ŷ������

"آه يا روحي، لا تطمحي إلى الخلود، بل استنفدي حدود الممكن." طاغور
"فقالت له فتاة الحان، قالت لجلجامش:
إلى أين تمضي يا جلجامش؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها،
فالآلهة لما خلقت البشر،
جعلت الموت لهم نصيبًا،
وحبست في أيديها الحياة.
أما أنت يا جلجامش، فاملأ بطنك،
افرح ليلك ونهارك،
اجعل من كل يوم عيدًا،
ارقص لاهيًا في الليل وفي النهار.
اخطر بثياب نظيفة زاهية،
اغسل رأسك واستحم بالمياه،
دلل صغيرك الذي يمسك بيدك،
واسعد زوجك بين أحضانك،
هذا نصيب البشر في هذي الحياة." اللوح العاشر، العمود الثالث من ملحمة جلجامش

***

::انطباع عام::
=-=-=-=-
قرآت هذه الملحمة منذ عدة سنوات، بترجمة طه باقر، ولم أحبّها مطلقًا. نفر منها قلبي، إلا أنني اليوم أقرؤها بترجمة وتحقيق ودراسة فراس السواح فكأنه كان كنزًا مخبوءًا استعاده فراس فجلى البصيرة وجعل النص الملحميّ شفافًا مبهجًا مشجعًا على القراءة. كما أن المذهل في دراسات فراس هو قدرته على خلق ترابطية أنثروبولوجية بين النصوص الإنسانية المختلفة: بين الكتاب المقدس، والنصوص الدينية المختلفة في الثقافة الشرقية.
كما قدم سواح سياحة عبر تاريخ الألواح المكتشفة وفيما تتميز عن بعضها البعض، على خلفية تاريخ منطقة الرافدين، وتحديد ماهية جلجامش، فهل كان ملكًا حقيقيًا؟ أم مجرد شخصية أسطورية؟ كل هذه الأسئلة وزيادة كانت تراودني بما يخص الملحمة، أجاب عنها الكاتب باستفاضة وسهولة، مما يشي بسعة اطلاعة وقدراته البحثية التي لا أجد لها نظير.

***

::أطوار تطور شخصية جلجامش عبر الملحمة::
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=
١) الطور الأول: حرية التسلط على الآخرين، وحرية حياة الطبيعة الوحشية
أ- لقد طغى جلجامش لا طغيان الأحمق، ولا بغي الجاهل، بل طغيان قدرة متفوقة لم تعرف بعد سبيل التفريغ، وبغي ذكاء يلهج بالسؤال عن المعنى في كل ما حوله.
ب- سلوك الرجل الحكيم، إن شذ، لا يكون عن طيش وهوى، بل عن بحث وتساؤل ومحالة فهم وكشف. وفي هذه المرحلة من شخصية جلجامش نجد تساؤلاته حول الحرية وموضوعها وما معنى الحياة في هذا الزمن الضيق.
ج- أما إنكيدو فقد كان في أولى مراحل حياته إنسانًا بدائيًا، وحشيًا، يتمتع بالحرية التي هي التحرر من قوانين المجتمع وأخلاقياته، فقد كان حرًا فردًا لكن بالمعنى البربري غير الحضاري. ثم يسير إنكيدو على خطا الإنسان الأول في انتقاله من حياة البراري إلى حياة الرعي، ثم إلى حياة الحضارة المستقرة.
د- لعبت المرأة دورًا بارزًا في تحويل الإنسان الأول واستقراره وتوديعه حياة التنقل والصيد، وإنشاء المستقرات الزراعية الثابتة، وهي الخطوة العملاقة نحو الحضارة، كذلك كانت كاهنة الحب بالنسبة إلى إنكيدو.
هـ- ثم كان استبشار أهل أوروك بظهور إنكيدو ناجمًا عن توقعهم لتنافس عادل بين بطلين متفوقين في كل شيء، من شأنه تحييد طاقة جلجامش بطاقة معادلة لها.

