محمد إلهامي's Blog
January 3, 2025
انهيار الباب الأول في جدار حراسة إسرائيل!
قد فاضت الأقلام، وحُقَّ لها أن تفيض،بما أنعم الله على المسلمين من إسقاط نظام بشار الأسد، وتحرير دمشق، من بعد نصفقرن مظلم كئيب كانت في سوريا ترزح في أسوأ عهودها على الإطلاق!
والحمد لله أن قيَّض لعباده من الظروفوالأحوال ما جعل هذا التحرير ممكنا على رغم قلة العدد وضعف العدة وعموم اليأسوانعدام النصير، فإن إسقاط هذا النظام آية من آيات الله، وما كان لأحد أن يتوقعسقوطه بهذه السهولة ولا بهذه السرعة! لكأنما كان سحابا وانقشع! أو سرابا يحسبهالظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا!
إن أمام القوم تحديات عديدة، نسأل اللهأن يوفقهم فيها ويهديهم إلى الرشد فيها، لكن العقبة الكأداء قد انهارت، وما بعدهاأيسر منها إن شاء الله!
وأهم ما في هذا الفتح ليس ما يتعلقبأهل سوريا وحدهم، بل ما يتعلق بالشام وبمصير المنطقة كلها.. ولقد رأى الجميع كيفسرت صعقة كهربية في سائر الإقليم العربي الإسلامي، بل وفي سائر الدنيا، فإن امتلاكالمسلمين لأمرهم في دمشق هو بمثابة قنبلة نووية في قلب النظام العالمي القائمالآن! وما هو بالأمر الذي يُسْمَح به مهما كانت التكاليف!
وما من شكٍّ عندي في أن الأمريكانوالغربيين يحاولون اختبار الوضع، واختيار البدائل، مثلما سمحوا لمحمد مرسي بأن يصلإلى رئاسة مصر وهم يظنون ويُقَدِّرون أنهم يستطيعون به إدارة الأمر على ما يحبونويرغبون، فلما كانت آثار هذا عظيمة لا تحتمل ذهبوا إلى الانقلاب العسكري عليهوتدمير الفرصة التي سبق أن سمحوا بها.
وإني سأقص عليك مختصر القصة، فإن كنت –أخيالسور�- لا تجد الوقت أو كنتَ ملولا فاذهب مباشرة إلى آخر قسم في المقال، ففيهالخلاصة.
(1)
لم يكن الرئيس الشهيد محمد مرسي رحمهالله جهاديا، ولا كان في خاطره أن يقاتل الأمريكان والإسرائيليين، بل لقد ظنَّ أنتقديم الوجه الهادئ العملي التصالحي والحفاظ على مصالح هؤلاء الغربيين قد يمنحهالفرصة ليتمكن من البلاد تمكنا هادئا متدرجا، ثم يخرج من هذا التمكن بعد ذلك إلىتغيير الأوضاع!
وما عندي من المعلومات يؤكد أنالأمريكان كانوا يقبلون بهذا، لا حبا في محمد مرسي ولكن لأن هذا يلتقي مع خطة أخرىرغبوا في تنفيذها، تلك الخطة هي: أن يأتي الإسلاميون بالانتخابات النزيهة دون أنيمتلكوا حقيقة السلطة ومفاتيحها، فيعانون هم في الحكم ويعاني الناس من فشلهم فيهوضعف قدرتهم على إدارته، مع التهييج الإعلامي المستمر، والتفزيع الطائفي للأقلياتوأصحاب المصالح، والتحكم الغربي عمليا في مراكز القوة العسكرية والأمنيةوالمالية.. فيكون الرئيس في أحسن أحواله كرئيس البلدية، ويكون أقصى ما يستطيعإنجازه تحسين أحوال الطرق وتنظيم الخدمات المحلية كتوزيع الخبز والغذاء وتحسينأحوال الصحة والصرف الصحي ونحو هذه الأمور! وهذا كله لن يعني شيئا في ظل القصفالإعلامي المتواصل الذي يندب ويصرخ ويشكو من أن هذا ليس كافيا بل ليس شيئا!
فتكون النتيجة النهائية أن تأتيالانتخابات القادمة النزيهة لتُسْقِط الإسلاميين باختيار الشعب وإرادته، فتكونضربة معنوية قاصمة للإسلاميين في أنفسهم وفي أفكارهم، كما تكون ضربة قوية لأفكارالناس ليس فقط في صلاحية الإسلاميين للحكم، بل في صلاحية الإسلام للحياة!
كان يمكن لهذه الخطة أن تسير جيدا: إنأربع سنوات يراهن فيها الأمريكان على هذا المسار، هي ذاتها السنوات الأربعة التييودّ مرسي والإخوان أن تسلم لهم؛ فالإخوان مرسي لا يريدون إلا الفرصة والوقت وهميراهنون أن تمكنهم من تحسين هذه الأوضاع سيعني التفاف الشعب حولهم، وبالشعب وبمنينحاز لهم من رجال السلطة يمكنهم أن يتمكنوا من الحكم وأن يصلحوا الأحوال تدريجياوصولا إلى الغايات الكبيرة المنشودة: بداية من تحرير مصر وامتلاك قرارها وحتىتحرير الأقصى!
فإذا وقع اتفاق الإخوان والأمريكان،كلٌّ وفق رؤيته ومصالحه، على شيء.. فلماذا تعطل هذا الاتفاق؟ ولماذا جرى الانقلابالعسكري في مصر؟!
هذا هو مقصود ما أريده من هذا المقال..فأعطني سمعك وقلبك وعقلك..
(2)
لم يكن أثر وصول مرسي إلى الحكم في مصرقاصرا على مصر وحدها؛ لقد كان لهذا الوضع أصداء واسعة في العالم كله، ولا سيما فيالخليج وفي إسرائيل، وفي تركيا وإيران أيضا..
إسرائيل فقدت بانهيار حسني مبارك كنزهاالاسترايتيجي –والوص� للوزير الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر- وإن آثار الضعفوالتفكك الذي عانى منه الجهاز الأمني والعسكري وفَّر فرصة هائلة لنمو المقاومةالإسلامية في فلسطين، لا سيما في غزة التي صارت تأتيها أكداس السلاح، لقد انتعشتهريب السلاح كما وكيفا عبر المسار المصري الذي ضعفت فيه قبضة الجيش والشرطة،وصارت قوة حماس تتضخم في غزة!
وأما الخليج، تلك الممالك التي ترسخفيها الحكم الملكي والأميري، والذي يعامل الناس عمليا كعبيد لهم المأكل والمأوىولنا فيهم القرار والسلطان، فقد أصيب بصاعقة حقيقية حين نجحت الثورة المصرية، إذكيف لرئيس عتيق أن يسقط بعد ثلاثين سنة بهذه السهولة، ثمانية عشر يوما فحسب!! لقدأنعش هذا الآمال المدفونة للشعوب الخليجية لكي تشعر وتتنفس أن يكون لديها منالحرية والإرادة والرأي في النظام. وزاد في ذلك أن تأثير الثورة المصرية سرعان ما انتشرفي ليبيا وسوريا واليمن وبدت له بوادر لم تكتمل في البحرين والجزائر والمغرب.. لقدشعر ملوك الخليج أنهم في لحظة تشبه ما عاشه قبلهم ملوك أوروبا القديمة والوسيطة؛شعروا أنهم أمام ثورة لتحرير العبيد، وقطع رأس الملوك!! فكان لسان حالهم يقول: لئنكانت أمريكا تستطيع أن تصبر أربع سنوات تجرب فيها خطتها، فإن الوضع عندنا لا يحتملولا نستطيع أن نصبر! لقد رأوْا كيف أن بعض شعوبهم وضع كلمات الرئيس مرسي كنغماترنين لهواتفهم الجوالة!.. إن استمرار مرسي سيمثل سقوطا مؤكدا لأنظمة حكمهم!
حتى إيران وتركيا على رغم ما بينهم منالتضاد والخلاف، كلٌّ منهم رأى في مرسي فرصة عظيمة يتقوى بها جانبه ويشتد بهامحوره..
فأما تركيا فلقد كانت لحظة في غايةالندرة والعظمة للعثماني الجديد –كم� تنعته الصحافة الغربية- لكي يجد طريقا ممكناليتمدد في العالم العربي بعد مائة عام من العزلة العلمانية الأتاتوركية، فالمتفائليقول: إنه أول استرجاع تاريخ الدولة العثمانية، والمتحفظ يقول: إنه أول الطريقلتمدد الدولة التركية واتخاذها الموضع اللائق بها في خريطة القوى الإقليمية.والإخوان ومرسي من جانبهم كانوا يرحبون أشد الترحيب بالحليف التركي، الحليف القويذي الهوى الإسلامي، في منطقة ترسخ فيها الطغاة والعلمانيون وليس لهم فيها نصير.
وأما إيران، فلقد وجدت في وصول مرسيللحكم فرصة ممتازة لتمد علاقات قوية مع مصر –أكب� الدول العربية وأهمها- بعدماسقطت العقبة الكأداء المتمثلة في حسني مبارك ذي الهوى الصهيوني والأمريكي، إنهالمنحة عظيمة في هذه اللحظة وجود إسلاميين في حكم مصر مثل الإخوان المسلمين، ليسلهم عداء عقدي جذري مع الشيعة، ولهم تطلعات تحررية من الأمريكان، ولهم عداء معالصهاينة، ويعانون من قلة النصير. ومن ثَمَّ فإقامة علاقة مع هؤلاء هو كسر ضخم فيجدار الحصار المفروض على إيران، وتوسيع حضورها، بل وفيها فوق ذلك فرصة كذلك للعملالشيعي في مصر التي هي بيئة أقرب لقبول الفكرة لما لدى أهل مصر من حب لآل البيتولما في مصر من معالمهم ومشاهدهم.
السودان أيضا رأى في فوز مرسي فرصةعظيمة للخروج من حالة الحصار التي كان فيها عمر البشير، النظام الفقير الذي أجبرقبل شهور على تنفيذ التقسيم والتخلي عن جنوب السودان بعد طول تصلب ومثابرة، وماكانت له من عقدة أشد وأكبر من العقدة المصرية، فها هي قد انفتحت، ثم ها قد جاءإليها الإخوان المسلمون أنفسهم الذين هم على ذات خط فكر الحزب الحاكم في السودان.
أمورٌ أخرى يمكن قولها، ولكنها أقلأهمية.. على أن القصد الذي يجب التركيز عليه أن التجربة المصرية كانت في بعضوجوهها تجربة اتفق أصحابها واتفق الغرب على منحهم الوقت والفرصة، كلٌّ لأغراضهالمعاكسة للآخر، لكن تأثيراتها على الجوار هي التي عصفت بها!
لقد دخلت ممالك الخليج وإسرائيل علىالخط لتتحطم هذه التجربة في أسرع وقت وأقرب فرصة ومهما كان الثمن، وفي حين كانالأمريكان يتخوفون من الفوضى لو جرى الانقلاب العسكري على مرسي، فإن إسرائيلوممالك الخليج والخونة في العسكر المصري تكفلوا لهم أن يكون الانقلاب أسهل مايكون. فما ظنَّ أحدٌ منهم أن مرسي يمكن أن يتصلب في وجه الجيش، كيف ولم يفعلهامبارك العسكري ذي الثلاثين عاما في مقعد الحكم؟ فهل يفعلها الإصلاحي التدريجيالخالي من القوة والذي لم يتمكن في مقعد الحكم؟!.. وكان مرسي قد أبدى من الضعف مايجعل الانقلاب عليه فكرة تستحق التجربة، وقد خُدِع في السيسي وسُحِر به انخداعاوسحرا يجعل نتيجة الانقلاب عليه تبدو مؤكدة السهولة!
ثم حصل ما حصل مما هو معروف..
وأنا أكتب الآن من موقع شاهد العيان،فلو كان مرسي قد أبدى جرأة وقوة وإقداما مثل الذي أبداه من تصلب وثبات بعد وقوعالكارثة لكنا نكتب تاريخا آخر. ولو كانت الجماعة قد قاومت ونزلت بثقلها بعدالكارثة لكان تاريخ آخر!
(3)
الشاهد الذي أقصده الآن، والذي أتوجهبه لإخواني في الثورة السورية.. أن الأمريكان والغربيين يمكنهم أن يحاولوا تجريبالوضع الجديد واختبار الفرص المتاحة ودراسة شخصية أحمد الشرع ومصادر قوته ونقاطضعفه، وإلى أي مدى يمكن تحقيق مصالحهم في وجوده.. مع الاستعداد لتغييره في كلالأحوال، حربا أو اغتيالا أو انقلابا ممن حوله، ولكن هذا الاستعداد الغربي يحتملالتأجيل!
أما الأنظمة العربية وإسرائيل فلا تملكالوقت ولا الصبر على ذلك، وإن اشتياقها لتدمير التجربة وتحطيمها لا يتمهل، ولئنكان القوم لم يحتملوا مرسي –عل� كل ما فيه من إصلاحية، وعلى كل ما لهم من نفوذداخل الأجهزة الأمنية والعسكرية في مصر- فكيف برجل مثل أحمد الشرع، ذلك القادم منمسار جهادي سلفي، وقد حمل السلاح، وفريقه ليس فيه هذا الحضور ولا النفوذ؟!
لقد أبدت أنظمة الخليج لمرسي تقبلا،ورسمت له في دهاليز العلاقات الخلفية ابتسامات وضحكات، وكانت تطعنه من الخلف (وهذاملف لم يُعرف بعدُ أكثره)، حتى لقد رأيت بنفسي في فريق مرسي من كان مطمئنا لهمغاية الاطمئنان، وكان سعيدا لما أغرقوه به من الحفاوة، ولا يتصور أن هذا قد يكونغدرا.. أقصد القول: ليس الذي يحدث الآن مع أحمد الشرع غريبا ولا هو يعني تقبلاحقيقيا لوجوده!
إن تحرير دمشق، كما تقرؤه العواصمالسياسية العربية، هو إسقاط لأخ عريق في الطغيان والتجبر، وهو دليل على أن نجاحالثورات ممكنة رغم كل المآسي والجراح، وهذا درسٌ هائل عظيم، كم أنفقوا الملياراتوالمجهودات لإثبات عكسه، حتى صارت سوريا المثال الأبرز عليه، فكان يقال للمقهورين:"احمدوا ربكم أحسن من سوريا"!
وإن تحرير دمشق، كما تقرؤه العواصمالعالمية، هو انهيار بوابة حديدية كبرى في جدار حراسة إسرائيل، بل هو انهيار ثلثالجدار، وبقي ثلثاه: مصر والأردن!.. فكيف يكون حال قومٍ خسروا في أيامٍ بابا منثلاثة أبواب تحمي مشروعهم الأثير: إسرائيل؟!.. وكيف يكون حال إسرائيل نفسها، وهيالتي لم تخرج بعد من الصفعة المدوية التي تلقتها في غزة! غزة التي لا تملك إلاالسلاح الخفيف والمتوسط، والمحاصرة منذ سبعة عشر عاما؟!
لئن كانت نافذة غزة قد تدفق منها طوفانالأقصى، فكيف يتوقعون أن يكون التدفق الذي سيأتي من باب سوريا الكبير؟!!
أسألالله تعالى أن يتم نعمته على إخواننا في سوريا، وأن يهدي قائدهم أحمد الشرع ورجالهلما فيه السداد والرشاد والخير والهدى والفلاح، وأن يجنبهم كيد الكائدين وغدرالغادرين.December 4, 2024
لو كان عرضا قريبا!
أخبرنا ربنا تبارك وتعالى عن نفسيةقومٍ لا يخوضون الجهاد لأنه بعيد الثمرة، وهذا البُعْدُ هو ما جعلهم يتثاقلونويتباطؤون ويتخلفون عن الجهاد مع النبي �. وبيَّن ربنا، وهو العليم بالنفوس البصيربما في القلوب، أن الثمرة لو كانت قريبة لكانوا قد خرجوا مجاهدين.
قال تعالى {لَوْ كَانَ عَرَضًاقَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُالشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْيُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42].
ونحن نرى مصداق قول ربنا هذا في زمانناالآن، فانظر وتأمل كم واحدًا كان فرحا مسرورا فخورا بما وقع في طوفان الأقصى لماوقع، وانظر كم منهم الآن من يتحدث عن خطأ الحساب ومرارة التكاليف وقسوة الأوضاع،بعضهم يُصَرِّح وبعضهم يُلَمِّح أن قرار الطوفان كان قرارا خاطئا، وأن تكاليفهكانت شديدة وأنها كانت مغامرة غير محسوبة!
وما من شك في أن حرب غزة لو كانت قدتوقفت بعد شهرين أو ثلاثة أو ستة، لكان أكثر القائلين بهذا يقولون بغيره، بلبعكسه، ولربما جادت قرائحهم بالأقوال اليانعة في عبقرية من اتخذ قرار الطوفان بمايرفعهم عن مصاف البشر وبما يجعلهم معدن الحكمة!
فهل مثلُ هذا الحال حالٌ أدقُّ في وصفِهذه العلة: بُعْدُ الشُّقَّة؟!
فالمسألة إذن نفسية، وبحسب ما تحتملالنفس من المشقة تُكَيِّف الموضوع، وقد يتبع العقلُ النفس في هوها وتحملها، فمااحتملته كان عبقرية وحكمة، وما عجزت عن احتماله كان تهورا وخطأً!
