ŷ

محمد إلهامي's Blog, page 2

March 3, 2024

في ذكرى تغيير القبلة، أو تغيير النظام العالمي

ما من لحظة يظهر فيها فساد النظامالعالمي وزيف مؤسساته وشعاراته كهذه اللحظة، إن حرب غزة من اللحظات الفاصلة التينرى فيها حقيقة هذه الخرافات الدولية!

هل لم يكن هذا واضحا قبل ذلك؟ نعم، قدكان واضحا للقلة، أما الآن فهو واضح للكثرة، إن ارتباط القضية بالمقدسات الدينية،وتاريخها الحي الذي عجزوا عن إخماده وكتمه، وكون إسرائيل الطفل المدلل للسياسةالغربية، وحجم الإجرام المكثف، وأمور أخرى.. سائر هذا جعل الأمر أكثر انكشافا،وأخزى مشهدا، وأكثر نكيرا.

نعم، ذلك النظام العالمي الذي كانيتزين ويتجمل بمؤسساته الضخمة وبزعمه المبادئ والحريات والدفاع عن الشعوب، يتساقطكلما رفع واحدٌ من الخمسة يده بحق الفيتو. مهما قيل من الكلام، فإن هذه اللحظة تكونلحظة التعري والفضيحة التي تثبت أن هذا النظام العالمي إنما وُجِد لخدمة هؤلاءالخمسة.. أو بمعنى أصح وأدق: وُجِد لتعبيد الناس لهذه القوى الخمسة!

***

نكتب هذا الكلام في لحظة ذكرى تحويلالكعبة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة.. مما لا ينتبه له كثيرون أنها كانت لحظةتحول في النظام العالمي أيضا.

ولقد جاءت هذه البشرى بتحول النظامالعالمي في كتب أهل الكتاب، قبل أن ترد في القرآن الكريم، وقبل أن تكون واقعا فيحياة نبينا الكريم ﷺ� فقد ورد في سفر حجي 2/ 7 � 10: "وأزلزل كل الأمم ويأتي(مشتهى) كل الأمم فأملأ هذا البيت مجدا، قال رب الجنود. 8 لي الفضة ولي الذهب يقولرب الجنود. 9 مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب الجنود وفي هذاالمكان أعطي (السلام) يقول رب الجنود".

وقد ذكر البروفيسور عبد الأحد داود،أستاذ اللاهوت والخبير في الكتاب المقدس، وهو ممن أسلم بعد طول تفكير ودراسةوحوار، أن هذه الترجمة غير دقيقة، وأن الأصحّ من لفظِ (مشتهى) لفظُ (محمد). وأنالأصحّ من لفظ (السلام) لفظُ (الإسلام).. ويمكن لمن شاء الرجوع إلى كتابه: محمدكما ورد في الكتاب المقدس.

لكن المقصود هنا، وهو الذي يعنينا فيهذا المقال، هو النص الوارد في العبارة التاسعة، وهي "مجدُ هذا البيت الأخيريكون أعظم من مجد الأول"، ففي هذا النص بشارة صريحة بأن الله سيسبغ المجد علىالبيت الحرام حتى يكون أعظم من بيت المقدس. فمن بعد ما كانت أنبياء الله ورسالاتهفي بيت المقدس، وهناك أمة عباده، سيذهب هذا كله إلى البيت الحرام، البيت الأخير،ليكون فيه رسوله الخاتم، والأمة الشاهدة، والمجد العظيم.

ولذلك ذكر الله تعالى أن أهل الكتابيعرفون هذا الانتقال، فقد قال تعالى في سياق الحديث عن تحويل القبلة: {قَدْ نَرَىتَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَافَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواوُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُالْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144].

وذكر تعالى أنه سيعظم عليهم اتباع الحقمهما كانت الأدلة والبينات والحجج والبراهين، فقال تعالى {وَلَئِنْ أَتَيْتَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَبِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِاتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًالَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145].

وأي دليل وأي برهان أعظم من رسوليعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وحقٍّ لم يجدوا وسيلة لدفعه إلا كتمه {الَّذِينَآتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّفَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].

***

إن قراءة الآيات التي نزلت في شأنتحويل القبلة ضمن هذا المعنى، معنى تغيير النظام العالمي، وانتقاله من الأمةالفاسدة التي تاجرت بالدين وبالمبادئ وقتلت الرسل والمصلحين، إلى الأمة الجديدةالتي تقيم الحق ولو على أبنائها، وتشهد به ولو على نفسها.. إن قراءة الآيات في ضوءهذا المعنى يمنح المسلم شعورا جارفا وأصيلا وغالبا بمهمته في هذه الحياة.

لقد بدأت الآيات ببيان الفساد الذيعمَّ أمة بني إسرائيل وتجذر فيها. لقد اتبعوا أهواءهم مهما علموا أنها باطل! ومعأن في أهل الأهواء من يوقرون أهل الحق ويحترمونهم، إلا أن هؤلاء بلغ من سطوة الهوىعليهم أنهم لا يرضون ولا يعترفون إلا لواتبع الناس أهواءهم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّىتَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِاتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَاللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].

لقد نسوا نعم الله عليهم وما فضَّلهمبه على العالمين {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُعَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 122].

ولهذا شرعوا في تحريف الدين وتزويرالتاريخ وإنكار الحقائق وكتم الشهادة، ومن ها هنا فقد مَهَّد الله لتكليف تحويلالقبلة بذكر قصة إبراهيم وإسماعيل، وبنائهما البيت الحرام، وبذكر وصية يعقوبلأبنائه، وعهدهم له بعبادة الله الواحد، كما تقرؤه في الربع الأخير من الجزء الأولفي القرآن الكريم.

وقبلها مضت الآيات في رُبْعَيْن تذكرما صنعه هؤلاء من التحريف في دين الله الذي اؤتمنوا عليه، لقد كان دينهم الذي يبثونهبين الناس على هذا النحو:

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَإِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}[البقرة: 116]

{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْنَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَالْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135].

ومن ها هنا نفهم كيف امتلؤوا غيظاوحقدا على قوم يناهضون هذه الأفكار، ويهددون هذا النظام، وكيف سلَّطوا عليهم كافةما بأيديهم ليفتنوهم:

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِلَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِأَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَمَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114]

***

وها هنا تأتي مهمة المسلمين في إظهارالدين، وإحقاق الحق، ونشر الحقائق، وإقامة الشهادة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْأُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُعَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

وهذه المهمة لا بد لها من أمور:

1. لا بد لها من قوة إيمانية تحملصاحبها على اتباع النبي اتباعا لا يعرف التردد ولا التلعثم {وَمَا جَعَلْنَاالْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُالرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةًإِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143]

2. ولا بد لها من ثقة وقوة تحمل صاحبهاعلى أن يخشى الله وحده، لا يخشى أحدًا غيره {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِعَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْوَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[البقرة: 150].

3. ولا بد لها من صلابة نفسية وإرادةفولاذية وبناء روحي متين {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِوَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

4. ولا بد بعد هذا كله من جهاد مرير،ومحن وفتن، وخوف وجوع، وآلام وأشواك.. فما من نظام صالح يقوم بلا جهاد، وما منباطل يسقط من عليائه بسهولة، بل إن الحق الصاعد ينحت في صخر العنت ويأكل من جمرالرهق، وكذلك الباطل العالي يلقي بحممه وبراكينه، وأدرانه وأوساخه، وأقذارهوأوضاره، وهكذا يمهد عباد الله طريق الحق بدمائهم وأوراحهم، ويهلكون في ذات اللهوفي سبيل الحق قبل أن يبلغوا الغاية {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِاللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّاإِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْوَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 154 - 157].

***

ما أقرب الشبه بين أهل الباطل..

هل يا ترى نحتاج أدلة على إنكار الحقوإنكار الحقائق وكتم الشهادة وتزوير التاريخ وغض الطرف عن الجرائم أكثر مما نراهاليوم؟!

مؤسسات ضخمة للدفاع عن الحقوق والحريات،مؤسسات متخصصة في حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الأقليات وحقوق الحيوان وحقوقالبيئة وحتى حقوق الحجارة القديمة: التراث والآثار.. ومؤسسات للصحة، ومؤسساتللعدل، وقوانين دولية، ومجلس للأمن... إلخ! ووراء الجميع صحافة وإعلام يزهو بما هوفيه من: الحرية والموضوعية والنزاهة والأمانة!!

فإذا أردنا أن نختصر مهمة الجميع فلننجد خيرا من قوله تعالى {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، فإذا اتبعتملَّتَهم وكنت أوكرانيًّا –مثل�- فقد انهالت على من يقصدك: العقوبات والتضييقات،وانهمرت عليه التقارير والإدانات والأحكام السريعة من محكمة العدل ومن مجلس الأمنومن الشركات الكبرى.. فإن لم تكن من ملتهم، فتأمل في حال أهل غزة تعرف الجواب!

إن آخر ما قد تعطيك إياه هذه المؤسساتأن تعدّ أرقام القتلى والجرحى، وربما بعد انتهاء المذبحة تقيم عليك سرادق العزاء،على نحو ما قال علي عزت بيجوفيتش في كلمته العبقرية: "كانت أوروبا على أتماستعداد لأن تقيم مأتما لإحياء ذكرى البوسنيين بعد إبادتهم".

وهذا السرادق نفسه لا يُقام لإحقاقالحق ولا للاستفادة من التاريخ كي لا تتكرر الإبادة، بل يُقام ليكون زينة وزخرفايتجمل به القاتل السفاح، ليواصل جولته القادمة من جديد، بعد أن يكون قد غرر ببعضالمغفلين والبلهاء!

***

وما أقرب الشبه بين أهل الحق..

لا بد لهم من جهاد عظيم، جهاد حافلبالصبر، جهاد لا يقوم به ولا يصبر عليه إلا من آمن حقا بالله، وآمن بمحمد رسولالله..

جهاد لشبهات الذين كفروا، ولتشكيكهم،ولتشغيبهم.. جهادٌ لا بد فيه من علم وتقوى وحكمة، {أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًامِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَوَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151].

جهاد ينبعث من نفس موصولة بالله {فَاذْكُرُونِيأَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].

جهاد يستعين على مشقات الطريق بالتصبروالعبادة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

جهاد يهلك فيه الرواد حتى يقال: مات! فلايصبر عليه إلا من آمن بأنهم: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154].

جهاد فيه أنواع المشقات من الخوفوالجوع والفقر والقتل!!

فهؤلاء هم الذين يغيرون العالم، يقيمونالحق ويُسقطون الباطل، أناس ليسوا من هذه الدنيا، شعارهم قول جدهم القديم:"الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومنضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

على هؤلاء يُبنى المجد، أو قل: على يدهؤلاء يعود المجد، مجد البيت الأخير..

{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَاوَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]

نشر في مجلة "أنصار النبي"، مارس 2024

3 likes ·   •  1 comment  •  flag
Published on March 03, 2024 04:13

February 4, 2024

ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلامعلى رسول الله..

إليكم يا أهل غزة، وإلى سائر المسلمينفي المحنة والشدة، أكتب هذه الأسطر، أذكر بها نفسي وإياكم بحقيقة ما نحن فيه..

(1) الصبر صفة الأنبياء والأصفياء

لقد امتحن أحب العباد إليه بالبلاياوالرزايا، فأحب الناس إلى الله هم الأنبياء، ومع ذلك فهم أكثر الناس بلاء..

دخل أبو سعيد الخدري على النبي � فيمرضه، وقد اشتدت عليه الحرارة، فكان النبي يضع على رأسه قطيفة، فوضع أبو سعيد يده،فشعر بالحرارة من فوق القطيفة، فقال: ما أشدَّ حُمَّاك يا رسول الله. فقال �:"إنا معشر الأنبياء، يُزاد لنا في البلاء، ويضاعف لنا في الأجر".

وسُئل �: من أشد الناس بلاء؟ فقال:الأنبياء ثم الصالحون، وقد كان أحدهم يُبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها(أي: يقطعها) فيلبسها! ويُبْتَلى بالقُمَّل حتى يقتله، ولأحدهم أشد فرحا بالبلاءمنكم بالعطاء.

وفي رواية: "يُبتلى المرء على قدردينه، فإن كان في دينه صلابة، زِيد في بلائه، وإن كان في دينه رِقّة خُفِّف عنه،ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة".

وقد أخبرنا الله تعالى بأن الناس جميعاخاسرون، إلا صنفا واحدا فقط، أولئك هم {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواالصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3].

وأخبرنا تعالى أنه يحاسب الناسبالميزان العدل، لكل عمل أجر، إلا صنفا واحدا من الناس، فهؤلاء لا عدَّ لثوابهم،فقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر: 10].

وأرسل الله بشري ثلاثية مع نبيه ﷺلعباد� الصابرين، فوعدهم بالصلوات الربانية وبالرحمة وبالهداية، قال تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْبِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِوَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْمُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَعَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 155 - 157].

وأما الذين صبروا على فراق أبنائهموإخوانهم وأحبابهم من المجاهدين، فقد زادهم الله من البشرى فوق بشرى الصلواتالإلهية والرحمة والهداية، بأن أخبرهم أن شهداءهم ليسوا أمواتا، بل أحياء، قالتعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْأَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]. وقال تعالى: {وَلَاتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌعِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْفَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْأَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169، 170].

وقد خصَّ الله الصابرين في الجهاد بأنهمعهم، ذكر ذلك في كتابه أربع مرات:

1.فقال تعالى في سياق القتال في سبيلالله وتكاليفه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِوَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]

2.وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْفِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]

3.وقال تعالى في سياق حديثه عن المجاهدينمن أهل بدر: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُواوَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]

4.وقال تعالى للمجاهدين: {فَإِنْ يَكُنْمِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌيَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:66].

وهكذا ترون أن أحب الناس إلى الله همأشدهم بلاء، ليكونوا أكثر الناس أجرا وثوابا، وما هذه الدنيا العريضة الواسعة إلاأيام، وما آلامها وأوجاعها إلا ساعات، وقد قرَّبها لنا رسول الله � فقال: "ماالدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع"!!

وأخبرنا نبينا � أن أكثر الناس بؤساوشقاء في الدنيا، إذا غُمِس في الجنة غمسة واحدة ظنَّ أنه لم ير شقاء قط! وأن أنعمأهل الدنيا إذا غُمِس في النار غمسة ظنَّ أنه لم ير نعيما قط!!

ولما فهم أسلافنا الصالحون هذا كلهضربوا لنا أمثلة نادرة في الصبر؛ فهذا التابعي الكبير صلة بن أشيم، عرف هو وعائلتهمعنى الصبر، فكان هو وولده معه في الجهاد، فقال لابنه: أي بني! تَقَدَّمْ،فقَاتِلْ حتى أحتسبك. فحمل، فقاتل، حتى قُتِل. ثم تقدم هو حتى قُتِل. فلما بلغخبره إلى أهله جاءت النساء إلى زوجته معاذة يُعزِّينها في زوجها وولدها، فبادرتهمقائلة: مرحبا إن كُنْتُنَّ جِئْتُنَّ لِتُهَنِّئْنَنِي، وإن كنتن جئتن لغير ذلك،فارجعن!

وقبل أن يموت،جاءه رجل ينعى إليه أخاه، فقال له صِلة: ادنُ فَكُل، فقد نُعِي إليّ أخي قبل حين،وتلا قول الله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30].

وصار شريحالقاضي، التابعي الكبير ومن أشهر قضاة المسلمين، يعطي دروسا في الصبر يتفنن فيها،فيقول عن تجربته مع الصبر: إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمدإذ لم يكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع (أي:قول إنا لله وإنا إليه راجعون) لما أرجو من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني.

وكتب عبيدالله بن عتبة فقيه المدينة الكبير، وأحد فقهائها السبعة الذين اجتمع فيهم علمالمدينة، كتب يعظ الخليفة عمر بن عبد العزيز، فقال:

واصبر علىالقدر المحتوم وارض به .. وإن أتاك بما لا تشتهي القدرُ

فما صفا لامرئعيش يسر به .. إلا سيتبع يوما صفوه كدرُ

إنه موكب طويل من الصابرين، يتقدمهالأنبياء، وأصحابهم وحواريوهم، كان أحدهم يؤتى به، فيُنشر بالمناشير، ويوضع علىرأس أحدهم السيف فيشطر إلى شطرين، ويُمشَّط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون لحمه إلىعظمه!

ولقد كاناتباع النبي شديد الكلفة عظيم التضحية، فهذا مصعب بن عمير وقد كان أترف غلام بمكةبين أبويه يدفع ثمن الإسلام حتى صار يتساقط جلده مما هو فيه من الجوع والرهقوالخشونة، وصفه سعد بن مالك بقوله: "فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطايرجلد الحية، ولقد رأيته ينقطع به، فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي ثم نحمله علىعواتقنا".

وحوصر الصحابةثلاث سنين حتى ذكر سعد بن مالك أنه قام ليلة يبول، "فسمعت تحت بولي شيئايجافيه، فلمست بيدي، فإذا قطعة من جلد بعير، فأخذتها، فغسلتها حتى أنعمتها، ثمأحرقتها بالنار، ثم رضضتها، فشققت منها ثلاث شقات، فاقتويت (أي: تقوّيت) بها ثلاثا".

فمن سار فيطريق الأنبياء والأصفياء أصابه ما أصابهم.. حتى يلتحق آخر الموكب بأوله، عندمايشرب الصابرون من يد نبيهم شربة هنيئة لا ظمأ بعدها أبدا، هناك! حين يوفون أجرهمبغير حساب.

(2) الصبر صفة العظماء

والصبر صفة العظماء أيضا، ولو كانواكافرين.. ولو كان مصيرهم إلى النار!!

ما من نجاح يحققه المرء في هذه الدنياإلا ولا بد له من الصبر، وقد قال الشاعر:

لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله .. لنتبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

وما من بطل ولا مؤسس ولا زعيم إلا صبروصابر، وثبت وثابر في سبيل غايته، ولو كانت غايته الدنيا وحدها.. ومثله في ذلك كلصاحب موهبة في علم أو في أدب أو في حرب أو في فن!!

لا مناص ولا بديل عن الصبر حتى في حاجةالدنيا.. فكيف بحاجة اجتمع فيها مجد الدنيا وثواب الآخرة؟!

الصبر مفتاحالنجاح ولم نجد .. صعبا بغير الصبر يبلغه الأمل

هذا سليمان بن كثير، من مؤسسي الدعوةالعباسية، يتذكر أيام التدبير والتخفي والعناء في سبيل تأسيس الدولة العباسيةفيقول: "صُلِينا بمكروه هذا الأمر، واستشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر حتى قُطِّعَتفيه الأيدي والأرجل، وبُرِيَت فيه الألسن حزًّا بالشِّفَار، وسُمِلَتْ الأعين،وابتُلِينا بأنواع المَثُلات، وكان الضرب والحبس في السجون من أيسر ما نزل بنا".

