حسين عبدعلي's Reviews > المسطر
المسطر
by
by

“كا� يجب أن أضعها هنا�. يشير رومي إلى جيبه السليم، مشخصًا سبب ضياع خمسين خاله ضيدان التي سلّمها إياه وطلب منه أن يذهب ليشتري علبة دخان (روثمان عريض)، دسّها، دون أن ينتبه في الجيب الخطأ. يده تدور دورة كاملة في الجيب الخالي، لا شيء سوى ثقب في أسفل الجيب انزلقت من خلاله قطعة المعدن الذي غاص في رمل لا يمكن تحديده، وما أخذه الرمل يبدو عصياً على الرمل أن يعيده. لا الأصابع التي تحرث الأرض ستجده ولا الزمن يعود به إلى الوراء. لا يملك رومي إلا أن يلعن هذه الرمال: “ملعون� هذه الرمال.. ابتلعت خمسين خالي!�.
لاحقاً تدرك أن الخمسين ليست الخمسين. بل هي عمر الخال ضيدان الذي ضاع في رمال أرض تلفظه كلّما احتاجها. أرض لم يعشق فيها رومي امرأة فلا يحن لها، أرض يراها الأخير كذبة صغيرة لا تستحق حتى إثمها.
هكذا يسطّر ناصر الظفيري مطلع روايته “المَسْطَر� التي تعتبر خاتمة ثلاثيته (ثلاثية الجهراء)، لكنني أشك بما يشبه اليقين أن يجف سؤال الهوية أو قضية البدون من حبر قلم الظفيري، وهو ابنها الذي يشعر جيداً أن ألمها موغل وعميق.
لم أشهد هذه القسوة -إن صح التعبير- في شخصيات الظفيري مسبقاً، لا في (صهده) وشخصيتها شومان، ولا في (كاليسكا) متمثلة في العواد وفهد غانم. ربما ترسّخت هذه القسوة عندما ازيحت قصص الحب في (مَسْطَره) إلى الهامش البعيد، بينما في الروايتين الأوليتين كانت هذه القصص أشبه بالعمود الفقري. هذه المرة يبلغ الوجع أقصاه، وجع صادم للحد الذي يجعلك تتساءل: هل هذا الرفض والكره الذي يحمله رومي تجاه هذه الأرض منطقياً؟ هل فكرة الانسلاخ من المكان الذي آمن بها وهو ابن الثامنة عشر في أحسن تقدير، الغير مدرك لكل تفاصيل معاناة خاله بعد، هي فكرة مقبولة؟! رومي الذي يعود من مهجره أو منفاه الاختياري كتعبير أكثر دقة وكما يصف الظفيري اضطراره -هو- للعيش في كندا في أحد حواراته الصحفية. يعود رومي باسم “روم� رادي جيمسون”� وبالتالي (هنا) التي كان ينتمي لها صارت (هناك)، انطلاقاً من أن الوطن هو ما في داخلك كالإله الذي تعبده إذا لم يسكنك لن تعرفه. وأن الوطن ليس قدراً. عاد ولم ينسَ كل شيء حدث (هنا)، لكنه لا يريد أن يتذكر. ليس الطفل أو الشاب الذي كان (هنا) وليس المسن الذي سيكونه (هناك)، بل هو ابن الزمن القادم.
بالمقابل على حد الوجع ذاته، تختصر أماسيل على الديري وهي ابنة الخامسة عشر ربيعاً، في كتاب والدها (بلا هوية- إسقاط الجنسية كما شرحتها لأماسيل)، تختصر مفهومها لإسقاط الجنسية بقولها: “كلن� غادرنا البيت، جذي أولاً ثم أبي ثانياً، ثم نحن ثالثاً�. هي مغادرة يعرف الديري وعشرات من المسقطة جنسيتهم ألا عودة وراءها -حتى الآن على الأقل-، ولا يمكنهم أن يحظوا بقبر لهم في وطنهم. لقد فقدوا وطنهم وفقدوا حقهم أن يموتوا فيه، وفقدوا حقهم حتى في أن يدفنوا فيه. هذا الدفن الذي كان رغبة الخال ضيدان وحققها الرومي. مع ذلك ينهي الديري كتابه بقوله: “سأبق� بحرانياً ليس بالمعنى الذي يبقيني في طائفتي، بل الذي يجعلني أدافع عن هذه الهوية المهددة بالاضطهاد�. هذه الرغبة بالدفاع التي كنت تستشعرها في (الصهد) و(كاليسكا) لم تختفِ من (المَسْطَر) وحسب، بل حلّ محلها دعوات بعدم الحنين إلى الوطن. وأن البقاء على هذه الأرض أشبه بمن يستسلم للقدر ويوقف زمنه، رضوخ إلى سلطة مؤمنة بأنها تمتلك الوطن ومن يعيش فيه، وكأنما ثمة سلطة على الكرة الأرضية لا تؤمن بذلك! وأن البقاء ما هو إلا خوف من مغامرة يخسر فيها الفرد البسيط الذي لديه، الفتات الذي يلقى لرجل لا فائدة منه. وأن الحياة في الخارج ليست سيئة دائماً في المجهول. دعوات يسوقها رومي على لسانه لكنه ينسى أنه ابن الحظ والصدفة. الصدفة التي فتحت له أبواب الحلم يوم وقف رجل أعمال أمريكي وزوجته يسألانه ودون مقدمات: “ه� تقبل أن تأتي معنا إلى أمريكا؟�. ثم بصدفة أكبر يصبح ابنهما المدلل.