وقد يسأل سائلٌ مستفسرًا ومستفهمًا: فكيفنُفَرِّق إذن بين جهاد محمود بعيد الشقة بعد الثمرة؟ وبين الخطأ المذموم الذي يوصفبالتهور وخطأ الحسبة وركوب الأهوال واقتحام المخاطر بغير عدة؟!
للجواب على هذا السؤال وأشباهه، كُتِبتهذه السطور..
(1)
إن الجهاد في غزة وفلسطين، هو جهاد دفعليس جهاد طلب، فالأصل فيه أنه قائم مشتعل لا يهدأ ولا يفتر، وقد يُقدِّر المجاهدونهدنة قصيرة أو طويلة لالتقاط الأنفاس أو لإعداد عدة، دون أن يعني هذا أن الجهاد قدتوقف وارتفع الواجب فيه.
وجهاد الدفع ليس هو الذي يُشترط فيهويلزم فيه وقوع غلبة الظن بالظفر والنصر، بل هو مطلوبٌ بما توفر وحضر من العدةوالعدد، فهو من نوع الذي يجاهد مدافعا عن نفسه وعرضه وماله، قد يخوض غمرة الموتمدافعًا دون أن يتحقق له غلبة الظن بأنه قادرٌ على الدفع والظفر! وقد شهد النبيلمن فعل ذلك بالشهادة في قوله: من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون نفسهفهو شهيد، ومن قُتِل دون عرضه فهو شهيد.
وقد قرر العلماء في جهاد الطلب جواز،وبعضهم قال باستحباب، أن يفعل المجاهد ما قد يكون فيه هلكته إن كان في فعله هذانكاية بالعدو وإرعاب له، فكيف إن كان الواقع في جهاد الدفع، وفي دفع الصائل، وهوالأمر الذي ليس بعد الإيمان بالله شيء أوجب منه؟!
وإن الناظر في واقعنا المعاصر ليعلمويرى أن من المستحيل تحققه في المدى المنظور أن يبلغ المجاهدون في العدد والعدةمثلَ الذي هو عند عدوهم، إن الواقع شاهدٌ بهذا، كيف وهم محاصرون من أنظمة الخيانةوالغدر، وعدوهم ممدود بحبل الغرب والأمريكان وأنظمة الخيانة نفسها.
إن صرف الوقت انتظارا لاكتمال العددوالعدة ليست له ثمرة إلا أن تزيد الفجوة بين ما لدى أهل الجهاد، وما لدى العدو..وهو ما يجعل المهمة تزداد في كل يوم عسرًا وعنتًا ومشقة واستحالة!
(2)
لقد تكرر في القرآن والسنة الثناء علىقوم قاموا بالحق حتى هلكوا فيه ولم ينتصروا..
انظر إلى أصحاب الأخدود، آمنوا باللهوكفروا بالطاغية، فحفر لهم أخدودا ملأه نارًا، ثم أحرقهم فيه.. أبادهم!
وانظر إلى سحرة فرعون، وهم يكفرونبفرعون ويؤمنون بموسى أمام الجمع الحاشد الكبير، ثم يضربون هيبة فرعون وجبروته فيمقتل حين يستخفون بتهديده وعذابه، فماذا كان؟.. أتى لهم بالجنود يعذبونهمويقطعونهم حتى أهلكهم وأبادهم!
وانظر إلى أصحاب الكهف، كيف قاموابالحق فعبدوا الله وكفروا بآلهة قومهم حتى لم يأمنوا على أنفسهم، فخرجوا يلتمسونالمأوى الآمن بعيدًا، فألقى الله عليهم النوم حتى بعثهم بعد ثلاثمائة عام.. إذانظرت إلى هذا المشهد من جهة القوم الكافرين، فكيف تراه؟!.. ترى قوما من "الإرهابيين"و"الخوارج" و"المتطرفين" هربوا من وجه القانون حتى لا ندري فيأي أودية الأرض هلكوا!
وانظر إلى امرأة فرعون وإلى ماشطةابنته كيف آمنتا بالله وكفرتا بفرعون وتحملتا العذاب، حتى لقد هلكت الماشطةوأطفالها تعذيبا وإحراقا..
ولقد أخبرنا نبينا برجليْن بلغا مرتبةواحدة: أحدهما قُتِل شهيدا وهو يُقاتل، والآخر قُتِل بعدما جهر بكلمة الحق في وجهالجبار الجائر، كلاهما بلغ مرتبة سيد الشهداء، وكلاهما لم يكن بميزان الدنيا منالمنتصرين!
وأزيدك من الشعر بيتا.. أو من التاريخقصصا..
إن الأمة المهزومة المستضعفة لا تبدأمسيرة نهضتها إلا بأفواج من الاستشهاديين، نعم، بهؤلاء ذوي النفوس الفولاذية التييبلغ إيمانها مبلغًا تنهار معه القوى المادية كلها، فيُقدم على عمل يراه الناسانتحارًا، ويكون هو البذرة الأولى في كل قصة نهوض!
ماذا كان يرجو بلالٌ من حظ الدنيا حينكان يقول في عذابه الرهيب: أحدٌ أحدٌ؟!
وماذا كان يرجو خبيب بن عدي من حظالدنيا وهو يقول على خشبة الصلب:
ولست أبالي حين أُقتل مسلما .. على أيجنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ .. يباركعلى أوصال شلو ممزع
ولا تحسبن هذا قاصرًا على أمتنا وحدها؛لا.. لقد وُجِد في الأمم كلها أمثال هؤلاء "الانتحاريين" الذين بذلوانفوسهم في سبيل تثبيت أقوامهم على عقائدهم، حتى وإن كانت باطلة.. لم يزل الإسبانحتى اليوم يُعَظِّمون قوما "انتحاريين" كانوا يأتون إلى قلب الساحةالرئيسية في قرطبة العظيمة إبان ذروتها فيتعالنون بسب النبي والقرآن والإسلام،يريدون بذلك تثبيت قومهم النصارى لما يرونه من ذوبان النصرانية وانكماشها أمام قوةالإسلام وحضارته. ولأن المشهد كان عجيبا فقد تعامل معهم قضاة المسلمين باعتبارهممجانين فلم يحكموا عليهم بالقتل غير مرة.. أولئك المجانين تراهم أمة الإسبان أولمن ثبَّت النصرانية وأول من قاوم الوجود الإسلامي.
وفي التاريخ أمثال هؤلاء مما لا يتسعله المقام.. إنما أذكرهم لأقول: لا بديل لكل أمة مستضعفة تحفظ وجودها عن"استشهاديين" يخرقون قانون القوة ومنطق العقل ليمنحوا الدين والإيمانوقودا من دمائهم المسفوكة ونورا من نفوسهم المسفوحة!.. هكذا بدأ الإسلام قصته!وهكذا بدأت كل قصة نهضة من بعد هزيمة!
(3)
وإذن، فهل كان قرار طوفان الأقصى قرارعملية استشهادية جماعية؟!
لست أدري.. وأغلب الظن عندي أنه لم يكنكذلك، وأن الذي اتخذ القرار لم يكن يتوقع ردًّا بهذه الدموية، ولا توقع كل هذهالخيانة من أنظمة الغدر والخيانة العربية والإسلامية!
وقد يخطئ المجاهد فيخوض معركة لا تكوننتائجها كما أَمَّل وترجى وتمنى.. فإنما المجاهد بشر، وهل كان المجاهد معصوما؟!
ما من أحد يستطيع أن يقول بأن كل معركةخرج لها النبي أو خلفاؤه الراشدون أو الفاتحون والصالحون من الأمراء والسلاطين كانتمحسومة النتيجة لصالح النصر، وإنما هو التقدير الذي قد يصيب وقد يخطئ، ولو كانالإنسان لا يقدم إلا على معركة النصر فيها محسوم لما كان ذلك منه بطولة ولا جهادا،بل هذا أقرب إلى الانتهازية وركوب المصلحة..
ما البطولة ولا الشجاعة ولا البسالةإلا الثبات في الموطن المخوف والمنزل الرعيب والاستئساد في ساحة الخوف والصلابةحين تميد الأرض وتكفهر الأجواء وتظلم الأنحاء!
ولولا ذلك ما وُصِف بطل بالبطولة، ولاشجاع بالشجاعة، ولا باسل بالبسالة!
ثم إن حسبة النتائج هذه متعذرة أصلا فيحال الدنيا وطبائعها، فما من معركة يمكن الحسم بنتيجتها قبل أن تبدأ.
وقد وقع في سيرة نبينا الأعظم � أنهُزِم جيش المسلمين، ووقع أن حاصروا مدينة ولم تفتح لهم رغم استبسالهم وجهدهم حتىتركوها ورحلوا، ولقد أرسل نبينا � سرايا في مهمات عسكرية، فمنها ما أبيد ولم يرجعمنها أحد! ومنها ما أبيد ولم يرجع منها سوى القائد وحده!! فإذا كان تقدير البشروعملهم قد مسَّ الخطأ فيه خير البشر وأولاهم بالعصمة، فكيف بمن هم دونه؟!
ولقد خاض جيش الصحابة بعد وفاة النبيفتوحا، فوقعت فيهم الهزيمة أحيانا، واستعصت عليهم المدن أحيانا، وانقلبت عليهم مدنبعد فتحها أحيانا.. فلو كان يشترط لقرار الجهاد التيقن من النصر والظفر لما قامللجهاد أحد!
وفي تاريخنا الإسلامي أمثلة تعز علىالحصر، يطول تتبعها، حول مدن صمدت أمام التتار وأمام الصليبيين وأمام القشتاليينوغيرهم، واستبسلت وقاتلت وكافحت ثم سقطت، فلم يكن جهادهم هذا عيبا ولا عبثا ولاخطئا.. بل كانوا أبطالا وخلدوا في ذاكرة الأمة أبطالا، وضربوا بأنفسهم المثلوالقدوة لمن في زمانهم ولمن جاء بعدهم.
وقد تكرر في تاريخنا الحديث وفي زمانناالمعاصر هذا انتهاء حركات إسلامية مجاهدة دون أن تحقق أهدافها في النصر والتمكين،فمنهم: عبد القادر الجزائري وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي وحسن البنا وسيد قطبوأمين الحسيني وغيرهم كثير.. فإن أمتنا التي لم تكف عن المقاومة، لم يتحقق فيهاالنصر والتمكين في هذا الزمان المعاصر إلا مرات معدودة، لشدة ما نحن فيه منالاستضعاف ولعظيم الفارق بيننا وبين عدونا في القوة، ولكثرة ما فينا من الخائنينوالمتخاذلين، ولعيوب أخرى ذاتية أيضا..
والقصدُ أن مرارة النتائج وقسوتها لاتبطل الأصل، فهذا الذي وقع كله لا يجعل الطريق خطأ ولا يجعل هؤلاء مخطئين، بل لقدأنزلت الأمةُ هؤلاء جميعا -وهم مهزومين، لم يبلغوا التمكين- منزلة الأبطال والكبارالذين مهدوا الطريق أو وضعوا لبنات في البناء!
فلو قد تحقق المخوف وقُضِي علىالمقاومة في غزة، فلن يكون هذا خطأ في الطريق وفي الجهاد.. فإن غاية ذلك أن يكونخطأ في التفاصيل والتقديرات، وليس هذا هو الخطأ الأعظم.. إنما الخطأ الأعظم أمرآخر أحدثك عنه بعد قليل!!
الذي أريد قوله الآن وهنا: أنه، وإنكان قرار طوفان الأقصى قرار استشهاد جماعي، فكم سبقهم إلى ذلك مجاهدون صالحون، ماكانوا يملكون إلا الصمود والصبر والدفع والدفاع، حتى أعذروا إلى ربهم وبذلوا أقصىجهدهم، ثم مضوا شهداء مخلدين، وبقي ذكرهم في التاريخ مخلدا!
(4)
أما الخطأ الأعظم حقا، بل الخطيئةالعظمى صدقا، فهو هذا التخلي وهذا الخذلان، بل هذه الخيانة لله ورسوله والمؤمنين.
فلو قد اتفقنا –جدل� وتنزلا- أن قيادةالمقاومة أخطأت بقرار الطوفان، فإن خطأهم في التقدير والتفاصيل لا يرفع عن الأمةوحكامها وجيوشها وأجهزة أمنها ومخابراتها وإعلامها واجب الجهاد والمساندة والدعموالنصرة لإخوانهم المذبوحين المضطهدين وإن أخطؤوا!
هذا هو الخطأ الذي ينحرف المتكلمون عنهولا يريدون الخوض فيه لأن الخوض فيه ذو تكاليف وأثمان.. فيهربون من تكاليف قولالحق في أصحاب الخطايا والخيانة لينهشوا بألسنتهم من بذل غاية جهده ثم أخطأ فيالتفاصيل وفي التقدير!
المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذلهولا يُسلمه!
ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وكانصادقا في الحديث عن الأخطاء وتوزيع المسؤوليات، فأوجب الواجب وأولى الأولويات أنيشير إلى هؤلاء الذين خانوا الله ورسوله والمؤمنين، وأسلموا أهل غزة وفلسطينليُذبحوا، لا بل عاونوا على ذبحهم، بحصارهم، وبإمداد عدوهم بالسلاح والمؤن، وبقهرشعوبهم ألا تنهض لنصرة غزة!
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليضرببسهم في قلب الخيانة، لا أن يوجه سهامه إلى قلب المجاهد الذي وقع منه الخطأ!
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلخيرا أو ليصمت!
(5)
وأخيرا.. هل أخطأ المجاهدون حقا أم كانتقديرهم صوابا؟
والجواب: لست أدري.. إنه ما من أحديملك جوابا شافيا على هذا غيرُ الذين اتخذوا هذا القرار، وبعضهم الآن شهيد عندربه..
لكنني أدري أمورًا أخرى قد تغيب عنحساب الذين يتحدثون عن المكاسب والخسائر.
اعلم أولا أن الشعوب، سائر الشعوب، تبعلقادتها.. فالقادة هم الذين يقدرون مصالحها وخسائرها، فيتخذون قرار الحرب وقرارالسلم دون عودة ولا استفتاء لشعوبهم.. فمن عجيب ما نحن فيه أننا ابْتُلينا بمن كانيريد من يحيى السنوار أن يستفتي أهل غزة قبل أن يقدم على قرار الطوفان!! يريد منهبذلك أن يكون أعظم ديمقراطية من تشرشل وأيزنهاور وبلير وبوش وغيرهم من قيادة الغربالديمقراطي (!!) الذين يخوضون الحروب ويسوقون شعوبهم إليها!
ما عرف التاريخ قوما يستفتيهم قائدهمفي قرار خوض الحرب قبل أن يفعلها، وإنما الذي كان ويكون وسيكون إلى يوم القيامة أنهذا القائد يقدر أن المصلحة في خوض الحرب فيحمل شعبه إليها، فإن أصاب وفاز سعدواجميعا، وإن أخفق وغُلِب دفعوا الثمن جميعا!
غير أن الذي أريد لفت الأنظار إليه هناأن حساب المصالح والمفاسد لا يكون مقصورا على لحظة الحاضر الواقع الآن، بل هو حسابيستدعي تقدير المآلات والمصائر!
دعني أقرب الصورة لك: لقد كان الأقصىمهددا بالهدم، واتخذ القوم من إجراءات التقسيم الزماني والمكاني، ومن طقوسهمالتعبدية التلمودية ما يشير إلى قرب نيتهم تنفيذ هذا الهدم.
فالآن.. تخيل أن لو لم يكن طوفانالأقصى قد حصل، ثم استيقظنا يوما على بدء عملية الهدم، بعدما اتخذت إسرائيل سائراحتياطاتها واحترازاتها السياسية والعسكرية والأمنية لتتم عملية الهدم بأهونسبيل.. ماذا كنت تحب أن يكون؟!
إن إسرائيل لا تخفي طموحها في هدمالأقصى وإقامة الهيكل مكانه! بل هذا هو مشروعها الذي تريده منذ أن نشأت، وهي تسعىإليه سعيها الحثيث، ولا يؤخرها عن فعله إلا أنها تخشى هبة وغضبة شعبية تطيح بها..
ولو أنك لم تنسَ لرأيت كيف كان موكبالتطبيع سائرا، حتى أنشأت بعض الأنظمة "الديانة الإبراهيمية" وصنعت بيتالهذه الديانة الجديدة، وافتتحت اتفاقيات سمتها الإبراهيمية لتبدأ عملية تطبيع، بلعملية صهينة محمومة للعرب والمسلمين، بلغت أن يدخل بعض اليهود إلى المدينةالمنورة، وأن ينفخ بعض حاخامتهم أبواقهم عند أطلال خيبر!
أريد أن أذكرك أن مسألة هدم الأقصىوالاستعدادات الجارية لذلك سياسيا واقتصاديا وأمنيا كانت على أشدها..
فلو كنتَ في موقع قادة المقاومة فيغزة، ورأيت هذا المآل بعين التوقع القريب، لكان قرار القيام بعملية استشهاد جماعيةإنقاذا للأقصى هو المصلحة.. بل هو المصلحة العظمى! إن إيقاف هدم الأقصى وتوغلالصهاينة إلى مكة والمدينة وخيبر ثمن يستحق أن ندفع من أجله عشرات آلاف القتلىومئات آلاف الجرحى!