إني رأيت وفيالأيام تجربة .. للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقلَّ من جدَّفي أمر يطالبه .. فاستصحَبَ الصبر إلا فاز بالظّفَر

وأنتم يا أهلالأرض المباركة في أكناف بيت المقدس، وأنتم يا أيها المجاهدون في كل مكان، إنكملتطلبون الأمر الكبير، وتنشدون الغاية العظمى، ولقد اصطفاكم الله فأقامكم في خيرأرضه، ووضعكم في أشرف المعارك، وضرب بكم المثل للعالمين، وباهى بكم ملائكته فيعليين.. فهل ترون هذا الشرف الضخم يصلح معه التعب القليل؟!

على قدر أهلالعزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عينالصغير صغارها .. وتصغر في عين العظيم العظائم

لو كان التعبالقليل يصلح للشأن الجليل، لكان الناس كلهم مجاهدين وصابرين.. ولكن هيهات!

لولا المشقةساد الناس كلهمُ .. الجود يفقر، والإقدام قَتّال

وليس من أحدبلغ غاية في الغِنَى أو في العلم أو في الرئاسة أو في البطولة، إلا إذا تحدث عننفسه، تحدث عن صبره ومثابرته وعزمه وتصلبه على ما كان فيه من الشدة، ولو كان الذيأخاطبه غيركم يا أهل الأرض المباركة لقلت لهم اقرؤوا كذا وكذا من الكتب، ولكنيالآن أخاطبكم أنتم، فأقول: قد جعلكم الله أنتم مثلا وقدوة وأسوة للناس.. فيقالللناس: انظروا إلى هؤلاء! وتعلموا من هؤلاء، وتمثلوا هؤلاء!

يوم القيامةستجدون في ميزان حسناتكم، فوق الأجر الذي يُهال وينهمر عليكم بغير حساب، ستجدونحسنات لا تعرفونها.. تلك حسنات أناس خرجوا من الكفر ودخلوا في الإسلام مما يرونهمن صبركم وثباتكم.. ومعها حسنات أخرى كثيرة كثيرة كثيرة.. حسنات أناس خرجوا منالغفلة إلى اليقظة، ومن الكسل إلى الهمة، ومن مسالك الدنيا إلى سبيل الآخرة!

إن الذيتفعلونه يحيي الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور، صبركم وثباتكم وإيمانكم العجيبهذا يدفق في عروق الأمة، وفي عروق العالمين، روحا جديدة ونورا جديدا! ولعل هذا منمعاني قول الله تعالى {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96].

(3) خيرالدنيا والآخرة

لئن كان الصبرصفة الأنبياء والأصفياء أحباب الله، وهو كذلك صفة الكبار والعظماء من أهل الدنيا،فقد اجتمع في أهل الجهاد خير الدنيا والآخرة.. والتقى عندهم موكب الخالدين.فالإمامة ثمرة الصبر، كما قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَبِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24].

فهنيئا لهم!والحسرة كل الحسرة على من تركهم وخذلهم وانصرف عنهم!

الصبر خيرلأصحابه في كل حال، وفي ذلك قال تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌلِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وكما قال تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}[النساء: 25].. وهو للأمة المغلوبة الجريحة ضرورة لا بديل عنها.. فما قامت أمة مننكبتها وكبوتها إلا على يد المجاهدين الصابرين! وفي ذلك قال رسول الله �: "إن النصر مع الصبر". وقدوعد الله المجاهدين الصابرين بالمدد السماوي فقال: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُواوَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْبِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125].

ولا تزالالأمم تخلد عظماءها المقاتلين، وتخلد معهم أهلهم الصابرين، طالما بقيت حية! فتكتبسيرتهم في كتب المدارس، وتوضع على لافتات المؤسسات، وتسمى بأسمائهم الشوارعوالمدن.. فلا يزالون أبطالا في الدنيا، وهم –إذ� خلصت نواياهم- تنعموا فوق ذلكبالخلود في الآخرة، في زمرة خير الأولين والآخرين، النبيين والصديقين والشهداءوالصالحين.

ولهذا، فلاعجب أن يكون ختام المشهد في قصة الصابرين هو تذكيرهم بما صبروا، هذا الختام قد أخبرناالله به في قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْآبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَعَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَعُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23، 24].

نشر في مجلة "أنصار النبي"، فبراير 2023

3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Published on February 04, 2024 03:42

January 17, 2024

الأستاذ الأجنبي والكرباج الوطني!

لما دخل الاحتلال الإنجليزي إلى مصرنزل إليها اللورد دوفرين، السفير الإنجليزي في الآستانة، وقضى وقتا، ثم كتب تقريرالبيان الطريقة المثلى للسيطرة على الشعب، فذكر فيه أنه "لا يمكن المحافظة علىالنظام في القطر المصري إلا بتأديب أهله بواسطة أستاذِين من الأجانب، وبالكرباجالوطني".وهذا هو التقرير الذي سارت عليه بريطانيا فعليا في حكم مصر، فلم تُفرض الحمايةالبريطانية (أي الاحتلال الرسمي) على مصر إلا سبع سنوات (1914 � 1922م) من بين سبعينسنة هي عمر الاحتلال الحقيقي في مصر. وفيما عدا ذلك كانت بريطانيا تزعم أنهاموجودة في مصر بناء على طلب الحكومة المصرية لفترة مؤقتة وبغرض استباب حكومة جنابالخديوي الذي لا شك في تبعيته للباب العالي العثماني. ولم يحتفظ الإنجليز في مصرسوى بثلاثة آلاف جندي إنجليزي فحسب! وما ذلك إلا لأنهم أحسنوا استعمال"الكرباج الوطني"!

ومنذ ذلك الوقت وجد الغرب أن هذا"الكرباج الوطني" أقل كلفة وأفضل نتيجة في تحقيق المصالح الأجنبية، وعنهذا الكرباج الوطني نتحدث في هذه السطور!

(1)

وقع الخلاف بين علماء النفس والاجتماع،لا سيما الذين يبحثون في هذه المجالات من مدخل السياسة، فيما إن كان الإنسان أقوىمن الظروف، أم أن الظروف أقوى من الإنسان، وانتهى الأمر إلى أنه بخلاف الشخصياتالنادرة التي تتمتع بصلابة استثنائية، فإن الإنسان يساير الظروف ويساوقها، بل إنالظروف المحيطة به تستطيع أن تقلبه وأن تحوله من النقيض إلى النقيض! إن "وجهةالنظر الغالبة في علم النفس الاجتماعي تؤكد أن الموقف الذي نواجهه (أينما نكون)يؤثر في سلوكنا تأثيرا يفوق تأثير خصائصنا الشخصية في كثير من الأحيان، وإلى حدأكبر مما يمكننا تصوره".

دلَّت على هذه النتيجة كثيرٌ منالتجارب الاجتماعية المختلفة،منها مثلا:

1.حاول سولومون آش، عالم النفس الاجتماعيالمشهور، أن يقيس أثر الأفراد المحيطين على الشخص العاقل، أجرى تجربة يتعرض فيهاالمرء إلى أسئلة بسيطة وسهلة، فوجد أن الإجابة تبدو صحيحة في حال كونه منفردا.وإذا وُضِع المرء ضمن بيئة تختار الإجابة الخاطئة –مهم� كان خطؤها واضحا- فإنهيتشكك بنفسه، ويختار طائعا الإجابة الخاطئة، دون أن يتعرض في ذلك لأي ضغط مباشر،لا تصريحا ولا تلميحا ولا توصية ولا توجيها. لقد وقع ثلاثة أرباع الناس (75%) فيالانسياق مع البيئة المحيطة، واختاروا الإجابة الخاطئة في أمر شديد الوضوح!

2.ثم جاء تلميذه ستانلي مليجرام، فطوَّرتجربة يضيف فيها عنصر التوجيه، دون ضغط أو إكراه، فأجرى تجربة يوضع فيها المرءأمام رجل كبير يعاني من صعوبة التعلم والنسيان، ويُقال له: نريد أن نجرب أثرالعقوبة على تحسين الذاكرة وتحسين القدرة على التعلم. على المرء في هذه التجربة أنيعاقب هذا الرجل الكبير بصعقات كهربية كلما أخطأ، وإلى جواره طبيب مختص سيكونمسؤولا عن صحة الرجل الكبير. كانت الكهرباء غير حقيقية، وكان الرجل الكبير جزءا منالتجربة، وكان الطبيب كذلك، وإنما كان الغرض أن يُختبر إلى أي مدى سيصل المرء فيالصعق الكهربائي لهذا العجوز، طالما أن الطبيب يطمئنه أن لا خوف على صحته. توقعالعلماء قبل التجربة أنه الذين ستسمح لهم طبيعتهم بالوصول إلى درجة الصعق النهائية(450 فولت) لن يزيد عن 2%. ثم فوجئ الجميع بعد التجربة بأن النسبة بلغت 65%! وهكذاثبت أن ثلثي الناس الطبيعيين الأسوياء كذبوا أعينهم وآلام الشيخ الكبير الذي يتلوىأمامهم من الألم، لأن شخصا يرتدي زي طبيب ما زال يطمئنهم أنه بوسعهم الاستمرار فيرفع درجة الصعق دون خطر على حياة هذا المسنّ! ونفس النسبة كانت حتى في النساء!..هذه النتيجة فاجأت الجميع بأن التوجيه –غي� الإجباري، والخالي من أي سلطة- يمكن أنيحول الناس الأسوياء إلى مجرمين وقتلة بغير مجهود كبير! طالما أنهم آمنون منالمسؤولية وتحمل العواقب!

3.ثم جاء فيليب زمباردو، فصنع تجربة أرادبها أن يزيد من حضور السلطة وسطوتها ليرصد تأثيرها على السلوك الإنساني، فاختارعددا من طلاب الجامعة، كانوا أصدقاء، وكانوا أسوياء أيضا، فقسَّمهم إلى فريقيْن:سجَّانين ومساجين، ارتدى الأولون ثياب الشرطة والآخرون ثياب المساجين، وصنع بيئةللسجن، ومع أن الجميع يدري أنها مجرد تجربة وتمثيل، فإنه سرعان ما انقلبتالعلاقات، ونشأت علاقات قوية بين فريق السجانين، وكذا بين فريق المساجين، وظهرتطبائع السادية على السجانين الذين منحوا سلطة كاملة على المساجين، وظهرت طبائعسلبية وانفعالية وانهيارات نفسية على المساجين، ومع أن العقوبات الجسدية كانتمحظورة إلا أن بعض السجانين ارتكبها وتفنن في اختراعها، وقد استسلم لها بعضالمساجين بالفعل! وتدهور الموقف سريعا حتى اضطر زمباردو لإيقاف التجربة بعد ستةأيام وكان قد خطط لاستمرارها لأسبوعين!!

ومن قلب في كتب علم النفس الاجتماعي والسياسي،وفي علم نفس المقهورين وجد أمورا غزيرة من هذه المشاهد التي تستحق التوقف عندهاطويلا، والتي تثير كثيرا من الأفكار والمفاجآت، ولكن الذي نقصده في هذا المقالتحديدا هو هذه النتائج:

أولا: البيئة المحيطة أكثر تأثيرا فيالناس من صفاتهم الذاتية والشخصية وقناعاتهم الخاصة.

ثانيا: من يملكونالتوجيه الذي يُعفي من المسؤولية يستطيعون سوق الناس إلى نتائج خطيرة!

ثالثا: يبلغالتأثير ذروته في حال السلطة التي تملك القهر والإجبار والعقاب على من لم يخضعلتوجيهاتها وأوامرها. كما يبلغ الاستسلام لها ذروته لدى المحكومين.

وهذه النتائجتدندن حولها الدراسات والبحوث المكتوبة في طبائع الاجتماع وعلم نفس الجماهيرونحوها.

(2)

قبل هذه التجارب بستة قرون، كتب ابنخلدون في مقدمته فصلا بعنوان: المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب! وضرب على ذلك المثلبما يكون لدى الناس من حب التشبه بالملوك والسلاطين، والتشبه بالأجناد والشُرَط،وذلك لكونهم الغالبين عليهم، وبما يكون لدى الولد الصغير من حب التشبه بأبيه لكونهالغالب عليه، وجعل ذلك كله مصداقا للمثل السائر الذائع: الناس على دين ملوكهم.

فإذا كان الملك طاغية جبارا فإن الناسيتشربون هذا الخلق عنه فيمن لهم عليه ولاية وسيطرة، وهذا يفسر لماذا يبدو نفسالإنسان خاضعا خانعا لمن فوقه، طاغية متجبرا على من تحته.. وساعتئذ تفسد أخلاقالمغلوبين على سبيليْن؛ الأول: ما يتشربونه من أخلاق الطغيان عن يد الطاغية الذييحكمهم، والثاني: ما يلجؤون إليه من أخلاق الذلة ليتخلصوا من بطشه!

يقول ابن خلدون: "إن كانت المَلَكَةرفيقة وعادلة لا يُعانى منها حكم ولا منع وصدّ، كان النّاس من تحت يدها مُدِلِّينبما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، واثقين بعدم الوازع، حتّى صار لهم الإدلال جبلّةلا يعرفون سواها. وأما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسّطوة والإخافة فتكسرحينئذ من سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التّكاسل في النّفوس المضطهدة...وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمُذْهِبَةٌ للبأس بالكلّيّة، لأن وقوع العقاب بهولم يدافع عن نفسه، يكسبه المذلّة التي تكسر من سورة بأسه".

وحين تنكسر العزة والبأس والثقة في نفسالمرء، فإنه يلجأ إلى أخلاق المقهورين، وفي هذا يقول ابن خلدون: "الملك إذاكان قاهرا باطشا بالعقوبات مُنَقِّبًا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوفوالذل ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة، فتَخَلَّقُوا بها وفسدت بصائرهموأخلاقهم... وإذا كان رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم، استناموا إليه ولاذوا بهوأشربوا محبّته، واستماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الأمر من كلّ جانب".

وهذه الأخلاق الذميمة تنتشر في سائر مننشأ على الذل والقهر، يقول: "من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلّمين أوالمماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيّق عن النّفس في انبساطها وذهب بنشاطها، ودعاهإلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التّظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساطالأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدتمعاني الإنسانيّة الّتي له... بل وكسلت النّفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميلفانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيّتها فارتكس وعاد في أسفل السّافلين، وهكذا وقع لكلّأمّة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف".

ولقد كان ابن خلدون يعبر بهذا عن خلاصةتاريخية لا تغيب عمن يطالع صفحاته، بل لقد اختلفت عبارات المؤرخين في التعبير عنالمأساة العقلية والنفسية التي تصيب أمة ترزح تحت القهر والطغيان.

(3)

وما كان ابن خلدون متفردا بالإشارة إلىهذه الآثار العظيمة والخطيرة للسلطة على الناس، بل هذا غزير متناثر في كلام الأئمةوالعلماء قبله من الفقهاء والمفسرين والمحدثين والمؤرخين، وله أصول تمتد حتىالخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين.

فقد سُئل أبو بكر: ما بقاؤنا على هذاالأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال بقاؤكم عليه ما استقامت بكمأئمتكم".وقال عمر لزياد بن حدير: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمهزلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين".وأرسل عمر لأبي موسى الأشعري يقول: "إياك أن ترتع فيرتع عمالك".وقال عثمان بن عفان: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".

وروي عن غيرواحد من السلف الصالح قولهم: لو كانت لي دعوة صالحة لجعلتها للسلطان، إذ بصلاحهصلاح الرعية، وبفساده فسادهم،وشبههوه بعين الماء التي إن فسدت فسد سائر النهر.

وقال الغزالي:"قالت الحكماء أن طباع الرعية نتيجة طباع الملوك... فإنهم يتعلمون منهمويلزمون طباعهم"،وقال ابن جماعة: "الناس على دين الملك، فإذا عدل لزمت الرعية العدل وقوانينه،فانتعش الحق، وتناصف الناس، وذهب الجور، فترسل السماء بركاتها، وتخرج الأرضنباتها، وتكثر الخيرات وتنمو التجارات".

وألَّفاليعقوبي المؤرخ كتابه "مشاكلة الناس لزمانهم"، لهذا المعنى، فراح يذكرالصفة الغالبة على الخليفة وكيف تشيع في الناس، وقال ابن الطقطقي: "اعلم أنّللملك أمورًا تخصّه يتميّز بها عن السوقة؛ فمنها: أنه إذا أحبّ شيئًا أحبه الناس،وإذا أبغض شيئًا أبغضه الناس، وإذا لهج بشيء لهج به الناس إمّا طبعًا أو تطبُّعًا".وذكر ابن كثير أنه قد "كانت همة الوليد في البناء، وكان الناس كذلك يلقىالرجل الرجل فيقول: ماذا بنيت؟ ماذا عمرت؟ وكانت همة أخيه سليمان في النساء، وكانالناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم تزوجت؟ ماذا عندك من السراري؟ وكانت همةعمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك، يلقىالرجل الرجل فيقول: كم وردك؟ كم تقرأ كل يوم؟ ماذا صليت البارحة؟ والناس يقولون:الناس على دين مليكهم، إن كان خمّارًا كَثُرَ الخمر، وإن كان لوطيا فكذلك، وإن كانشحيحا حريصا كان الناس كذلك، وإن كان جوادا كريما شجاعا كان الناس كذلك، وإن كان طماعاظلوما غشوما فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك".وقال ابن حجر: "الناس على دين ملوكهم فمن حاد من الأئمة عن الحال مال وأمال".وغيرهم كثير.

(4)

لولا أننا في أمة مغلوبة الآن لكانالأجدر بنا والأولى لنا أن نبدأ في أي موضوع بالحديث عما في القرآن والسنة، ثمتراث سلفنا الصالح، ولكن ما نحن فيه من الغلبة أورث كثيرا من الناس إقبالا علىأقوال الأجانب وكلامهم، فلهذا بدأنا به، وقد حان الآن أن نرجع فنذكر أن أصول هذهالعلوم كلها، وأن القول المهيمن على الأقوال كلها هو ما جاء في القرآن الكريم. إلاأننا لما نشأنا مبتعدين عنه، ولما قلَّ في زماننا المتأملون والمتفكرون فيه، سرنانمرّ على الآيات غافلين عما فيها من المعاني والعلوم، مع أنها وحدها تكفي وتشفيوتهدي.

لقد ضرب الله لنا مثلا بأمة اخترقهاالذل وانطبع فيها القهر، وفسدت حتى صدر عنها من الأخلاق السافلة والمواقف العجيبةما يدهش العقول، تلك هي أمة بني إسرائيل. وإن الوقوف على قصة بني إسرائيل ليكشفلنا كيف يصنع الطغيان بالنفوس، لا سيما إذا طال عليهم العهد.

تظهر أول أمراض بني إسرائيل في هذاالعجز المُقْعِد الفتاك، حيث كان فرعون يأمر بقتل أبنائهم، فيُقتلون أمامهم مععجزهم عن المدافعة والمقاومة، وقد استمر فيهم هذا سنين كثيرة، فقد وُلِد موسى عليهالسلام في زمن قتل وذبح {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَاشِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِينِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4]، ثم إنه بعدما بُعثنبيا –أ� بعد أكثر من أربعين سنة- عاود فرعون سياسته {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْقَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِوَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِينِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127].

