Ghala Anas's Reviews > حياة تالفة : أزمة النفس الحديثة
حياة تالفة : أزمة النفس الحديثة
by
by

"يؤدي استعمار المكون الثقافي في عالم الحياة إلى تقويض المصادر التقليدية للمعنى وإعاقة المعرفة الثقافية المحلية المتصلة بالرفاه الفردي والجمعي، فينشأ عن ذلك عجزٌ لا يمكن سده بالطوفان المعلوماتي للتقنية، ولا بالأبنية البيروقراطية والمؤسسات التعليمية".
حياة تالفة � تود سلون \ ترجمة عبد الله بن سعيد الشهري
كتابٌ نافع يبحث في سؤال المشكلة النفسية التي طوَّرتها الحداثة وأنظمة التحديث المؤسساتية في الذات الحديثة، ويحاول الوقوف على أبرز معالم هذه المشكلة وعناصرها، مُحللاً منبعها وسياستها وظروفها والإشكاليات المُحيطة بها، ومن ثم يتحدث عن إمكانية المرء مواجهتها والتعامل معها.
يتحدث الكاتب أولاً عن معضلة الحداثة التي جعلت الإنسان الحديث في قلقٍ دائم لتعريف ذاته باستمرار، وإعادة تنظيمها وتسمية عناصرها وقولبتها للتوافق مع جزئيات واقعه الاجتماعي المتبدل باستمرار، أي أنَّ الإنسان الحديث واقعٌ في همِّ بناء هويته من جديد بشكلٍ واعٍ ومُختلف في كل مرحلة، الأمر الذي يتسبب له بقلق انعدام الاستقرار والثبات، وانعدام الثقة بمعتقداته التي يجد نفسه فارغاً أمامها، ينتقيها حسب ذوقه وميوله، والمختلفة في كل آن، بدلاً من التفكير والتمحيص في مصلحته والمصلحة العامة لبناء نظام عقدي يحفظه ويحفظ مجتمعه، لذلك فإنه يشعر بأنه مُفلس تماماً أمام الفوضى التي أثارتها عمليات التحديث، والتي نزعت القيمة عن الموضوع وخصَّت بها الإنسان فقط، بصرف النظر عن هويته ومؤهلاته وقدرته على الفهم والتمييز.
وبمعنى آخر، فإنَّ الكاتب يشير إلى عمليات التحديث على أنها بضاعة أيديولوجية ضمن سلسلة من الترتيبات الحياتية المؤثرة على عمليات الإنسان النفسية والاجتماعية والاقتصادية، تنبع هذه الأيديولوجيا من المؤسسات الاقتصادية المسيطرة، والأنظمة الرأسمالية التي يكون من مصلحتها خلق أنموذج بشري مهموم بنفسه وذاته وملذاته ورغباته، متقوقع في عالمه الخاص، لا يكترث لكلِّ ما يقع خارجه.
هذا كلُّه ساهم في تعاسة الإنسان الحديث التي قد يعرف أو يجهل منبعها، ولكنه يعيشها على كلتا الحالتين، فرغم الوعي بما يتعرض له من قهرٍ مقنَّع وإقصاء عن الحياة المُهمة، حيث يُصنع القرار، فإنه قد لا يملك الشجاعة أو الأدوات أو المكانة أو المنصب الذي يجعل دوره فاعلاً في التصحيح إن أراد ذلك واجتهد، ولأن الإنسان اليوم عادة ما يستسلم أو يلتفُّ على هذه المؤثرات، فإنه يعيش في قلق واغتراب وهموم يمكن تلافيها.
يشرح هابرماس هذه المشكلة إذ يعبِّر عن عالم الثقافة والانعكاسات الإنسانية والفكر والفلسفة والأخلاق بـ"عالم الحياة"، وعن عالم الاقتصاد والإنتاج والسياسة والحكم والمؤسسات بـ"عالم النظام"، ويحصر المشكلة الأكبر في طغيان عالم النظام على عالم الحياة، فالحداثة عملية استعمار النظام الاقتصادي الإنتاجي المنفصل عن الإنساني الثقافي لعالم الحياة الذي يحمل قيمة الإنسان ويحافظ عليها، ومن هنا تنشأ أزمة الإنسان الحديث عندما تختلط عليه الأمور ويحكم بالمنطق الجاف على أمور العاطفة والعلاقات الإنسانية، فيعاني الاغتراب الهوياتي وانعدام القيمة وفقدان المعنى، وفي زحف العقلانيات المعرفية والأداتية إلى عالم الحياة، فإنَّ الإنسان يقع في حيرة شديدة تخلط عليه الأمور، فيُخطئ إذ يستبدل أفكار عالم النظام البراغماتية بأفكار عالم الحياة الذاتية والإنسانية.