دعنى أقدمها لك بصياغة أخرى: لو أنكاستيقظت يوما فوجدت الأقصى قد هُدِم، ثم قيل لك: قد كانت لدى المقاومة خطة اجتياحلغلاف غزة ولكن تقديراتها كانت أن هذا الاجتياح سيكلفها عشرآت آلاف القتلى ومئاتآلاف الجرحى، فصمتت ولم تفعل.. ماذا كنت تراك تقول أو تفعل أو تشعر؟!
ألن تشعر بأنك تحب أن تضحي بنفسك رخيصةقبل أن ترى بعينيك هدم الأقصى مسرى النبي ﷺ�!
هذا الذي أريد أن ألفت النظر إليه: إنحساب المصالح والمفاسد، حساب المكاسب والخسائر، لا يقارن بين وضع غزة قبل الطوفانوبعده.. بل يقارن بين وضع المسلمين والصهاينة والأقصى بالطوفان وبغير الطوفان!..عندئذ يعتدل الحساب!
ثم أعود فأكرر: لست أدري ماذا كان فيرأس قادة المقاومة حين اتخذوا قرارهم.. غير أن الذين أرى منهم كل هذه الأساطيرالعجيبة في القتال والصمود لا بد لي أن أحترم عقولهم ونفوسهم وتقديراتهم، وإن لمأكن قد عرفتها ولا اطلعت عليها!
وأعرف قبل ذلك وبعده أنه لا نهضة للأمةإلا بمثل هذه الأثمان الكبيرة المدفوعة.. مثلما لم تنهض أي أمة إلا بفضل تضحياتأبنائها، بمن في ذلك الملحدون والكفار الذين لا يرجون الدار الآخرة.
هذا هو الحساب البعيد.. حسابٌ فيهالجهاد ذا ثمرة، ولكن الثمرة بعيدة.. بعيدة الشقة!
ثمرةلا يصلح لها من لا ينهض إلا لو كان الجهاد عرضا قريبا!!نشر في مجلة أنصار النبي، ديسمبر 2024م
November 4, 2024
سنوار مان!.. حاشية على رثاء أبي إبراهيم!
في مؤتمر الذكرى الثالثة للهيئةالعالمية لأنصار النبي ﷺ� أنشد شاعر الثورة اليمنية فؤاد الحميري أبياتا بديعة يقولفيها:
شتان بين الشك والإيمان .. وشهود زورٍأو شهيد عيانِ
سقطت بطولة هُولِيُود وسحرُها ..وعَلَت بطولة تلة السلطانِ
هم مثلُ سوبرمانهم أكذوبة .. لكننا –صدق�-كسِنْوَرمانِ
(1)
كأن الغرب يشعر نقصا فظيعا في البطولةوالأبطال، فلم تزل آلته الدعائية تنهمر علينا بالأبطال المُخترعين الزائفين؛ فكمنشأنا ودرجنا على روايات هؤلاء وأفلامهم، فإذا الأطفال والناشئة يستلهمون أمثلة:سوبر مان (الرجل الخارق)، سبَيْدر مان (الرجل العنكبوت)، وأنواعًا من الفرسان فيكل موطن وسبيل. وإذا الكبار والكهول يستهلكون أصنافا من المقاتلين والأبطال الذينفرغوا من مهمات الأرض فطفقوا يحاربون في النجوم والكواكب والعوالم الموازية أويتصدون لغزو الكائنات الفضائية لهذا العالم!
قد كثرت القصص المخترعة والخيال العلميمن بعد ما تضخم التفوق الأوروبي حتى لم يعد يرى له في هذه الأرض قرينا ولا منافسا!
وتأمل في هذا ترى صدق ما أقول؛ فأيبطولة يفخر بها المرء إذ يستطيع أن يقتل، بإلقاء القنابل وهو في طائرة تعلو آلافالأميال على قومٍ من العُزَّل الذين لا يطالونه، أو حتى يقتل وهو في مركز للتحكموقد أرسل طائرة مُسَيَّرة يتحكم فيها كما يتحكم في الألعاب الإلكترونية، يرى الناسمن حيث لا يرونه، ويفتك بهم من حيث لا يدركونه؟!.. فمن كان هذا حالُه، وقد تجرد فيمعاركه من معاني البطولة، كان لا بد لأدبائه وروائييه وأهل الدراما والسينما فيهأن يخترعوا له أعداء فوق البشر، يأتونه في الأرض أو يذهب هو إليهم في السماء ليتمّله القتال الذي فيه معنى البطولة!!
وأشدُّ ما ترى فيه هذا النقص لدىالغربي هو الأخلاق؛ فإن الغربي مجرم منافق، وذلك أمر أصيلٌ في طبعه، لا سيما منذاعتنق العلمانية، فالأخلاق عنده وسيلة وأداة لا أكثر، يستعملها وينتهكها في تمكينتفوقه، وقد يفعل هذا في نفس الوقت واللحظة.. وقد ابتكر الغرب في منظومته السياسيةوظيفة "المتحدث الرسمي"، وهذه الوظيفة يتولاها أكثر الناس مهارة فيالتعامل مع المآزق الأخلاقية؛ فإن أردت بلوغ هذه الوظيفة فكن وقحا فصيحا، وكنباردا ماهرا في تغطية المواقف اللاأخلاقية بغلالة من الشعارات الأخلاقية، كن قادراعلى إنكار الشمس!
لهذا ترى الغربي حريصا على الأخلاقشغوفا بها، وذلك في رواياته وقصصه ودراماه وسينماه فحسب، يحاول بهذا أن يغطي نقصالأخلاق في طبعه، وتجرده منها في واقعه! مَثَله في هذا كَمَثل الذي يتعاطىالمخدرات ويدمنها لأن جسده قد توقف عن إفراز مادتها، فهو شغوف بها لأنه فاقدٌ لها،متشوق لها لأنه فارغ منها، حريص عليها لأنه عاجز عن استنباتها من نفسه مثل كلالأسوياء الأصحاء!
وحال هذا يكون أشد بؤسا وأشد حقدا وأشدتغيظا حين يرى مادة البطولة كلها قد جُمِعت في عدوّه، وليس يعرف طهر الفتاةالعفيفة إلا التي ارتكست في الفاحشة وأدمنتها، وليس يتغيظ الجبان إلا إذا أبهرالناسَ الشجاع، وليس يُفتضح البخيل بمثل ما يُفتضح إذا ظهر إلى جواره الكريم!
(2)
والحمد لله كثيرا، فقد جُمِعت في أمتنامادة البطولة، حتى كأن أمتنا نبع من البطولة المتفجرة المتدفقة، أبناؤها يقاتلونفي الساحات قتالا غير مسبوق ولا مشهود، قتال من لا يملكون شيئا في مواجهة منيملكون كل شيء!!
ماذا يكون معنى البطولة ومعنى الشجاعةومعنى البسالة ومعنى الإقدام إذا لم يكن هو مشاهد اقتحام المقاتلين المحاصرين منذسبع عشرة سنة في القطاع المعزول لأقوى دولة مدججة بالسلاح، وإعطائها صفعة مدوية انكسرتفيها سُمْعتها الأمنية وتضعضعت فيها هيبتها العسكرية؟!
كيف يمكن أن نصف البطولة والشجاعةوالإقدام والبسالة إذا لم نستعمل لذلك مشاهد الحافي الذي يخرج من فتحة نفق ليضععبوة ناسفة على الدبابة الأكثر تسليحا وتدريعا في تاريخ المدرعات؟! أو ذلك الذيقُطِعت ذراعه فكان يرمي بذراعه الثانية قذائف الهاون على عدوه، أو ذلك الذي سقطأمامه صاحبه الأول ثم الثاني فالتقط السلاح الوحيد ليواصل المعركة المحسومة بلاتردد؟!!
كيف نصف معنى الصبر والثبات ورباطةالجأش إذا لم نستعمل مشاهد أهل غزة من الشيوخ والنساء والصبيان وهم يعيشون المصائبالكبرى التي ينهار الناس لأقل من عشر معشار معشارها؟! ولئن نسيت فلست أنسى طبيبةتابعة لمنظمة غربية جاءت إلى غزة بعد جولة حربية فدُهِشت لأنها لم تر في غزة ماتراه في الغرب من مظاهر الانهيار والصدمة بعد الحرب!! فصارت تتعجب وتستغرب وقد ضربأهل غزة عقيدتها العلمية في الصميم، فلم تعد تدري: هل هؤلاء من البشر؟ أم أن العلمالذي درسته والتجربة التي خاضتها كانت خرافة وزيفا؟!!
ثم انظر وتأمل.. كيف اجتمع المشهدانمعًا في البقعة الواحدة!!
انظر إلى الجند المدجج بالسلاح، الذييلقي بأطنان الحميم من الطائرات البعيدة، ويستعمل أحدث التقنيات ليخوض بها الحرب،ثم هو يضرب المثل في قذارة الأخلاق، وفي التمتع بقتل النساء والأطفال والحيوانات،وبهدم المساجد والمستشفيات، وإذا شكَّ في وجود عدو له في مكان نفَّذ ضربة تقتلحوله مئات من البشر، ثم إذا اقتحم بيتا استخرج ملابس نسائه فلبسها الجنودوصَوَّروا أنفسهم بها؟!! ثم انظر إلى وليِّهم الغربي كيف لا يتوقف عن إمدادهمودعمهم، وهو الذي أسال أطنانا من الحبروأكواما من الأوراق في التنظير لحقوق الإنسان والحرب والأسرى... إلخ!
(3)
ولقد شاء الله تعالى أن يجتمع في مشهداستشهاد أبي إبراهيم يحيى السنوار هذا كله: البطولة الإسلامية المتدفقة حتى الرمقالأخير، والقذارة الصهيونية الصليبية الغربية المتلمظة الحقودة حتى الانتقامالأخير:
. مقاتل يقاتل فوق ظهر الأرض، بنفسه!
. أشعث أغبر باذل كل جهده، كما يحبربنا ويرضى
. وحيد بعد تفرق صحبه، أو هلاكهم معهأو دونه!
. صامد صلب حتى اللحظة الأخيرة! لم يجدإلا العصا فقذف بها يقاتل!
. ملثم حَرَمَ العدوَّ أن يتعرف عليهلئلا يُعتقل فتكون مذلة ومهانة له، وتكون مكسبا ومفخرة للعدو!
. جريح ينزف، لكنه ربط ذراعه الجريحبفمه ويده الأخرى، بحبل ليحول دون استمرار النزيف!
. لا هو في نفق (وليس عيبا لو كان) ولامتدرعا بالأسرى (وليس عيبا لو فعل)
. يصطحب عدته في القتال: سلاح.. ومعهاعدته الروحية: كتاب في الأدعية، ورقة في الأذكار، مسبحته.. وحبَّاتٌ يستعملهاالناس لتعطير الفم، فلا تدري أكانت له لذلك الغرض فتكون دليلا على نظافة وطيب، أمكانت له غذاء ضعيفا لم يجد سواه، إذ هو مقاتل محاصر؟!
وأما عدوُّ، فظهر على هذا النحو:
. مجرم يضرب بقذيفة الدبابة مقاتلاجريحا ليس بيده إلا العصا!
. جبان يتخوف من مقاتل واحد فيرسلبطائرة مسيرة تستكشف شأنه!
. مرعوب قضى يوما قبل أن يجرؤ علىاقتحام المنزل المتهدم فوق المقاتل الوحيد الذي فرغت جعبته!
. خبيث دنيئ سرق الجثة ثم هدم الدار!
وقد شاء ربك مزيد فضح لهذا العدو ومزيدبث لكرامة السنوار، إذ أذيع هذا كله على يد العدو نفسه، ولا أحد يدري، لعل الشهيدكانت له مناقب أخرى ظاهرة لكن العدو حجبها وكتمها!!
(4)
كان الشاعر العراقي الكبير أحمد مطر قدأنشد، ربما قبل ثلاثين سنة أو يزيد، قصيدته البديعة التي يقول فيها:
وجوهكم أقنعة بالغة المرونة..
طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة..
صفق إبليس لها مندهشا وباعكم فنونه..
وقال: إني راحل.. ما عاد لي دور هنا..دوري أنا، أنتم ستلعبونه!
أكلما نام العدو بينكم رحتمتقَرِّعونه؟!
وغاية الخشونة أن تهتفوا: "قم ياصلاح الدين".. حتى اشتكى مرقده من تحته العفونة!
كم مرة في العام توقظونه؟ أيطلبالأحياء من أمواتهم معونة؟!
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترمواسكونه..
لأنه لو قام حقا بينكم.. فسوف تقتلونه!!!
نعم.. لو كان صلاح الدين قد قام لكانمصيره كمصير السنوار، أو حازم أبو إسماعيل، أو إسماعيل هنية، أو غيرهم ممن امتلأتبهم السجون والمنافي والقبور!!
فلو أننا ذهبنا نقرأ التاريخ ونطالعسيرة صلاح الدين، ثم ارتددنا بعدها فجئنا ننقد أنفسنا وتجربتنا ونتأمل في واقعنالكان لزاما علينا أن نقول: ما بلغ صلاح الدين ما بلغ من التحرير والنصر إلا بعد أنانتهى من الخونة الذين كانوا يطعنونه في الظهر، فما استقام لصلاح الدين تحرير بيتالمقدس إلا حين كسر الأمراء الذين حكموا بلاد الشام وكانوا حلفاء للصليبيين وعقبةفي طريق التحرير!
ولقد حاول صلاح الدين أن يتجنب طريقكسرهم، وأن يتألفهم، وأن يعدهم ويمنيهم ويعظهم ويرجيهم، فما استطاع.. هذا وهوالمعروف بأنه المثال في الرحمة واللين والعفو، حتى لقد أخذ عليه بعض المؤرخينإفراطه في العفو والصفح! فلئن كان هذا المغالي في العفو والصفح قد عجز عن أن يجدطريقا لتحرير بيت المقدس قبل أن يكسر الخونة الذين ثووا في ظهره، فكيف بغيره؟!
ستظل البطولة التي تتفجر بها أمتنامحبوسة طالما بقي الخونة، فإن تفجرت وتدفقت رغما عنهم فستبقى مطاردة لتنتهي مغدورةمذبوحة!
وهذا هو الطريق..
هذا هو الطريق الذي تهدي إليه بطولةالسنوار الشهيد..
(5)
لما رجعت إلى البيت بعد انتهاء مؤتمرالهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ� وقد كنتُ ممتلئا بأبيات فؤاد الحميري عن"السنوارمان"، وجدتني أمام قصيدة أخرى طازجة؛ فعرفت أنه بينما كانصاحبنا الشاعر اليمني في إنشاده، أخرج الشاعر الفلسطيني المعروف تميم البرغوثيقصيدته الأعظم في رثاء السنوار، وتلك قصيدة من بديع الكلام والنظم، وتحتاج وقفاتووقفات، ولا قليل عليها إذا أقيمت لها مجالس الشروح والحواشي، أتركها هنا، تحينالفرصة قادمة إن شاء الله..
قال تميم:
ألا كم كريم عده الدهر مجرما .. فلماقضى، صلى عليه وسلما
أبو القاسم المنفي عن دار أهله ..وموسى بن عمران وعيسى بن مريما
أتعرف دينا لم يُسَمَّ جريمةً .. إذاضبط القاضي بها المرءَ أُعْدِما
صليبٌ، وقتل في الفراش، وعسكر .. بمصر،وأخدود بنجران أضرما
وطفل وديع بين أحضان أمه .. يراوغ جيشافي البلاد عرمرما
وقلَّ نبيٌّ لم تلاحقه شرطة ..وأشباهها في كل دهر تصرما
فمن جوهر التوحيد نفي ألوهة الـ ..ملوك، لذا لا زال دينا محرما
وفرعون والنمرود لم يتغيرا .. بقرنيْنأو ربطات عنق تهندما
ونحن -لعمري- نحن منذ بداية الـ ..خليقة، يا أحبابنا، وهما هما
مُسَيَّرة في شرفة البيت صادفت ..جريحا وحيدا يكتسي شطره دما
قد انقطعت يمناه وارتض رأسه .. فشدَّضمادا دونه وتعمما
وأمسك باليسرى عصا كي يردها .. فكانتذبابا كلما ذُبَّ حَوَّما
وما أرسلت إلا لأن كتيبة .. من الجندخافت نصف بيت مهدما
وقد وجدوه جالسا في انتظاره .. أظن -ومنتأخيرهم متبرما
ولو صوَّرت تحت اللثام لصوَّرت .. فتىساخرا ردَّ العبوس تبسما
تلثم كي لا يعرفوه لأنهم .. إذا عرفوهفضَّلوا الأسر ربما
ولو أسروه، قايضوه بعمره .. لذاك رأىخوض المنية أحزما
فلم يتلثم كي يصون حياته .. ولكن لزهدفي الحياة تلثما
فقل في قناع لم يلف لسلامة .. ولكنشعارا في الحروب ومعلما
وقل في جموع أحجمت خوف واحد .. وفيجالس نحو المشاة تقدما
أتى كل شيء كي يسوء عدوه .. ولم يأتشيئا في الحياة ليسلما
رمى بالعصا جيش العدو وصية .. لمن عندهغير العصي وما رمى
رمى بالعصا لم يبق في اليد غيرها ..ومن في يديه العسكر المجر أحجما
غدا مضرب الأمثال منذ رمى بها .. لكلفتى يحمي سواه وما احتمى
جلوسا على الكرسي مثل خليفة .. يبايعهأهلوه في الأرض والسما
فذلك عرش يرتضيه ذو النهى .. وذاك إمامقبلة السعد يمّما
هنا يصبح الإنسان دينا مجردا .. ويصبحدين الناس شخصا مجسما
أتعرف إن الموت راوية الفتى .. يقوللحقٍّ أم لباطل انتمى
يعيشالفتى مهما تكلم ساكتا .. فإن مات أفضى موته فتكلماالموقع الذياستشهد فيه يحيى السنوار يعرف بحي "تل السلطان" في مدينة رفح.