ثم إنه حين ظهر فيهم النبي المنقذالمخلص لم يرحبوا به، بل تشاءموا وتشَكُّوا أن حياتهم لم تنصلح {قَالُوا أُوذِينَامِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129]، ثمإنهم لم يؤمنوا به، قال تعالى {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْقَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} [يونس: 83].

ولما أن نجَّاهم الله بالمعجزة الهائلةالرهيبة، وأهلك فرعون أمام أعينهم، لم يتخلَّصوا من آثار الفرعونية القاهرة التيسحقت نفوسهم، بل ظلت تلك الصفات كامنة فيهم، تخرج عند أدنى اختبار، وسنرى أن سائرهذه الخطايا التي وقعت منهم ترجع وترتد إلى أمر واحد؛ لقد افتقدوا القوة القاهرةالتي تبطش بهم، فنراهم إذا أمنوا غدروا، وإذا خافوا استقاموا.

1.لم يستطع بنو إسرائيل أن يتصورواالحياة بدون قاهرٍ عليهم يرونه ويحسون وجوده، فالتمسوا إلها حاضرا متجسدا قائماأمامهم، ولهذا فما إن مرُّوا على قوم يعبدون الأوثان حتى صاحوا بموسى {يَامُوسَىاجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138].

2.ولقد كان نبي الله موسى قويا، فما إنغاب عنهم في رحلة تلقي التوراة حتى استضعفوا نبي الله هارون، وكادوا يقتلونه، {قَالَابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَاتُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأعراف: 150].

3.ولكن.. لماذا أرادوا قتل هارون؟ ما كانذلك إلا لأنهم أرادوا إلها متجسدا أمامهم من جديد، وقد انتهز السامري فرصة غيابموسى فصنع لهم عجلا من ذهب، فأقبلوا عليه يعبدونه! {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْبَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُلَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}[الأعراف: 148].

4.فلما أن عاد نبي الله موسى، القويالجسد، حتى عادوا وراجعوا الطاعة، ونسف إلههم أمامهم، {وَلَمَّا سُقِطَ فِيأَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَارَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 149].

5.وظهر إيمان بني إسرائيل بما أمامهم منالمادة والأسباب، وكفرهم بما وراء الأسباب في أنهم خافوا انقطاع الطعام الذي يتنزلإليهم من السماء: المن والسلوى، فالتمسوا الزرع الذي يقومون عليه فيخرج لهم منالأرض، {يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَيُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَاوَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة: 61].

6.ولم يعتدل أمرهم إلا حين أوقعهم اللهتحت تهديد مادي محسوس ومرئي، وذلك لما رفع الله فوقهم جبل الطور على هيئة التهديدلهم، {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُوَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171].

7.وظهر هذا الإيمان بالأمور الماديةالمحسوسة، والكفران بالغيب حين حثهم موسى على الجهاد، فارتعبوا وقالوا: {إِنَّفِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا}[المائدة: 22]، ولما ذُكِّروا بالله وقوته وقدرته، وأن الله قد وعدهم بالنصر إذاهم جاهدوا، لم يؤثر هذا فيهم شيئا، بل قالوا هذه الكلمة الصارخة المعبرة عن حقيقةنفوسهم: {يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْأَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].

8.وأشدُّ وأظهر ما عبَّر عن نفسية بنيإسرائيل التي اعتادت الخوف من الطاغية القائم أمام أبصارهم، والذي يشعرون بحضورهوهيمنته، هو قولهم: {يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}[البقرة: 55].

ولقد مدَّ الله لهم في الفرصة بعدالفرصة، وفي العفو بعد العفو، ثم ما كان لهم إلا عقوبة الاستبدال، قال تعالى {قَالَفَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ}[المائدة: 26]. يقول ابن خلدون: "وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد ومارئموا من الذل للقبط أحقابا حتّى ذهبت العصبيّة منهم جملة، مع أنّهم لم يؤمنوا حقّالإيمان بما أخبرهم به موسى من أنّ الشّام لهم وأنّ العمالقة الّذين كانوا بأريحافريستهم بحكم من الله قدّره لهم، فأقصروا عن ذلك، وعجزوا تعويلا على ما في أنفسهممن العجز عن المطالبة، لما حصل لهم من خلق المذلّة، وطعنوا فيما أخبرهم به نبيّهممن ذلك وما أمرهم به، فعاقبهم الله بالتّيه وهو أنّهم تاهوا في قفر من الأرض مابين الشّام ومصر أربعين سنة، لم يأووا فيها العمران، ولا نزلوا مصرا، ولا خالطوابشرا... حكمة ذلك التّيه مقصودة وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهروالقوة، وتخلقوا به، وأفسدوا من عصبيّتهم حتّى نشأ في ذلك التّيه جيل آخر عزيز لايعرف الأحكام والقهر، ولا يُسام بالمذلة".

وهكذا نرى أن الطغيان أفسد الجيل الذيتهيأت له كل الفرص الممكنة للإنقاذ: ظلم شنيع قاهر طويل، وقائد منقذ هو نبي منأولي العزم من الرسل، أي أنه من أفضل خمسة بشر خُلقوا في التاريخ ومعه نبي آخريعضده هو هارون عليه السلام، ومعية ربانية رأوا معجزاتها الكبرى بأعينهم حين نجواوهلك فرعون. فما كان له إلا الاستبدال، فأما الجيل الذي جاء بالفتح ودخل الأرضالمباركة وقاتل الجبارين، فإنه الجيل الذي نشأ في التيه، في البادية، رغم أنه لميذق ظلم الفرعون، ولم ير المعجزات الهائلة، وكان قائده نبي واحد هو أقل قدرا منموسى وهارون!

(5)

إذا استوعبنا ما سبق، فلن يكون غريباولا عجيبا أن نرى أعداءنا المحتلين هم أحرص الناس على استبقائنا في الذل والقهر،وهم لذلك أحرص الناس على تنصيب الأنظمة الطغيانية وعلى حماية الطغاة ودعمهموإسنادهم، بالأموال والخبرات والرجال، ثم تنزل جيوشهم بنفسها لحماية هذه الأنظمةضد الثورات التي توشك على خلعها وإزالتها.

وقد اخترعوا من المصطلحات ما يعينهمعلى ترويج أفكارهم، فالدولة التي لا تستطيع السيطرة التامة على شعبها يسمونها"دولة فاشلة"، ومن هنا فلا بد من التدخل لبنائها على النحو الذي يجعلهادولة طغيانية، أو –بمصطلحه�- "دولة ناجحة"، وهذه بعض أقوال قادتهم فيهذا:

·قالتكونداليزا رايس التي شغلت منصبي مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية الأمريكية"الدول الضعيفة والفاشلة تشكل تهديدا أمنيا خطيرا على الولايات المتحدة. فهي لاتستطيع السيطرة على حدودها، وقد تصبح الملاذ الآمن للإرهابيين، لذلك فإن إعادة بنائهايشكل مهمة ضخمة وهامة في آن".

·قال هنريكيسنجر، مستشار الأمن القومي الأمريكي وأحد أبرز الشخصيات السياسية الأمريكية:"عندما لا تكون الدول محكومة بكليتها، يبدأ النظام الدولي أو الإقليمي نفسهبالتفكك. فضاءات خالية موحية باللاقانون تطغى على أجزاء من الخريطة. من شأن انهيارأي دولة أن تقلب أرضها إلى قاعدة للإرهاب".

ومهما طالت متاجرة هؤلاء الأجانببالحريات والحقوق والعدالة والقوانين، فإنما هذا كله أصنام الجاهلية المعاصرة، وهيالأصنام المأكولة إذا عارضت مصلحة الأجانب وعملاءهم. ولا يجد القوم حرجا فيالاعتراف بهذا والتصريح به، ولولا أن المقام هنا ليس مقام الحديث عن الطغيانالسياسي لذكرنا طرفا من ذلك، ولكن المقصود هنا: أن هذا الطغيان السياسي هو السوطالحارق الكاوي الذي يستعمله العدو في ضرب الأمة وشلّ قدراتها وتكبيل طاقتها، ليسفقط بما يثيره من خوف ورعب وألم، بل بما يترتب على هذا الخوف والرعب والألم منآثار نفسية واجتماعية خطيرة وفارقة تجعل الأمة في وضع لا يمكنها معه النهوض ولوتغيرت الظروف أو ظهر القادة المخلصون، إلا بعد جهد كبير وعنيف واستبدال تدريجيومؤلم لأجيال تمكنت منها أمراض الطغيان حتى أفقدتها فطرتها وصلاحيتها.

ولو عدنا إلى المثال الذي ابتدأنا بهالمقال، لوجدنا أن الاحتلال الإنجليزي لمصر إنما نزل دفاعا عن الحكومة المصرية،الحكومة التي كانت تمثل نموذج الاحتلال بالوكالة، أو نموذج "المستعمرة بدوناستعمار"، فاستطاعت أن تقيم هذه الحكومة وأن تستعملها لا في المكاسب السياسيةوالعسكرية فحسب، بل في ترسيخ ونشر المفاسد الاجتماعية والأخلاقية!

ربما يعرف الكثيرون أن الإنجليزاستفادوا من مصر: جيشها وجنودها وشرطتها ورجالها ومواردها واقتصادها في حربالعثمانيين وفي احتلال السودان وفي هزيمة السنوسيين وفي احتلال بيت المقدس، ولكنالجانب المغفول عنه ما نشأ في ظل هذا الاحتلال من انتشار للزنا والمخدرات والخموروالربا والإلحاد والولاء للأجانب بالعاطفة والفكر والأخلاق فوق الولاء لهم بغرضالمصلحة والمكاسب العاجلة! حتى نشأت طبقات اجتماعية عريضة مشوهة العقل والانتماءوالغاية والوسيلة. ولئن كان الإنجليز قد رحلوا قبل سبعين سنة، فما يزال هذاالميراث الذي تركوه لم يرحل بعد!

إنالكرباج الوطني القاهر لا يقل خطورة أبدا أبدا عن الاحتلال الأجنبي الكافر!
نشر في

ينظرنص التقرير وهذا الاقتباس منه في: سليم النقاش، مصر للمصريين، 6/59.

ديفيدباتريك هوتون، علم النفس السياسي، ص20.

في هذهالتجارب وغيرها، يمكن مطالعة هذه الكتب: "طاعة السلطة" لستانلي مليجرام،"تأثير الشيطان" لفيليب زمباردو، "علم النفس السياسي" لديفيدباتريك هوتون.

ابنخلدون، تاريخ ابن خلدون، 1/184.

ابنخلدون، تاريخ ابن خلدون، 1/157.

ابنخلدون، تاريخ ابن خلدون، 1/236.

ابنخلدون، تاريخ ابن خلدون، 1/743.

البخاري(3622).

الدارمي (214)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيخ (269).

ابنأبي شيبة، المصنف، (34448)، بإسناد صحيح لأن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى كانترسالة عمر لجده عند أبيه، (انظر: الفسوي، المعرفة والتاريخ، 2/334).

رويبألفاظ مختلفة وقريبة عن عثمان، وهو الأشهر، وعن عمر بن الخطاب، انظر: ابن شبة،تاريخ المدينة، 3/988؛ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، 5/172 (ت بشار)؛ ابن تيمية:مجموع الفتاوى 11/416.

البيهقي،السنن الكبرى، (16429)؛ أبو نعيم، حلية الأولياء، 8/91؛ ابن تيمية، مجموع الفتاوى،28/391.

أبونعيم، حلية الأولياء، 2/126، 7/322.

الغزالي،التبر المسبوك، ص50، 52.

ابنجماعة، تحرير الأحكام، ص50.

ابنالطقطقي، الفخري، ص32.

ابن كثير: البداية والنهاية، 9/186.

ابنحجر، فتح الباري، 7/151.

ابنخلدون، تاريخ ابن خلدون، 1/177.

نحن لانفرق بين أنبياء الله، ولكن نشير هنا إلى أن الكمال الذي تمتع به موسى، ومعههارون، لم يكن مثمرا مع الجيل الذي أهلكه الذل، حتى قال {رَبِّ إِنِّي لَاأَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِالْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]، مثلما أثمر جهد نبي الله يوشع بن نون مع الجيلالتالي، وما ذلك إلا لقابلية المحل، بتعبير أهل التزكية والتصوف!

كونداليزارايس، أسمى مراتب الشرف، ص139.

هنريكيسنجر، النظام العالمي، ص146.

2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Published on January 17, 2024 23:33

January 3, 2024

لماذا نحتاج أن ندافع عن غزة؟ وكيف نتخلص من العجز؟

عند صدور هذا العدد من المجلة ستكونالحرب على غزة قد ناهزت التسعين يوما، وقد رأينا فيها من طوفان المشاهد في كلاتجاه، طوفان الإجرام والتوحش والظلم، وطوفان الدم والألم والمرارة، وطوفان الخزيوالعار والخذلان والذلة، وطوفان العزة والمقاومة والبسالة والتحدي! ولكل قومطوفانهم! ويوم القيامة يرى كل واحدٍ منهم طوفانه على نوعيْن فحسب: طوفان من الحسناتٌأو طوفان من السيئات!

وفي هذه السطور أريد أن أتحدث عنالطوفان الذي يشملنا نحن، وهو طوفان الضعف والعجز، وكيف يمكن أن نتخلص منه!

من المؤسف أن كثيرا من الناس يستسلمونلهذا العجز، ولا يفكرون في أن يرفعوه عن أنفسهم، ويحسبون أنهم إذا عجزوا فقد برؤوامن المسؤولية.. فإلى هؤلاء نتكلم!

ولكي يكون الكلام لكل العاجزين، فسننحدربالكلام وننحط به حتى يشمل الجميع: المؤمنين والكافرين، الذين ينتظرون اليوم الآخروالذين يحبون الحياة الدنيا، الذين يسعون إلى رضا الله والذين لا يفكرون إلا فيمستقبلهم ومستقبل أولادهم.

دعونا نفكر بعيدا عن الإسلام والأخلاقوالإنسانية، بل ودعونا نترك أهل غزة للموت دون أن تطرف لنا عين، دعونا نفكر فيأنفسنا فقط، فلنفكر فقط كحيوانات تريد أن تعيش حياتها في رفاهية وأمن.. المفاجأةهنا، أنه حتى بهذا المنطق وحده: يجب أن نفعل كل ما نستطيع لغزة!

1. يجب أن نفعل كل ما نستطيع لغزةلأننا نكتشف الآن أن غزة تَصُدُّ عنا وحشًا بشريًّا دمويا فظيعا للغاية هو إسرائيل،وهذا الوحش لا يتورع ولا يتردد –كم� نرى في الصور والمقاطع المرئية- عن تقطيعالأطفال وتحويلهم إلى أشلاء، وعن هدم المستشفيات، وعن تعرية الشيوخ في الساحاتوشحنهم في السيارات عرايا تحت ظل البرد والصقيع... إلخ! ولقد قال وزير دفاعهم دونأدنى شعور بالعار بأنه يعتبر هؤلاء الناس "حيوانات بشرية"، وخرج بعضأحبارهم يتلو علينا من كتابهم المقدس عبارات تسمح لجنودهم بإبادة الجميع: النساءوالأطفال والرضع وحتى الحيوانات، وأفتى لهم بعض الحاخامات بجواز اغتصاب البناتوالنساء للترفيه عن جنودهم.

وبالتالي، وأرجوك تذكر أننا ما زلنانفكر كحيوانات تريد أن تعيش حياتها الدنيا، وبغض النظر عن أي دين أو أخلاق أوإنسانية.. بالتالي، فنحن الفريسة التالية التي تنتظر أن يأتيها الإسرائيليون،ليرتكبوا فينا نفس ما يفعلونه الآن.. إن هذا الوحش العنيف يجب أن نفعل كل ما نقدرعليه لكي يتوقف وينكسر وينهزم في غزة!

2. ثم يجب أن نفعل كل ما نستطيع لغزة،لأن هذا الوحش الإسرائيلي مدعوم بوحوش أخرى أكبر وأقوى وأكثر شناعة وفظاعة: أمريكاوأوروبا.. فبعدما عشنا زمانا طويلا نسمع أحاديث حقوق الإنسان وحقوق الشعوب فيتقرير مصيرها وحقوق النساء وحقوق الأطفال واحترام سيادة الدول والخوف من المقاتلينالأجانب ومن الجهاد العالمي.... إلى آخر هذا الطابور الطويل! إذا بكل هذا يتبخرالآن، وتقف كل هذه المؤسسات عمليا إلى جانب الوحش الإسرائيلي، من أول مجلس الأمنالمرهون بفيتو واحد، وحتى مواقع التواصل الاجتماعي التي تزيل الحسابات والصفحات منأجل منشور واحد لا يوافق ما تسميه معاييرها.. لا بل على العكس، لقد تدفقت الأسلحةوالمساعدات والخبرات على إسرائيل، وجاءها المتطوعون من يهود ومن غيرهم لكي يقاتلوامعها، فاتضح أن لديهم جهاد عالمي ومقاتلون عابرون للحدود، ولكنه على هواهم.

ونحن –لمر� أخرى، وكحيوانات تحب أنتعيش في أمن ورفاهية- من مصلحتنا أن ينكسر الوحش الإسرائيلي، وأن تنكسر مساعداتالوحوش الكبرى، لأن انتصارهم في غزة سيعني توسعهم في أراضينا وبلادنا.. ونحن جيلقريب العهد بالاحتلال الأجنبي: الإنجليزي والفرنسي والأمريكي والروسي، فمن لميدركه بنفسه –كم� في العراق وسوريا وأفغانستان- فقد أدركه أبوه وجده في سائربلادنا العربية.. وبالتأكيد، فلكي نحفظ أنفسنا ونحفظ أبناءنا فيجب ألا نسمحبانكسار غزة.

3. ثم يجب أن نفعل كل ما نستطيع لغزة،لأن هذا الوحش الإسرائيلي، وهذه الوحوش الداعمة له، تعتمد بشكل أساسي ورئيسيومفصلي على وحوش أخرى لا تقل قسوة ولا شراسة ولا تلمظا.. تلك هي الأنظمة العربيةالحاكمة التي تقوم بدورها في تكبيل الشعوب وتقييدهم، وتقوم بدورها في حصار غزةوتركها في مجاعة ومذبحة.. لقد رأينا في هذه الأحداث أنهم يمتلكون قلوبا قاسيةوغليظة وصخرية، قلوبا لا تتحرك أبدا، قلوبا قد نُزِعت منها الرحمة والشفقة وكل مايميز البشر، ولم يبق فيها إلا الوحشية الدموية.. إنها أنظمة تتفرج مستمتعة على مايجري، بل تريد أن ينتهي الأمر بسرعة، وما لم تنطق به ألسنتهم الرسمية يتسرب إليناعبر ألسنتهم الإعلامية، وعبر التصريحات التي ينقلها الأجانب عنهم في صحافتهموإعلامهم.

إن هذا كله يعني بوضوح أنه إذا سقطتغزة، أو حتى إذا لم تسقط غزة، فبعيدا عن غزة كلها، وبعيدا عن أي حساب للدينوالأخلاق والإنسانية، هذا يعني أننا أيضا تحت حكم هذه الوحوش المفترسة التي لا تسكنهاأية ذرة من الرحمة أو الشفقة!

