ŷ������

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدِلون.

أما بعد، فإن هذا كتابٌ بسيط الفكرة، مهمٌ في بابه.
باختصار؛ يرى حلاق أن قيام دولة إسلامية على الطراز الحديث للدولة الغربية فكرة مستحيلة، ولعل الفكرة بسيطة إذا نظرنا إليها من منظور كلي.
فلا إسلام رأسمالي معلمن يمكن وجوده هاهنا.
فالخلاف جوهري كما ترى، بين مركزية لقانون وضعي يزيح الإله عن التشريع. وبين مركزية لكلمة الله المشرّع الوحيد والذي له الخلق والأمر!
هذا ما يحاول حلاق تسليط الضوء عليه عبر التركيز على الاختلافات المركزية بين النموذجين واستحالة توافقهما إلا بأن لا تستمر الدولة في هيئتها الحداثية الرأسمالية وإلا بأن يفقد الإسلام هويته ويتعلمن.

ولكن العنوان مضلل بحق!
فالكتاب يبحث عن حلول لمآزق الحداثة بالنبش في مصادر الإسلام ورؤيته في "الدولة"! ومن ثم يثبت أفضلية الإسلام على كل منتجات الحداثة تقريبا.
فحلاق يفتت الحداثة وتجلياتها في الدولة الرأسمالية السيادية بمعاول الإسلام.
فليس الهدف من الكتاب إحباط المسلمين وإخبارهم بأن لا مكان لهم في العصر الحديث كما فهم البعض!

ومنه أفهم رد الفعل المتشنج لدى مفكري الإسلام السياسي إزاء الكتاب، وهو رد فعل متوقع لمن لا يعقل أنه لا يمكن للإسلام أن يتحرر أو يتنمذج وفق دساتير غربية وضعية علمانية!!
فالأمر لا يقتصر على الحزب الفلاني الذي يرفع راية لا إله إلا الله، وإلا من قشرة فارغة..
ولعل الفشل الذريع للإسلام السياسي يغني عن كثير القول، فهؤلاء القوم غفر الله لهم لم يفهموا أن الشبكة الدولية العلمانية لن تسمح بهذا الطرف الغريب في جسدها، وستنبذه متى تيسر.

فالذي وضحه حلاق في الكتاب هو أنه لكي يتبنى كيان سياسي خصائص دولة، فإن أمره لن يقتصر على تقسيمة السلطات، فتضع الخليفة محل الرئيس، وتضع المفتي محل السلطة التشريعية. وتضع قاضي المسلمين محل السلطة القضائية!.
فإنك شئت أم أبيت ستتبنى الخصائص النموذجية للدولة الرأسمالية الحديثة، بما فيها من "امتلاك وسائل اختراق المجتمع والثقافة وتشكيلهما بطريقة تساعد على تكوين رعايا الدولة أو ذواتها.(وهي ذوات تختلف عن الذات المؤمنة، وسأتحدث عن هذه النقطة ببعض التفصيل) و"لكي يشكل كيان ما نفسه في صورة دولة مكتملة التحقق، يجب عليه أن يفترض ذاتا معينة، ألا وهي المواطن. ولا يمكن قيام الدولة ومواطنها المكتمل التحقق إلا من خلال سيرورة تاريخية(غربية لها جذورها وآثارها في الواقع)، سيرورة قد لا تكون أساسية في كثير من الدول التي ندعوها اليوم دولا «ضعيفة» أو «مارقة» أو «متخلفة» ."

كما أنه عزز الطرح بتوضيح أن مفهوم الدولة الحديث مفهوم أوروبي بحت، وعاد إلى الأساس التاريخي للدولة الحديثة والتي هي منتج غربي وثمرة الاستعمار شعوب العالم وتدجينها وفصلها عن هويتها وسحق خصوصياتها لتنتهي إلى محطات توليد طاقة وموارد بشرية وبطون استهلاكية تخدم العجلة الرأسمالية.
ومنه فالدولة بمفهومها الحديث لم تنشأ أبدًا إلا في أوروبا، ومنه فباقي الدول في كل مكان "والشرق الأوسط خصوصا" أشباح دول واسماء فارغة المعنى.
_______

أما عن الكتاب فقد سار في هذه المحاور:

(1)
الدولة الحديثة وما قبل الحديثة؛ في التفريق بين "ما هو كائن" وبين "ما ينبغي".