٢) الطور الثاني: الشكل الأعلى من الحب والتحول من الماطريارخية إلى الباطريارخية
أ- إن توكيد انجذاب جلجامش إلى إنكيدو كانجذابه إلى النساء، وتفسير ننسون الذي يتنبأ بصداقة قوية بين الطرفين، هو تأكيد على الارتقاء من الحب الأدنى إلى الحب الأعلى، ولجم طاقة الليبيدو العارمة التي كان يفيض بها الجباران، وحرفها عن مسارها الأعلى لتوجيهها نحو أهداف نبيلة.
ب- كما أدرك الطرفان أن الحرية الفردية لا معنى لها إن لم تتعاون مع حريات أولئك الآخرين، وتتحد من خلالها، ومع تلاشي أحلام الحرية المطلقة، أتى وعي مسألة الموت والتفكير فيه.
ج- الأفعال المجيدة التي ينوي جلجامش إتيانها لتخليد اسمه هي في نفس الوقت التزام أخلاقي، والصراع المرتقب مع وحش الغابة هو أيضًا صراع مع قوى الشر.
د- تظهر ثقة جلجامش الإنسانية بنفسه في أقوى أشكالها، إذ لا يكتفي برفض عرض إلهة العشق الجنسي عشتار، بل شرع أيضًا في تعداد مثالبها وخياناتها لعشاقها، وهو في ذلك إنما يؤكد على تركه للشكل الأدنى من الحب وانتقاله إلى شكله الأعلى.
هـ- تم إهانة عشتار على يد بشر فان، فها هو أول فرد في مسيرة الحضارة البشرية يتحدى عالم الآلهة، ويكون الشخصية الإنسان التي تؤمن بنفسها قدر إيمانها بالآلهة. ثم قتل البطلان ثور السماء، فمن هو ثور السماء وما رمزيته؟
و- الصراع بين الأسد والثور. فمنذ العصور الحجرية كان الثور رمزًا للقمر، وموضع تقديس الديانات القمرية التي عبدت الأم الكبرى، أول إلهة للبشر وأقدمها، أما الأسد فقد كان على الدوام رمزًا شمسيًا. وفي الملحمة يلعب جلجامش دور الأسد والشمس (الإله شمش) في صفه، والصراع يحدث مع إلهة القمر، عشتار، وقتاله لثور السماء ليس إلا صدى بعيد لصراع الشمس والقمر. وبهذا ينتهي عصر الديانات الإلهية القمرية الأنثوية، وتنتصر الديانات الشمسة الذكورية ثم يتم دفع الديانات القمرية إلى المرتبة الثانية.

٣) الطور الثالث: الحياة فارغة من كل معنى
أ- لقد بحث جلجامش عن معنى الحياة والموت، ولا يتخذ بحثه طابعًا عقلانيًا منطقيًا، بل طابعًا حلميًا لنفس مفككة لا تجد في رفضها للواقع أفضل من البحث عن المستحيل.
ب- فما معنى خلود الذكر، وأي شيء من جلائل الأعمال باقٍ ونحن جثث لا حراك بها تطويها ظلمة النسيان؟ تنهار الأهداف التي وضعها جلجامش لنفسه خلال رفقته القصيرة الحافلة مع إنكيدو. تبدو الحياة فارغة من كل معنى وهدف وغاية، فالسباحة ضد تيار الزمن نحو البدايات، إلى أزمان ما قبل الطوفان صار هو هدف جلجامش.
ج- عندما يجتمع جلجامش مع الخالد أوتنابشتيم لا يجد بعد طول تلهف أي صورة مشرقة للخلود الذي كان يبحث عنه، فها هو في جزيرة نائية مستلق على جنبه أو قفاه لا يفعل شيئًا ولا ينتظر أن يأتيه الزمان بشيء.
د- كان في خطاب سيدوري لجلجامش مربط فرس الملحمة، لكنها لا تريد توجيه الأنظار نحو عدمية الحياة، بل إلى أن الموت حق ولكن الحياة حق أيضًا، ونحن قادرون على تفجير كل لحظة من لحظاتها وتفتيح أقصى ممكانتها.

٤) الطور الرابع: كنز المعرفة والحكمة هو الهدف
أ- انتهى هاجس جلجامش الفردي المسيطر، فها هو يحمل النبتة السحرية، ويقول أنه سيجعل الشيوخ يقتسمونها فيما بينهم لتجديد شبابهم، وسيكون آخر من يأكل منها لا أولهم، فلقد أدرك جلجامش أنه لا قيمة للخير يصيب فردًا واحدًا، إن لم نشرك به الآخرين.
ب- لم يقهر جلجامش الموت، بل وحتى لم يقهر خوفه من الموت، لأن الخوف من الموت هو شرط لحب الحياة واستنفاذ ممكناتها، لقد قبل الموت، وبقبوله للموت قبل قبل الحياة نفسها.

***