نحن إذن، وعمليا في براثن الذئابوالضباع التي لا إشكال لديها أبدا في افتراسنا وتقطيعنا وتجويعنا وتعطيشنا إذارأوا أن هذا في مصلحتهم!!

إنه مستقبل أسود مظلم كالح لا بد أننهرب منه!!

وإن المشاهد التي نزاها في غزة، سنراهاغدا في أنفسنا أو في أبنائنا وأحفادنا، ولئن كانت غزة تقاوم، وتستطيع أن تصيب منالصهاينة، فإن الشعوب المقيدة المكبلة التي لا ترى في هذه الأنظمة عدوا ستكون أسهلفي افتراسها، وستكون أعجز عن المقاومة من غزة وأهل غزة..

وإذن.. فلا بد إذن أن تكون لنا القدرةعلى المقاومة.. لا بد أن نتخلص من هذا العجز.. لا بد أن نفعل شيئا ندفع به عنا ذلكالمصير الشنيع الذي ينتظرنا إذا سقطت غزة لا سمح الله!

خلاصة ما يسفر عنه البحث والتفكير فيرفع هذا العجز ثلاثة أمور كبرى، وكل واحدة منها صعب وثقيل وعظيم التكلفة، بنفسصعوبة وثقل وفداحة النكبة التي نحن فيها فعلا، وداخل كل أمرٍ من هذه الثلاثةتفاصيل لا يمكن أن يحيط بها مقال ولا كتاب، وهي متروكة لكل قارئ ينظر فيها ليرىماذا يستطيع أن يفعل.

هذه الأمور الثلاثة، أو لنقل: هذهالعُقَد الثلاثة هي: عقدة الأفكار، وعقدة السلاح، وعقدة الأموال.

(1) عقدة الأفكار

لا بد أن نتخلص من كل فكرة تقيدناوتكبلنا..

إذا كانت هذه الوحوش لا تقدس شيئا ولاتحترم شيئا وتخترق بنفسها القوانين التي كتبتها والدساتير التي ألفتها.. فلماذانحترم نحن هذه القوانين وهذه الدساتير؟!

نحن إذا كنا مسلمين فسنعرف أنه لا طاعةإلا في المعروف ولا طاعة لمخلوق في معصية الله.. هذه قاعدة قاطعة في ديننا، فلاشيء عندنا نحن المسلمين يسمو فوق القرآن والسنة، وكل قانون أو دستور أو تشريع يحلحراما أو يحرم حلالا فهو باطل، من واجبنا أن نعصيه ما استطعنا، وأن نقاومه مااستطعنا، وأن نغيره ما استطعنا. فحتى لو صدر الباطل عن حاكم عادل فلا طاعة له،فكيف إذا صدر عن حاكم جائر أو حاكم خائن!

لابن تيمية عبارة ذهبية يقول فيها:الحاكم العدل يطاع إلا فيما عُلِم أنه معصية، وأما غير العدل فلا يطاع إلا فيماعلم أنه طاعة.. فلو كان المسلمون يحكمهم من لا يتوثقون من عدله ويتشككون فيه،فإنهم يطيعونه إذا أمرهم بطاعة، كأن يأمرهم بالصلاة أو بالجهاد! وأما إذا أمرهمبشيء لا يعرفون ما إن كان من الطاعة أو من المعصية، فالأصل أنهم يعصونه لتشككهم فيعدالته.

وهؤلاء الذين يحكموننا ويكبلوننا الآن،أقل وصف يصدق فيهم هو وصف الجائر.. فما منهم واحد عادل.. ولو أردنا الحق، فبميزانالإسلام، ما منهم أحد إلا وقد ظهر منه الكفر البواح لا شك في ذلك.

هذا إذا كنا مسلمين نلتزم الإسلام،فإما إذا لم نكن مسلمين وفَضَّلنا أن نكون كافرين وعلمانيين وماديين.. فأما إن كانتكل غايتنا المحافظة على سلامة حياتنا الحيوانية الجسدية المادية.. فهؤلاء الحكامأنفسهم قد ارتكبوا الخيانة الواضحة الصريحة، وقد اقترفوا كل ما هو ضد مصالحنا، وقدظهر منهم ما يدل على شرهم وتوحشهم، وأنهم لا يترددون في سحق الشعوب كما يسحقونالحشرات.. لا رحمة ولا شفقة ولا تردد!

يجب التخلص من كل الأفكار السَّامَّةالتي تسري في جسد الأمة، تلك التي تجعل من هؤلاء أولياء أمور تجب طاعتهم بعدماظهرت خيانتهم، وتجعل من مؤسساتهم التي أنشؤوها لتكبيل الناس مؤسسات وطنية يجباحترامها والمحافظة عليها.. هل يمكن أن يتحرر سجين من سجنه، وهو يحترم مدير السجنويلتزم قوانين السجن؟!!

(2) عقدة السلاح

حق التسلح من حقوق الإنسان الفطريةالطبيعية، لم يفكر الإنسان في أي لحظة أن يتخلى عما يدافع به عن نفسه إلا حينابتلينا بالنكبة التي تسمى "الدولة"، حيث تحتكر الدولة"القوة"، فتصير الدولة صورة كبيرة من مزرعة الدجاج.. أسراب من الدجاجالأعزل، يحبسها ويذبحها جزار واحد، لأنه يملك القوة والسكين!

فلو أن هذه الدولة كانت دولة وطنيةترعى مصالح شعبها، وتوفر له الأمن والرفاهية، ويشعر في ظلها بالحماية من العدوالمحتل.. لو كانت الدولة كذلك، لكان النقاش في تسلح الشعوب محل نظر!! أما وقد ثبتبالوقائع والدلائل أنها دولة جبارة علينا خوارة على عدونا، فالأمر لا يحتملالتفكير ولا النظر!!

وهؤلاء الأمريكان والإسرائيليونأنفسهم، جيوش قوية مدججة، وشعوب مسلحة أيضا.. لم يستطع الديمقراطيون بعد الجهد أنينزعوا من شعبهم حق التسلح، وأما الإسرائيليون فهم يحبذون أن يتدرب شعبهم علىالمزيد من التسلح، واستعمال المزيد من الأسلحة!

يجب أن تسعى شعوبنا إلى حق التسلح.التسلح هو الأمر الوحيد الذي سيجعلنا نستطيع المقاومة، حتى لو هُزِمنا في النهايةفسنهزم في ساحة القتال لا تحت يد من يتفننون في التعذيب والتقطيع والتجويع وانتهاكالأعراض! ويمكن أيضا أن ننتصر! أو قد نصل إلى صيغة لا غالب ولا مغلوب فنحسن وضعنافي الحياة!

لما احتكرت السلطة السلاح صارت البلطجيالأكبر! صارت المسلح الذي يذبح ما يشاء من الناس، لا قانون ولا قضاء ولا صحافة إلابالقدر الذي يسمح به، أو بالقدر الذي يحقق له مصالحه. ونحن أمة تتعب الآن من عدِّمذابحها التي لم يحاسب فيها أحد!

السلطة في بلادنا ليست إلا عصابةمسلحة، عصابة تملك أن تجعل إجرامها قانونا ودستورا، تضع عليه لافتات: مصلحة الوطنوالأمن القومي وحماية الشعب... إلخ هذه الترهات والخرافات!

(3) عقدة الأموال

ومثلما يجب أن تنكسر هذه الهيمنةالكاملة لهذه الأنظمة على الأسلحة، يجب أن تنكسر هيمنتها على الأموال أيضا.

يجب أن نحتفظ بأموالنا بين أيدينا،ذهبا أو نقودا أو أصولا.. لقد سحبوا منا الذهب والفضة وأعطونا بدلا منها أوراقايصدرونها في مطابعهم، جعلوا لها –بسلاحه�- قوة الأموال، ثم صارت قيمة الأموالتتناقص (يسمونها للتطليف والخداع: التضخم) لأنهم بفسادهم نهبوا البلاد والأموالولم يحسنوا استثمار مواردها، وأمتنا هي أغنى بلاد الله في هذه الأرض: مياه ونفطومعادن وثروات مكنوزة وأراض خصبة وبحار غنية وموقع ممتاز يتحكم في طرق التجارةوالمواصلات.. ليس في هذا العالم أمة مثل أمتنا في قدراتها الاقتصادية.

ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، فجعلواالأموال أرقاما في بطاقة ممغنطة، كي لا يتكلفوا الطباعة إذا أعطوا، ولا يتكلفواالبحث إذا أخذوا ونهبوا.. ثم الآن يجعلونها في أكواد مشفرة، كي يضغطون زرا إذاأعطونا أموالنا، ويضغطون زرا إذا أردوا سحبها، ويشاهدون حركة كل قرش بين أيدينا، فإذاغضبوا على أحد منعوه حتى الطعام والشراب، ولم يستطع أحد أن يغيثه بكسرة خبز أوبشربة ماء (فكل هذا مراقب!)

كلما سحبنا أموالنا من بنوك هذهالأنظمة استطعنا أن نفعل بها ما نريد أو ما نقدر عليه.. حتى لو سنعيش حياتنا علىالمقايضة بالسلع والخدمات.. فهذا أحسن من أن تكون ثرواتنا في يدهم، يضيعونها فيملذاتهم أو في خياناتهم أو يصادرونها بجرة قلم أو بضغطة زر!

بمنطق الإسلام؛ يجب أن نثور على هذهالأوضاع وأن نقاتل عن إخواننا قبل أن نقاتل عن أنفسنا، وأن ندافع عن مسرى نبيناقبل أن ندافع عن أبنائنا!

وبمنطق الكفر والحياة الرخيصة يجب أيضاأن نثور على هذه الأوضاع وأن ننتزع حياتنا الطبيعية كما يعيش الناس، وساعتها سنرىأن غزة تمثل تجربة حية أمامنا، وساعتنا ستوجب مصلحتنا الرخيصة علينا أن نسارع فيإنقاذ غزة لأنها حصن إذا انهار فسيزداد توحش هذه الوحوش الغبية والجائعة!

المقاومة ليست أمرا سهلا.. ولكن لاحياة بدونها!

والذييقاوم ينتصر أو يستشهد أو حتى ينهزم وقد أدَّى ما عليه أمام الله ثم أمام أبنائهوأمام التاريخ، والله يوفيه أجره يوم القيامة.. وأما الذي يذل ويخضع ويستكين،فسيدفع من تكاليف الذل أكثر مما حاول أن يتجنبه من تكاليف المقاومة! وسيرى نفسهوأبناءه بعده يُفعل بهم ما يكره دون أن يملك لهم شيئا! ثم يأتيه الموت ويبعث يومالقيامة ليرى أنه قد خسر خسرانا مبينا!
نشر في مجلة أنصار النبي، يناير 2024
3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Published on January 03, 2024 14:10

December 4, 2023

أين الطريق إلى نصرة غزة؟

أنهيت قبل فترة قراءة مذكرات موشيهساسون، السفير الإسرائيلي الثاني في مصر، والتي ترجمت ونشرت بعنوان "7 سنواتفي بلاد المصريين"، وهي تلك السنوات التي تلت اتفاقية السلام لتبدأ فيهاعملية التطبيع (1981 � 1988م)، والواقع أنها مذكرات مفيدة للغاية، يحكي فيها السفير،بأقصى ما أوتي من مهارات سياسية وقدرات بلاغية قصة محاولة اختراق المجتمع المصريوإشرابه السلام مع إسرائيل.

وفي هذه المذكرات كثير من الأمور التيينبغي التوقف عندها، إلا أنني أتوقف في هذا المقال مع ثلاثة أمور فحسب، هي الأخطروالأعظم فائدة في سياق حديثنا الآن عن كيفية نصرة غزة.

وها هنا أمر يجب بيانه: إن الحديث فينصرة غزة لا يختلف كثيرا عن الحديث في نصرة النبي ﷺ� وذلك من أربعة أوجه:

1.نصرة غزة وبقية المسلمين هي من صميمنصرة النبي ﷺ� فإن نصرة المسلمين هو تنفيذ لتعاليمه ووصاياه ﷺ� وهو دفاع عن أمته �.

2.نصرة غزة هي جزء من نصرة قضية المسرى،الأرض المباركة التي أسري به � إليها وعُرج به منها، ثم نزل � من السماء إليهاكرَّة أخرى ليؤم الأنبياء والمرسلين! فهي أخصّ في النصرة مما سواها من القضايا!

3.غزة ذاتها إنما انتفضت لأجل اقتحاممسرى النبي � ولأجل ما كان اليهود يتفوهون به من سب النبي � والإساءة إليه، وهوالأمر الذي شاهده المسلمون جميعا وعجزوا أن يفعلوا شيئا. فنصرة غزة إنما هي نصرةلأنصار النبي ﷺ� ودعمٌ وإسنادٌ لهم.

4.لا تختلف الحركة في نصرة النبي � ضدالإساءات الموجهة إليه في فرنسا أو السويد أو الهند أو إسرائيل عن نصرة المسلمينفي غزة، فإننا نجد أنفسنا في كل مرة مضطرين إلى إطلاق حملات إعلامية، وتدشين دعواتلمقاطعة اقتصادية، وإصدار البيانات والفتاوى، ثم نعجز عما فوق ذلك. وكثيرا ما نرىأنظمة الحكم قد عصفت بكل هذا وضربت به عرض الحائط وهرولت لعقد صفقة مليارية أومعاهدات اقتصادية جديدة، هذا إن لم تسلط إعلامها على تسفيه هذه الحملات والطعنفيها، وإن لم تسلط أجهزة أمنها على اعتقال هؤلاء الذين حاولوا نصرة النبي �!!

وبهذا نجد أننا، أعني الشعوب العربيةالمسلمة، في وضع لا يختلف كثيرا حين ننصر النبي � ضد الإساءات أو حين ننصر غزة ضدالمذابح. إننا في عصر الدولة الحديثة التي تؤسس نظامها على أن تتحكم السلطة في كلشيء، فليس للإنسان أي قدر من الحرية خارج باب منزله، اللهم إلا أن يلهو ويأكلويشرب ويطرب، فكل نشاط خارج المنزل هو نشاط يجب أن تأذن به السلطة. وما دام أنالوضع لا يختلف كثيرا، فإن البحث عن طريق الحل لن يختلف كثيرا.

أولا: سرُّ التغيير عند الحاكم وحده!

عرف موشيه ساسون أن مهمته في مصر ليستسهلة، ولما حضر إلى مصر قدَّر أن ثلاثة تخوفات تعترض طريقه، أهمها وأولها هو: مامصير السلام إذا مات السادات؟

يقول ساسون: "كما هوالحال في كل الدول العربية في الشرق الأوسط: كل شيء يتم بواسطة الرئيس. كلالقرارات الهامة، بما في ذلك قرارات عن الحرب أو السلام هي قرارات شخص واحد."الزعيم"، وكثيرا ما يحدث أن الرئيس لا يكشف ما بداخل قلبه لأي شخصكان". ومن هنا فقد كان قرار السلام متعلقا ببقاء شخص السادات في سدة الحكم،وكان القلق سائدا ومسيطرا بشأن الوضع إذا ما اختفى هذا الشخص.

ولم تتأخرإجابة هذا السؤال، فبعد أشهر من قدوم ساسون إلى السفارة جرى اغتيال السادات أمامهفي المنصة، وسارع الجميع إلى طمأنته وطمأنة إسرائيل بأن حسني مبارك هو ربيبالسادات، وأن السادات قد أعدَّه لاستكمال هذه المهمة، وخرجت التصريحات الرسمية منالمسؤولين، ومن أصدقاء السفير في الوزارات وأروقة السياسة، وحتى من جيهان السادات،وكلها يقول: لا تقلق! مبارك على خطى السادات.

وقد رأىالسفير من مبارك ما جعله يستنتج في نهاية حصاد رحلته السياسية أن السلام قد استمر "بفضلشخص واحد: محمد حسني مبارك، لأنه لو أراد الرئيس مبارك، لكان في مقدوره –بعداغتيا� السادات مباشرة- أن يلغي بكلمة واحدة اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل،وذلك دون الكثير من المعترضين في الداخل ووسط هتافات العالم العربي كله... طالمالن يحدث في المنطقة شيء خطير جدا سيكون عمر اتفاقية السلام على الأقل مثل عمرالفترة التي سيظل فيها الرئيس مبارك جالسا على مقعد الرئاسة".

وبقية القصة معروفة، فلقد طال عهدمبارك لثلاثين سنة، وأنشأ جيلا من العسكريين ليس لهم من العسكرية إلا اسمهاوزيُّها، بينما أحسنهم تاجر طامع، وأسوأهم عميل خائن، يشارك الآن بكل جهده فيالحرب على غزة.

إننا نضيع الوقت والجهد والمال إذا لمنقصد إلى تغيير الحاكم، سواء أكان ذلك سلما أم حربا، بانتخابات أو بانقلاب أوبثورة أو بأي شيء آخر. والأمة المحبوسة كالسجين في زنزانته، إن لم يحتل لأخذالمفتاح فلا بد أن يكسر الباب أو يحفر النفق أو يقتل السجان.. وإلا ظل بقي فيالأسر إلى أن يموت!

ثانيا: مصير الخيانة والتطبيع المرتعش!

أما التخوف الثاني الذي طارد موشيهساسون فهو: هل سيبقى السلام قائما بعد إعادة كامل سيناء إلى المصريين؟

لمن لا يعرف فإن إسرائيل لم تستكملانسحابها من سيناء إلا بعد ثلاث سنوات من توقيع اتفاقية السلام، أي أن السفيرالإسرائيلي قد جاء وصار يسرح ويمرح في مصر ولا تزال سيناء محتلة!

ومصدر هذا التخوف لدى ساسون نابع منحقيقة أن الشعب المصري لم يكن مؤيدا للسلام مع إسرائيل، وأنه أجبر على هذا "السلام"بقوة السلطة وقهرها، وبينما كان السادات مندفعا في مسار التطبيع بلا حد إذ جاءاغتياله على المنصة فوضع حدَّا لهذا الاندفاع، وجعل مبارك يسير في مسار التطبيعبيد مرتعشة وإجراءات مترددة ومحاولات يوازن فيها بين التمسك باتفاقية السلام وتركمساحة للشعب لينفس عن نفسه.

وقد زادته السياسة الإسرائيلية حرجاوارتعاشا، فقد تصرفت إسرائيل في المنطقة بعربدة لم تبالي معها بأي إحراجات قدتسببها لمصر. لقد كان النظام المصري يسعى جاهدا لإقناع بقية الأنظمة العربيةبفائدة السلام مع إسرائيل وضرورته، وبأن مصر لم تنخلع من مكانها ومكانتها العربيةبهذا السلام المنفرد وإنما صنعت السلام لتستطيع حماية الدول العربية. وبينما هوكذلك إذ ضربت إسرائيل المفاعل النووي العراقي بعد ثلاثة أيام من لقاء الساداتوبيجين في شرم الشيخ. ولما جاء مبارك غزت إسرائيل لبنان حتى اجتاحت بيروت ونُفِّذتحت إشرافها مذبحة هائلة في الفلسطينيين (مذبحة صابرا وشاتيلا)، ثم اغتالت أباجهاد في تونس، وغيرها من الأحداث. وبهذا وجد النظام المصري نفسه عريانا! وعايشالحقيقة الفاضحة! لقد اختطفت إسرائيل منه السلام، وجمَّدته واقفا في الزاويةلتستكمل هي عربدتها في المنطقة! ورأى العالم العربي الشقيقة الكبرى وقد استسلمتووقفت تتفرج دون أن تجرؤ على فعل شيء!

