلطون بينه وبين التطور كعلم كامل, لكنهم لا يعرفون الكثير عن داروين مربي الحمام, الذي يميل إلى العزلة والهدوء, والذي كان يعاني من القيء المتكرر بسبب مرض مجهول. داروين الذي كان يميل لحساب كل شيء بالورقة والقلم, بما في ذلك مميزات وعيوب الزواج, الذي فضله في النهاية على أن يقضي بقية حياته مع كلب.
لقد عاد داروين من رحلته حول العالم, بعد 5 سنوات تقريباً, وقد بدا عليه التغيير كثيراً, حتى لقد قال والده مازحاً أمام أخواته أنه قد عاد برأس أخرى!!
وبعدما قام بتعويض ما عاناه طوال رحلته من حرمان من الاجتماع بالناس والأكل الجيد عن طريق الحفلات التي كان يدعوه إليها أخيه الأكبر, اتجه ليتابع العينات التي كان قد أرسلها بحراً إلى المختصين ليصنفوها, كما أنه قام بتخصيص مفكرتين للجيب ليخفي فيهما ملاحظاته عن سره الصغير الذي عاد به, والذي كان يسميه في ذلك الوقت بكثير من الاعتزاز "نظريتي". الأولى منهما حملت رقم "أ" عن الجيولوجيا, والثانية ذات غلاف بني على صفحتها الأولى رقم "ب" وعَنْوَنَها باسم "فسيولوجيا الحيوان", وهو نفس عنوان كتاب جده إرازموس والذي اقترح فيه أن « الحيوانات حارة الدماء نشأت كلها عن خيط حي واحد ».
لقد أراد تشارلز داروين أن يفسر لغز الألغاز بالنسبة له, والذي لاحظه عندما كان في الرحلة
والذي يبدأ من سؤاله لماذا كان هناك العديد من الطيور التي تختلف مع بعضها في شكل المنقار فحسب, بينما تشبه تلك التي توجد على الجزر المجاورة؟ فهناك « ثلاثة عشر » نوعًا من الحسون وثلاثة أنواع متمايزة من الطير المحاكي!.
لماذا يملك الرجال حلمات أثداء؟
يريد داروين ذلك الباحث القَلِقْ أن يعرف السبب. لماذا يملك بعض أنواع الخنافس, خاصة في الجزر العاصفة, أجنحة مثبتة جيدًا لا فائدة لها تحت جنيحات غمدية مدمجة (تلك الأغطية الصدفية للأجنحة) لا يمكن لها أبدًا أن تنفتح؟ لماذا يُخلق شيء لا لزوم له كهذا؟. كان يتعجب أيضًا من الطيور التي لا تطير, بما لديها من أجنحة ضئيلة ناتئة, كالنعام والبطريق والريّة, التي رآها في باتاجونيا, وطيور الأبتركس (الكيوي) في نيوزيلندا.
لكنه, لم يكن يميل إلى التطورية اللاماركية, فهو يعتبرها هراء, كما أنه إذا صرح بما يفكر فيه الآن لعُد منهم, وهم الذين يُحاجون بالتطور في صراعهم السياسي لإثبات فكرة صراع الطبقات الاجتماعية, وهذا سيسبب له المزيد من المشاكل في ظل الجو المشحون بسبب حالة الكساد التي كانت تمر بها بريطانيا, واحتجاجات العمال المدعومين من اللاماركيين.
كما أنه لم يكن قد صاغ أي أدلة, أو حتى قد حدد ماهيه نظريته التي تفسر ملاحظاته, فكتم ما كان يفكر فيه, وعاش حياة غريبة مزدوجة, كجاسوس في دهاليز المؤسسة العلمية البريطانية, التي كانت وقتذاك تتناغم تناغمًا وثيقًا مع الفكر الأنجليكاني التقليدي وتحتل مكانة راسخة في تراث التاريخ الطبيعي اللاهوتي الذي يقر بثبات الأنواع التي انبثقت في لحظة ما, بالشكل التي هي عليه الآن.
لقد بدأ رحلته كمؤمن قد أعد نفسه ودرس ليرسّم كقس لأحد البلدان في مكان هادئ, ليس لورعه وإنما هرباً من دراسة الطب الصعبة. ولكنه أيضاً لم يكن كوالده وجده المتشككان الماديان.
لقد كان قبل أن تخطر له فكرة التطور شابًّا متمسكًا بالإيمان التقليدي. وعندما كان مبحرًا على السفينة « بيجل » كان عرضة للسخرية لتدينه واستشهاده بالكتاب المقدس.