وقد وضح هنا استحالة إمكان هذا التمييز في الإسلام، لأن القانون فيه مستمد من رؤية أخلاقية عليا أصلا، وهي الشريعة القرآنية وهدفها النهائي حث الناس على خيرهم الدنيوي والأخروي.
وفي التراث الإسلامي وخطابه القرآني، "لم ينظر إلى القانوني والأخلاقي باعتبارهما مقولتين منقسمتين، فقد كانت الحقيقة والقيمة الشيء ذاته."

كما تناول أزمة الفصل بين القانوني والأخلاقي، ليظهر فيما بعد في النموذج الغربي أن القانوني ليس بالضرورة ممثلا للأخلاق! ويظهر فيما بعد أن "القانون" في الإسلام في مرآة الغرب مقتصرا على المعاملات دون العبادات، رغم أن العبادات المقدمة الخصبة للمعاملات والحدود كلها، والالتزام بالحدود والبيوع ونحوه التزام ذات مسلمة تعاهد الله على أداء الأركان التعبدية منذ البداية.

فالزكاة مثلا "ضريبة" ولكنها تستلزم "النية" والإعطاء عن رضا ولله، عكس الرقابة والضريبة المفروضة سياديًا من الدولة فهذه يحكمها الانضباط والإكراه، ومن هذا التنافر بين فكرتي القانون هاتين تفهم لم دمرت أوروبا الاستعمارية سلطة الشريعة من الداخل وأزاحتها عن الجماهير.

ف"القانون الحديث النموذجي هو قانون وضعي، وقد حكم أسطورة الإرادة السيادية. أما الشريعة الإسلامية فليست وضعية، بل هي قواعد موضوعية قائمة على مبادئ دقيقة تعددية بطبيعتها، ومتجذرة في نهاية الأمر في ضرورة مطلقة أخلاقية كونية. وإذا أراد المسلمون اليوم تبني قانون الدولة الوضعي وسيادتها فإن ذلك يعني بلا شك قبولا بقانون نابع من إرادة سياسية، أي قانون وضعه أناس يغيرون معاييرهم الأخلاقية بحسب ما تتطلب الظروف الحديثة. كما يعني القبول بأننا نعيش في كون بارد نملكه ونستطيع أن نفعل به ما نشاء، ما يعني هذا القبول بأن تنحى جانبا المبادئ الأخلاقية للقرآن والشريعة التي قامت على الأخلاق للقرآن والشريعة، لمصلحة قوانین متغيرة صنعها الإنسان، وأقرت من بين ما أقرت السيطرة على الطبيعة نفسها وتدميرها، وهي التي خلقها الله للبشرية للتمتع بها على أساس المسؤولية الأخلاقية. إن قبول هذا أو رفضه هو سؤال لا يمكن أن يجيب عنه إلا المسلمون أنفسهم.

________
(2)
فكرة الفصل بين السلطات ومساوئها وتحققها الاسمي فقط في الواقع الحديث:

قارن بين هذا الوضع وبين فكرة الفصل بين السلطات في الإسلام. من قضاء وتشريع وتنفيذ. وانتصر في النهاية للنموذج الإسلامي "الديمقراطي" أكثر من النموذج الغربي! والذي حقق الفصل بين السلطات بفعالية.

فالسلطات الثلاثة التنفيذية. التشريعية والقضائية في الدولة الحديثة ليست الا مسميات بلا معنى، والحاصل أن كل سلطة منهم قادرة على التشريع والتنفيذ في آن. 

و"
لم يكن القضاء الإسلامي مكرسا إذا لتطبيق قانون حددته القوى المسيطرة في دولة أو حدده حاکم متعجرف، بل مكرسا لحماية الشريعة التي اهتمامها الأول تنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية على أسس أخلاقية. وكانت الشريعة قانون الناس، كما ساعدت بالقدر نفسه في تقييد الحاكم في معاملته لشعبه. ومع أن المجتمع والشريعة هما مصدر قيم الفقهاء والقوانين التي يطبقونها، فإن هؤلاء أنفسهم يعينهم الحاكم الذي يستطيع إعفاءهم من مناصبهم وتحجيم نطاق سلطاتهم. لكن الحاكم لم يكن له أي دور على الإطلاق في عمل القاضي منذ تعيينه حتى إعفائه من منصبه. فقانون المحكمة وإجراءاتها كانت من اختصاص القاضي، واختصاص القاضي كان بأكمله تطبيق الشريعة التي تدرب عليها وكان أمينا عليها أخلاقيا وقانونيا وثقافيا.