وهذا هو التخوف الثالث الذي ضاق به صدرساسون: ماذا سيكون مصير السلام مع مصر إذا دخلت إسرائيل حربا مع دولة عربية أخرى؟

في نهاية خدمته عاد ساسون وهو مرتاحلأسئلته الثلاثة؛ لقد بقي السلام بعد اغتيال السادات، وبقي بعد تسليم سيناء كاملة،وبقي رغم الحروب التي دخلتها إسرائيل مع العالم العربي. ولكنه مع ذلك عاد وفي صدرهغصة: لأن التطبيع كان مرتعشا وبطيئا ومترددا، بل كان "ضحلا" كما يقول،وظل يتشكى من هذا الوضع حتى جلسته الوداعية الأخيرة مع مبارك.

وفي الواقع، لقد كان هذا البطءوالارتعاش والتردد بفضل المقاومة، المقاومة التي كانت ذروتها اغتيال السادات نفسه.ومثلما كان اغتيال الملك عبد الله الأول ملك شرق الأردن قد عَطَّل قطار التطبيعالعلني أربعين سنة، فقد عَطَّل اغتيال السادات التطبيع العلني أربعين سنة أخرى!وهذا ما صرَّحت به جولدا مائير، رئيسة الحكومة الإسرائيلية في مذكراتها، حيث قالت:"قبل ستة أشهر من تأسيس الدولة (إسرائيل) تقابلت مرتين مع الملك عبد الله ملكشرق الأردن وجدّ الملك حسين. ومع أن كلا اللقاءيْن بقيا سرا... فلا أحد يعلم حتىاليوم مدى مسؤولية الشائعات التي انتشرت عنها عن اغتياله. والاغتيال مرض مستوطن فيالعالم العربي، وأحد الدروس الهامة التي يجب أن يتعلمها القادة العرب، وهي الصلةبين السرّية وطول الحياة. وقد أحدث اغتيال الملك عبد الله تأثيرا ظل قائما على كلالقادة العرب الذين تلوه. وأذكر أن عبد الناصر قال لأحد الوسطاء الذين أرسلناهمإليه: لو أن بن جوريون جاء إلى القاهرة للتحدث معي فسوف يعود بطلا، أما إذا ذهبتإليه فسوف أُقْتَل عند عودتي. والواضح أن هذا الموقف ما زال قائما".

لكن السفير ساسون، ولأنه مكلَّف بمهمةتثبيت السلام وترويج التطبيع، بذل جهدا مضنيا لكي ينفي أي ارتباط لهذينالاغتياليْن بالعلاقة مع إسرائيل. ولكن مجهوده لم يغير من الواقع شيئا، لقد اضطرمبارك طوال عهده أن يسمح للشعب ونقاباته وجماهيريه بالإساءة إلى إسرائيل، ومنعالسياحة إلى إسرائيل، وحظر التبادل التجاري، وأوقف العلاقات الثقافية، وسمح بموادإعلامية تهاجم إسرائيل، ولم تجرؤ صحيفة على نشر بيانات السفير الإسرائيلي. كانتهذه طريقته لكي يحمي نفسه من الناس، ويمد يده إلى بقية الدول العربية، وليوصل إلىإسرائيل أنه ساخط على سياستها التي لا تأبه له!

يؤكد هذا أن هذا المسار الذي انتهجهمبارك كان ينحدر ناحية القرب من إسرائيل وتمكين التطبيع كلما شعر بأنه في أمان،وأنه قد قبض على زمام الحكم، حتى انهار تماما وصار مجرد شرطي في السنوات العشرالأخيرة من حكمه، لا سيما وقد أراد أن يضع ابنه جمال مبارك بعده!

لقد كانت المقاومة الشعبية لهذا السلامهي التي أجبرت الحاكم على أن يتزن ويداري خيانته ولا يتوغل فيها. وقد تعرض السفيرنفسه إلى محاولتي اغتيال أثناء هذه السنوات السبع!

ثالثا: الناس على دين ملوكهم!

سرعان ما أفرزت سياسة السلطة نتائجهاالعفنة! في كل شعب أناس يطمحون ويطمعون وتحركهم مصالحهم، حتى لو أبدوا استعدادهمللخيانة! لقد استيقظت الخلايا التي أرادت الاستفادة من الوضع الجديد.

في الحفل الأول الذي حضره السفير فيمصر، فوجئ برجل عجوز يقبل عليه ويسأله ثم يأخذه الحنين الشديد، ما كان هذا الرجلسوى كمال رياض مسؤول التواصل مع الإسرائيليين في عهد الملك فاروق، وأول من سعىللسلام معها قديما ولكن تعنت الإسرائيليين أفشل الأمر، فمن بعد ما اختفى طوال ثلثالقرن استيقظ ليجدد الوصل مرة أخرى. وقد سار على هذا الدرب آخرون، ولقد كانت مهمةالسفير أن يستكثر من هؤلاء وأن يبحث عنهم، فوجد بغيته في أسماء كثيرة، وروى مواقفعديدة له مع نجيب محفوظ وعمر الشريف وغيرهم من النخبة المصرية، فضلا عن أصدقائهالأعزاء من الطبقة السياسية والوزراء مثل: كمال حسن علي ويوسف والي وجيهان الساداتوعبد الهادي قنديل الذي كان وزير البترول وغيرهم.

ولكن، جاء من وراء ذلك آخرون من عامةالشعب أرادوا أيضا أن يستفيدوا من الوضع الجديد، وأن تكون لهم علاقة طيبة بالسفيرالإسرائيلي، أو أنهم سرعان ما استجابوا لأي بادرة بدأ بها السفير نفسه.

ومع ذلك فلم يصفُ للسفير ولم يطب لهمقامه بالقاهرة، والسر في ذلك هو حصيلة الأمريْن اللذيْن ذكرناهما، لقد كانت حصيلةهذين الأمرين: انفراد الحاكم بالقدرة على التغيير، وكون الحاكم الذي جاء قد اتعظمن مصير الرئيس المغتال، أن سار حسني مبارك سيرة بطيئة مترددة مرتعشة، وعلى مثلمسيرته هذه سار كثير من الناس خلفه!

يقول ساسون: "علاقة الطبقةالمثقفة في مصر بي كانت تتغير طبقا للأوامر، كل شيء حسب البارومتر السياسي"،بل ذكر السفير أن مجرد التلميح والإشارة من الرئيس كانت تترجم فورا إلى صلة أوقطيعة. فإذا كان مبارك راضيا فإنه يذكر السفير بقوله "السيد ساسون"،فكأنها كلمة سحرية تفتح له الأبواب، وأما إن كان ساخطا على إسرائيل فهو يقول:الخواجة ساسون أو المستر ساسون، فعندئذ تنغلق الأبواب المفتوحة!

وإذا أقام السفير حفلا في بيته جاءإليه أولئك المتسلقون، فإن وجدوا حضورا رسميا في الحفل رضوا وأكلوا وشربوا وطربوا،فإذا لاحظوا غياب التمثيل الرسمي انسلوا خارجين وما كادوا يجلسون!

يقول ساسون: "في دولةمثل مصر وحتى أيامنا هذه، كل شيء فيها طبقا لما يقوله الرئيس "الريس"،فإن تصريحات الرئيس أو تصرفاته تجاه إسرائيل لها آثارها المباشرة على تصرفاتالطبقة الحاكمة في مصر".

إن الحكاميستطيعون إفساد الشعوب بأشد مما تستطيع الشعوب إصلاح الحكام، ويبلغ الأمر معهمحدًّا خطيرًا، فإن بعض الذين استأنسوا بالسفير وبادلوه ودا بود، كانوا أقاربلشهداء سقطوا على يد الإسرائيليين، وأحيانا كانوا عسكريين قد أصيبوا بالفعل فيحروبهم مع الإسرائيليين! ومنهم ذلك العقيد الذي صار مديرا للمتحف الحربي وقد أصيببالشلل لفترة أثناء عبوره القناة!

إن أشد ما فيهذه المذكرات من الآلام قصة المرأة التي كانت تعمل خادمة في بيت السفيرالإسرائيلي، لقد كانت أرملة شهيد أخذ إلى الحرب وقتل فيها، ثم لم يكفها المعاشالذي تصرفه الحكومة لها، فاضطرت أن تعمل خادمة، ثم ساقتها المقادير إلى أن تخدمسفير الذين قتلوا زوجها!! والأشد مرارة من هذا أن المرأة لا تعرف شيئا عن إسرائيلولا عن الحرب.. لقد سلبت السلطة منها زوجها، ثم سلبت حقها في الحياة الكريمة، ثمسلبت وعيها حتى لم تعد تعرف عدوا من صديق!

ومثلها ذلكالفلاح الذي قُتِل أخوه في الحرب ثم فوجئ أنه سيعمل تحت إشراف خبير إسرائيلي،ولكنه لشدة الفقر وضيق الحال اضطر أن يكمل عمله وهو كاره، حتى إذا ألف اليهودي لميعد يشعر معه بغضاضة! وأشد من ذلك أن من الفلاحين من لم يكن يعرف شيئا عن إسرائيلولا أين تقع، لقد مسخت السلطة بما نشرته من الفقر والحاجة طبيعة الناس، حتى صارواكما قال ميخال سيلع (مشرف مشروع التعاون الزراعي) إن من الفلاحين من "لم يعرف حتى ما هي إسرائيل وأين تقع. يهتمالمزارع المصري بشيئين: إعالة أسرته وإقامة منزل له".

الخلاصة:

إذا نحن لم نتخلص من الحكام الخونةفستكون النتيجة كالآتي:

1.انكسار غزةوابتداء مسار آخره تدمير الأقصى

2.توغلالإسرائيليين في بلادنا فوق ما توغلوا، وهيمنتهم عليها فوق ما هيمنوا

3.انتشار الفقروالقهر سيجعل أبناءنا وبناتنا وزوجاتنا وأخواتنا خادمات عندهن! لا يعرفن عدوا منصديقا، ولا يعرفن لم وفيم حاربنا وحوربنا، وقاتلنا وقوتلنا!

وتلك هيالمأساة العظمى..

نشر في مجلة "أنصار الن بي �"، ديسمبر 2023

4 likes ·   •  1 comment  •  flag
Published on December 04, 2023 06:48

November 25, 2023

إطلالة على تاريخ أفغانستان

فيأكتوبر 1963 قال رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان لخلفه في المنصب أليكدوغلاس هيوم: "بني العزيز، ما دمت لا تغزو أفغانستان، فأنت في خير حال".

لم يتعلم الروس ولا الأمريكان هذا الدرس من المسؤول البريطاني المخضرم، فتعرضت كلاالإمبراطوريتين الكبيرتين لهزيمتيْن مُذِلَّتَيْن، رغم الفارق الضخم غير المسبوقفي ميزان القوى بين الطرفيْن، ولهذا فقد صدر عن كلٍّ منهما أقوال شبيهة بمقالةالمسؤول البريطاني، بعضها كان صريحا، وبعضها غُلِّف بزخرفات سياسية معتادة.

يعني اسم "أفغانستان": أرض الأفعان، وهي مثلكثير من الدول الإسلامية لا تعبر حدودها الحديثة عن تاريخها العريق، إذ لا تزالالدول الحديثة تعاني من ملامح التشوه والاقتطاع التي نتجت عن الاستعمار الأوروبيفي قرنيْ تفوقه: التاسع عشر والعشرين، ثم عن الصراعات الغربية التي تسابقت فيهاالمشاريع الكبرى للسيطرة على موارد الشعوب وعلى الطرق التجارية والمضايق المائيةونحو ذلك.

ولهذا يضطر كُتَّاب التاريخ في أغلب الأحيان أن يتعاملوامع التاريخ الإسلامي العريق لهذه المناطق بشكل أغلبي، يتناول تاريخ المجتمعات التيعاشت والقوى التي سيطرت على الأجزاء الأكبر من المساحة الحالية المعروفة باسم هذهالدولة، وذلك ما سنفعله الآن.

تمثل المساحة الحالية التي تشغلها أفغانستان موقعا حيوياتلتقي عندها، تبدأ وتنتهي المشاريع الكبرى، فحين ننظر إلى الخريطة المعاصرة نرى أنأفغانستان تقع في القلب تماما من المشاريع: الصينية والهندية والروسية (السوفيتيةسابقا) وهي من ثم البوابة الشرقية للعالم الإسلامي، في ظل الاحتلال الصيني المستمرلتركستان الشرقية، والذي قَلَّص عمليا حدود العالم الإسلامي ليقف عند أفغانستان.

لقدكانت الفتوحات الإسلامية –كم� يقول ول ديورانت- "أعظم الأعمال إثارة للدهشةفي التاريخ الحربي كله"، وذلك لسرعتها الصاعقة التي جعلت منطقة مثل أفغانستانترى الجيوش الإسلامية المنطلقة من الجزيرة العربية بعد سبع سنوات فقط من وفاةالنبي محمد ﷺ� استطاع فيها المسلمون إزالة الدولة الساسانية الفارسية العريقة،وأخذوا في التمدد إلى ما ورائها، لهذا بدأ دخول الإسلام إلى مناطق أفغانستانالجنوبية والغربية منذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، كانت تلك المناطق جزءامن البلاد التي عرفت قديما باسم "خراسان". وعندما قُتِل الخليفة الثانيفي المدينة المنورة، وقعت بعض الاضطرابات في أطراف الدولة الإسلامية الشاسعة التيتمددت حينها من أفغانستان إلى تونس، ولكن سرعان ما استعادت الدولة الإسلاميةقوتها، وأعيد فتح المناطق المضطربة والإضافة إليها في عهد الخليفة الثالث عثمان بنعفان، فدخلت في عهده مدن بلخ وغزنة وسجستان والجوزجان.

ثمجاءت الموجة الثانية من الفتوحات الإسلامية في الدولة الأموية، والتي وصلت إلىمدينة كاشغر (عاصمة تركستان المحتلة الآن من قبل الصين)، وفيها دخلت مناطق وسطآسيا كلها في نفوذ الدولة الإسلامية.

ولماسقطت الخلافة الأموية التي اتخذت دمشق عاصمة لها، ورثتها الخلافة العباسية التياتخذت من بغداد عاصمة لها، كان هذا التحرك إلى الشرق مما رسَّخ الوجود الإسلامي فيالمناطق الشرقية، من العراق وحتى الصين، فمهما ضعفت الخلافة العباسية المركزية،فإن الأسر المحلية التي تقاسمت السيطرة في تلك الأنحاء الواسعة كانت تحتفظبثقافتها الإسلامية، بل هي قد أمدَّت الثقافة الإسلامية بعدد وافر هائل من العلماءوالأدباء والشعراء والأمراء والمجاهدين. وفي هذه الأثناء أتمّ المسلمون فتحالمناطق الشرقية والشمالية من أفغانستان، على يد أمراء محليين مثل يعقوب الصفارالذي أتم الفتح النهائي لكابل.

ومنبين هذا الحشد الطويل من الأسر الحاكمة، ستبرز بعض المدن الأفغانية التي كان لهانصيب خاص من إمداد التاريخ الإسلامي بأبطال كبار، وكانت منطلقا لدول عظيمة. فيطليعة هذه المدن: مدينة غزنة التي سُمِّيت "الدولة الغزنوية" نسبةإليها، وهي الدولة التي إذا نظرنا إليها بالمنظار المعاصر اعتمادا على الحدودالمعاصرة، فيمكن أن نطلق عليها: أول دولة أفغانية إسلامية.

استطاعأمير تركي منحدر من نَسْلِ والي مدينة غزنة التابعة للدولة السامانية الكبيرة، أنيقوي مركزه في مدينة غزنة، ذلك هو سبكتيكن الذي صار أحد أقوى أمراء الدولةالسامانية بينما هي آخذة في الغروب، فكان سيفها الذي حاربت به الدول المناوئة فيمحيطها، كما أنجز عمليات توسع قوية في الأراضي الهندية، فوق إحكام سيطرته على بلادالأفغان، ثم ورثه بعد ذلك ابنه محمود الذي كان ذروة الدولة الغزنوية، وهي التيورثت القسم الجنوبي من الدولة السامانية الآفلة، ومحمود هذا هو فاتح الهند، الذييلقبه بعض المؤرخين المسلمين بعمر بن الخطاب الثاني لقوته واتساع فتوحاته فيالهند، ويحظى في التاريخ الإسلامي بمكانة عظيمة لفتحه الهند وقضائه على الدولةالبويهية (وهي دولة شيعية سيطرت على الخلافة العباسية السنة لأكثر من قرن) فيأقاليم المشرق، وعندما مات محمود (421هـ)، كانت دولته من أوسع دول عصره، ومن أهمالدول التي شهدها تاريخ الإسلام. وكان موته بداية تضعضع دولته وانحدارها حتىانهارت تماما (582ه = 1186م).

آلتأملاك الدولة الغزنوية في أفغانستان والهند إلى الدولة الغورية، وهي الدولةالثانية الكبرى التي تُنسب إلى مركز في أفغانستان، وذلك أن الغوريين كانوا يحكمون المنطقةالممتدة بين مدينتي هراة وغزنة، وكان مركزها في قلعة "فيروز كوه"، فكانواأول الوارثين لأملاكها الأفغانية، ثم كان لهم جهادهم في تثبيت النفوذ الإسلامي فيالهند والقضاء المبرم على دولة الأمراء الراجبوتيين (579ه = 1200م)، واستعادةالأجزاء التي تمردت في أقاليم السند (معظم باكستان الحالية)، وفتحوا بلاد البنغال،وقد اتخذوا من دلهي عاصمة لهم، فكانوا بذلك أول دول الإسلام في الهند، وبهم استقرالإسلام في الهند حتى انتهى على يد الاحتلال البريطاني مطلع القرن التاسع عشر.

بعدهاتين الدولتيْن –الغزنوي� والغورية- عادت أفغانستان لتكون جزءا من ممالك إسلاميةأكبر وأوسع، فقد كانت جزءا من الدولة الخوارزمية الكبيرة التي امتدت من تركستانالشرقية وحتى حدود العراق، وهي الدولة التي انهارت أمام العاصفة المغولية التيأطلقها جنكيز خان، والتي اجتاحت أفغانستان، ودفعت في مقاومتها ثمنا هائلا من تدميرالمدن الكبرى والحواضر الثقافية والعلمية مثل هراة وبلخ وقندهار وغزنة، ولما ماتجنكيز خان وانقسمت الدولة المغولية الكبيرة كانت أفغانستان جزءا من "الدولةالإيلخانية الفارسية"، وآل حكم الجزء الأكبر من أفغانستان المعاصرة إلى أسرةمحلية من الطاجيك تعرف بالأسرة الكرتية.