ومع بداية بحثه عن حل اللغز, ودراسته لقوانين الطبيعة الثابتة, بدأ يميل للمادية, وتآكل تصديقه للمعجزات, فرفع يد الإله عن التدخل في نشوء الأنواع, ويعلل لنفسه بأنه قد حدث هذا أيضا مع قوانين حركة الكواكب رغم كل الاعتراضات الدينية.
بل لعل الرأي القائل بتدخل الإله بنفسه حتى فيه تجديف. ألا يتعالى الرب ساميًا كل السمو عما نسميه الآن الإدارة التفصيلية؟
فالعالم ليس خيراً مثالياً ليكون قد صنع كما هو هكذا, من قِبَل إله خير كلي القدرة, فلماذا مثلًا يصمم إله خيِّر دبابير النمس التي تضع بيضها داخل حشرات اليسروع الحية, بحيث تلتهم يرقات الدبور بعد فقسها عائليها من الداخل للخارج؟ لماذا تُصمَّم قطط تعذب الفئران من باب التسلية؟ لماذا يولد طفل بتلف في المخ, ليواجه حياة من البلاهة؟
لكن الأمر لم ينته بداروين عند هذا الحد فكلما كان يزيد في بحثه كانت تزيد شكوكه اللاهوتية, حتى لقد حذره والده، من أن الرجل الذي لديه شكوك لاهوتية ينبغي أن يحجبها عن زوجته, وهو التحذير الذي لم يستجب له.
وهكذا، تسلل عدم الإيمان في بطء ، لكنه في النهاية صار كاملًا, وانتهي به الأمر في الفترة بين وفاة ابنته الصغيرة ووفاة زوجته, إلى أنه وكما قال في أحد رسائله لصديقه المقرب بات يعتقد بأن المسيحية ليس عليها الدليل وليست وحي إلهي. أما وضع الإله المحرك الأول للكون فاتخذ منه موقف اللاأدري, كما ذكر في سيرته الذاتية التي أعدها لتكون إرث خاص بالعائلة.
لقد كان له أصدقاء مخلصين قاموا بدعمه وحثه على نشره كتابه, الذي ظل مترددا في كتابته أصلاً, حتى أنه استغرق أكثر من عشرين سنة ليبدأ بتجميعه من ملاحظاته العديدة, ولم يكن لينجزه سنة 1859 لولا المصادفة التي خلّفت معضلة بينه وبين ألفريد والاس الذي قد هم بنشر أطروحته التي تعبر عن أفكار داروين أيضا بعد أن توصل لها بصفه مستقلة,
وقد قام أصدقاءه المخلصين, والذين يعدون من أبرز العلماء في مجالاتهم في شتى أنحاء بريطانيا, بحل هذه الأزمة, ومساعدته على الترويج للكتاب رغم أنهم لم يقتنعوا بكل ما يقوله في الكتاب !!
وبعد أن نصل لنشر كتاب "أصل الأنواع" يستعرض المؤلف كيف قام داروين بالتمهيد لرأيه عبر الفصول, وكيف كانت التغييرات التي قام بها داروين في الطبعات الست المختلفة التي نشرت في حياته, وماهي نقاط الضعف والأفكار الخاطئة التي وجدت في أفكاره التي وردت في الكتاب.
وينهي بفصل عن التطور ما بعد داروين, فلم تكن الثورة الداروينية
حملة سريعة نسبيًّا دار القتال فيها وتم الفوز بها في أواخر القرن التاسع عشر. لم يكن الأمر هكذا. لقد ظلت المعركة دائرة عقودًا, يتعاقب فيها الانتصار والهزيمة.
جرى الصراع حول سؤالين رئيسيين, على نحو شبه مستقل, هما :
(1) هل وقع التطور؟
و
(2) هل الانتخاب الطبيعي هو الآلية الأساسية المسببة له؟
ووسط صيحات الرعب العنيفة التي أطلقها الزعماء الدينيون والعلماء الأتقياء من ناحية, واستهجان البيولوجيين التطوريين من ناحية أخرى, قام حلفاء داروين بتأسيس مجلة « نيتشر Nature» في عام 1869 للدفاع عن الانتخاب الطبيعي, الذي تم استهدفه من الجميع.
واستوجب الأمر مرور أكثر من سبعين سنة حتى يمكن لمزيج من فهم الوراثة المندلية والانتخاب الدارويني أن يؤدي إلى « إثبات فرضه عن الانتخاب الطبيعي هذا بالكامل ».