ومن ثم يتناول الكاتب الكيفية التي يتشكل عبرها الإنسان في أسرته ومجتمعه، ويوضح الدور الكبير للبيئة المحيطة ومعاييرها في تشكيله وتوجيه عقله ورغباته وميوله، فالطفل عبر تفاعله مع الآخر يتعلم عالم الترميز واللغة والتواصل، ويدرك مفهوم المصلحة العامة والمراعاة والتعاطف، ويعرف أهمية التعاون والتعاضد والفهم واحترام الحريات، غير أن تنشئته في مجتمع متأثر بالحداثة يشوِّه عمليات نموِّه ويجعله حائراً حول ما تستند إليه قيمته الحقيقية، فيرتبط بالنظام بصورة شديدة تجعله يرى سيئاته شروراً لا بد منها، لا يمكن تفاديها، وأحياناً ضرورية، رغم أنها لا تكون كذلك إلا لغاية تحقيق الربح.
ويركز الكاتب على أن أيديولوجية الحداثة تحيط الإنسان الحديث فتسبب له الانشطار بين وعيه وسلوكياته، فيستمر في الخطأ رغم اقتناعه بأنه خطأ، ملبياً صورة العالم الذي خلقته له الحداثة في ذهنه محتكماً لمعاييره التسويقية، لذلك يضعنا الكاتب أمام مفهوم اللاأدلجة الذي يرفض الاستعمار الحداثي لهوية المرء وعلاقاته ووجوده الثقافي، خاصة أن المعنى الذي يبتغيه الإنسان منذ صغره يعتمد على وساطة اللغة والثقافة بين ذاته والموضوع الذي يبتغيه، فإن تشوهت اللغة والثقافة فإنه سيعاني فقدان المعنى بشكل دائم، وستصيبه الكآبة والأزمات النفسية التي يحاول عبثاً علاجها بالطرق التي أملتها عليه الحداثة.
ومن صور تشوِّه النفس إثر الأثر الحداثي عليها، خصخصة الفرد لمشكلاته وعدم رؤيتها في إطارها العام وسياقها الصحيح، ذاك أن الحداثة تستجلب أصنافاً من المشاكل والمعايير الغريبة للفرد وتفرضها عليه بحكم نشأته، غير أنه لا يُدرك أن منبع مشكلات حياته لا يكمن فيه بالضرورة، بل في النظام العام الذي يسيِّر مجتمعه، فيعاني ما يسميه الكاتب تماهٍ مع الطاغي في معاقبة النفس على فشل منظومة كاملة، والشعور الدائم بالقهر وسلب الحريات، أو ما يسميه هابرماس "الانتزاع اللغوي" الذي يسلب الفرد حريته ويُخضعه لاستعمار عالم النظام لعالم الحياة كقوة لا يمكن مجابهتها.