وماإن بدا أن هذه الأسرة ستحقق نوعا من الاستقلال الفعلي في أفغانستان، حتى جاءتالعاصفة المغولية الثانية على يد الأمير الأشهر تيمور لنك، وهي العاصفة التي عصفتبحكم الأسرة الكرتية، ودفعت أفغانستان ثمنا عظيما أمام تيمور لنك الذي طواها تحتظل إمبراطوريته التيمورية، ووضع حفيده حاكما على المنطقة التي تشمل كابل وغزنةوقندهار.

فيهذه الأثناء كان المغول قد دخلوا في الإسلام، وأنشؤوا نسخة جديدة من الحضارةالإسلامية المغولية في تلك الأنحاء، فالدولة الإيلخانية الفارسية كانت تعلنبالإسلام، لا سيما في عهد ملكها القوي محمود قازان ومن خلفه، وكذلك تيمور لنك كانيرى نفسه سلطانا مسلما، وإن كان أكثر العلماء يطعن في ذلك ولا يقبله منهما، وتلكتفاصيل لا يتسع لها المقام هنا، لكن المقصود أن النظرة العامة تفيد بأن كل هذهالتقلبات التي جرت على أفغانستان والمنطقة إنما كانت تجري تحت الإقرار العامبسلطان الإسلام وبالثقافة الإسلامية التي تجذرت حتى سادت وغطت على ما سواها، وهذهالهيمنة للثقافة الإسلامية لا تمنع من بقاء الثقافات الأخرى لما عُرِف عن الإسلاممن سماحة فريدة واعتراف بالديانات والمذاهب الأخرى، والتي لا تزال باقية حتى الآنفي كافة أنحاء العالم الإسلامي.

تناوبتعلى أفغانستان الدول اللاحقة التي تنازعت المنطقة والسيطرة عليها مثل الصفويين وخصومهم،لكن اللافت للنظر هو أن أفغانستان سجَّلت واحدة من أطول فترات الاستقلال والحكمالذاتي ضمن الإمبراطوريات الكبيرة التي كانت لها السيادة عليها، ويظهر هذابالاطلاع على أي مخطط تاريخي للأسر الحاكمة في المنطقة. ففيما عدا الفترات القصيرةنسبيا تحت حكم الخوارزميين والمغول والتيموريين، كانت أغلب الأجزاء تتمتع بحكمأسرة محلية وإن كانت تؤدي الاعتراف الرسمي والشكلي للمملكة الكبيرة. وبداية من1740م عاشت أفغانستان تحت حكم مستقل حتى ظهرت، ولأول مرة، الجيوش الأوروبية.

كانتالإمبراطورية الإنجليزية قد تسللت إلى الهند، في القصة المعروفة التي كان بطلهاشركة الهند الشرقية، ومن هناك تطلعت إلى مدّ نفوذها في الهند وفيما يليها منأقاليم السند (باكستان) والبنغال وأفغانستان، فدخلت على خط الصراع بين الأمراءالمحليين المتنافسين على الحكم، ووقعت الحروب الأفغانية الإنجليزية الثلاثالمشهورة، في مراحل متعاقبة (1839 � 1842م)، (1878 � 1880م)، (1919م). وبينما كانتإنجلترا تحاول أن تتمدد من الجنوب كانت الإمبراطورية الروسية القيصرية تحاولبدورها أن تتمدد من الشمال، مما جعل الحاكم الأفغاني بين ناريْن، ومضطرا أن يستعينبأحدهما على الآخر.

كانالإنجليز أسبق إلى أفغانستان من الروس، ولذلك فقد كانوا الأكثر تعرضا وتضررا منالمقاومة الأفغانية الباسلة والمستمرة، إن المنطقة التي عاشت في الإسلام اثنا عشرقرنا لم تفكر قط في الاستسلام للغزاة المحتلين، لقد ترسخت فيهم العقيدة الإسلاميةإلى الحد الذي صار يستحيل اقتلاعها أو حتى تخديرها.

دخلالإنجليز إلى كابل لأول مرة (1255ه = 1839ه) لإعادة الأمير شجاع الملك إلى الحكمضد غريمه دوست محمد، وبينما ينسحب الجيش الإنجليزي خارجا إذ يفاجأ بانقضاض أفغانيعنيف قُتِل فيه حليفهم شجاع الملك، وكاد أن يباد الجيش، وأعيد دوست محمد إلىالحكم، وقضى فيه نحو أربعين سنة حاول فيها تجنب احتلال إنجليزي آخر، حتى مات وتولىالحكم بعده ابنه شير علي الذي اضطر أن يستعين بالروس لمواجهة الضغط الإنجليزي المتصاعد،فكان ذلك ذريعة إنجليزية لشن حرب جديدة على أفغانستان، عرفت بالحرب الأفغانيةالإنجليزية الثانية (1878 � 1880م)، واضطرت للانسحاب مرة ثانية تحت ضغط المقاومةالأفغانية الباسلة التي راح ضحيتها الوزير الإنجليزي (المندوب السامي)، وبدأتمرحلة جديدة من النزاع الروسي الإنجليزي على أفغانستان، وهو النزاع الذي يتقوىويتداخل ويشتعل من خلال الحلفاء والخصوم الداخليين للأمراء الأفغان، وهو الأمرالذي انتهى إلى اتفاقية روسية إنجليزية (1907م) تقضي باستقلال أفغانستان، وترسمحدود السيطرة الروسية في آسيا الوسطى وبين أفغانستان.

ظلتالهيمنة الإنجليزية مختبئة وراء ستار محلي، كما هي العادة الإنجليزية في إدراتهالمستعمراتها، مع السعي الحثيث لتحديث الدولة وترسيخ النظام المركزي ونشر عملائهاوصنائعها في المواقع النافذة، وهو الأمر الذي قابله الأفغان دائما بالمقاومة، حيثطالت أيديهم هؤلاء الأمراء والملوك المنحازين للإنجليز، سواء باغتيالهم أوبالانقلاب عليهم ودعم خصومهم.

عندمابلغت الإمبراطورية البريطانية شيخوختها مع انقضاء الحرب العالمية الثانية، كانالروس يجددون قوتهم من خلال المارد السوفيتي الصاعد، وكانت كلا الإمبراطوريتين تفرضاننمطا ثقافيا يناقض الإسلام، ولكن الخفوت الإنجليزي ترك فراغا ملأه الصعودالسوفيتي، فانتقلت النخبة الأفغانية المتغربة عبر فصول طويلة ومتشابكة ومعقدة إلىالجناح السوفيتي، وبقي الشعب يخط فصول مقاومته الصبورة العنيدة التي لا تعرفاليأس، والتي تثمر في كل محطة من محطاتها تهديدا خطيرا تشعر به الإمبراطوريةالعظمى، وذات ليلة قررت الإمبراطورية السوفيتية أن تنزل بجيوشها الهائلة إلىأفغانستان.

لميتوقع أحدٌ أن يصمد المقاتلون الأفغان البسطاء للقوة العظمى التي تقتسم العالم معالأمريكان، ولكن المفاجأة وقعت من جديد، وبعد بضعة أعوام بدا وكأن الوحش السوفيتيقد سُحب من عليائه ليتورط في مستنقع صغير في المشرق اسمه أفغانستان، وعندئذ، سعتالإمبراطورية المنافسة (الأمريكان) إلى تسهيل الدعم الواصل إلى أفغانستان، من بعدفصول طويلة ودامية تشبث فيها الأفغان بأرضهم وحقوقهم، حتى كتبت نهاية الإمبراطوريةالسوفيتية بيد أفغانية في أفغانستان، وبأيادٍ كثيرة –كا� الأفغان في طليعتها- فيبقية العالم.

انفردتأمريكا بالسيطرة على العالم منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، فيما كان الأفغانيلعقون جراحهم ويحاولون استعادة بلادهم، وفي تطور غير متوقع لفصول الصراع العالمياستطاعت أفغانستان أن تكون بؤرة الأحداث العالمية من جديد!

استطاعالأفغان عبر فصائلهم العديدة إخراج السوفييت من أرضهم، لكن انقسامهم الداخلي الذيلعبت عليه أطراف دولية وإقليمية كثيرة منعهم من الوصول إلى اتفاق لإدارة البلد بعدرحيل الاحتلال، فاندلعت حرب أهلية بأموال خارجية وأرواح أفغانية، وبينما بدا الأفقمسدودا لا يبشر بنهاية صالحة، انبثقت حركة صغيرة جديدة من طلبة العلوم الشرعيةقادها طالب علم صغير السن اسمه الملا محمد عمر، وفي تفوق مفاجئ ومدهش استطاعتالحركة أن تسيطر على معظم أفغانستان وأن تعيد إليها الهدوء والأمان، وأن تجد عمقاسياسيا في باكستان التي كانت لها أسباب متعددة أخرى تجعلها تراهن على طالبان.

وفيتلك اللحظة كان العديد من المقاتلين العرب الذين قاتلوا في أفغانستان تلبيةلواجبهم الديني، واستفادة من التسهيلات التي قدمتها لهم بلادهم للسفر إلىأفغانستان، ضمن المحاولة الأمريكية لإسقاط السوفييت، كان العديد من هؤلاء قدوُضِعوا في السجون لأنهم جاهدوا بإذن هذه الحكومات نفسها!! مما اضطر كثيرا منهمإلى التفرق في البلاد، ثم لما استقرت أوضاع أفغانستان تحت حكم الملا عمر وجد فيهاهؤلاء ملاذا آمنا! وشعر الملا عمر بضرورة الوفاء لهؤلاء الذين جاهدوا مع شعبهوطاردتهم حكوماتهم، فاحتضن اللاجئين منهم.

منبين هؤلاء اللاجئين أسامة بن لادن، وعدد من قيادات الحركات الإسلامية من مختلفبلدان العالم، وجد هؤلاء أنفسهم قريبا من بعضهم، شكلوا جماعة جديدة عرفت باسم"القاعدة"، تشكل فكر هذه الجماعة من التجربة الأفغانية نفسها، لقد كانتالشيوعية خطرا داهما على سائر العالم الإسلامي، ثم إنها انقشعت فجأة حتى كأنهاتبخرت من كل البلاد الإسلامية حين هُزِم الاتحاد السوفيتي. كان الدرس البسيط يقول:اضرب رأس الحية. والحية التي يراها العالم الإسلامي في ذلك الوقت هم الأمريكان،الذين يدعمون إسرائيل التي تحتل ثالث المقدسات الإسلامية، ويحاصرون العراق وأفغانستان،ويقيمون قواعدهم العسكرية في أقدس الأماكن الإسلامية، وينشرون القيم الأمريكيةالمناقضة للإسلام في كل مكان. وإذن، فطبقا للتجربة الأفغانية: ضرب الأمريكان فيبلدهم يساوي انقشاع الأمركة والليبرالية من كل العالم الإسلامي.

لميوافق الملا عمر على أن يمارس أسامة بن لادن أي عمل من داخل أفغانستان، ولكن أسامةرأى أن الحلم قريب وأنه لا بد من المحاولة، وأمريكا من جهتها لم تقصر في المجاهرةبالعداوة لأفغانستان ومحاصرتها والتهديد الدائم باجتياحها. وهكذا كانت النتيجة هيأحداث سبتمبر.

لمتكن الطعنة الغائرة في الهيبة الأمريكية أمرًا سهلا، ولكن الأفغان الذين ترسختفيهم قيم الإسلام والوفاء للضيف واللاجئ لم يكونوا أقل صلابة وإصرارًا، كانتالمطالب الأمريكية المعلنة: تسليم بن لادن وتفكيك المعسكرات وطرد الإرهابيين وإلافهي الحرب، وقال الملا عمر: قدموا الأدلة على أن بن لادن هو الذي فعلها، ونقيممحكمة إسلامية محايدة له، وسأل أيضا: هل يضمن أحد ألا تغزو أمريكا أفغانستان إذانُفِّذ لها ما طلبت؟! وهو السؤال الذي لا يملك أحد إجابته.

ما كان الصلف الأمريكي بأقل من الصلابة الأفغانية، وحدث ما هو معروف منالحشد العالمي لإنهاء حكم طالبان، وفي الأيام الأولى وجدت طالبان أن القوة الناريةتفوق كل قدراتها، فقررت أن تنسحب وتشن حرب عصابات، سيكون النصر فيها للأصبروالأصلب. وبعد عشرين عاما من هذا التاريخ (2001 � 2021م) أثبتت طالبان أنها الأصبروالأصلب، وخرج القوات الأمريكية من أفغانستان لتكرر سيرة الإمبراطوريات المهزومةفي هذه الأرض العنيدة.

نشر في مجلة zurzeit الناطقة بالألمانية، نوفمبر 2023

2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Published on November 25, 2023 08:22

November 20, 2023

طبقات المُطَبِّعين

علم الطبقات هو علم انفرد به المسلمون،ولم تعرفه الأمم الأخرى، وبه تميزت المدرسة التاريخية الإسلامية عن غيرها منالمدارس التاريخية، وعن الحضارة الإسلامية نقلته الحضارات الأخرى.

وما هذا بعجيب، والسبب فيه أن المسلمينأصحاب أدق وأضبط مدرسة علمية تاريخية، وذلك أن علم التاريخ عند المسلمين هو فرع منعلم الحديث النبوي الشريف وقد نبت في تربته، فإن المسلمين بعض دينهم تاريخ وبعضتاريخهم دين! فمن هنا نمت حركة علمية شديدة الصرامة لتدقيق هذا التاريخ بدافعديني، فأثمر ذلك علوما لم تكن الأمم الأخرى تعرف مثيلا لها، منها علوم الحديث،ومنها علم التراجم والرجال والطبقات.

فأما علم الطبقات فهو علم يتتبع أجيالالعلماء، ويشبهه بعض المعاصرين بعلم اجتماع المعرفة، إذ هو تتبع للانتقال العلميبين الأساتذة والتلاميذ، ثم التلاميذ الذين يصيرون في الجيل التالي أساتذة لغيرهم،وهكذا.. وفي حياة أولئك، وفي هذه النوعية من الكتب نبصر أمورًا من تاريخ العلموالعلماء لا تكاد توجد في غيره، هذه الأمور هي أقرب إلى ما يسمى الآن "علماجتماع المعرفة"!

وقد كتب علماؤنا في كل علم كتبا فيالطبقات، فالمكتبة الإسلامية زاخرة بالكتب في طبقات القراء والمفسرين والحفاظ والمحدثينوالفقهاء والنحاة والقضاة والشعراء والأطباء والفلكيين والحاسبين والمنجمين، بلنقل المقريزي في خططه عن كتاب في طبقات المزخرفين، كان عنوانه: "ضوء النبراسوأنس الجُلَّاس في أخبار المُزَوِّقين من الناس".

فحُقَّ لك عزيزي القارئ المسلم أن تشعربالفخر لأنك ابن الحضارة الإسلامية.. وهذه مقدمة مُسَكَّرة أعطيها لك قبل أن أدخلبك إلى دهاليز المرّ وحدائق الحنظل، فلقد بدا لي أن نكتب في فرع جديد من الطبقات، وهو"طبقات المُطَبِّعين"!

والمُطَبِّع، كما لا يخفى على أبناءهذا الجيل، هو ذلك الخائن الذي يؤيد نشوء علاقة طبيعية مع المحتل الذي سلب بلادالمسلمين ولا يزال يقتلهم، ولكنه لفظ لطيف مهذب، ولك أن تتأمل ماذا يمكن أن يوصفبه مسلم طالب بالاعتراف بحق الإمارات الصليبية في الوجود، ودعا إلى قبول وجودهاوإنشاء علاقات طبيعية معها؟!.. لا وصف له إلا الخيانة! ولكن حيث أننا نعيش في عصرالخيانة نفسها فلا بد أن تبتكر الخيانة ألفاظا جميلة لتسويق نفسها، فخرج لنا هذااللفظ المائع الغائم!

من الكتب الجيدة التي يمكن أن نستفيدمنها في إنتاج كتاب "طبقات المُطَبِّعين": كتاب السفير الإسرائيليالثاني في مصر، موشيه ساسون، حيث قد سجل الرجل ذكرياته في مصر، وأخرجها بعنوان"7 سنوات في بلاد المصريين"، وهو مترجم ومنشور.

وهو من كتب المذكرات المهمة التي قدنستعرضها في مقال يومًا ما، لكن الذي يهمنا منه الآن أن هذا الرجل، وعبر هذاالكتاب، يعطينا صورة عن نشأة التطبيع وعن المطبعين الرواد الأوائل الذين كانواطليعة القافلة السائرة إلى مزبلة التاريخ!

وفي الحديث عن المطبعين الروادالأوائل، لا بد أن نذكر شيئيْن:

الأول: أنهم –وكم� قال نبينا صلى اللهعليه وسلم- "من سنَّ في الإسلام سنّة سيئة فعليها وزرها ووزر من عمل بها إلىيوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا"، وذلك أنهم أول من اجترأ علىالخيانة وفتح لها الباب ومهد الطريق لمن بعده.

والثاني: أنهم كانوا أكثر حياء وتردداوارتباكا ممن جاء بعدهم، فلقد كانوا يزاوجون ويراوحون بين ارتكابهم للخيانة وبينتسويقها للشعوب العربية المسلمة التي ترفضها باعتبارها مصلحة للعباد والبلادوباعتبارها فكرة جديدة جديرة بالأخذ بها. وهو الأمر الذي اختفى تماما لدى المطبعينفي الجيل الثاني، إذ لم يعد هؤلاء يترددون ولم يعودوا يبحثون عن الذريعة لتبريرخيانتهم، بل يرتكبونها جهارًا نهارًا، في فجاجة لا تعرف الخجل ووقاحة لا تعرفالحياء!

يذكر السفير موسيه ساسون أنه منذ تولىمهمته في مصر وهو يحمل ثلاثة تخوفات، أهمها: ماذا قد يكون مصير هذا السلام إذاتحاربت إسرائيل مع دولة عربية أخرى؟!

كان السادات ونظامه يُسَوِّقون قرارهمبالسلام المنفرد مع إسرائيل باعتباره قرارا جريئا وشجاعا وحكيما، وأن إسرائيل تفيبالتزاماتها وأنها أيضا تريد العيش بسلام، وأن حرب أكتوبر من الممكن أن تكون آخرالحروب، بل هي قطعا آخر الحروب بالنسبة إلى مصر. وكلما بدرت بادرة من إسرائيلتوافق هذا المسعى زاد افتخار النظام المصري بحكمة القرار!

لكن الأيام لن تبخل بالإجابة، فلقدعملت إسرائيل على "خطف" السلام من مصر، ثم الانطلاق للتصرف في المنطقةكأن مصر لم تعد موجودة أصلا، ولذا ظل السادات يفاجأ بالقرارات التي تحرجه مثل ضمالقدس وضم الجولان، ثم ضرب المفاعل النووي العراقي في صيف 1981م، وقد حصل ضربالمفاعل بعد ثلاثة أيام فحسب من اجتماع مناحم بيجين مع السادات في شرم الشيخ!! ومنالطريف هنا أن السفير سجَّل لقاءه الخاص بالسادات في الإسكندرية، حيث مارس الساداتمشاهده الدرامية والمسرحية، وأخذ يحدث الهواء وهو ينفث غليونه ويقول: "اللهيسامحك يا مناحم"، "ليه تعمل كده يا بيجين"، "شكلي إيه دلوقتيقدام السوفيت والروس؟!".. إلخ!