أليس هذا مخيفاً؟ مرعباً؟ أم نحن فعلاً بحاجة لهذه القسوة كي نستيقظ؟
لاحقاً تدرك أن الخمسين ليست الخمسين. بل هي عمر الخال ضيدان الذي ضاع في رمال أرض تلفظه كلّما احتاجها. أرض لم يعشق فيها رومي امرأة فلا يحن لها، أرض يراها الأخير كذبة صغيرة لا تستحق حتى إثمها.
هكذا يسطّر ناصر الظفيري مطلع روايته “المَسْطَر� التي تعتبر خاتمة ثلاثيته (ثلاثية الجهراء)، لكنني أشك بما يشبه اليقين أن يجف سؤال الهوية أو قضية البدون من حبر قلم الظفيري، وهو ابنها الذي يشعر جيداً أن ألمها موغل وعميق.
لم أشهد هذه القسوة -إن صح التعبير- في شخصيات الظفيري مسبقاً، لا في (صهده) وشخصيتها شومان، ولا في (كاليسكا) متمثلة في العواد وفهد غانم. ربما ترسّخت هذه القسوة عندما ازيحت قصص الحب في (مَسْطَره) إلى الهامش البعيد، بينما في الروايتين الأوليتين كانت هذه القصص أشبه بالعمود الفقري. هذه المرة يبلغ الوجع أقصاه، وجع صادم للحد الذي يجعلك تتساءل: هل هذا الرفض والكره الذي يحمله رومي تجاه هذه الأرض منطقياً؟ هل فكرة الانسلاخ من المكان الذي آمن بها وهو ابن الثامنة عشر في أحسن تقدير، الغير مدرك لكل تفاصيل معاناة خاله بعد، هي فكرة مقبولة؟! رومي الذي يعود من مهجره أو منفاه الاختياري كتعبير أكثر دقة وكما يصف الظفيري اضطراره -هو- للعيش في كندا في أحد حواراته الصحفية. يعود رومي باسم “روم� رادي جيمسون”� وبالتالي (هنا) التي كان ينتمي لها صارت (هناك)، انطلاقاً من أن الوطن هو ما في داخلك كالإله الذي تعبده إذا لم يسكنك لن تعرفه. وأن الوطن ليس قدراً. عاد ولم ينسَ كل شيء حدث (هنا)، لكنه لا يريد أن يتذكر. ليس الطفل أو الشاب الذي كان (هنا) وليس المسن الذي سيكونه (هناك)، بل هو ابن الزمن القادم.
بالمقابل على حد الوجع ذاته، تختصر أماسيل على الديري وهي ابنة الخامسة عشر ربيعاً، في كتاب والدها (بلا هوية- إسقاط الجنسية كما شرحتها لأماسيل)، تختصر مفهومها لإسقاط الجنسية بقولها: “كلن� غادرنا البيت، جذي أولاً ثم أبي ثانياً، ثم نحن ثالثاً�. هي مغادرة يعرف الديري وعشرات من المسقطة جنسيتهم ألا عودة وراءها -حتى الآن على الأقل-، ولا يمكنهم أن يحظوا بقبر لهم في وطنهم. لقد فقدوا وطنهم وفقدوا حقهم أن يموتوا فيه، وفقدوا حقهم حتى في أن يدفنوا فيه. هذا الدفن الذي كان رغبة الخال ضيدان وحققها الرومي. مع ذلك ينهي الديري كتابه بقوله: “سأبق� بحرانياً ليس بالمعنى الذي يبقيني في طائفتي، بل الذي يجعلني أدافع عن هذه الهوية المهددة بالاضطهاد�. هذه الرغبة بالدفاع التي كنت تستشعرها في (الصهد) و(كاليسكا) لم تختفِ من (المَسْطَر) وحسب، بل حلّ محلها دعوات بعدم الحنين إلى الوطن. وأن البقاء على هذه الأرض أشبه بمن يستسلم للقدر ويوقف زمنه، رضوخ إلى سلطة مؤمنة بأنها تمتلك الوطن ومن يعيش فيه، وكأنما ثمة سلطة على الكرة الأرضية لا تؤمن بذلك! وأن البقاء ما هو إلا خوف من مغامرة يخسر فيها الفرد البسيط الذي لديه، الفتات الذي يلقى لرجل لا فائدة منه. وأن الحياة في الخارج ليست سيئة دائماً في المجهول. دعوات يسوقها رومي على لسانه لكنه ينسى أنه ابن الحظ والصدفة. الصدفة التي فتحت له أبواب الحلم يوم وقف رجل أعمال أمريكي وزوجته يسألانه ودون مقدمات: “ه� تقبل أن تأتي معنا إلى أمريكا؟�. ثم بصدفة أكبر يصبح ابنهما المدلل.
أليس هذا مخيفاً؟ مرعباً؟ أم نحن فعلاً بحاجة لهذه القسوة كي نستيقظ؟
Sign into ŷ to see if any of your friends have read
المسطر.
Sign In »
Reading Progress
Finished Reading
November 21, 2018
– Shelved