**
الترجمة مفيش عليها غبار, للمترجم "مصطفى إبراهيم فهمي" وهو أشهر من نار على علم بين محبين البيولوجي,
ومن مراجعة عضو مؤسسة هنداوي حالياً "محمد فتحي خضر", والذي قدّم مع زملاؤه تحت صرح "مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة" الفترة الماضية, ترجمات ممتازة,
فقد بات لدينا الآن دار نشر مصرية نستطيع أن نشير إليها بكل ثقة على أنها صاحبة ترجمات ممتازة تنافس دار المدى العراقية, فضلاً عن أنها ترجمات أمينة أيضاً في مجالات لدينا نقص خطير فيها.
Sign into ŷ to see if any of your friends have read
داروين مترددًا.
Sign In »
Reading Progress
Comments Showing 1-18 of 18 (18 new)
date
newest »

message 1:
by
عَدن
(new)
-
added it
Dec 28, 2015 10:42PM

reply
|
flag

شكراً ليكي :D
الكاتب فصّل فصْل كامل تقريباً في فضل قراءة "أصل الأنواع", وقد جدد ذلك شغف قراءة أصل الأنواع, بعد أن كنت قد صرفت نظر عنه قبلاً..
عموماً قراءة ممتعة :)


الظروف اللي خلقت الكتاب في نفس أهمية الكتاب بالظبط, والكاتب هنا أبدع في عرض الظروف دي جداً
قراءة ممتعة يا ياسر :)

شكراً أستاذ أكبر :)
قراءة ممتعة :D

ولكن اعجبني اول جزء من كلامك
ولم اشأ ان اكمل كلامك حتي لا افسد متعه قراءة الكتاب
مشكور جدا

ولكن اعجبني اول جزء من كلامك
ولم اشأ ان اكمل كلامك حتي لا افسد متعه قراءة الكتاب
مشكور جدا"
شكراً لك :D
على ضمانتي, يمكنك قراءة باقي المراجعة دون مشاكل, فأنا لم أضع أحكاماً أو تقييم في باقي المراجعة سوى للترجمة, أما باقي الكتاب فهو اقتباسات من فصول الكتاب لرسم صورة جيدة لمحتوى الكتاب. عموما قراءة ممتعة, فهو كتاب لا يفوت :)
من فضلك لو سمحت ممكن كتب اخرى تتناول حياة داروين بالتفصيل؟؟؟؟

كاتب هذا الكتاب رشح لنا كتابان أعتقد أنهم سيكونان في جدول قراءاتي
" رشح لنا منها مؤلَّف "جانيت براون" الجليل ذي الجزأين « تشارلز داروين » ويتميز بعرض الوسط الاجتماعي الذي عاش فيه داروين، إلى جانب العمل الجماعي لكل من "أدريان ديزموند" و"جيمس مور" في كتابهما المميز ذي الثمانمائة صفحة « داروين : حياة تطوري معذب » و يعرض على نحو قوي للسياق السياسي الذي أحاط بداروين وأفكاره."

شكرا يا ابتسام :)
فعلا الكتاب عظيم، بأسلوبه وترتيبه، وتحليله