ولما جاء مبارك بعد السادات وجد نفسالموقف أيضا، إسرائيل تدخل إلى لبنان (1982م)، وتدفع بجيشها إلى أعماقه ثم تجتاحبيروت، ثم تقع مذبحة صابرا وشاتيلا حيث يموت فيها آلاف الفلسطينيين! ثم تغتال أبوإياد في تونس.. وهكذا!

والسلطة المصرية تشعر بأن كل تصرف منهذا النوع هو بمثابة الصفعة التي تُوَجَّه إلى سياستها، وإلى سلامها المنفرد معإسرائيل. ومع ذلك فهي تصر إصرارا بالغا على أن كل هذا لن يؤثر على عملية السلام،وأن السلام خيار استراتيجي لا تراجع عنه، وهو الأمر الذي كان يزيد من اندفاعةإسرائيل، ويزيد من نجاح السفير في احتواء المشكلات!

لم يجد المطبعون الرواد الأوائل إلا أنيمطروا السفير برسائل الاحتجاج الرسمية، أو يمارسوا استدعاء السفير المصري من تلأبيب للتشاور، أو يمتنع رجالهم الرسميون عن حضور الحفلات التي يقيمها السفيرالإسرائيلي، أو التباطؤ في تلبية طلباته للقاء مع الرئيس.. وهكذا! وذلك مع تركالمجال مفتوحا للصحافة والإعلام ليكتبوا ما شاءوا، وقد استغرب السفير أحيانا منهذا الوضع، وسفَّه من تفكير النظام المصري لو كان يظن أن مجرد هذه الأمور سيمثلضغطا على إسرائيل!

لم يجد السفير الإسرائيلي مكانا فيالصحافة المصرية لينشر فيها بياناته، وكان غاية ما يستطيع أن يفعله هو أن يتصلبإذاعة إسرائيل الناطقة بالعربية ليعرب عن مواقف إسرائيل ويبررها باللغة العربية!ولما حضر حفلا مسرحيا وفوجئ بردة فعل الصحافة امتنع عن حضر مثله، وكانت وقفةالنقابات بالإضافة إلى هذا النوع الخجول من "الغضب" الذي يبديه النظامالمصري، قد جعل السفير منبوذا رغم شدة اجتهاده في فتح العلاقات بين المصريينوالإسرائيليين.

والآن، إذا حاولنا المقارنة بين طبقاتالمطبعين بين هؤلاء الرواد الأوائل، وبين هؤلاء المعاصرين فإن المشهد يبدو مدهشا، فالمطبعونالمعاصرون قد صاروا نسخة صهيونية، إعلامهم وقنواتهم وصحافتهم تنطق بلسان صهيونيعربي فصيح! والناس ممنوعون من نقد إسرائيل على مواقع التواصل! فضلا عن التظاهر!وسائر المذابح التي تحدث لا تحرك في العلاقات مع الصهاينة شعرة! بل إن المطبعينالمعاصرين شركاء أصلاء في هذه المذابح!

ترى هل تصور الرواد المطبعون أن يكتبأحد السائرين في قافلتهم عبارة تقول: "لك العتبى يا نتنياهو حتى ترضى"؟!

نشر في

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on November 20, 2023 03:09

November 6, 2023

هل أتاك نبأ الكتيبة المسلمة التي كادت تقتحم الأقصى؟


في سطرٍ منزوٍ لا يكاد يُلْتَفَت إليهمن مذكرات الحاج أمين الحسيني، يروي أنه اعتصم بالمسجد الأقصى حين كان مُطاردًامطلوبا للسلطات الإنجليزية التي كانت تحتل فلسطين، ولأن المسجد الأقصى ذا قدسيةدينية فقد بقيت القوات الإنجليزية تحاصر أسوار القدس تحاصر المسجد الأقصى دون أنتقتحمه، وظل هذا الوضع لثلاثة أشهر.. ثم تفتقت العقلية الإنجليزية عن حل آخر؛جاءوا بقوة عسكرية من مسلمي الهند (التابعين للجيش الإنجليزي) لاقتحام الأقصىوالقبض على الحسيني ومن معه من المجاهدين. ولأن هذه القوة "المسلمة" لنتتورع عن انتهاك حرمة الأقصى، فقد اضطر الحسيني إلى المجازفة والمغامرة، ونفذ خطةهروب من الحصار ثم من فلسطين لكي لا تنتهك حرمة الأقصى!

إنها واقعة مصغرة وإرهاص قديم لما صارعليه الحال في عموم عالمنا العربي والإسلامي، فمع أن المحتل الأجنبي لا تنقصهالعداوة ولا الإجرام إلا أنه يتورع عن انتهاك المقدسات خشية أن يكون انتهاكه هذامثيرا لمشاعر الشعوب. وحينها: يأتي المحتل بالعملاء التابعين له ليؤدوا المهمة الأخطروالأقذر التي لم يتمكن المحتل من أدائها بنفسه!

إن ما يجري في الضفة الغربية بيد أجهزةالأمن التابعة للسلطة الفلسطينية لا يمكن أن يثير من الاستفزاز والإدانة والمشاعرمثلُ الذي يثيره ما تفعله القوات الإسرائيلية في نفس هذه الضفة الغربية!

كذلك ما ارتكبه جيش النظام السوري منجرائم ومذابح لم يُثِرْ شيئا يمكن أن يُقارن به ما أثارته الجرائم الشنيعة التيارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة.

وعلى جهة أخرى، فثمة حاجة ملحة إلىالتفكر والتأمل في الطريقة التي أمكن بها للاحتلال تجنيد عدد من المسلمين، إلىالحد الذي يجعلهم يرتكبون ما لا يمكن للاحتلال نفسه أن يرتكبه! فكيف قد اشتد وصعبعلى الكافر الذي لا يرى للمسجد الأقصى حرمة أن يقتحمه، ثم هذا الصعب نفسه قد هانوسهل على الجندي المسلم الذي يفترض أنه يُعَظِّم المسجد الأقصى تعظيما دينيا مبعثهالقرآن والسنة والتاريخ الطويل الحافل الممتد لأسلافه المسلمين؟!

إن الجنود عادة هم أبعد الناس عنالتفكير، وإنما يُغرس فيهم تقديس القيادة والولاء لها دون تردد، ولذلك فإنهم أكثرالناس ارتكابا لأشنع الجرائم دون أن يأبهوا ولا أن يفكروا لماذا اقترفوها، ومن هاهنا نفهم كيف يذكر الله هؤلاء الجنود إلى جوار فراعينهم، كما في قوله تعالى {وَنُرِيَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6]، وفي قوله تعالى {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواخَاطِئِينَ} [القصص: 8]، وفي قوله تعالى {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِيالْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ}[القصص: 39].

ثم هو يركز على ذكرهم في العذابوالهلاك معهم أيضا: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَالْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]، وتأمل معي في هذه الآية جيدا، وهي قوله تعالىعن فرعون وجنوده: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّفَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةًيَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْفِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِين}[القصص: 40 - 42]

وجاء ذكرهم أيضا على وجه التفصيل فيحديث النبي �: "ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عنمواقيتها، فمن أدرك ذلك منهم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا"،فهنا ذكر النبي � أنواع الأجناد فإذا هم أربعة: الجيش والشرطة وجابي المال وخازنه!

وذلك أن الذي يتمتع بمزايا القوةوالنفوذ، ومزايا المال والثروة، يكون ألصق بالحُكْم والحاكم مهما كان ظالماوفاسقا، وهو يسارع لتشرب قناعات الحاكم وأفكاره، بل قد يزيدها من عند نفسه ليرسخهافي نفسه وعند غيره، بل قد يكون هو المحرض للحاكم على المزيد من ظلمه، كما في قولهتعالى عن حاشية فرعون: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىوَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُأَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف: 127].

ولهذا كانت نهاية لفرعون هي ذاتهاالدليل على انطماس العقول والقلوب لدى جُنْدِه، فتأمل كيف أن المعجزة الواحدة التيرآها السحرة فآمنوا قد رآها معهم الجنود فلم يفكروا في الإيمان، بل انقلبوا لتعذيبالسحرة وتقطيع أيديهم وأرجلهم. ثم تأمل كيف أن البحر قد انشق لموسى أمامهم وصارطريقا صلدا يسيرون عليه، فلم يؤثر هذا فيهم ولم يُخِفْهم ولم يحملهم على التردد فيتنفيذ أمر فرعون، بل ساروا وراء زعيمهم فغرقوا معه!!

ولك أن تتخيل وتتأمل وتطيل التفكير فيمحاولة فهم نفسية الجندي الذي لم تؤثر فيه معجزة بحجم انشقاق البحر أمامه!!! فنفسٌمثل هذه، أي شيء بعد هذا يمكن أن يؤثر فيه؟!

ولذلك نهى النبي عن الالتحاق بأجنادالظالمين وأجهزة أمنهم، فإنه نهي عن السقوط في بئر لا قرار له، وإلقاء للنفس فيمهلكة لا نجاة منها!

لعل هذا قد يفسر كيف أن كتيبة مسلميالهند المجندين لحساب الجيش البريطاني لم تكن لتتردد في اقتحام الأقصى للقبض على"الإرهابي" أمين الحسيني، وهو يفسر كثيرا من المشاهد المعاصرة ليس أولهامذبحة المسجد الأحمر في باكتسان، ولا آخرها إحراق مسجد رابعة في قلب القاهرة!

لسنا هنا للكلام عن الماضي وحكاياته..لكن هذا المسلسل يجب أن ينبهنا إلى سؤال المستقبل: ترى متى ستقتحم الجيوش العربيةفلسطين لتحارب إلى جوار إسرائيل ضد حركات المقاومة؟!

هل بدا لك السؤال غريبا أو موغلا فيالتشاؤم؟! لا بأس.. فبم تفسر إذن أن الجيش المصري الذي كان تابعا للاحتلالالإنجليزي قد ساهم في احتلال القدس عام 1917 تحت قيادة الجنرال الإنجليزي ألنبي؟وكيف ساهم الجيش الأردني في تنفيذ قرار التقسيم تحت قيادة الجنرال الإنجليزي جلوبباشا؟!

دعك من التاريخ، بم تفسر كيف ساهمالجيش المصري الآن في تهجير قرية رفح المصرية وتدمير الأنفاق التي يعيش عليها أهلغزة ويسربون عبرها غذاءهم ودواءهم وسلاحهم؟!

إذا عدنا بالزمن قرونا وقلنا للناسوقتها: ما رأيكم أن يُقتل المسلمون في بلد، فتعمل الجيوش الإسلامية في البلادالمحيطة على حصارهم وإغلاق المنافذ عليهم.. هل تراهم يصدقون أو يستوعبون؟!

فإذا لم يكونوا ليصدقوا في ذلك الزمن،فماذا يمنع أن يأتي زمان قادمٌ يكتب فيه كاتبٌ من المستقبل: أن الجيوش العربيةاقتحمت غزة والضفة الغربية لمساندة إسرائيل في القضاء على حماس والجهاد الإسلاميوبقية حركات المقاومة؟!

هل كنتَ تعرف أنتَ قبل أن أتلو عليكقصة أمين الحسيني أن كتيبة هندية مسلمة كانت ستقتحم المسجد الأقصى للقبض علىالحسيني؟!

يجب أن نتوقع هذا الأسوأ، على الأقللكي نتجنب أن يحدث..

إن الجيوش العربية تقوم بدور عظيم فعلافي حماية إسرائيل، وتكبيل الشعوب وإنهاكها وسلب مواردها وأبنائها.. ما بقي لها إلاأن تقوم بدورها الأخير في القتال معها! السؤال فقط: متى؟

نشر في

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on November 06, 2023 07:34

November 3, 2023

طوفان الواجبات.. وواجبات الطوفان

تتبارى الأقلام في وصف المأساة، وتجفلأكثرها عن الذهاب نحو الحلول العملية والواجبات المفروضة، ولأننا هنا في ساحة"أنصار النبي �"، فلا يسعنا أن نبقى في الكلام المكرر المعاد، ولا أننتبارى مع القائلين والكاتبين، بل لا بد لنا أن نذهب نحو الكلام المفيد، الكلامالذي ينبني عليه عمل.

(1) العلماء والفقهاء

أشد الناس محنة في هذا العصر همالعلماء، إنهم ورثة الأنبياء الذين أوكلت لهم مهمة بيان الرسالة بعد انقطاع عصرالنبوة، شعارهم شعار الأنبياء من قبلهم {يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشونأحدا إلا الله}، وما تزال الأمة في كل حين تنادي عليهم أن قوموا بواجبكم في البيانوالإنكار، بل في قيادة الأمة نحو التحرير، بل يشتط البعض ويفرط فيأخذ في إدانتهموتقريعهم.

وبديهيٌّ أننا نتكلم هنا عن علماء الحقوالصدق لا عن علماء السوء وطلاب الدنيا بالدين فهؤلاء إنما هم جزء من العدو،وهؤلاء يستحقون كل تقريع وتأنيب وإنكار.

العلماء في عصرنا هذا مكبّلون مقيَّدونبقيود كثيرة، وهم الآن يدفعون ثمن عصور الاستعمار الأجنبي وعصور الطغيان المحلي،حيث انتزعت من العلماء سائر مصادر قوتهم واستقلالهم، وحيث أزيحوا عن مراكز التأثيروالنفوذ السياسي والقضائي والاجتماعي أيضا. وهذه قصة طويلة لا يتسع المقام لها،ولكن القصد أن نظام الدولة المعاصر قد سلب العلماء نفوذهم وجعلهم موظفين لدىالساسة وكبَّلهم في كل شيء لا بقيود الأمن والخوف والسجن فحسب، بل بقيود كثيرة منالراتب وتصريح الخطابة وإلقاء الدروس والخروج في وسائل الإعلام ونحوه!

فمن يطالب العلماء الآن بأن يجددوا عصرابن تيمية والعز بن عبد السلام، كمن يطالب كتائب القسام ومجاهدي الشام أن يجددوافتوحات ابن الوليد والمثنى والقعقاع! وكم من عالِمٍ نطق بكلمة حق فسيق إلى السجنأو إلى الموت، ولم يجد من الشعوب نصيرًا! فمصيرُ هذا العالِم يُثَبِّط غيره عن أنيفعل مثله! فكلا الطرفين مكبل: العالِم والأمة!

ومع ذلك فلا نهضة للأمة بغير العلماء،والعلماء هم أول الناس مسؤولية عن تغيير هذه الأوضاع، وهم أولى الناس بالتفكير فيالحلول.. وإني لأحسب أن العلماء اليوم يحتاجون إلى عقد مجمع فقهي (ولو كان سرًّا،ولو كان من خلال الانترنت.. إذا لم يتسر لهم اجتماع آمن في عاصمة ما)، ليتباحثونفي نوازل كهذه:

1.لماذا تعجز الأمة عن مدّ يد العون إلىأهل غزة؟

2.فإن كان هذا بسبب ضعف الأمة وخورهاوانصرافها.. فلماذا؟ ومن أين نبدأ؟

3.وإن كان هذا بسبب الحكام الذين يكبلونحركتها ويمنعون الأمة من نصرة إخوانهم.. فما سبب ذلك؟ هل هو عجز وضعف منهم؟ أم هوتواطأ وخيانة؟!

4.فإن كان عجزا وضعفا فما السبيل إلى تقويتهمودعمهم وتحويل عجزهم وضعفهم إلى قوة وقدرة؟ وماذا ينبغي على الشعوب أن تفعل؟ وعلىكل واحد في مكانه أن يفعل؟!

5.وإن كان خيانة وتواطأ فما هو توصيفهمالشرعي؟ وكيف يمكن العمل على إزالتهم وإزاحتهم واستبدال غيرهم بهم؟ وماذا ينبغيعندئذ أن يقال وأن يُكتب وأن يفتى به لمن يعمل في جيوشهم وشرطتهم ومخابراتهموإعلامهم؟ وكيف يمكن للشعوب التي يرى بعضها أن لهؤلاء طاعة عليهم أن تسعى فيخلعهم؟

6.وما حقيقة الموازنة بين المصالحوالمفاسد المترتبة على بقائهم أو على السعي في خلعهم؟ هذا والسادة العلماء هو أولمن يعرف أن حساب المصالح والمفاسد لا يتوقف عند الحال بل يمتد إلى المآل. ولايتعلق فقط بهذه المعركة أو بهذا الجيل بل يمتد إلى غيرها من المعارك والأجيال؟

7.وسواءٌ أكان الحكام في حال عجز أو حالخيانة، فما هو موقف الشعوب من الاتفاقيات التي أبرمها هؤلاء مع الصهاينة وحلفائهم؟هل لهم أن ينتهكوها؟ هل لهم أن يخفروا أمانهم ويستهدفوا أفراد الصهاينة ومصالحهمفي كل مكان؟ وإذا فعلوا فسُجِنوا أو قُتِلوا فما حكم الفاعل وما حكم الذي يأمرويقضي وينفذ السجن والقتل على من استهدف صهيونيا؟!

8.ما الرأي في توسيع المعركة خارج ديارفلسطين، واستهداف المصالح الصهيونية، والمصالح الداعمة لها في كل العالم؟

9.ما الرأي في عمل العاملين في الشركاتالأمريكية أو التي تغلب فيها النسبة للملاك الأمريكان، أو في شراء العلاماتالتجارية لهذه الشركات: سواء في الملابس أو المطاعم أو المقاهي؟

10.ما حكم المتخلف عن نصرة إخوانهالمسلمين بمثل هذه الأمور؟ وهل يلزمه التوقف في الحال أم مراعاة التخلص التدريجيمما هو فيه من اتفاقيات وعقود؟ وماذا يكون الموقف إن كان كل هذا لا يكاد يؤثر فيالمعركة القائمة أو كان لا يؤثر في أية معركة لضعف حجم تأثير المقاطعة في هذاالمنتج أو هذه السوق أو تلك الشركة والعلامة التجارية؟

11.هل يجوز لأهل غزة اقتحام الحدودالمصرية طلبا للغذاء والدواء وحصولا على المساعدات المحجوزة عنهم؟ فإذا مُنِعوا منذلك فهل لهم أن يقاتلوا أفراد الجيش المصري؟ وما حكم من سيقاتلهم من هذا الجيش؟

12.هل يجوز لأهل الأردن اقتحام الحدود معإسرائيل مع ما في ذلك من الخطورة عليهم، لا من قِبَل إسرائيل وحدها، بل من قبلالجيش الأردني أيضا؟ وذات السؤال يقال: في هذه الحال ما حكم القاتل والمقتول؟!

13.وقبل كل ذلك وبعده، كيف يمكن التخلص منهذا النوع من النظام الذي سلب من الأمة ومن علمائها القدرة على الفعل، وجعل كل شيءمحتكرا بيد السلطة وحدها، حتى صارت الأمة كالدجاج المحبوس في الحظيرة، مهمااخترقتها الحسرة واستهلكها البكاء لا تستطيع أن تفعل شيئا.. إن التفكير في الصيغةالمعاصرة من النظام الإسلامي الذي تستعيد فيه الأمة قوتها والعلماء نفوذهم هو منأخطر ما يجب أن يشغل عقول أهل العلم.