October 2, 2024
أمةٌ بين العجز والخذلان
إنما مثلنا ومثل هذا الواقع الذي نحنفيه، كَمَثل قومٍ وُلِدوا في سجن، لم يعرفوا من الحياة غير السجن، وقد درجوا علىذلك وألفوه حتى لم يعرفوا غيره! فهم يرون زنازينه بيوتا وأوطانا، ويرون سجانيهحراسا، ويرون تقسيم العمل فيه نظاما، ويرون مديره زعيما ورئيسا!
فلئن سألتَهم: ماذا تحبون؟ وفيمترغبون؟ كان مناضلهم وأشجع من فيهم هو من ينبعث ليقول: نريد زيادة وقت التريض،والتحسين من جودة الطعام، وإصلاح أحوال المستشفى لتقديم الرعاية الصحية الملائمةللمواطنين، وتعديل القوانين المنظمة للإدارة لكي يتحسن تعامل الحراس مع النزلاء فيأثناء تنظيم الخروج والدخول!
فلئن اكتفى هذا "الشجاع، المناضل،المغوار" بالكلام والمناشدة والنداء، فهو يعمل وفق القوانين القائمة، وقدينظر إليه مدير السجن إن كان "صالحا" بعين العطف والعناية، وإلا فقديتخوف من أن هذا الكلام هو أول العمل كما أن النار هي من مستصغر الشرر، فيعمل علىعقوبته كي لا تنتشر أفكاره التي تهدد "نظام" السجن، وتشجع أولئك النزلاءعلى التمرد!
وأما إن كان هذا "الشجاع،المناضل، المغوار" أوسع من ذلك حيلة، فلم يكتفِ بالكلام، وإنما سعى في العمل،فإنه المتمرد الإرهابي الذي يجب أن يؤدب وأن يكون عبرة لمن يعتبر! وعظة لمن يتعظ!
ولكن.. ما هو هذا العمل الذي سيجعلهعبرة؟!
إنما هو كأن يشاكس الحراس في مواعيدالخروج والدخول إلى الزنازين، فيسعى لانتزاع وقتٍ أطول من أوقات التريض، أو أنيقاوم معترضا صفعة وضعها حارسٌ على قفاه دفاعا عن نفسه وكرامته، أو أن يسعى سرًّاوبالحيلة لتهريب سجين إلى المستشفى قبل أن يستكمل أوراقه وإجراءاته الإدارية، أوأن يعمل في تثوير النزلاء للمطالبة بحقوقهم المكتوبة في دستور السجن! أو نحو هذا!
إنه، إذن، سجين خطير، وهو قد خرج عنالقوانين وخالفها حين فكَّر في انتزاع بعض الحقوق لنفسه، ولم يلتزم بالوسائلالقانونية السلمية المشروعة التي تحكم عمل السجن!
ولهذا فقد انقسم حول الرأي فيه: إدارةالسجن والسجناء معًا؛ فقوم يقولون: إن الكبت يولد الانفجار ولا بد من إصلاح منظومةالقوانين الحاكمة لتهدئة التوتر، ولكي يعود السجناء والحراس والإدارة يدا واحداةوشعبا واحدا، في ظل منظومة أفضل. وقومٌ يقولون: بل لا بد من الحسم والحزم إزاءأولئك المتمردين المشاكسين، فالنظام نظام! والالتزام التزام! والقوانين القائمةيجب أن تُصان وألا تُمَسَّ هيبتها، ولئن حقق هذا المتمرد المشاكس بعض مطالبه بطريقالتمرد هذا فإن هذا لتشجيعٌ وتحريض لغيره على أن يتمردوا ليحققوا ما يشاؤون، فأينتذهب هيبة القانون والإدارة والسجن والحراس والرئيس؟!.. بلى، إنه لإرهابي يريد أنيبدلكم من بعد خوف أمنا، ومن بعد نظام فوضى، ومن بعد حكم القانون حكم الغابة!
وما يزال النقاش ساخنا ودائرا بيننزلاء السجن من جهة، وبين إدارة السجن من جهة، وبين الفريقين من جهة أخرى!
يتناقش السجناء: هل ما نحن فيه الآننعمة تستحق الشكر؟ أم نحن نستحق خيرا من هذا؟ ألا تشاهدون في التلفاز والصحف كيفتبدو السجون الأخرى في هذا المُجَمَّع؟! ألا تنظرون إلى لون الزنزانة في هذاالمجمع الغربي واتساعها؟ ألا ترون كيف هي المستشفى متطورة عندهم؟ ألا ترون الحارسمنهم كيف يعامل النزيل باحترام وتقدير؟ ألا ترون كيف أن أوقات التريض عندهم ضعفيْوقت التريض عندنا؟!
ويتناقش السجانون أيضا: هل يستحق هؤلاءالنزلاء تحسين أوضاعهم أم أنهم كالكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فإذاحصلوا على شيء طمعوا في غيره؟! وهل يصلح عند هؤلاء الناس مثل ما يصلح في المجمعالغربي المتقدم المتطور ذي التعليم والثقافة والأموال الكثيرة؟! وهل حقا كان الكبتهو الذي أدى إلى الانفجار في موجة التمرد السابق، أم أن قلة الكبت وضعف القبضة هوالذي سمح بهذا الانفجار؟!
وبينما يسود هذا النقاش بين السجانين،وبين المساجين أيضا، إذ نبت في الناس قوم يقولون: يا أيها الناس، هل هذه أوطان أمهذه سجون وزنازين؟! وهل هؤلاء حرس يحفظوننا من أخطار الخارج أم هم سجانون لا همّلهم إلا قهرنا وكبتنا والسيطرة علينا؟! وهل هذا الذي يحكمنا نظام وقانون لخدمتناوتحقيق مصالحنا وتنظيم حياتنا أم أنه نظام وقانون لشرعنة وتقنين حبسنا وإذلالنا؟وهل حقا أن منتهى طموحاتنا أن يكون السجن لدينا نظيفا ملونا متسعا مثل سجون المجمعالغربي؟! إن المجمع الغربي نفسه يعيش في سجون وتحتاج شعوبه إلى التحرير مثلمانحتاج إليها!
بدا الكلام كأنه منبعث من الخيالالبعيد، فغر الجميع فاه! وحاول أن يتأمل هذا الكلام الجديد! إنه نوع جديد من"الإرهاب" فيما يبدو! وهو نوعٌ لا يستهدف شخص الرئيس مدير السجن، ولامجموعة قوانين ضمن لائحة السجن! إنه كلام يستهدف طبيعة النظام نفسه، وبنية السجننفسها! إنها إذن دعوة إلى الفوضى! الفوضى التي يسميها حرية وتحريرا! كيف نخرجبهؤلاء الناس من هذا "الوطن" الذي يسميه سجنا؟!.. وهل في الدنيا شيء إلاالأوطان التي يسميها: السجون؟!.. وهل يستطيع الناس أن يعيشوا بغير قانون ونظامكالذي يحكمهم داخل هذه الأوطان التي يسميها سجونا؟! وكيف يمكن للمرء أن يُعالج إنلم توجد مستشفى السجن؟ أو أن يتعلم إن لم توجد مدرسة السجن؟ وفيم يعمل إن لم يوجدمحجر السجن ومصنعه ومزرعته؟!
***
إنه –عزيز� القارئ- حوار شبيه بحوارالجنينيْن في بطن أمهما، الذي ينسب للكاتب اليوناني ديمتري إفرينوس، والذي أراد بهالكاتب أن يشير به إلى وجود حياة أخرى بعد الموت:
يُروى أن توأميْن في بطن أمهما دار اندلعبينهما حوار، قال أحدهما: هل تعتقد بوجود حياة بعد الولادة؟
فقال الآخر: لا يمكننا أن نتأكد فلميعد أحد الولادة ليخبرنا، لذلك أنا لا أعتقد بوجود حياة بعد الولادة، ويكمل متهكماإذا كانت هناك حياة بعد الولادة ماذا عساها تشبه؟! كيف سنحيا خارج الرحم بهذاالحبل السري القصير؟ كيف سنمشي بهذه الأطراف الرخوة؟!! إنها خرافات لا تصدق..
-لا أدري ولكنى أعتقد أن الأم ستساعدنا!
-ومن أخبرك بهذا.. ليس هناك شيء اسمهأم!
-إذا أنت لا تؤمن بوجود بالأم؟
-أنا لا أؤمن بوجود شيء لا أراه ولاأستطيع أن أسمعه أو ألمسه ولا دليل على وجوده، إذا كانت الأم موجودة فلتظهر نفسها!
-إن الأم تحيط بنا من كل اتجاه، نحنبداخلها، نحن أبناؤها، جائت بنا إلى الحياة كما أن الغذاء يأتينا منها، ليسبمقدورك أن تراها، لكن إن هدأت قليلا ستسمع صوتها وتشعر بها تربت على الرحم،وستشعر بحنانها يغمر قلبك ويطمئنك!
-يالك من غبي حقا، الغذاء يأتينا منالحبل السري يا جاهل، وليس من الأم التي لا نراها ولا دليل على وجودها، كما أنالأم لم تأت بنا، نحن تَكَوَّنَّا داخل هذا الرحم عن طريق اختراق الحيوان المنوىلجدار البويضة، هذا هو التفسير العلمي لوجودنا أيها الأحمق، وليست الأم التياخترعتها أنت! إذا كانت هذه الأم حنونة وتحبنا لهذه الدرجة، فلماذا تركتنا في هذاالمكان المعتم الضيق، ستتركنا هكذا لا نستطيع الحركة بحرية حتى تنتهى حياتنابالولادة ونحن مسجونين هكذا!.. يالك من غبي تؤمن بالخرافات!
-لست غبيا ولكن أنا أؤمن بوجود الأم،وأن الولادة هى بداية الحياة، لأن هذا هو الاستنتاج المنطقي، فلا يعقل أن يأتيناالغذاء من العدم، لابد له من مصدر، كما أنه لا يعقل أن تأتي البويضة من العدم هكذالابد لها من مصدر أيضا!.. وبالتأكيد إذا كانت هناك أم أتت بنا فإنها لن تتركنا بعدالولادة وسترعانا وتعتنى بنا..
-ضاحكا: أنت غبي جاهل متخلف تؤمنبالخرافات أنا أذكى منك! ...إلخ
***
في الواقع، فإن هذا الجنين الملحد! هوأعقل من الملتبس بواقعنا هذا! فإن الجنين لم ير الدنيا، بينما أهل هذا الواقعيعلمون بأدنى استنتاج منطقي أن هذا النظام، نظام الدولة الحديثة، لم يكن يحكم حياةالبشر إلا في هذه القرون الأخيرة، وعمره في بلادنا يزيد قليلا عن القرنيْن فحسب،فليس هو من ثوابت الكون ولا من حقائق الحياة!
نحن قومٌ مساجين، وأشد ما في هذا السجنمن سوء، أن الناس لا يشعرون أنهم في سجن، بمن في ذلك طائفة كبيرة من شجعانهمومصلحيهم، لقد تلوثت العقول وفسد الخيال حتى صار الشجاع المصلح يطلب إصلاحا وصورةعلى ذات النمط، لكن بشروط أفضل للعبودية!
نحن قومٌ مسلمون، عمرنا في هذا العالمالآن أكثر من أربعة عشر قرنا، لدينا نظام حياة سابق على هذه السجون الحديثة التيجعلت سلطة الحكم تتحكم وتمسك بكل تفاصيل الحياة وأنشطتها، فهي تراقب حتى التغريداتالتي نكتبها، وتتحكم في الأموال التي بأيدينا، وتحدد لنا مناهج التعليم التي تشكلوعينا، وتسيطر على نوافذ الثقافة والإعلام التي نبصر بها الحياة، وتطلب منا أنننتمي إليها ونواليها ونخلص لها ونضحي بدمائنا في سبيلها، أي أنها تطلب منا علىالحقيقة أن نعبدها! فقانونها شريعة، وعلمها الوطني راية، ودستورها قرآن، والموتعند حدودها ومن أجل ترابها شهادة! وكل ما هو تحت حدودها خاضع لها ولها السيادةعليه، لا تُسأل عما تفعل ونحن نُسأل حتى عما لم نفعل!!
ها هم أهل الزنازين والسجون يرون أنزنازينهم تحجزهم وتمنعهم عن نصرة إخوانهم المذبوحين في غزة وفي لبنان ومن قبلها فيالشام والعراق وأفغانستان والبوسنة وكوسوفا، ومن استطاع التسلل منهم إلى تلكالأنحاء ليجاهد فيها قد صار إرهابيا مطلوبا للعدالة!! تأمل.. للعدالة!!
الأمة لم تخذل غزة ولا غيرها.. الأمةمحبوسة عاجزة عن نصرة غزة وعن نصرة غيرها..
ولكن الخذلان الحقيقي، هو البقاء فيحالة الضعف هذه، بل في حالة الاستسلام هذه لأنظمة قد ثبتت خياناتها وعمالتهاوتواطؤها مع العدو وولاؤها له.. هذا هو الذي يجعل الضعف خذلانا، فننتقل من الأمرالذي نحن معذورين فيه شرعا، إلى الحال الذي نحن فيه آثمون!
إن نظامنا الإسلامي الذي ساد قرونا فيهذه الدنيا، غلَّ يد السلطة أن تتغول وتتمدد وتهيمن على سائر أنشطة المجتمع، وهوأيضا النظام الذي أسس لاستقلال الأمة بأموالها ومواردها، وحثها على أن تقاوم أيتغول على شأنها وأمرها! ومن قرأ شيئا يسيرا في أبواب كثيرة من كتب الفقه والتاريخعرف بوضوح أننا الآن في وضع احتلال هو أسوأ من كل احتلال ابتلينا به؛ إنما هواحتلال مغلف بقشرة وطنية ومطليٌّ بطلاءٍ إسلامي، ولكنه أفتك من كل احتلال أجنبي..طالع مثلا أبواب: الأوقاف، وإحياء الأرض، ومصارف المال، وزكاة الركاز والمعادن،والضرائب والمكوس، الاحتكار، التسعير، والظفر بالحق، تغيير المنكر، والحسبة علىالسلطان... إلخ!
من قرأ شيئا من الشريعة علم أنها تصنعمجتمعا قويا أمام سلطة محدودة الصلاحيات، وتُمَكِّن الأمة من مواردها الماليةومواردها البشرية، وما السلطة فيها إلا حالة تنظيم حارسة لا حالة سيطرة متوغلةومهيمنة، وأنها تتولى الملفات العامة الكبرى كالأمن والدفاع وما يتعلق بهما!
أما الآن، فقد أنشأ الاحتلال الغربي فيبلادنا دُوَلًا على نمط دوله، زنازين جديدة، وضع عليها أسوأ أنواع عملائه،يحكموننا بقوانينه ومزاجه، ويُمَكِّنونه من أموالنا ومواردنا وعقولنا بل ومنأجسادنا كذلك!
الخذلان حقا أن نبقى مرتاحين في هذاالسجن! وألا نعمل على تحطيمه والتحرر منه!
نشر في مجلة أنصار النبي، أكتوبر 2024م
September 4, 2024
أنوار الدجى
لا بد للأمة المستضعفة التي تحاولالنهوض من تقديم الشهداء في سبيل ذلك، هذا قانون الدنيا الذي يعرفه المسلموالكافر، الصالح والطالح، بل هو إجماع العقلاء!
ولئن كان المرء يعرف بالبديهة والطبعأنه لا نجاح في الدنيا بغير التعب والجهد، فبمثل ذلك –ب� هو أولى منه- أن لا نهضةلأمة ولا عز لها ولا مجد ولا جاه إلا ببذل الشهداء! فما وصلت أمة إلى السيادة إلىبعد طريق الكفاح المرير! وانظر حولك وفتش في الأمم وفي التاريخ: هل رأيت أمة غلبتوسادت إلا بعد أن انتصرت في المعارك؟!
ولهذا ترى الأمم تمجد شهداءهاومقاتليها أكثر مما تمجد مهندسيها ومعمارييها وفنانيها، فلولا الحروب والانتصارفيها ما استطاع المهندس والمعماري والفنان أن يصنع شيئا! فالمقاتل والشهيد همصُنَّاع المجد وأساسه، وأما البقية فهم أصحاب زخرفته وتزيينه وتلميعه!
وقد صدق شوقي حين قال:
ولا يبني الممالك كالضحايا .. ولايُدْني الحقوق ولا يُحِقُّ
ففي القتلى لأجيال حياة .. وفي الأسرىفدى لهمُ وعتق
وللحرية الحمراء باب .. بكل يد مضرجةيُدقُّ
(1)
ليست أمتنا في قوانين الدنيا بدعا منالأمم، ولكنها كذلك في المعاني التي تهيمن عليها وتصوغ نفسها ومزاجها، فلن تنتصرأمتنا ولن تنهض ولن تسود إلا إذا خاضت المعارك وانتصرت فيها ووضعت خيرة أبنائها فيمنازل الشهداء. لكن الشهداء في ديننا ليسوا الثمن المدفوع في سبيل المجد فحسب،ولكنهم السادة الراقون إلى ذروة سنام الإسلام! الصاعدون إلى أعالي الجنان!