_______
(3)
بين ذات الشريع والذات التي صنعتها الدولة عبر المدرسة والشرطة والجيش والمستشفى والبيروقراطية. (سيادة الدولة وتجليها في فكرة التضحية بالمواطن أمام سيادة الله في الشريعة).

تحدث هنا عن تقنيات الذات وتشكيل الإسلام الأفراد من الداخل، وعن تقنيات الذات المعاكسة للدولة الحديثة وتشكيلهم من الخارج بسياسات الاكراه والانضباط وصناعة ذات المواطن التي تخدم أهداف الدولة وتحافظ على وجودها..

ف"على المستوى المعرفي، لم تكن مؤسسات المراقبة الإكراهية(الشرطة) والتعليم والصحة السجون والمدارس والمستشفيات مميزة بعضها من بعض ولا محايدة بأي حال. كان كل منها يعمل في مجال متخصص، لكنها كانت تعمل معا، حيث أتت إلى الوجود في أعقاب آلة بيروقراطية منتشرة ونافذة ولديها أفكار أيديولوجية مميزة. [كان لزاما على الشعب أن يتعلم طرق السلوك القويم، أي النظام الاجتماعي [الجديد]، وكان ذلك يعني، في نظام رأسمالي شامل، القدرة على العمل والإنتاج].وشكلت المدارس والجيوش والمستشفيات والسجون تجليات منتظمة الطريقة في إنجاز الأمور وترتيبها تتسم بالإحكام والتحديد إلى أبعد حد، ما يفسر سرعة انتقال التقنيات التي استخدمت لتطبيقها من مؤسسة إلى أخرى، بل ومن دولة أوروبية إلى أخرى. وطبقت في هذه المؤسسات قواعد تنظيمية شاملة شكلتها مناهج تجريبية ومحسوبة (ومتحسبة أيضا) لضبط عمليات الجسد. وعكست هذه القواعد الاهتمامين الرئيسين اللذين هما الخضوع والمنفعة؛ الخضوع لآلية منظمة تنتج الانصياع والمنفعة كأداء منتج ماديا. ومن كلا المنظورین، لم يكن الجسد موقعا للتحليل التجريبي فحسب، بل للفهم أيضا. وأصبح قابلا للاستعمار، وبالتالي كذلك قابلا للتلاعب به وتحليله وتشكيله بحسب إرادة معينة بحيث يمكن من خلاله إنتاج آثار معينة. كانت هذه الإرادة المحددة جديدة، فهي لم تنبع من المشيئة الداخلية للذات أو المجتمع المحلي ( وهي خاصية للعالم قبل الحديث )، بل من قوة خارجية أو إرادة سياسية توضّعت خارجها. "


ومن ثم قارنها بصناعة الشريعة للذات المؤمنة وصياغتها داخليا عبر أركان الإسلام:
فتجد أن كل من الصلاة والصيام والزكاة والحج ترويض للنفس وإعداد لها من حيث ثواب الآخرة (والذي هو بمثابة الهدف النهائي لوجود البشر على الأرض في الآساام (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)
وبصفته تشكيل للذات المؤمنة الخاضعة للشريعة في سائر الأحكام.  عكس التشكيل السيادي للدولة بأيد سياسات ترمي لمصالح معينة.
_________
. وقد فاجئني هذا الفصل بمعرفة الحلاق بالفقه ومراميه بنظرة تستعجبها من نصراني.
بعد هذا الفصل..
قلت ويحك يا حلاق! لك الويل من الحجة التي عليك! ويحك آمن بالله ورسوله يا رجل!

على كل.. هذه قراءة عجلى لا تغني عن قراءة الكتاب في شيء، شكر الله لأخي الحبيب محمد على أن حفّزني على كتابتها. ��
___
والله يحكم لا معقب لحكمه!.
والحمد لله رب العالمين.