كما يتأدلج المرء في المجتمع الحداثي إذ يُحقق الفصل بين مجموعة من العناصر المُهمة، كالموقف الفكري والموقف العملي واللغوي والإدراك للواقع الاجتماعي والخبرة العاطفية لديه، ما يجعله أكثر هشاشة أمام شرور العالم غير المُبررة، مؤمناً بالحتمية بصورة قهرية، وينزع إلى الانكفاء على ذاته في كل مرة تحيطه فيها مشكلات مجتمعه، هذا كلُّه يجعل دوره سلبياً في المجتمع، يستقبل منه دون أن يفعل فيه شيئاً يُغيِّره أو يصحِّحه، وهذا هو النموذج الإنساني الذي تريد الحداثة والتيار الرأسمالي إنتاجه اليوم بصورة مُلحة:
"إنَّ الفرد الحديث مكبَّل أولاً وأخيراً بالتنشئة الاجتماعية في عالم يعوزه الامتلاء والثراء. إنَّ الأبنية الشخصية التي تفتقد التمييز بين صور النفس والآخر لا تدعم التصرَّف المستقل والتفكُّر الذاتي الضروريين للعيش وفقاً للمثال الفردي � المشكوك فيه � للإنسان الذي يصنع نفسه بنفسه. إنَّ أقوام الرأسمالية ’الصانعي� لأنفسهم� لم يصنعوا أنفسهم ولم يستقلُّوا بذواتهم، لقد أنتجهم النظام لخدمة النظام وإنهم يُنجزون مهامهم في العموم عبر الجهل بذواتهم والاستغلال السافر للآخرين"
وفي حديثه عن طرق التخلص من هذا الاستعمار الحداثي لعالم الحياة، فإنه يقول أن التشاؤم اليساري لا مبرر له لأن العملية ليست بالصعوبة التي نتخيلها، وأن إمكانية التحرر من سلطة البيروقراطية الحداثية تعتمد على العامل النفسي والاجتماعي أكثر من اعتمادها على الجانب الاقتصادي، وفي هذا فإنه يذكرني بالمشروع التربوي الذي كتبت عنه شارلوت جيلمان في كتابها الرائع "الاقتصاد والمرأة"، فالكاتب هنا يدعم دور المؤسسات في خلق استراتيجيات تعيد ربط الإنسان بمكانه وهويته وتعيد له الاستقرار الذي سلبته منه الحداثة، وبمعنى آخر، فإنه يرى أن الخطوة الأهم في تحررنا من قبضة الثقافة التسليعية هي بفك الارتباط بين النشاط الثقافي وتسويق السلع.
ورغم حديث الكاتب في النهاية عن ضرورة وعي المرء لذاته وفهمه لطبيعتها وحفاظه على ذهنه متقداً ونشطاً، ونفسه حُرة وفاعلة، فإنه يشير إلى أن تحقيق ذلك صعب للغاية من دون إجراء أية تغيرات مؤسساتية مجتمعية، تُعين الفرد على التخلص من مشكلات العصر من دون التقهقر إلى الوراء، أي يجب العودة إلى إدراك أهمية عالم الحياة لتحقيق الإنسان سعادة حقيقية في حياته وكرامةً غير هشة وقيمة لا يمكن أن تُستلب.
إنه كتاب ذو طرحٍ قيِّم، أنصح به، وأشكر المترجم على دقته وجمال لغته.
حياة تالفة � تود سلون \ ترجمة عبد الله بن سعيد الشهري
كتابٌ نافع يبحث في سؤال المشكلة النفسية التي طوَّرتها الحداثة وأنظمة التحديث المؤسساتية في الذات الحديثة، ويحاول الوقوف على أبرز معالم هذه المشكلة وعناصرها، مُحللاً منبعها وسياستها وظروفها والإشكاليات المُحيطة بها، ومن ثم يتحدث عن إمكانية المرء مواجهتها والتعامل معها.
يتحدث الكاتب أولاً عن معضلة الحداثة التي جعلت الإنسان الحديث في قلقٍ دائم لتعريف ذاته باستمرار، وإعادة تنظيمها وتسمية عناصرها وقولبتها للتوافق مع جزئيات واقعه الاجتماعي المتبدل باستمرار، أي أنَّ الإنسان الحديث واقعٌ في همِّ بناء هويته من جديد بشكلٍ واعٍ ومُختلف في كل مرحلة، الأمر الذي يتسبب له بقلق انعدام الاستقرار والثبات، وانعدام الثقة بمعتقداته التي يجد نفسه فارغاً أمامها، ينتقيها حسب ذوقه وميوله، والمختلفة في كل آن، بدلاً من التفكير والتمحيص في مصلحته والمصلحة العامة لبناء نظام عقدي يحفظه ويحفظ مجتمعه، لذلك فإنه يشعر بأنه مُفلس تماماً أمام الفوضى التي أثارتها عمليات التحديث، والتي نزعت القيمة عن الموضوع وخصَّت بها الإنسان فقط، بصرف النظر عن هويته ومؤهلاته وقدرته على الفهم والتمييز.