ولأن الله هو خيرُ من سُئل وأجود منأعطى وأوفى من وعد، فإنه كافأ الذين بذلوا حياتهم له تصديقا بما وعد وتنفيذا لماأمر، كافأهم بدوام الحياة، ولهذا قال تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِيسَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]. وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِأَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَاآتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوابِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُأَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169 - 171].
قال إمام التفسير ابن عطية الأندلسي فيهذه الآية: " أخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء: أنهم في الجنة يرزقون.هذا موضع الفائدة، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حيةكأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيادائمة لهم".
وأخبرنا نبينا أنه ما من أحد يدخلالجنة فيتمنى أن يعود إلى الدنيا، إلا الشهيد، وهو إنما يتمنى ذلك ليعاود القتالفيُقتل من جديد، ففي حديث أنس عن النبي � أنه قال: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجعإلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتلعشر مرات لما يرى من الكرامة».
ولقد تمنى نبينا � هذه المنزلة لنفسه،وهو أفضل البشر وسيد المرسلين، ففي حديث أبي هريرة أنه � قال: والذي نفسي بيده،لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأُقتل، ثم أحيا ثم أُقْتَل، ثم أحيا ثم أُقتل!
بل إن الذي خرج إلى الجهاد، حتى لو لميُقْتَل ولم ينل الشهادة، يعطى من الأجر ما لا يعطاه أحد غيره، وقد سُئل � عن عمليعدل الجهاد، فقال: «لا أجده». ثم قال �: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخلمسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟»، قال: ومن يستطيع ذلك؟. ثم أضاف أبوهريرة، راوي الحديث، عبارة تفسيرية مدهشة يقول فيها: «إن فرس المجاهد ليستن فيطوله، فيكتب له حسنات»،أي أن المجاهد يُعطى أجرا على المرح الذي يمرحه حصانه!!
والآيات والأحاديث في فضل الشهادةوالجهاد كثيرة لا يستوعبها هذا المقام..
(2)
المقصود أن هذا الحشد الحافل من النصوصالقرآنية والنبوية، ومعها تلك السيرة المزدحمة بأخبار الشهادة والجهاد منذ زمنالنبي والصحابة والتابعين ومن بعدهم، كل هذا قد جعل أمتنا دفاقة بالمجاهدين فياضةبالشهداء، ولولا هذا كله ما بلغنا السيادة والتفوق والعزة التي كنا فيها لألف سنةتقريبا، لقد بُنِي هذا المجد كله على صرح من الأشلاء والجماجم التي بذلها أصحابهافي سبيل الله!
وقد استطاع المسلمون أن يوازنوا بينأمريْن لا يمكن لغيرهم الموازنة بينهما، فهم قوم يكرهون القتال، كما وصفهم ربهم فيالقرآن الكريم، ويُقَدِّمون عليه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبدؤون دعوتهمبالحجة واللسان والبيان، فإذا تعذر ذلك أقدموا على الجهاد إقدام من يحب الموتويطلبه ويشتاق إليه ويتعشقه! وما ذلك إلا لأنهم علموا أن الخير فيما كتبه اللهوقدَّره، وهو العليم، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌلَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْتُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
ومن هنا فقد كان جهاد الأمة مفارقاللوحشية التي اصطبغت بها حروب الأمم الجاهلية، وكانت أخلاقها عاصمة لها من تكرارسيرة الغزاة السفاحين السفاكين. وفي ذات الوقت لم يكونوا الجبناء المتخاذلين ولاالضعفاء الخوارين!
قال مؤرخان فرنسيان نظرا في تاريخالإسلام بين تاريخ الأمم: "الإسلام دين أبطال أكثر منه دين شهداء، ففور وفاةالرسول، ستنطلق القوة الهائلة التي كان قد أنشأها لفتح العالم"،وقولهما: دين شهداء إنما قصدوا به المعنى النصراني للشهادة، معنى الموت المستسلمأمام طواغيت الدنيا لأن ملكوت الرب لن يتحقق إلا في الآخرة.
وكما يقول ولفرد كانتول سميث: "النصرانيةأرجأت تحقيق ملكوت الرب إلى الآخرة، على اعتبار أنه مستحيل التحقيق في الحياةالدنيا، لأن الإنسان خاطئ بطبعه، قاصر بطبعه، معوج بطبعه، فلا يمكن أن يستقيم. أماالإسلام فقد اعتبر تحقيق ملكوت الله هو مهمة الإنسان في الحياة الدنيا لا فيالآخرة، ولذلك يسعى المسلمون دائما إلى محاولة تطبيقه، وإلى تقويم عجلة التاريخكلما انحرفت عن الطريق ولو ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك، ومن ثم فإن التضحية فيالإسلام له حصيلة إيجابية في واقع الأرض هي محاولة تقويم هذا الواقع وإصلاح مااعوج منه، بينما التضحية في النصرانية ذات مفهوم سلبي، مؤداه أن يقف النصراني أمامعجلة التاريخ المنحرفة لا ليقومها ولكن لتدوسه وهو واقف مكانه، فهو يفضل أن تدوسهالعجلة وتقتله على أن يسمح لها أن تتجاوزه وهي منحرفة، ولكنه لا يبذل جهدا لتصحيحمسارها وردها إلى الصراط المستقيم".
إن هذه المعاني الفكرية المنحوتة التياستخلصها أصحابها بعد البحث والتأمل تتسرب إلى المسلم وتتشربها الجموع المسلمة فيسلاسة وعذوبة وروحانية رفيعة في مصادرها الإسلامية، وخذ هذا المثال: لقد كتب ابنالنحاس كتابا في فضل الجهاد والشهادة، فأسماه بهذا الاسم الفاخر: "مشارعالأشواق إلى مصارع العشاق، ومُثير الغرام إلى دار السلام"، وقال في مقدمته:
"ومما يجب اعتقاده أن الأجل محتوم،وأن الرزق مقسوم، وأن ما أخطأ لا يصيب، وأن سهم المنية لكل أحد مصيب، وأن كل نفسذائقة الموت، وأن ما قدر أزلا لا يُخْشَى فيه الفوت، وأن الجنة تحت ظلال السيوف،وأن الرِّيَّ الأعظم في شرب كؤوس الحتوف، وأن من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمهالله على النار، ومن أنفق دينارا كُتِبَ بسبع مائة -وفي رواية- بسبع مائة ألفدينار، وأن الشهداء حقا عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تتبوأ منالجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يغفر له من جميع ذنوبه وخطاياه، وأنه يُشَفَّع فيسبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه أَمِن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لايجد كرب الموت ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمس القرصة، وكم للموتعلى الفراش من سكرة وغصة، وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضل من الصائم القائم فيسواه، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النارَ عيناه، وأن المرابط يجري له أجر عملهالصالح إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يوما من أيامه، وأن رزقه يجري عليهكالشهيد أبدا لا ينقطع، وأن رباط يومٍ خير من الدنيا وما فيها أجمع... إلى غير ذلكمن الفضل الذي لا يضاهى، والخير الذي لا يتناهى. وإذا كان الأمر كذلك فيتعين علىكل عاقل التعرض لهذه الرتب وإن كان نيلها مقسوما، وصرف عمره في طلبها وإن كان منهامحروما".
(3)
من نظر في التاريخ عرف بغير كثير ونظروتعب أن ما نحن فيه الآن من الذلة والضعف إنما كان بسبب التهاون في الجهاد،والتراخي فيه، حتى تركه بالكلية. فما إن وقع التكاسل في باب الجهاد هذا حتى بدأتالأمة يُنتقص من أطرافها، ويدخل عدوها عليها، حتى صرنا إلى هذا الحال الذي نحنفيه.
ولأننا اليوم أمة مستضعفة فلا بد أنتتنوع فينا أنواع القتل، وتتكاثر فينا أصناف الشهداء:
فثمة من يقتل في جهاد يدفع بها الكفرةالمحتلين، كما يفعل أهل غزة وأهل فلسطين الميامين وهم يدفعون الصهاينة ويصاولونهم،يوقفون أنفسهم على مهمة حماية الأقصى أن يُهْدَم وأن يُستباح وأن يعود كما كان فيأيام الصليبيين حظيرة خنازير، أو كما يراد له أن يكون في خيال اليهود: معبدًايُساء لله فيه!
وثمة من يقتل في جهاد الجبابرةوالطواغيت، عملاء المحتلين الذين يبغضون الدين ويطاردون المؤمنين ويُمَكِّنون فيأرض الإسلام للصهاينة والصليبيين والوثنيين، كما يفعل أهل الثورات والجهاد المباركفي الشام وفي غيرها من بلاد الثورات، ومؤخرا التحقت بهم بنجلاديش، والتي نسأل اللهأن يجنبهم زلل الثورات العربية وأخطاءها، وأن يجنبهم أولياء طاغيتهم التي أزالوها،فإن من وراء طاغيتهم دولة وثنية حقود كؤود هي الهند التي تعيش الآن عصرا هندوسيامتعصبا!
وثمة من يقتل في جهاد البغاةوالصائلين، وأولئك هم عملاء عملاء المحتلين، كما يحدث في السودان الخصب الحبيب،الذي تسلط عليه السفاح المجرم حميدتي، الممدود بحبل شيطان العرب ابن زايد، والذييقترف من جرائم القتل والاغتصاب والتعذيب ما ليس معروفا أنه كان في تاريخ السودان،إذ أهل السودان من أطيب الناس وأكثرهم هدوءا، وهو ثاني اثنين من بلاد العرب –معموريتاني�- يمكن أن يعيش فيها رئيس سابق، ولعلها الوحيدة التي يعيش فيها قائدانقلاب عسكري إذا فشل انقلابه!! وذلك لشدة ما عند القوم من اللين والتسامح! فأيشيطان هذا الذي أفسد أهل السودان حتى أحدث فيها هذا الحدث العظيم الشنيع؟!
وثمة من يُقتل صابرا محتسبا قابضا علىدينه كما في تركستان الشرقية وأراكان المنسية، وغيرها من البلاد التي اشتدت فيهاوطأة الكافرين وانعدم فيها النصير للمؤمنين، ومثلهم في ذلك مثل من يموت في سجونالأنظمة العربية: إما تحت التعذيب، وإما بالترك ينهشه المرض ويؤخر عنه العلاج حتىيموت!
وهؤلاء جميعا هم ثمن الهزيمة المدفوع،ولعلهم يكونون في ميزان سيئات من تركوا الجهاد قديما، وإنه لمريع مروع أن يتصورالمرء كيف ستكون موازين الذين تركوا الجهاد إذا عاقبهم الله فوضع في موازينسيئاتهم كل هؤلاء القتلى والجرحى والمقهورين!
ولكنهم مع ذلك هم وقود النهضة القادمة،فهم الذين يمهدون السبيل ويعبِّدون الطريق، وفي موازين حسناتهم سائر انتصاراتالأمة الآتية، وإنه لأمر هائل عظيم أن يجد الشهيد في ميزان حسناته ملايين الناسالذين اهتدوا لموته، واقتدوا بسيرته، واستفادوا من ثمرة عمله!
(4)
لئن كان المرء لا يختار زمانه ولامكانه، فما له إلا أن ينظر ويتأمل لمَ هيَّأه الله وفيمَ أقامه، فلا اعتراض علىقدر العليم الخبير، وهل للعبد الجاهل الغرير أن يعلم حكمة الرب الكبير؟!
فلئن لم نختر الحياة بأيدينا، فلا أقلأن نختار نوع الموت الذي ينفعنا ويرفعنا ويُرَقِّينا، فما من الموت مفر ولا مهرب،وليس لنا في هذه الحياة الدنيا –م� الذلة والضعف- لذة ولا مكسب!
ولئن كان المسلم في زمن العزة يملك أنيتخير من الثغور ما يجاهد فيه، فإن المسلم في زمن الذلة هذا لا ينفك عن ثغر يجدنفسه فيه!
ولنا على السابقين فضل الأربعين ضعفا،وأن نكون مندرجين في أحباب النبي الذين اشتاق إليهم صفة ووصفا!
نشر في مجلة أنصار النبي ﷺ� سبتمبر 2024
ابن عطية، المحرر الوجيز فيتفسير الكتاب العزيز، 1/540.
البخاري (2817)، مسلم (1877).
البخاري (2785)، مسلم (1878).
جان برو وغيوم بيغو، التاريخالكامل للعالم، ص93.
ولفرد كانتول سميث، الإسلامفي التاريخ الحديث، ص9، نقلا عن: محمد قطب، كيف نكتب التاريخ الإسلامي، ص102.
August 3, 2024
انحطاط النظام العالمي
مثل أسوأ الديكتاتوريات في العالم، كان الكونجرس الأمريكي يهب في كل دقيقة واقفا ومصفقا للسفاح مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، وهو الأمر الذي لا يحظى به الرئيس الأمريكي نفسه في هذا الكونجرس، ولا يحظى به نتنياهو نفسه في برلمانه هو! وذلك مشهد شديد الكثافة والفجاجة يرى فيه المرء طبيعة هذا النظام العالمي الذي تقوده أمريكا! فهذا النظام نفسه، وعبر أحد مؤسساته، وهي: محكمة العدل الدولية، قد أصدر بيان إدانة واعتقال لهذا المجرم السفاح! فإذا به يُستقبل خطيبا في هذا الكونجرس، بل إن هذا الكونجرس نفسه قد ردَّ على قرار المحكمة بفرض عقوبات عليها وعلى قضاتها!
ولقد صرح كريم خان، رئيس المحكمة نفسه،بأن مسؤولا غربيا قد صرَّح له، بأن هذه المحكمة إنما أنشئت لمعاقبة مجرمي الحرب فيإفريقيا أو المارقين مثل بوتين، ولم تُصنع لمعاقبة حلفائنا مثل نتنياهو!
وهذا مع أن هذه المحكمة ساوت بينالقاتل والقتيل، بين المحتل ومن يقاومه، فأدانت الطرفين وأصدرت قرارا لاعتقالقائدين من إسرائيل وقائدين من حماس! ومع أن رئيسها هذا نفسه زار إسرائيل ولم يزرغزة! ولم يغير هذا من الواقع شيئا!
ثم إن هذا مع أن الأمر لا يحتاج إلىمحاكمة ونظر ووثائق، فإن العدسات تنقل ما يحدث إلى جميع أنحاء العالم مباشرة بلاواسطة، وإن قوما قُتِل منهم أربعون ألفا، وأصيب منهم نحو مائة ألف، ومُحيت بلدهم،لا يحتاجون في فهم ما يحصل إلى وثائق وقضايا وشهود.. ولكن الجاهلية تحب الأوراقوالوثائق والإجراءات! ومع هذا طاشت المشاهد، ثم طاشت بعدها الأوراق والوثائقوالإجراءات، وصارت المحكمة هي المنبوذة! وصار السفاح هو ضيف الشرف المحتفى به!!!
وهكذا تأكل الجاهلية المعاصرة أصنامهاالتي صنعتها بأيديها، وبقي أن يتعامل الجميع مع هذا القانون الدولي ومؤسساته بكلازدراء واحتقار.
إن هذا الإجرام يُذَكِّرنا بعظمةديننا، وعظمة النموذج الذي أثمره، وعظمة ما كان في هذا العالم يوم كان المسلمون همسادته وملوكه وأصحاب الكلمة العليا فيه.
وإن الحكايات كثيرة، ولكن نأخذ منهاواحدة أو اثنتيْن فحسب:
روى الطبري أن عمر بن الخطاب لماقُتِل، ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر أنه رأى قاتل عمر أبا لؤلؤة المجوسي يتناجى معفارسي آخر كان أسيرا في المدينة وهو الهرمزان ومعه آخر نصراني اسمه جفينة، فلمارأوْه اضطربوا، وسقط من أيديهم خنجر له نصلان. وهذا حقا هو وصف الخنجر الذي قُتِلبه عمر، فثارت أعصاب عبيد الله بن عمر، وانطلق إلى بيت الهرمزان فقتله وقتل جفينة،إذ هم قتلة أبيه المتآمرون على ذلك!
فحبس المسلمون عبيد الله بن عمر، ولماتولى عثمان بن عفان الخلافة كانت أول القضايا التي يُنظر فيها هو قضية عبيد اللهبن عمر، فاستشار عثمان الصحابة فيه، فبعضهم رأى أن يُقتل قصاصا؛ إذ هو قد قتلفارسيا ونصرانيا دون ثبوت التهمة. وبعضهم استعظم أن يُقتل عمر بالأمس ويُقتل ولدهاليوم! وحاول البعض أن يجد مخرجا شرعيا بأن القتل كان في زمن فوضى لا إمام فيه(بين فترة قتل عمر وتولي عثمان)، فلم يكن قتلُ عبيد الله هؤلاء افتياتا علىالسلطان الإمام!
فماذا فعل المسلمون؟ وعلام استقرالأمر؟
ثمة روايتان هنا؛ وكلاهما عند الطبري،تقول الأولى: بأن عثمان لما رأى أن القتلى لا أهل لهم بالمدينة يُسَلَّم القاتلإليهم، صار أمر القتلى إلى الخليفة إذ هو وليُّ من لا وليّ له، فاختار دفع الديةودفعها من ماله! وهذا حلٌّ شرعيٌّ يراعي في الوقت نفسه مشاعر المسلمين الذينفُجِعوا بخليفتهم ويكادون أن يفجعوا بولده، والمقتول أصلا رجل مغموز في دينهمتَّهَمٌ والشبهة حوله قوية! غير أن هذا الحل لم يُرْضِ بعض المسلمين، ورأوْا فيهنوعا من المجاملة والمحاباة، واعتبروا أن هذا هو "أول فتق في الإسلام"،يعني: أول انحراف وقع في تاريخ الإسلام.
