ŷ������

أولاً؛ الكاتب رحمه الله كتب هذا الكتاب شرحاً، وتعديلاً، وتوضيحاً لكتاب منازل السائرين للإمام أبو إسماعيل عبد الله الأنصاري الهروي رحمه الله، استهلَّه بسورة الفاتحة وبيان أنَّ كلَّ مقامات ومنازل السائرين متضمنة في هذه السورة، وتحديداً في الآية: ﴿إِيّاك�� نَعبُدُ وَإِيّاكَ نَستَعينُ﴾�� يقول:

"أنزلَ اللهُ مائةَ كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع معاني القرآن في المفصَّل، وجمع معاني المفصَّل في الفاتحة في ﴿إِيّاك�� نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾�� وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين. فنصفهما له تعالى وهو ﴿إِيّاك�� نَعبُدُ�� ونصفهما لعبده وهو ﴿وَإِيَّاك�� نَسْتَعِينُ��."

يتضمَّن الكتاب أكثر من مئة مقام - لم أعدها ولكن كرقم تقريبي - ومرتبة في التقرب والسير إلى الله تعالى ابتداءً وتوسُّطاً ونهاية، وكل مقام يتضمن ثلاث درجات، درجة العامة، ودرجة الخاصة، ودرجة خاصة الخاصة��

يورد ابن القيم كلام الهروي عن كل مقام نقلاً من كتابه، ويشرح كلامه، ويبين ماقد يلتبس على القارئ منه مما ظاهره قد لا يقبله، ومعناه يحمل توحيداً صحيحاً، ثمَّ يعلِّق إن خالفه الرَّأي ويبين ماهو الأصح.

يختلف ابن القيم مع الهروي في نقطة جوهرية يجعلها الهروي بالدرجة الثالثة - درجة خاصة الخاصة - في أغلب المقامات، وهي درجة الفناء، ويبين أنَّ البقاء أكمل حالاً من الفناء، وأنَّ الكمال شهود الأمر على ما هو عليه، وأنَّ الفناء النافع الممدوح هو الفناء عن إرادة ومحبة ما سوى الله والتوكل عليه فقط��

أحببت في الكتاب إنصاف الكاتب وحفظ حق الشيخ وذكر مآثره، رغم اختلافه معه في بعض النقاط، ومعرفة حدود النقد، والتلطف في النصح وبيان الغلط.. يقول: "شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه. وكل من عدا المعصوم �� فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله. ثم نبين ما فيه."

وفي موضع آخر:
"والله يشكر لشيخ الإسلام سعيه ويعلي درجته ويجزيه أفضل جزائه، ويجمع بيننا وبينه في محل كرامته، فلو وجد مريده سعة وفسحة في ترك الاعتراض عليه واعتراض كلامه لما فعل. كيف وقد نفعه الله بكلامه؟ وجلس بين يديه مجلس التلميذ من أستاذه، وهو أحد من كان على يديه فتحه يقظة ومناماً"

وهذا تواضعٌ وإنصافٌ بالغٌ قلَّ نظيره في زماننا الذي كثر فيه الجدال وتشويه السمعة، والرَّمي بأقبح الألفاظ والسِّباب بل وربَّما التَّكفير والزَّندقة في أمور هي أصلاً خلافيَّة وحمَّالة أوجه، بلهَ الاحترام وحفظ الحقوق مواضع السَّقط والخطأ الفعلي��

الكتاب سيغير حتماً نظرتك للكثير من الأمور، وسيهذِّب قلبك، ويزكِّي نفسك، ويوسع أفقك، ويعلِّمك الإنصاف والصَّبر، ويبعد عنك التعصُّب والغلو�� غير أنَّ به بعض التطويل والتكرار، ولا أنصح به المبتدئين ممن لم يقرؤوا من قبل في كتب التَّزكية والتصوف فسيكون ثقيلاً صعباً عليهم، فالكتاب ضخمٌ بالفعل وواقع في ألف صفحة في النسخة التي قرأتها لدار ابن حزم وهي مضغوطة في مجلد واحد قشيب فاخر.

رحم الله ابن القيِّم، ورحم الهرويَّ، وجزاهما خير الجزاء عن هذا العمل النَّافع الماتع.