وبمعنى آخر، فإنَّ الكاتب يشير إلى عمليات التحديث على أنها بضاعة أيديولوجية ضمن سلسلة من الترتيبات الحياتية المؤثرة على عمليات الإنسان النفسية والاجتماعية والاقتصادية، تنبع هذه الأيديولوجيا من المؤسسات الاقتصادية المسيطرة، والأنظمة الرأسمالية التي يكون من مصلحتها خلق أنموذج بشري مهموم بنفسه وذاته وملذاته ورغباته، متقوقع في عالمه الخاص، لا يكترث لكلِّ ما يقع خارجه.
هذا كلُّه ساهم في تعاسة الإنسان الحديث التي قد يعرف أو يجهل منبعها، ولكنه يعيشها على كلتا الحالتين، فرغم الوعي بما يتعرض له من قهرٍ مقنَّع وإقصاء عن الحياة المُهمة، حيث يُصنع القرار، فإنه قد لا يملك الشجاعة أو الأدوات أو المكانة أو المنصب الذي يجعل دوره فاعلاً في التصحيح إن أراد ذلك واجتهد، ولأن الإنسان اليوم عادة ما يستسلم أو يلتفُّ على هذه المؤثرات، فإنه يعيش في قلق واغتراب وهموم يمكن تلافيها.
يشرح هابرماس هذه المشكلة إذ يعبِّر عن عالم الثقافة والانعكاسات الإنسانية والفكر والفلسفة والأخلاق بـ"عالم الحياة"، وعن عالم الاقتصاد والإنتاج والسياسة والحكم والمؤسسات بـ"عالم النظام"، ويحصر المشكلة الأكبر في طغيان عالم النظام على عالم الحياة، فالحداثة عملية استعمار النظام الاقتصادي الإنتاجي المنفصل عن الإنساني الثقافي لعالم الحياة الذي يحمل قيمة الإنسان ويحافظ عليها، ومن هنا تنشأ أزمة الإنسان الحديث عندما تختلط عليه الأمور ويحكم بالمنطق الجاف على أمور العاطفة والعلاقات الإنسانية، فيعاني الاغتراب الهوياتي وانعدام القيمة وفقدان المعنى، وفي زحف العقلانيات المعرفية والأداتية إلى عالم الحياة، فإنَّ الإنسان يقع في حيرة شديدة تخلط عليه الأمور، فيُخطئ إذ يستبدل أفكار عالم النظام البراغماتية بأفكار عالم الحياة الذاتية والإنسانية.
ومن ثم يتناول الكاتب الكيفية التي يتشكل عبرها الإنسان في أسرته ومجتمعه، ويوضح الدور الكبير للبيئة المحيطة ومعاييرها في تشكيله وتوجيه عقله ورغباته وميوله، فالطفل عبر تفاعله مع الآخر يتعلم عالم الترميز واللغة والتواصل، ويدرك مفهوم المصلحة العامة والمراعاة والتعاطف، ويعرف أهمية التعاون والتعاضد والفهم واحترام الحريات، غير أن تنشئته في مجتمع متأثر بالحداثة يشوِّه عمليات نموِّه ويجعله حائراً حول ما تستند إليه قيمته الحقيقية، فيرتبط بالنظام بصورة شديدة تجعله يرى سيئاته شروراً لا بد منها، لا يمكن تفاديها، وأحياناً ضرورية، رغم أنها لا تكون كذلك إلا لغاية تحقيق الربح.
ويركز الكاتب على أن أيديولوجية الحداثة تحيط الإنسان الحديث فتسبب له الانشطار بين وعيه وسلوكياته، فيستمر في الخطأ رغم اقتناعه بأنه خطأ، ملبياً صورة العالم الذي خلقته له الحداثة في ذهنه محتكماً لمعاييره التسويقية، لذلك يضعنا الكاتب أمام مفهوم اللاأدلجة الذي يرفض الاستعمار الحداثي لهوية المرء وعلاقاته ووجوده الثقافي، خاصة أن المعنى الذي يبتغيه الإنسان منذ صغره يعتمد على وساطة اللغة والثقافة بين ذاته والموضوع الذي يبتغيه، فإن تشوهت اللغة والثقافة فإنه سيعاني فقدان المعنى بشكل دائم، وستصيبه الكآبة والأزمات النفسية التي يحاول عبثاً علاجها بالطرق التي أملتها عليه الحداثة.