وتقول الرواية الثانية بأن عثمان جاءبابن الهرمزان، واسمه القماذبان، فأعطاه عبيد الله بن عمر ليقتله قصاصا بأبيه،قائلا: "يا بني هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله"، فأخذه،وسار معه الناس، يتشفعون ويطلبون منه أن يعفو، حتى قال لهم: "ألي قتله؟ (أي:أليس من حقي قتله؟) قالوا: نعم. وسَبُّوا عبيد الله. فقال: أَفَلَكُم أن تمنعوه؟(أي: هل من حقكم أن تمنعوني من ذلك؟) قالوا: لا. وسَبُّوه فتركته لله ولهم،فاحتملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الرجال وأكفهم". أي أنه عفا،ففرح الناس بذلك واحتفوا به حتى أعادوه إلى بيته محمولا على الأعناق.
هذا فِعل المسلمين في رجل مجوسي متَّهمفي إسلامه ومتهم في قتله خليفتهم الكبير، ثاني وزراء رسولهم الأعظم �!
وقبل ذلك سطر المسلمون ما لم يشهدالتاريخ مثله، وذلك حين اقتضت ظروف الحرب أن ينسحب المسلمون من مدن فتحوها فيالشام، وأخذوا من أهلها الجزية بالفعل.. فماذا كان؟! أعاد المسلمون الجزية التيأخذوها إلى أهل البلد مرة أخرى.. هذا وهم مُقدمون على حرب يحتاجون فيها إلى المال.فدُهِش النصارى لذلك، ودعوا للمسلمين بالنصر على الروم!
نقول هذا الآن لا لكي نبكي على مجدناالغابر، وهو مجد يستحق البكاء عليه، ولكن لنرى كيف أن الشريعة العادلة حين نفذهاقوم مؤمنون كانوا يقولون ويقومون بالحق ولو على أنفسهم! ففي ظل نظام إسلامي عالميما كان يمكن للمذابح أن تحصل لو كان للمسلمين قوة على منعها، لا بيدهم هم ولابأيدي غيرهم! ولن يقبل المسلمون بالإجرام والقتل والظلم لا على إخوانهم المسلمينولا على غيرهم من الكافرين. وهم حين يفعلون ذلك لا يرون أنهم يفعلونه تفضلا ولامنة، بل يرون أنهم يفعلونه دينا وإيمانا واحتسابا!
ولمثل هذا حافظ المسلمون في بلادهم علىالأقليات الكثيرة المتنوعة التي كانت قبل عهد المسلمين وبعده عرضة للاضطهاد، بلكانت عرضة للإبادة والإفناء.
ثم ما لبثت أيام بعد خطاب السفاح فيالكونجرس حتى جاءتنا فرنسا بحفل الافتتاح للألعاب الأوليمبية التي تقام في باريسلهذه السنة! وإذا به حفلٌ قد انزعج منه كثير من النصارى أنفسهم حتى اضطر الحسابالرسمي للأولبيمياد على منصة يوتيوب أن يحذف هذا الفيديو!
لئن كان خطاب نتنياهو في الكونجرسدليلا ساطعا على ما في هذا النظام العالمي من الظلم والقتل والإجرام والطغيان، فإنهذا الحفل الافتتاحي للأوليمبياد كان دليلا ساطعا على ما في هذا النظام العالمي منالكفر والفسوق والانحلال والعصيان. إن الذين رسموا صورة الحفل وخططوا له قصدوا عنعمد إلى تحقير الأديان وازدرائها، وإلى مناكفتها ومعاندتها، وفي المقابل فقد عمدواإلى تعظيم أهل الإباحية وعمل قوم لوط والافتخار بالذين يغيرون خلق الله ممنيسمونهم المتحولين من ذكر إلى أنثى أو من أنثى إلى ذكر. وقد مزج هؤلاء بين معاداةالدين والمباهاة بالفاجرين المنحلين ليجعلوا رسالة الحفل الواضحة أن هؤلاء الآخرينقد أسقطوا الأولين وارتقوا في مكانهم، فهم الآن يُذلونهم ويهينونهم ويسخرون منهم.
لقد كان حفلا، كأنما كان الذي خطط لهودبر، وأشرف عليه هو الشيطان نفسه! ولا يحتاج المرء إلا إلى قليل من الصورالمنشورة لكي يرى فيه قول الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُفَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَالشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]، وقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَأَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83].
وإن في هذا الحفل من الإسراف والتبذيروالمباهاة ما هو مصداق قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْرِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْيَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38]، وقد وصف اللهالمبذرين بقوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَالشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27].
بل كأنما كان هذا الحفل تطبيق عمليلخطة الشيطان التي وضعها لإضلال الناس وإدخالهم النار، تلك الخطة التي ذكر لناربنا بنودها في القرآن الكريم، ومنها:
1.الأمر بالفحشاء والمنكر: {الشَّيْطَانُيَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]، {وَمَنْيَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِوَالْمُنْكَرِ} [النور: 21].
2.تزيين التعري والانحلال: {فَوَسْوَسَلَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْسَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 20]، وقد حذرنا الله من ذلك فقال: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُالشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَالِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27].
3.الحث على تغيير خلق الله: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّمِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْوَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْفَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 118، 119].
4.الدأب والإصرار والدخول على النفس منكل الجهات {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْأَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: 17].
5.تزييف المعاني وقلب الحقائق واختراعالألفاظ المزخرفة للمعاني الفاحشة الفاسدة؛ فإذا هذا الفساد كله والسواد كله يسمىبالحضارة والتقدم والتنوير والمساواة... إلخ! وقد قال ربنا جل وعلا: {وَزَيَّنَلَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَايَهْتَدُونَ} [النمل: 24]، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْفَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، {شَيَاطِينَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِغُرُورًا} [الأنعام: 112].
وقد رأيت من تعليقات بعض النصارىتعليقا هزَّني من الأعماق حقا، وهو قول أحدهم: "المكان الوحيد الذي لايُستهزأ فيه بالمسيح عليه السلام هو بلاد المسلمين"!!
أي والله، نعم! وهو ذا!
إن بلاد المسلمين أولى بالمسيح منهم،وأكثر تعظيما للمسيح منهم، ولئن كانت علمانيتهم تسمح للواحد منهم أن يرتدي قميصاكتب عليه: "المسيح شاذ جنسيا" (استغفر الله العظيم، وحاشا لله ولنبيه!وناقل الكفر ليس بكافر!).. لئن كانت علمانيتهم تسمح بهذا، فإن ديننا نحن المسلمينلا يسمح له بأدنى الإساءة إلى المسيح عيسى بن مريم عليه السلام!
ومن عجائب هذا الحفل، وهو من مشاهدإشراف الشيطان عليه، أن الرئيس الفرنسي رحب بحضور نتنياهو فيه، ليكتمل مشهد الكفروالفسوق والعصيان!
لذلك كله، فإن النظام الإسلامي العالميهو إنقاذ لا للمسلمين المستضعفين فحسب، بل إنقاذ للعالمين، إنقاذ لهم من قبضةالشيطان التي تستولي على بيوتهم وأبنائهم وأرواحهم، فتقلب ما كان مقدسا إلى مستهانمستباح، وتقلب ما كان مُجَرَّما إلى مقُدَّس مُصان!
إنه مهما قيل، مهما قيل، من مساوئ كانتفي ظلال الحكم الإسلامي، من استبداد هنا أو فسوق هناك أو عصيان هنالك، فإن هذا كلهلا يساوي أبدا أبدا شيئا مما يجري في هذا النظام العالمي المعاصر الذي أسس للقتل،وشرعن الفسوق، وجعل المعاصي حقوقا من حقوق الإنسان!!
ولئنكان بعض المفكرين والفلاسفة من الغربيين ومن غير المسلمين ينادي على الغرب أنيستفيدوا من تجربة الإسلام الروحية والأخلاقية من بعد ما رأوا وذاقوا ما فيالمادية العلمانية من القسوة والتوحش، فإن هذا كله ما يلبث أن يعض الجميع بنابهحتى ما يجدون لهم ملجآ ولا سبيلا إلا الإسلام، شرط أن نستطيع نحن تحرير بلادنا،وإقامة نظامنا، ونشر دعوتنا! وعندئذ يقبل الناس إلى دين الله أفواجا، لنحقق بالعمللا بالنظر وحده قول ربنا تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِتَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَبِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُالْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].
نشر في مجلة أنصار النبيﷺ� أغسطس 2024
July 3, 2024
عام هجري جديد.. بلا خلافة للمسلمين!
محمد إلهامي
يكتب هذا المقال بينما يتابع الناسالمناظرة الرئاسية الأولى بين المرشحيْن للرئاسة الأمريكية: جو بايدن ودونالدترمب، فقد توجهت الأنظار وتعلقت القلوب بالشاشات، ثم اندلعت واشتعلت بعد ذلكالتحليلات، وصار كل قوم ينظرون ويبحثون أي الرئيسيْن أنفع لهم إذا فاز! وليس هذابمستغرب، فإنها انتخابات: الخلافة الأمريكية العالمية!
إن هذا الخليفة الجديد، الذي سيسكن دارالخلافة الصليبية (البيت الأبيض)، يملك أن يفعل الكثير في سائر أنحاء العالم،ولولا ذلك ما رفع به أحدٌ رأسا، مثلما لا ينتبه أحدٌ لانتخابات أخرى تجري في شرقالأرض أو في غربها!
حتى نحن، نحن المسلمين المستضعفينالمذبوحين في كل مكان، نتجادل ونتناقش حول أيهما أنفع لنا، أو بالأحرى: أيهما أقلضررا لنا، فكلاهما يتفقان على ذبحنا واستباحتنا ويتنافسون فيما بينهم على السبيلالأمثل لانتهاكنا واستنزافنا ونهب أموالنا ومواردنا وسلب ديننا ودنيانا!
لماذا وكيف يحدث هذا؟ ولماذا صرناوصاروا إلى ما نحن فيه وما هم فيه؟!
قبل أن نأخذ في الإجابة عن هذا.. دعنانتذكر أمورًا حصلت عندنا نحن، في أرضنا وديارنا، ولكن غفلت عنها القلوب وزاغت عنهاالأبصار!
ثم نسأل: لماذا اتجهت أنظارنا وأنظارالناس إلى ما خلف المحيط البعيد؟ ثم غفلت عما هو في الجوار القريب؟!
فإذا عرفنا لماذا؟ وما هو السبيل؟فسنستغرب أن الحل كان أقرب إلى أيدينا مما تصورنا!
(1)
من أخطر ما وقع في هذا الشهر الماضيوأقبحه وأبشعه، ما حصل في يوم (5 يونيو 2024م) حيث اقتحمت طوائف من اليهودالصهاينة المسجدَ الأقصى يحتفلون بذكرى الاستيلاء عليه، ومن بين ما اقترفوه منالجرائم: هذا السباب وهذه الشتائم التي سالت بها أفواههم القبيحة تجاه نبيناالأعظم المكرم �.
وأقبحُ منه أن الأمر مرَّ مرور الكرام،فلم يثر هذا حمية أحدٍ ولا حفيظته، لا من الحكام والمسؤولين والأنظمة، ولا منالمؤسسات الدينية الرسمية، ولا حتى من وسائل الإعلام الكبيرة في العالم الإسلامي،فصار الأمر خبرًا عاديا، كأنما لم يُمَسَّ إمام المسلمين وزعيمهم وقدوتهم ومصدرشرفهم ﷺ�!
ويجري هذا كله في ظل حرب غزة التييشنها نفس أولئك اليهود الصهاينة على المسلمين، تلك المذبحة الكبرى التي كشفت أنالأنظمة القائمة في العالم العربي والإسلامي أحسنها ضعيف عاجز، والعديد منها بينكافر وزنديق وخائن.. فلقد امتدت أيادي هذه الأنظمة لدعم الصهاينة وفتح طرق بريةوبحرية في بلادهم –ل� تكن مفتوحة من قبل- لإيصال البضائع والمنتجات إليهم!
وذلك في ذات الوقت الذي انقبضت فيهأيديهم عن المسلمين المقتولين المذبوحين في غزة، فقد اتفقوا على حصارهم، وشددالنظام المصري إغلاق المعبر الوحيد الذي يمكن أن ينقذهم من المذبحة، بل زاد فيعاره وفضيحته بأن صار يأخذ من الهاربين والجرحى –بع� الإذن الإسرائيلي- أموالاطائلة يستصفي بها بقية ما فقده الهاربون من المحرقة! ثم اتفق مع الإسرائيليين فسمحلهم باحتلال الجهة الأخرى من معبر رفح راضيا أن تخرق اتفاقية السلام طالما كان هذالصالح الصهاينة، وقد كان قبل ذلك يقتل الفلسطيني إذا جاوز الحدود دفاعا عن صنم"الأمن القومي المصري"! فأما إذا كان الإسرائيلي هو آكل الصنم فلا بأس!
فمن لم يكن له معبرٌ مع غزة، فقد بحثلنفسه عن دورٍ يخدم به الصهاينة، فقبل أيام من كتابة هذا المقال كشف أن النظامالمغربي، وهو البعيد جدا عن غزة وإسرائيل، قام بتزويد السفن التي تحمل الأسلحةللصهاينة بالوقود اللازم لها، من بعد ما رفضت إسبانيا أن تفعل ذلك، وبعدها بيومواحد كُشِف عن طائرات مغربية تسير في رحلات لتهبط في المطارات العسكريةالإسرائيلية!.. وذلك نوعٌ من الإخلاص والمبادرة لا تفسير له إلا الخيانة وعداوةالله والولاء لليهود والصليبيين!
وجميع أولئك مثلما اتفقوا على دعمالصهاينة وحرب المسلمين، فقد اتفقوا أيضا على كبت الناس في بلادهم، فكلٌ منهم حاصرشعبه ألا يتكلم أو ينطق أو يتظاهر نصرة لإخوانه في غزة!
وقد بلغت الغرائب والعجائب والمدهشاتحدَّها الأقصى حين ترى الصهاينة، ينشرون بأنفسهم صورا لهم وهم يدوسون راية الإسلام"لا إله إلا الله محمد رسول الله"، ولا يهتز لذلك نظام يزعم لنفسهالإسلام، ولا يهتز لذلك منافقوه ومحاموه، فكأنما هؤلاء يخدمون الصهاينة إيماناواحتسابا، فإن أدنى المصلحة ألا يتعمد الصهاينة إحراج حلفائهم وعملائهم!! بل قدرأيت من منافقي هذه الأنظمة من يقول: إنهم لا يدوسون علم السعودية بل هذا علمحماس!!!!
فتأمل في هذا الوضيع الوقح الزنديق،كيف فرغ قلبه من الحمية لله ورسوله ودينه، وامتلأ بالحمية لحاكمه، فهو ينتفض لينفيأن هذه الإهانة تعلقت بـ "الدولة السعودية"! ولا يهمه بعد ذلك أنالإهانة لحقت باسم الله ورسوله وراية الإسلام!!
ترى.. هل بقيت غرائب وعجائب ومدهشاتوإهانات وخزي وذل وعار أكثر من هذا الذي نحن فيه؟!!
(2)
لئن كان المشهد في غزة مروعا وهائلا،ففي السودان مشهد لا يقل عنه بل لعله يزيد في الروع والأهوال، ولئن كان أهل غزة قدابْتُلوا في جيرانهم من الأنظمة العربية التي تعاديهم كالصهاينة بل أشد عداوة فإنأهل السودان قد ابتلوا بنفس هؤلاء الجيران ثم ابتلوا فوق ذلك بقيادات ضعيفة عاجزة،بل وبعضها خائن، لا تستطيع أن تصد العدو ولا أن تترك غيرها ليصده!!
ولئن كانت غزة قد انتزعت حريتها من يدالصهاينة، ثم من يد خونة فتح والسلطة الفلسطينية، فامتلكت قرارها وحفرت في الصخرحتى صارت تواجه أعتى قوة عسكرية في المنطقة، فإن الناس في السودان امتلكوا البلدلثلاثين عاما ثم هم الآن يبذلونها ويفرطون فيها تفريطا هو واحدٌ من أغرب مشاهدالتاريخ!! فما يُعرف في التاريخ قومٌ حكموا بلدا لثلاثة عقود ثم أزيحوا منها بهذهالبساطة والسهولة! ثم رضوا أن يدخلوا السجون وأن تنهب أموالهم وتنهار البلد منهموهم ينتظرون انتخابات نزيهة!! يعتقدون أنها ستأتي يوما ما، ويعتقدون أنهم سيُتركونليفوزوا بها مرة أخرى!!
وبينما هم ينتظرون إذ دبر حميدتيانقلابا كاد ينجح تماما لتبدأ عملية تصفية وإبادة كاسحة للإسلاميين في السودان،ولما شاء الله وقدَّر وتفضل وأنعم أن هذا الانقلاب لم ينجح ولم يتم كما كان مقدراله، انحاز أولئك خلف واحد لا يخرج عن حالين: الضعف والعجز أو الخيانة والعمالة،وهو عبد الفتاح البرهان، وهذا رجل إن كان حسن النية لم يكن البقاء خلفه إلا مسيرانحو النهاية، فكيف إن كان يضمر الشر والسوء؟!