هذه الأسئلة كلها يترتب عليها أموركثيرة، وتفتح نقاشات أخرى في موضوعات أخرى، ولكن الخروج منها ولو بأقل قدر منالاتفاق هو مفيد للغاية في توجيه النظر الفقهي، وترشيد الخطاب الدعوي، وإلهابالخطاب الوعظي.. وهو ضروري في توضيح وفهم الواقع المعاصر، وفي التماس الطرقوفتحها، والإشارة إلى الممكن والواجب من الأعمال! وما من شك في أن أمة الملياريْنفيها من يستطيع أن يفعل شيئا إذا جاءته الفتوى المناسبة، وكان هو في المكانالمناسب!

إن تحت أهل العلم حشودا من الدعاةوالوعاظ والكُتَّاب والإعلاميين، ممن يرقبون قولهم، ويستطيعون أن يعيدوه ويجددوهبوسائل وأساليب مختلفة. إن العالم الصادق لا يعرف كيف هو حجم تأثيره في نفوسالمسلمين الصادقين، فإن المسلم ما إن يبصر عالِمًا يثق بعلمه وفهمه، ويثق بدينه،إلا ويكاد أن يكون له كالمريد المطيع، يشير فيجيب، ويأمر فيأتمر.

(2) العلماء التطبيقيون

إن أول ما يُستفاد من معارك أمتنا، بمافيها معركة طوفان الأقصى، أننا أمة لا تفتقر إلى الباسلين والفدائيينوالاستشهاديين، فالعدو المتفوق المدجج بالسلاح وبعد ثلاثة أسابيع يتخوف من الدخولإلى غزة، لكنه يسكب عليها من نيران طيرانه ما لا قبل لهم به وما لا يتسنى لأحددفعه!

لو تخيلنا أننا استطعنا أن نشل طيرانالعدو، أو أن نكافئ طيرانه بطيران لنا، لكانت نتائج المعارك كلها مختلفة. فمنذ أنظهر الطيران في أوائل القرن الماضي حتى بدأت خسائرنا تتكاثر وتزداد بسرعة وقسوة،ومع أن أمتنا استطاعت بعد التضحيات الهائلة أن تتحرر في كثير من المعارك، وأنتنتصر بالصبر وطول الأناة، فإن كثيرا من المعارك انتهى بانتصار العدو لتفوقه فيالطيران!

إن أمتنا أمام تحدٍ فظيع في مسألةالطيران، وهذه لا يقوم لها إلا علماء الهندسة والاتصالات والميكانيكا والمقذوفاتومن حولهم ممن يعملون في هذا المجال!

ونعم، مثلما نحن مكبلون في أمور كثيرة،فنحن مكبلون في ساحة البحث العلمي، سواء من جهة الإمكانيات المتاحة والخبراتالفنية، أو من جهة الخوف والرعب من السجون والمعتقلات.. ومع ذلك فلا سبيل إلاالمحاولة والمقاومة والتفكير في الحلول.. لست أشك أدنى شك في أن الذي سيخترع حلالمشكلة الطيران هذه سيخلد اسمه في الأمة بل في العالم كله لألف سنة على الأقل،وسيفتخر به حفيده بعد أربعين حفيد.. إنه سيعيد التوازن مرة أخرى بين الضعفاءوالأقوياء، بين الشجعان المتشبثين بأرضهم وبين الجبناء الذين يقذفون بالنار من السماء!

والأمر هنا لا يتعلق بالطيران وحده،ربما يستطيع أن يفعلها مبرمج يخترق الشبكات أو الرادارات أو أجهزة التحكم المختلفةفي التوجيه، وليس بعيدا أن يفعلها مهندس مبتدئ يهتدي إلى ثغرة ما أو إلى سلاح ماأو إلى تشويش ما، فيتمكن بذلك من شلِّ هذا التفوق الجوي الملعون!

وقد يفعلها آخرون من الكيميائيين أو منغيرهم، ممن قد يستطيعون اكتشاف مادة أو تركيبة أو سلاح بيولوجي أو كيميائي، يمكنأن يُحمل على رؤوس صاروخية مقذوفة، فيتيح للمقاومة أن تقذف عدوها بهذا النوع منالسلاح، وتملك بهذا ورقة تفاوض بها وتساوم وتقايض، بأن أي قصف جوي للمدنيين سيقابلبقصف صاروخي بهذا السلاح البيولوجي أو الكيميائي!

إنني أكتب، ولا شك يبدو في كتابتي جهليبالموضوع، وربما تثير بعض عباراتي سخرية المتخصصين.. ولن أدافع عن نفسي، فإنماالقصد أن أثير بعض الأفكار، وأن أوجه النظر إلى أن مشكلة الطيران لن تتعلق بفنياتالطيران وحدها.

إن معارك الأمة يجب أن يحتشد فيهاالجميع، وكل امرئ في مكانه أعرف وأعلم بما يستطيع أن يفعل، وهو إذا كان صادقاوحاملاً للهمّ حقا، فستنبثق في ذهنه الأفكار الغزيرة والوسائل العديدة التي يمكنهأن يفعلها. إن سائر العلوم المدنية التي تستخدم في التطبيقات المدنية كتصنيعالثلاجات والغسالات والتكييف والكمبيوتر وغيرها من الأجهزة تقوم على قوانين علمية،وهذه القوانين يمكن بقليل من التفكير أو بكثير منه أن يستفاد بها في التطبيقاتالحربية لتكون سلاحا بين يدي المجاهدين.

(3) علماء العلوم الإنسانية

إن مجالات العلوم الإنسانية مثل: علمالنفس والاجتماع والاقتصاد والإعلام والتربية والتاريخ والفنون بأنواعها هي من أهموأخطر أنواع العلوم، على رغم ما يكتنفها من مشكلات داخلية ومن قيود مكبلة كالتيتفرض على الجميع.

ومع ذلك فإن المجدّ المجتهد المخلص فيشيء من هذه العلوم يستطيع أن يفعل الكثير والخطير والمهم أيضا، فإن الله تباركوتعالى قد أودع في النفس البشرية قوانين وسننا، وأودع مثلها في المجتمعات، وظهرتثمار هذا كله في حركة التاريخ.. إن اللوحة التي يرسمها حاذق مهموم، أو بيت الشعرالذي يخرج من عقل ذكي وقلب ملتهب، أو الخطبة التي يهدر بها صادق مخلص، أو المقالالذي يكتبه بصير خبير بطبائع النفوس... إلخ! كل هذا يساهم في تحويل الآراء، وتجنيدالفدائيين، وتبصير الغافلين! وهل الفدائي البطل إلا ثمرة كلام كثير صنع نفسه وشكّلعقله واختلط بروحه؟!

لكن معضلة مجالات العلوم الإنسانية هيفي كثرة الكذب والوهم والخيال، وفي صعوبة التفريق بين الحق والباطل، إن الآلة التييصنعها المهندس لا مجال فيها للوهم، فهي تعمل أو لا تعمل، وإنما مشكلة المهندس: هليستعملها في الخير أم في الشر؟ في المهم والضروري أم في الترفيه والتمتع؟.. أماالكلام الذي يقوله عالم نفس أو اجتماع أو اقتصادي أو تربوي أو مؤرخ أو إعلاميفمعضلته الحقيقية أنه لا يمكن اكتشاف الكذب والوهم فيه إذا أُحْسِنَتْ زخرفتهوصياغته.. ولهذا كم راجت من أوهام وخرافات وأكاذيب تلبست بلباس العلوم ونطق بها منيقال عنهم خبراء وأساتذة!

وهنا تأتي معضلة الأمانة: فالواجب ألايتكلم في الشأن إلا من كان على علم بما يقول، وكان في قوله هذا صادقا متورعا. ثمالواجب على المستمع أن يتأمل في القائل، فلا يتبع إلا من يثق في دينه وفي علمهمعا.

(4) وآخرون من ورائهم

قد وزَّع الله الأرزاق والمواهبوالقدرات.. سيظل العلماء في كل مجال محتاجين إلى آخرين من ورائهم، سيحتاجون إلىآخرين لم يرزقوا موهبة العلم في أي مجال لكن رزقوا مواهب أخرى، وهذا موضع اختبارالله لهم:

1.فمن أولئك من رزق المال والقدرة علىالكسب وأنعم الله عليه بالثراء، فمثل هذا عليه واجب الإنفاق والدعم والرعاية لكلهؤلاء السابقين.. فكم في بلادنا من أقعدته الحاجة والانشغال بها عن السعي في قضاياالأمة والتفكير في شأنها!

2.ومنهم من رزق الشهرة والانتشار الواسع،فمثل هذا عليه واجب التعريف بهم والدلالة عليهم وتوجيه الأنظار إليهم.. فكم فيبلادنا من أذكياء أفذاذ لا يُعرفون، فلو كانوا قد أتيحت لهم النوافذ المناسبة لجنتالأمة من ورائهم الخير الكثير، ومن يدري: لربما استطاع بعضهم تغيير التاريخ!

3.ومنهم من رزق علاقات كثيرة ممتدةومتنوعة، فمثل هذا عليه واجب تيسير الطريق لهم، ليوضع كل امرئ في موضعه ويتوسدالأمر إلى أهله.. فكم في بلادنا من كفاءات مطمورة مدفونة لم تستفد منها الأمةلأنها لم تعرف أو لم تستطع أن تكون في المكان الصحيح.

4.ومنهم من رزق القدرة على الإدارةوالتنفيذ، فهو قادر على أن يسمع ويفهم، ثم هو يستطيع تجسيد الأفكار في مؤسساتوشركات يعجز عن إنشاء مثلها الخبراء أصحاب الأفكار، فمثل هذا عليه واجب جمعالطاقات المتناثرة وتنظيمها.. فكم في بلادنا من متناثرين لا يعطلهم عن العمل الجادولا يعطل الأمة عن الاستفادة بهم إلا افتقادهم لهذا المدير!

وآخرون لا أستطيع أن أحصيهم ولا يستطيعخيال كاتب أن يجمعهم! ولكن في ما مضى إشارة كافية.

إنطوفان الأقصى، وما نراه من العظمة التي يسطرها إخواننا في فصائل المقاومة! ثم مانراه من حمام الدم الذي يسيل، يفرض علينا طوفانا آخر.. ذلك هو: طوفان الواجبات.
نشر في ، نوفمبر 2023
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Published on November 03, 2023 15:12

October 22, 2023

معاناة تحت الحجاب

هذا عنوان بائس، لا أدري لماذا أعجبنيفوضعته، رغم أنني كنت سأكتب عنوانا آخر يقول "المعاناة المكتومةالمحجوبة"!

ولذلك، فإني أسارع بنداء القراءالمتعاطفين مع النسوية أو المؤيدين لتحرر المرأة من الحجاب، أن يسارعوا بغلق هذهالصفحة، فإنها تتكلم عن موضوع آخر. لا أحب أن أكون مخادعًا ولا أن أسرق أنظارالقراء!

أما الموضوع الذي أردت أن أتكلم عنهفقد احترت فيه قليلا! إن حمام الدم الذي يحدث في غزة يجعل كل كلام يبدو تافهاوسخيفا، وكل صورة تنقل إلينا فنا من فنون المعاناة ونوعا من أنواع الألم.. وإذاتركت عقلك ثانية واحدة ليتخيل ماذا خلف هذه الصورة من المعاناة، فإنك تفتح علىنفسك بابا من أبواب الجحيم.. ترى مقطعا فيه أمٌّ لا تتمالك أعصابها وهي ترىأولادها الثلاثة قتلى، فهي تتحير أيهم تقبِّله القبلة الأخيرة، وعلى أيهم تنادي أنيستيقظوا؟! هذا المشهد الحارق لا تشعر بلهيبه إلا بعض دقائق، فإذا تركت عقلكليتخيل حياة هذه المرأة في كل يوم، فأنت أمام طوفان من الألم!

نشر باحث غزي -عالق خارج غزة- على قناته مراسلات بينه وبين زوجته :يدعوها فيه للبقاء في بيتهم شمال غزة، وعدم الاستجابة لمطالب النزوح! وقد وافقتهزوجته على ذلك. لقد اختزت ذاكرة الفلسطيني –بم� أضيف إليها من ذكريات الشاموالعراق- أن التهجير نكبة أصعب، قال لها: معنى التهجير أن نتسول اللقمة، وأن يموتأولادنا من البرد في الخيام وأن نفقد بعض الأولاد في الطريق. وقد وافقته زوجته علىهذا، لسبب بسيط آخر: أن جنوب غزة لم يسلم أيضا من القصف!! ثم اتفقا على البقاء

تأملت في هذا الحوار الذي يكسر قدرة أيكاتب على وصفه! وحاولت أن أعيش مشاعره ليوم واحد، أعايش كيف ينخلع قلبه مع كلقذيفة! ولما استيقظت صباح اليوم التالي وجدته ينشر على قناته أن زوجته وأبناءهالثلاثة وعائلة زوجته قد استشهدوا جميعا في قصف!!

ماذا يمكن أن يقال في حال كهذا، وقد تبارى أصحاب الأقلام في توصيف المشهد؟!وأصلا: هل بقي للقلم منفعة في عصر الصورة والفيديو؟!!

إذن ينبغي للقلم أن يكتب في شيء لاتنقله الصورة!

وليس هذا بالشيء العسير أيضا..فقضايانا حافلة بالمآسي المكتومة والمعاناة المحجوبة!

كنت قبل فترة قد انتهيت من قراءةمذكرات الأسير الفلسطيني القسامي حسن سلامة، ليست مذكرات بالمعنى المفهوم، فهذاالرجل قاد عمليات الثأر لاغتيال المهندس القسامي الأشهر: يحيى عياش، ثم اعتقل وهوفي الخامسة والعشرين من عمره، كان ذلك في عام 1997م، ولا يزال سجينا، قضى في السجنأكثر من ربع قرن!

لكن المأساة لم تكن هنا، حتى هو لميكتب مذكراته عن سجنه، بل كتبها عن الفترة التي قضاها في العزل الانفرادي فحسب..ترى كم قضى؟ أكثر من ثلاثة عشر عاما!.. خمسة آلاف يوم في زنزانة انفرادية موحشةكالقبر! ولهذا جعل عنوان كتابه "خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ"!

وحيث قد اشترطت على نفسي أن أنقلمعاناة مكتومة ومحجوبة، فلن أحدثكم عن حسن سلامة، وإنما سأدعوكم لقراءة كتابه، وهومتوفر على الانترنت للتحميل المجاني!

سأحدثكم هنا من مذكرات حسن سلامة عنأنواع من الناس، لن يستطيع أحد وصف معاناتهم، ولا حتى هم أنفسهم سيستطيعون، وذلكأنهم: فقدوا عقولهم!

في تلك الزنازين الانفرادية العميقةالغائرة التي لا يكاد يأبه لها أحد، ولا يكاد يسمع أحد عن معاناة الناس فيها، توجدفئة من هؤلاء..

تعرفون طبعا أننا نعيش في عصر الحضارةالغربية، والحضارة الغربية هي حضارة العلم، كل شيء فيها تحول إلى علم، حتى السجنصار علما، وحتى التعذيب صار علما.. وقد علمتنا الحضارة الغربية أن الحضارة لها ثمنضروري، فلا بد من إزالة السكان الأصليين لإقامة المدن الحضارية الجميلة، ولا بد منقتل كثير من الناس لتوفير الحياة الرغدة للقليل منهم، وهكذا جرت فلسفة القتلوالإبادة ومنحها ثوبا أخلاقيا ومنطقيا!

ما يهمنا الآن أن هذا العلم الذيبُنِيت به السجون، وأديرت به التحقيقات، وصُنِعت به وسائل التعذيب قد سحق بعضالبشر حتى فقدوا عقولهم وخرجوا عن سويّتهم! وبهذا صارت حياتهم في السجون مستحيلة،لأنهم صاروا خطرا على بقية المساجين وعلى الشرطة والضباط أيضا.. فماذا نفعل؟!

يقول العلم: نبعث به إلى المستشفى أوالمصحة النفسية!

ويقول السجان: بل نبعث به إلى الزنازينالانفرادية!

وهكذا سيق إلى الزنازين الانفراديةقومٌ كان ينبغي أن يكونوا تحت الرعاية الطبية والنفسية، وصار مطلوبا من هذا المريضأن يخدم نفسه، وهو أحيانا لا يقوى ولا يفهم ولا يدرك كيف يقضي حاجته وينظف نفسه!

وتلك الزنازين الانفرادية، كما وصفهاالأسير حسن سلامة في مذكراته، ليست هي التي تتبادر صورتها إلى ذهنك، فتلك صورةرسمتها الأفلام والمسلسلات الأنيقة، إنها مقابر حقيقية، حافلة بالحشرات والفئرانوأنواع الصراصير، مظلمة معتمة، لا خروج من الزنزانة ولا دخول إلا بتقييد اليدينوالقدمين، وربما وضع قيد آخر يربط بين قيديْ اليدين والقدمين! بُنِيَت لـ"تأديب" المساجين، وعزل "الخطرين" منهم! ولذلك ينزلها عتاةالمجرمين من زعماء المافيا وأصحاب الجرائم الخطيرة.

فتأمل واترك لخيالك العنان كي ينزل فيهذه الزنازين من فقدوا عقولهم؟!

بعضهم لم يعد يتكلم ولا يسمع، وبعضهملا يعرف عدوا من صديقا ولا يستطيع التفرقة بين مسجون وشرطي، وأحد هؤلاء استطاعيوما أن يتناول خشبة ففقأ –أ� كاد يفقأ بها- عين سجين مثله! وبعضهم ألقى بماء ساخنعلى ممثل الصليب الأحمر إذ كان يزوره، فكاد يقتله!

وربما أرادت إدارة السجن أن تتلذذ،فإذا بها تضع أسيرا ممن لا زال يحتفظ بعقله، مع أسير ممن فقد عقله، للتنغيص عليهمامعًا، فكان هذا الأول يجتهد لتنظيف الزنزانة وتنظيف أخيه، ومحاولة التفاهم معه، ثمهو بعد ذلك لا يأمن على نفسه منه، ولا يستطيع أن ينام لأنه لا يضمن ماذا سيُصنعبه!

هذا والزنزانة ضيقة على الواحد وحده،فكيف إذا حُشِر فيها اثنان؟! ساعتها لا تصلح حتى للحركة!

فإذا سحبت خيالك من أجواء الزنزانة..فاذهب به إلى أسرة هذا الأسير، وتخيل: كيف هي معاناة أبيه وأمه وإخوته؟! فلئن كانتأسرة المريض الذي فقد عقله تعيش عذابا وابنها تحت يدها أو هو في أحسن المستشفيات؟فكيف تفعل أسرة هذا الذي فقد عقله، ثم هو في زنزانة العزل الانفرادي؟!!

تلك واحدة من أنواع المعاناةالمحجوبة.. أو هي: معاناة تحت الحجاب!

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on October 22, 2023 14:00