ومن صور تشوِّه النفس إثر الأثر الحداثي عليها، خصخصة الفرد لمشكلاته وعدم رؤيتها في إطارها العام وسياقها الصحيح، ذاك أن الحداثة تستجلب أصنافاً من المشاكل والمعايير الغريبة للفرد وتفرضها عليه بحكم نشأته، غير أنه لا يُدرك أن منبع مشكلات حياته لا يكمن فيه بالضرورة، بل في النظام العام الذي يسيِّر مجتمعه، فيعاني ما يسميه الكاتب تماهٍ مع الطاغي في معاقبة النفس على فشل منظومة كاملة، والشعور الدائم بالقهر وسلب الحريات، أو ما يسميه هابرماس "الانتزاع اللغوي" الذي يسلب الفرد حريته ويُخضعه لاستعمار عالم النظام لعالم الحياة كقوة لا يمكن مجابهتها.
كما يتأدلج المرء في المجتمع الحداثي إذ يُحقق الفصل بين مجموعة من العناصر المُهمة، كالموقف الفكري والموقف العملي واللغوي والإدراك للواقع الاجتماعي والخبرة العاطفية لديه، ما يجعله أكثر هشاشة أمام شرور العالم غير المُبررة، مؤمناً بالحتمية بصورة قهرية، وينزع إلى الانكفاء على ذاته في كل مرة تحيطه فيها مشكلات مجتمعه، هذا كلُّه يجعل دوره سلبياً في المجتمع، يستقبل منه دون أن يفعل فيه شيئاً يُغيِّره أو يصحِّحه، وهذا هو النموذج الإنساني الذي تريد الحداثة والتيار الرأسمالي إنتاجه اليوم بصورة مُلحة:
"إنَّ الفرد الحديث مكبَّل أولاً وأخيراً بالتنشئة الاجتماعية في عالم يعوزه الامتلاء والثراء. إنَّ الأبنية الشخصية التي تفتقد التمييز بين صور النفس والآخر لا تدعم التصرَّف المستقل والتفكُّر الذاتي الضروريين للعيش وفقاً للمثال الفردي � المشكوك فيه � للإنسان الذي يصنع نفسه بنفسه. إنَّ أقوام الرأسمالية ’الصانعي� لأنفسهم� لم يصنعوا أنفسهم ولم يستقلُّوا بذواتهم، لقد أنتجهم النظام لخدمة النظام وإنهم يُنجزون مهامهم في العموم عبر الجهل بذواتهم والاستغلال السافر للآخرين"
وفي حديثه عن طرق التخلص من هذا الاستعمار الحداثي لعالم الحياة، فإنه يقول أن التشاؤم اليساري لا مبرر له لأن العملية ليست بالصعوبة التي نتخيلها، وأن إمكانية التحرر من سلطة البيروقراطية الحداثية تعتمد على العامل النفسي والاجتماعي أكثر من اعتمادها على الجانب الاقتصادي، وفي هذا فإنه يذكرني بالمشروع التربوي الذي كتبت عنه شارلوت جيلمان في كتابها الرائع "الاقتصاد والمرأة"، فالكاتب هنا يدعم دور المؤسسات في خلق استراتيجيات تعيد ربط الإنسان بمكانه وهويته وتعيد له الاستقرار الذي سلبته منه الحداثة، وبمعنى آخر، فإنه يرى أن الخطوة الأهم في تحررنا من قبضة الثقافة التسليعية هي بفك الارتباط بين النشاط الثقافي وتسويق السلع.
ورغم حديث الكاتب في النهاية عن ضرورة وعي المرء لذاته وفهمه لطبيعتها وحفاظه على ذهنه متقداً ونشطاً، ونفسه حُرة وفاعلة، فإنه يشير إلى أن تحقيق ذلك صعب للغاية من دون إجراء أية تغيرات مؤسساتية مجتمعية، تُعين الفرد على التخلص من مشكلات العصر من دون التقهقر إلى الوراء، أي يجب العودة إلى إدراك أهمية عالم الحياة لتحقيق الإنسان سعادة حقيقية في حياته وكرامةً غير هشة وقيمة لا يمكن أن تُستلب.
إنه كتاب ذو طرحٍ قيِّم، أنصح به، وأشكر المترجم على دقته وجمال لغته.
Sign into ŷ to see if any of your friends have read
حياة تالفة .
Sign In »
Reading Progress
Finished Reading
October 1, 2022
– Shelved