وهذه النتيجة التي نحياها الآن: انفراطعقد السودان وتمزقه على الحقيقة، وما نزل بأهله الطيبين من المذابح والجوعوالتشريد والاعتداء على الأعراض وإهانة وجوه القبائل وأشياخها. ولا يزال قومنايحسنون الظن أن يكون البرهان هو الحل، وهو ضلع ضليع وأصل أصيل في هذه الأزمة!
إن هذا البلد العظيم الثري بالموارديتعرض لواحدة من أشد الأزمات وأصعبها في تاريخه كله، وأكثر المسلمين لا يشعر بمايحصل، وأكثر من يعرفون لم يفهموا ماذا يحصل فيه ولا كيف ينبغي أن يكون السبيل!
(3)
فإذا مددنا أبصارنا إلى المسلمين علىأطراف عالمنا الإسلامي فسنتفاجأ بمصيبتيْن قريبتيْن في بلديْن حبيبيْن آخريْن:طاجيكستان وأراكان..
إن الشيوعية التي انتهت من العالم كلهلم تزل باقية في جمهوريات آسيا الوسطى، أو ما يسمى جمهوريات الاتحاد السوفيتيالسابق، وهي البلاد التي يعرفها المسلمون عبر تاريخهم باسم: بلاد ما وراء النهر!
وهذا الطغيان الذي يعم عالمنا العربيله نظير وقرين في هذه البلاد المسلمة، إذ ما يزال حكامها من بقية زمن الشيوعية،فعداوة الدين عندهم دين! ومطاردة الإسلام لديهم عقيدة! وإن قراءة تاريخ الإسلام فيهذه المناطق، وكيف أنهم بقوا حتى الآن مسلمين لهو واحدة من معجزات هذا الدين ومنعجائب تاريخ المؤمنين!
وطاجيكستان على وجه التحديد هي أكثرتلك البلاد في نزعة التدين وفي كثرة العلماء وطلبة العلم منها، وإذا أردنا تقريبالصورة لقلنا: هي بالنسبة إلى غيرها من هذه البلاد كمصر والسعودية في العالمالعربي. غير أن الطاغية الذي يحكمها –وه� لا يختلف كثيرا عن طغاة مصر والسعودية-يعمل على إنهاء الدين من بلاده، يزعم أنه: ثقافة أجنبية جاءت إلى الطاجيك من العربومن الأتراك، وقد وضع لنفسه مهمة أن يطارد كل ثقافة أجنبية!!
لو كان هذا الطاغية صادقا في"الوطنية" وفي الانتماء إلى "الثقافة المحلية" لكان حاله غيرهذا الحال، غير أنك تراه يلبس الثياب الغربية، وحكمه مترع بالنظم الغربية، وهو يضعولاءه السياسي إلى جوار بوتين، ولا يرى في ذلك كله أنها ثقافة أجنبية جاءته منالروس أو من الروم!!
ولا يمكن إيجاز ما يحدث هناك في سطور،فالأمر عنيف رعيب، وأشد منه أن الذين هربوا بدينهم منه لا يستطيعون الكلام ولايجدون لأنفسهم ملجأ يتمكنون معه أن يشرحوا ويفصحوا عن عملية ذبح الإسلام التي تجريعلى قدم وساق في طاجيكستان، والتي كانت آخر فصولها: منع الحجاب ومطاردة المحجبات،ومنع الأطفال من الاحتفال بأعياد المسلمين! وقد تفضل علينا الشيخ أحمد محيي الدينالطاجيكي بكتابة مقال في هذا العدد من المجلة يشرح فيه هذا الفصل الأخير من الحربعلى الإسلام.
فإذا ذهبنا إلى الشرق والجنوب، فإن ثمةقضية تحدث الآن من مذابح المسلمين لا تكاد تُعرف ولا يُسمع بها أصلا.. وهي قضيةالمسلمين الروهينجا في إقليم أراكان، وهم المسلمون في بورما أو ميانمار. فهؤلاءالمسلمين المساكين ربما كانوا يعيشون الآن آخر فصول حياتهم وتاريخهم في بلادهم، منبعد ما اشتعلت حربٌ تجري على أرضهم بين أقلية بوذية لها جيشٌ متمرد وبين الجيشالبورمي النظامي! وقد نتج عن هذه الحرب في بعض التقديرات مائة ألف مسلم مُهَجَّر وبلغتالتقديرات في بعضها مائتي ألف مسلم، وهذا فضلا عن الأمواج السابقة من الهجرة فيالأعوام الماضية والتي ترتب عليها غرق الكثيرين وموت الكثيرين بفعل الأمراضوالظروف الصعبة في ملجئهم: بنجلاديش!
وقد زاد الحالَ سوءًا أن الثلةالمتعلمة والنشطة من شباب الروهينجا، والذين كانوا يحركون القضية قد اعتقلهم ابنسلمان في السعودية، بلا ذنب ولا تهمة ولا تحقيق، وحُكِم عليهم بالسجن بين عشرسنوات وعشرين سنة! مع التضييق عليهم في منح الإقامة مع أن بعضهم يقيم في هذهالبلاد منذ زمن بعيد، ولعل الأكثرين لا يعرفون أن الشيخ القارئ محمد أيوب إنما هومن الروهينجا المسلمين.
وأيضا سيجد القارئ في هذا العدد منالمجلة مقالا تفضل به علينا الشيخ عبد الله الأركاني، يحاول أن يوجز فيها هذهالقضية المأساوية.
(4)
قد بلغ الأمر غايته ومداه وأقصاه.. وإنأي مسلم ينطوي قلبه على حب الله ورسوله مطالب بالتفكير وبالعمل للتخلص من هذا الذلوهذا العار؛ كلٌّ على قدر ما يطيق وعلى قدر ما يستطيع..
ونحن الآن نعيش في ظلال ذكرى الهجرة..ذكرى إقامة الدولة الإسلامية.. أخطر لحظة في تاريخ الإسلام.. لحظة مولد الأمةالإسلامية وتأسيس الدولة الإسلامية!
إن كل مصائبنا ونكباتنا ومذابحنا إنماهي فرع عن النكبة العظمى: نكبة سقوط الخلافة الإسلامية، وانهيار الدولةالإسلامية.. لقد صرنا بعد ذلك أيتاما على موائد اللئام، كل قومٍ في هذه الأرضانفردوا بقسم من المسلمين يسمونهم سوء العذاب، يذبحون أبنائهم، ويغتصبون نساءهم،وينهبون أموالهم، ويستعبدونهم في بلادهم!!
إن معضلات المسلمين كثيرة ومتنوعةومتشابكة ومتعددة، ولكن حلها الجذري واضح للغاية: إقامة الدولة الإسلامية الجامعة،واستعادة الخلافة الإسلامية.. هذا هو ما فعله النبي � عندما هاجر من مكة إلىالمدينة، وعلى بقاء هذه الدولة قاتل أبو بكر، وعلى توسيعها قاتل عمر وعثمان، وعلىوحدتها قاتل علي. وما زال خلفاء المسلمين الصالحين يعملون منذ معاوية وحتى عبدالحميد الثاني على تمكينها ورسوخها والمحافظة عليها، كل بما قدر وما استطاع!
لقد اتجهت أنظار الناس إلى المناظرةالرئاسية لا لشيء إلا لأن الأمريكان أصحاب دولة قوية، وعلى حسب قوة الدولة ونفوذهايتعلق الناس بما يحصل فيها من تغيرات!
بينما غفلت أنظار الناس عن الروهينجاوعن الطاجيك وعن السودان لأنهم أشلاء أمة ممزقة ومبعثرة! ولولا ذلك لم تزغ عنهمالأبصار!
ونحن في هذه الأيام لم نغادر ذكرىالحج، ولا انفلتنا من آثار هذه العبادة العظيمة، ثم ها نحن نقبل على ذكرى الهجرةالشريفة لنعب من دروسها العميقة.. إن انهارت دولة المسلمين فالحج يذكرهم بأنهم أمةواحدة، رب واحد ورسول واحد ودين واحد وعبادة واحدة. والناس حين يزورون مكةوالمدينة يطالعون بأعينهم آثار نبيهم وجهاده في سبيل الدعوة والدولة، فيستحضرون فيمكة أيام جهاده للدعوة والبحث عن أرض للدولة، ويستحضرون في المدينة جهاده للدعوةذات الدولة، فلقد كانت المدينة المنورة عاصمة الإسلام ومقر الحكم والجماعةوالنظام!
ما من أيام نحن أسوأ حالا فيها من هذهالأيام، وإن ذكرى الهجرة لا يشعر بمعناها كما ينبغي أن يشعر بها المسلم في هذهالأزمان، أزمان سقوط الدولة وانفراط عقد المسلمين!
إنها مهمة ضخمة أمام العلماء والدعاةوكل المسلمين، أن يحرصوا في كل مناسبة وفي كل محفل وفي كل ذكرى أن يبحثوا وأنيستخلصوا، ثم أن يعملوا ويحثوا ويحفزوا:
1. كيف تستفيد الأمة من عبادة الحج فيتقوية أواصرها وتمتين علاقاتها وكسر الحدود التي صنعت بينها ومحاولات النصرةلأطرافها المذبوحة والمضطهدة.. لا سيما إن كان الاضطهاد في الدين.
2. كيف تستفيد الأمة من عبادة الحج،حيث المشاهد الشريفة وآثار النبي الأعظم -صلى الله عليه وسلم- في الارتباط بالنبيوسنته وسيرته، ومزيد من التعلق به، وما يثمره هذا من الانفعال والغضب تجاه من يسبهويؤذيه، وهو الغضب الذي لا بد أن يترجم إلى عمل في نصرته والتنكيل من يتناول جنابهالشريف.
3. كيف تستفيد الأمة من حدث الهجرةالذي يؤسس لقيام الدولة الإسلامية.. ومدى ضرورة قيام الدولة الإسلامية وأثرهالفارق في حياة المسلمين، وكيف أن المسلمين اليوم هم في أمس الحاجة إلى وجود دولةإسلامية حقيقية قوية.. بل هم لا يحتاجون أي شيء على الإطلاق قدر حاجتهم إلى وجودهذه الدولة وقيامها.. كيف نستفيد من حدث الهجرة في التركيز على هذا الأمر.
4. كيف قامت الدولة الإسلامية بعدبيعتين مع الأنصار، سبقتهما رحلات بحث وعرض ومفاوضة مع قبائل العرب.. ثم قامت هذهالدولة بعد ذلك على سيوف المسلمين وسواعدهم مثلما قامت أيضا على معاهداتواتفاقيات.. وهذا كله يلفت الأنظار إلى أن جهاد النفس والسلاح هو صنو جهاد السياسةوالتفاوض والاتفاق.. ترى ماذا ينبغي أن يقول أهل العلم وأهل الفكر والقلم لإخوانهمالمجاهدين في غزة وفي غيرها في هذا الباب؟!
5. التذكير الدائم المستمر بشدة عداوةاليهود للنبي �.. ثم الحث والتحريض الدائم المستمر للمسلمين على العمل الفعالالمستمر الدائب الدائم الصبور في تعقب الذين يسيئون للنبي � والتنكيل بهمومعاقبتهم على قدر الوسع والطاقة وبأقصى ما يمكن عمله.
عسىالله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده!نشر في مجلة أنصار النبي� - يوليو 2024م
June 4, 2024
{فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}
بينما نُعِدُّلهذا العدد الجديد، أخبرت أستاذنا الفنان الكبير د. علاء اللقطة الذي يصمم لناغلاف المجلة، بأن العدد سيحوم حول معانى الحج وغزة.. فما لبث أن جاءنا بهذا الغلافالبديع الذي حوَّل مسار مقالي هذا تماما.
كنت أخطط لأنأكتب حول هذه المعاني:
1. إن أولى ماينبغي الكلام فيه الآن هو: كيف ينبغي أن تستثمر الأمة موسم الحج في نصرة غزة، بدايةمن الدعاء ومرورا بالمقاطعة والحث على النصرة وتحريض المؤمنين، وانتهاء بالمشاركةبالمال والسلاح في هذا الجهاد الشريف.
2.ما أقرب الحج من الجهاد، وما أقرب الجهاد من الحج، وقد جاء الاقتران بينهما في عددمن أحاديث النبي ﷺ� كقوله � حين سُئل عن أفضل الأعمال: "إيمان بالله ورسوله،ثم الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور".وكقوله � جوابا لسؤال عائشة رضي الله عنها: نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟فقال �: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور".ولهذا فقد أتبع بعض العلماء الحديث عن الحج بالحديث عن الجهاد، كما فعلالإمام النووي في أشهر كتبه: رياض الصالحين. ففي كلا الأمرين: الحج والجهاد، يخرجالمسلم من حظ الدنيا ويترك الأهل والولد والديار، ويتعرض للصعاب والمشقات، وتفرضعليه العبادة الزهد في الدنيا من ملبس ومأكل ومشرب، ويقترب بنفسه وبقلبه من يومالقيامة والدار الآخرة. وفي كلا الأمرين: يرى المسلم نفسه متبعا لخطوات نبيه ﷺوخطوا� الصدر الأول: إما في المكان كما هو حال الحاج، أو في الهدي والطريقةوالسبيل كما هو في الجهاد.
3.إن نصرة غزة الآن وبذل المال والجهد لها مُقدَّم على الحج، لا سيما إن كان حج النافلة،فإن الحج فريضة فردية لازمة ونصرة غزة فريضة يتعدى نفعها للأمة، وإن الحج فريضةعلى التراخي بينما النصرة الآن واجب الوقت الذي لا يحتمل التراخي. فمن كان يرجوثواب الله حقا لا حظ نفسه، فإن رضا الله في نصرة عباده.
4. إن الأنظمةوالحكومات التي تُصَعِّب طريق الحج وتقيم دونه الحواجز هي ذاتها التي تقطع الطريقعلى نصرة غزة وتقيم دون الجهاد فيها كل الموانع والحواجز. ومن الغريب المثيرللتأمل والتفكر أنهم يفتحون البلاد للسياحة ويسهلون زيارتها بغرض الترفيه والرقصوالطرب ومطالعة آثار الكافرين، ثم هم أنفسهم يعاقبون ويتشددون في تعقب من يزور بيتالله الحرام ومسجد نبيه � ويحيطون ذلك بجملة من التصريحات التي تصد عن سبيل اللهوعن بيته! فكل نظام يحاول أن يستصفي من أموال الحجاج ما استطاع، وهم يعرفون أن فيهذه الأمة من الفقراء والضعفاء من يقضي عمره كله يجمع الأموال ليحج إلى بيت اللهالحرام.. إن هؤلاء الذين يصدون عن المسجدين هم أنفسهم الذين فرطوا وخانوا المسجدالثالث، ويقفون الآن يدا واحدة مع الصهاينة في تهديده وتهويده وقتل المجاهدينالمدافعين عنه!
هذا ما كنتأنوي الكتابة فيه، حتى جاءني هذا الغلاف الذي ترونه لهذا العدد.. فدارت رأسي حقا،وأنا أتأمل وجها جديدا من الشبه والقرب لم أنتبه إليه:
1. هذه الخيامالتي ينزلها الحجاج، ما أقرب مشهدها بالخيام التي يأوي إليها النازحون المشردونالذين أفلتوا من نيران العدو الصهيوني وجحيمه!
2. وهذاالاغتراب عن البيوت والديار، ما أقرب الشبه فيه بين حاجٍّ وبين لاجئ، كلاهما قدفارق أهله، واستبدل بهم أهلا وجيرانا آخرين!
3. وما أقربالقائمين في هذه الخيام ممن يعظون أهلها عن المناسك والعبادة بالذكر، بالقائمين فيخيام النازحين يعظونهم في الصبر والثبات والاستبشار بنعيم الجنة وبالثواب العظيمالذي كتبه الله للمجاهدين وأهلهم الصابرين الثابتين.
هذه مشاهدالقرب.. ولكن، كما قيل: ما أقرب ما بينهما وما أبعده!
فهذه الخيامما أقربها في الشبه، ولكن ما أبعد ما بين الخيمتيْن من وسائل الراحة، وما أبعد مايشعره النازلون فيها من الأمن ومن الخوف، وما أبعد الأمل الذي يرفرف على خيامالحجاج من الكرب الذي يخيم على خيام اللاجئين!
ما أبعد مابين خيمة الحاج فيما مُهِّد لها من الطرق ومن الخدمة وما بين خيمة اللاجئ التييعاني فيها من الحصول على الطعام القليل، والماء الشحيح، وضرورات الحياة البسيطةالتي يحتاجها كل كائن حي!
ثم يأتي بعضأولئك فيفتخر بما يقدم للحجيج من وسائل الراحة من بعد ما استصفى أموالها من الحجيجومن المتصدقين والمتطوعين لخدمة ضيوف الرحمن، وهو نفسه الذي يساهم بأموال المسلمينالذين غلب عليهم في ذبح المجاهدين هناك وفتح الطرق البرية والجوية والبحرية لدعمالصهاينة وإسنادهم! فكأنما فيهم نزل قول الله تعالى {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَالْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِالْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُلَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُواوَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُدَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 19، 20].
وبين المشهدينالمتشابهيْن والمتباعديْن، اختار صاحبنا الفنان أن يكتب قوله تعالى {فَاجْعَلْأَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]. فيا لحسن هذاالاختيار!!
كأنما استدارالزمان على هيئته مرة أخرى، وتقلبت صفحات اليوم ليشبه آخرها أولها:
ففي ذلك الزمنالبعيد نادى بها إبراهيم يسأل الله أن ينقذ زوجه وابنه المحرومين المحتاجين في أرضالجدب والصحراء، فما أشبه ذلك بحرمان المحاصرين الذين أغلقت عليهم المنافذوالمعابر حتى صار الطعام والشراب أثمن ما يحتاجون إليه! ما أشبه الكرب الذي كانتفيه هاجر وابنها الرضيع إسماعيل بالكرب الذي فيه الآن أهل غزة، لا نصير ولا ظهيرولا أنيس ولا رفيق، كم في غزة الآن من امرأة تشبه أمنا هاجر، تضرب الأرض وتأكلهاالحيرة بحثا عن شيء تطعمه ابنها الصغير الذي يوشك أن يموت من الجوع؟!
وقد استجابالله دعوة إبراهيم، فهذه الخيام الكثيرة التي نراها في الحج هي دليل الإجابة لذلكالنداء القديم البعيد، فلقد أقبلت الأفئدة تهوي إلى البيت العتيق، ومنها ستصدحالحناجر بالدعاء للمجاهدين والنازحين في غزة، وعسى الله أن يقر أعيننا فيستجيب!ونرى المواكب تسير إلى غزة ومنها إلى المسجد الأقصى، تلبي وتكبر وتتلو آيات الفتحالمبين!
وتأمل –أخيالقار�- في أن إبراهيم عليه السلام حين دعا ربه لم يبدأ بطلب الطعام والشراب، بل بدأ بطلبالأنس والرفقة والصحبة، طلب أن تهوي إليهم الأفئدة.. أن تذهب إليهم القلوب، ثمأردف بطلب الرزق من الطعام والشراب، قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِتَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37]. فلما أجابهالله تعالى أخرج لهم الرزق، ماء زمزم، ثم جاء لهم بالناس!
لكن الوقفة هنا هي في قول إبراهيم عليهالسلام {أفئدة}..
وقد ذكر المفسرون أن "أفئدة"يمكن أن تكون جمعا لكلمة "وفود"، أو تكون جمعا لكلمة "فؤاد"..فالمعنى قد يكون: اجعل وفودا من الناس تحنّ إليهم، وقد يكون: اجعل قلوبا من الناستحنّ إليهم.
ولا يتعارض المعنيان! فلربما حنَّتالقلوب وعجزت الأجساد كما هو حال من لم يستطع أن يحج ومن لم يستطع أن يغيث غزة فيكربها، فعجزت الوفود عن الوفود! ولربما قست القلوب فلم تحنّ ولم تهوي فذلك هوالكفر والجحود والإعراض عن أمر الله بالحج، وذلك هو الخيانة والخذلان والإعراض عنأمر الله بنصرة المسلمين المستضعفين المكروبين.
ولهذا استعاذ نبينا ﷺ� وعلَّمناأن نستعيذ في كل صباح ومساء، من العجز والكسل.. فالعجز هو وجود الإراد وافتقادالقدرة، والكسل هو وجود القدرة وافتقاد الإرادة!
نعم، المعركة معركة قلوب في المقامالأول، ثم هي معركة قدرة في المقام الثاني.. وبهما يكون الظفر، وقد قال الشاعرالذي وجد القدرة ولم يجد العزيمة:
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ..إذا لم يكن فوق الكرام كرام
وقال الآخر الذي وجد العزيمة وفاتتهالقدرة:
لا تلم كفِّي إذا السيف نبا .. صح منيالعزم، والدهر أبى
ولئن كان حجاج بيت الله الحرام قدأكرمهم الله بالقدرة والهمة، فها هي الأمة كلها تقف عاجزة أمام إخوانهم في غزة، بلكثير من قلوب غير المسلمين تحركت لأجل غزة وما استطاعت أن تغيثها حتى الآن بماينفع!
وهذا هو المشهد:
قومٌ يملكون أن يفعلوا ولكنهم قلوبقاسية لا تلين ولا تحن، هي قلوب الأعداء المجرمين من الصهاينة، وقلوب من يساندهممن الغربيين والأمريكان، ثم قلوب من يخدمهم من أنظمة الخيانة والعمالة.. قلوبٌ لاتؤثر فيها الدماء ولا الدموع ولا الأشلاء.. قلوب من الصفوان الصلد الصلب! قلوبٌوصفها الله تعالى بقوله {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّمِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَايَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْخَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].
وقومٌ لا يملكون أن يفعلوا مهما تقطعتقلوبهم وتمزقت أحشاؤهم وضاقت عليهم نفوسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ومنهم منتعرض في سبيل نصرة غزة بالكلمة والتغريدة ورفع العلم والهتاف إلى السجن والتنكيلوالحرمان من شهادته الجامعية ومن العمل... إلخ! بل منهم من قُتِل كما وقع قبليومين من كتابة هذا المقال عن الجنود المصريين الذين أطلقوا النار على قوةإسرائيلية عند معبر رفح، فنشبت معركة استشهد فيها جنديان.
لقد شرع الله هذه العبادات الجامعةلمقصديْن كبيريْن: تطهير القلب والشعور بوحدة الأمة. فالمرء المسلم حين يصلي فيعرفأنه في نفس هذا الوقت يصلي المسلمون مثله حول العالم، وحين يصوم في رمضان فيعرفأنهم يصومون مثله في نفس هذا الشهر حول العالم، ثم هو حين يحج يرى إخوانه وقدجاؤوا إلى هذه البقعة ذاتها من كل فج عميق! في كل عبادة من هذه يتقارب المسلمون؛بداية من أهل الحي الواحد الذين تجمعهم الصلوات الخمس، وحتى أهل المعمورة كلها حينيجمعهم البيت الحرام.
وليس يمكن أن يوجد مسلم يلتزم بدينه ثمهو لا يشعر بإخوانه المسلمين حول العالم، فكيف إذا كانت مآسي المسلمين قد أيقظت منكان في قلبه مثقال حبة من خردل من فطرة ولو كان كافرا؟!!
إذا لم تهوي أفئدة المسلمين الآن إلىغزة وإلى السودان وإلى المسلمين في الهند وفي بورما وفي تركستان، فأين ستهوي وأينستذهب؟!
وإذا هوت الأفئدة والتقت الوفود، فهليعقل أو يقبل أن يمضي هذا الاجتماع وينفض كأن لم يكن؟!
ما كان هكذا حج المسلمين منذ زماننبيهم ﷺ� بل كان الحج هو مؤتمر المسلمين الأكبر،وهو مشهدهم الأعظم، وهو ملتقاهم الأضخم، فمن أكرمه الله بالحج فلا يفوت هذه الفرصةفي نصرة إخوانه المكروبين، ومن لم يكن من أهل الحج في هذا العالم فليعلم أن واجباأعظم من الحج في انتظاره: وهو واجب نصرة المسلمين المستضعفين المظلومين! وكل امرئأعلم بما يستطيع!
فإذا صدقتالأفئدة، التي هي القلوب، ظهر هذا في العمل، كما قيل: من صحّ منه العزم أُرْشِدللحيل، وهو مأخوذ من قوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْسُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ومن قول نبينا �:"ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله،ألا وهي القلب".
كذلكإذا صدقت الأفئدة، التي هي الوفود، ظهر ذلك في الظفر، وقد قال تعالى {إِنْتَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقالتعالى {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْوَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوابِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍوَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 174، 175].
نشر في مجلة "أنصار النبي�"، يونيو 2024
البخاريومسلم.
البخاري.
البخاريومسلم.
May 3, 2024
رحيل فارس من أنصار النبي �: عبد المجيد الزنداني
محمد إلهامي
بصدور هذا العدد، يتم لهذه المجلةعامان وتدخل إن شاء الله عامها الثالث، نافذة من نوافذ "الهيئة العالميةلأنصار النبي �"، تلك الهيئة التي انبثقت من رحم الحملة الشعبية العفويةالعالمية التي انطلقت لمقاطعة المنتجات الفرنسية اعتراضا على الإساءات التي تبنتهاالحكومة الفرنسية لنبينا الأعظم �.
ومنذ ذلك الوقت وحتى لحظة كتابة هذهالسطور تبدو مهمة نصرة النبي � عظيمة ومتضخمة وتحتاج إلى أضعاف أضعاف الجهودوالطاقات المتاحة والممكنة، بل إننا مع مرور الأيام نرى أننا نفقد عددا من الأعمدةالقوية التي تقوم بنصرة النبي ﷺ� وكان آخر من فقدناه من هؤلاء: شيخ اليمن وعلمهاالكبير: عبد المجيد الزنداني!
ولقد قيل في الشيخ الزنداني الكثيروالكثير، وفاضت بذكره ومدحه والثناء عليه الألسنة والأقلام. غير أني أحب أن أشيرإلى جانب لم أر أنه قد ذُكِر على وجهه، وذلك من حقِّ واحدٍ من جنودِ –ب� من قادةِ-كتيبةِ أنصار النبي �.
كان الشيخ الزنداني واحدا من رواد بابالإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وباب الإعجاز العلمي هذا لم يُفتح ويكثر الكلامفيه كجانب مستقل إلا في هذا القرن الماضي، والسبب وراء ذلك أن الهجمة الغربيةالحضارية التي اجتاحت أمتنا واحتلت ديارنا وأوطاننا إنما جاءتنا مسربلة ومتوَّجَةًبثوب العلم وتاج العلم وشعار العلم.. فكلمة "العلم" في عموم القرنالعشرين لم يكن وقعها في الأسماع والضمائر مثلما نستشعرها الآن، بل هي في ذلكالزمن كانت تعني: مواجهة الدين.. لقد كان لها في ذلك الوقت معنى ومفهوم يقترب منالمعنى والمفهوم الذي تصنعه في أذهاننا الآن كلمة "الإلحاد".
كلمة "العلم" في ذلك الزمنكانت توضع في مواجهة الدين، فمن كان يقول: أنا أصدق العلم، أو: أنا أؤمن بالعلم.أو: أنا أتبع العلم.. إلخ! من كان يقول مثل هذا إنما كان يعني في ثنايا هذهالعبارة أنه ينفر من الدين، ينفر من الخرافة، ينفر من الجهل، ينفر من الأساطيروالترهات.. وكلمة "المنهج العلمي" في ذلك الوقت إنما كانت مضادة لكلمة:منهج الدين وأحكام الدين.
إنه أمر لا يتصوره أبناء هذا العصر،لأن أولئك قد نشؤوا بعد أن خاض آباؤهم وأجدادهم هذه المعركة الشرسة العنيفةالعاتية، وانتصروا فيها، فكسروا وأزالوا الوهم القائل بأن العلم في مواجهة الدين،أو أن العلم فوق الدين وسابقٌ عليه.
ومن أراد أن يعيش أجواء هذه المعركةفليرجع إلى كتابات الرواد المسلمين منذ مطلع القرن العشرين وحتى مطلع الثمانيناتوالتسعينات منه.. ولعل بعض أبناء هذا الجيل يتذكرون كلمة وردت في فيلم"الإرهابي" حين قال الممثل إبراهيم يسري: "الناس طلعت القمر واحنالسه بنفكر ندخل الحمام بالرجل اليمين ولا الشمال".. هذه العبارة هي من رواسبالمعركة وبقاياها وفضلاتها الأخيرة، وإنما كتبها الكاتب الشيوعي لينين الرملي الذيكتب هذا الفيلم.
ومن قرأ مقدمة كتاب العقاد"عبقرية محمد" رأى العقاد يذكر الموقف الذي حرَّكه لكتابة هذا الكتاب،وذلك أن شابا كان يجالسهم في المقهى كان يرى نفسه مثقفا، أو بتعبير العقاد كان"متحذلقا يتظاهر بالمعرفة، ويحسب أن التطاول على الأنبياء من لوازم الاطلاععلى الفلسفة والعلوم الحديثة".. وحيث كان الفتى كذلك فلقد تفوه بسبِّ النبي ﷺ،واستنك� الشاب أن يكون النبي � بطلا كما وصفه الكاتب الإنجليزي الكبير توماسكارلايل!!
والقصد: أن المسلمين عاشوا دهرااجتاحتهم فيه الحضارة الغربية التي تغلف نفسها بغلاف العلم وشعاره ودثاره، حتى كانأكثر المفتونين بها يرون العلم كفرا، والكفر علما.. ويرون الدين جهلا وخرافة،ويرون أن الخرافة والجهل دينٌ، وعليه فلا بد من الانخلاع من هذا الدين ليتمّ لناالتقدم والتنور ودخول ركب الحضارة!!
وإذن، انتصر أسلافنا رحمهم الله علىهذه الموجة العنيفة حتى كسروها، وخرج جيل لا يرى تضادا بين العلم والدين، ولا يرىنفسه مضطرا لأن يكفر ويلحد إذا أراد أن يتعلم أو أن يتقدم.
ما علاقة هذا كله بالشيخ عبد المجيدالزنداني؟!
الشيخ الزنداني كان واحدا من كتيبةالمهمات الخاصة، من قوات النخبة، في هذه المعركة.. هذه القوات الخاصة حملت علىعاتقها مهمة شديدة الخطورة والقوة في ذلك الوقت، وهي مهمة: إثبات أن الدين قد سبقالعلم، وإثبات أن العلم جندي من جنود الدين، وإثبات أن ما يتباهى به الغربيونويفتخرون به إنما قد جاء ديننا ببعضه قبل أن يخطر على بالهم اكتشافه أو اختراعه..أولئك هم الذين فتحوا باب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
أعرف في حياتي القصيرة هذه من كان علىوشك الكفر والإلحاد، ولم يُثَبِّته على الدين إلا ما قرأه وما سمعه في باب الإعجازالعلمي في القرآن والسنة! ولهذا فكم أنقذت هذه الكتيبة من نفوس وعقول ووضعتها علىطريق الجنة بعد أن انتشلتها من السقوط في هاوية الجحيم.
وكأي ظاهرة ناجحة ومؤثرة وعجيبة، دخلعليها من أفسد فيها، وقد جاء هذا الفساد من قومٍ يسارعون إلى تلقف الخبر العلميوإن لم يثبت ولم يصح، ثم يتكلفون له تأويلا وتفسيرا في القرآن والسنة، بعضهم يحسبأنه بذلك يخدم الدين، وبعضهم يفعل ذلك عمدا لتلويث هذا الباب العظيم: باب الإعجازالعلمي.. وقد رأيت بنفسي في منتديات الملحدين والمنصرين من يخترعون الحكايات فيباب الإعجاز العلمي، ثم يتواصون بنشرها، ليتلقفها الساذجون والمغفلون، ثم يتضاحكونويصيحون: هؤلاء هم من يتحدثون عن الإعجاز العلمي.. غرضهم من هذا كله أن يُلَوِّثواهذا الباب العظيم وأن يصرفوا الناس عنه، فكم دخل في الإسلام من هذا الباب!
لكن الذي يعنينا الآن على وجه خاص هو:متى وكيف صارت ظاهرة الإعجاز العلمي ظاهرة ناجحة ومؤثرة وتجذب الناس إلى الدين؟..الجواب: هذه هي الثمرة العظيمة، وهذه هي المهمة الخطيرة الجليلة، التي قامت بهاهذه الكتيبة.. والتي كان الشيخ الزنداني واحدا من أفرادها.
ربما لا يعرف الكثيرون أن أصل دراسةالشيخ الزنداني هي: الصيدلة، ولقد التحق بكلية الصيدلة جامعة القاهرة في مطلعالستينات، لكن اشتعال الثورة في اليمن وانشغاله بها قطع عليه دراسته. لكن الشيخلما اهتم بهذا الباب وصار يجمع له العلماء وينفق له المال ويؤسس له المؤسسات عادإليه من جديد.
ويجب أن نقول وأن نفهم: إن أي حركةرائدة تفتح بابا جديدا، وترد طريقا مجهولة، وتمهد سبيلا صعبا فلا بد أن تعاني منبعض الأخطاء والعثرات.. ثم يأتي اللاحقون الذين ساروا على الطريق المعبدة والسبيلالممهدة فيستدركون ويصححون، ويظل للأوائل فضل السبق والريادة والكشف والتوجيه، لايخدش بعض ما وقعوا فيه من فضلهم شيئا. ويبقى للأواخر فضل التحرير والتحقيقوالتنقيح والتصنيف والتبويب والتنظيم، وفضل الزيادة على ما أشار إليه الأولون.
فلئن كانت الكتيبة الأولى قد افتتحتبابا عظيما كسرت به شوكة الملحدين المتزينين بثوب العلم، فهذا هو فضلها الكبير،وبذلك فقد أفسحت المجال لمن يجيئون بعدهم ليكملوا عملهم ويزيدوه دقة وضبطا وكمالا..وهؤلاء الآخرون إنما هم في عملهم ثمرة لجهد الأولين وفرعا من دوحتهم.
على أن نصرة الشيخ الزنداني للنبي � لاتقف عند هذا الحد.. ولئن وقفت عنده لكان مشكورا مأجورا إن شاء الله..
وإنما انطلق الشيخ الزنداني بالهمةالعالية التي عُرف بها ليكون مجاهدا بنفسه وماله وما يستطيع.. فما من قارئ فيتاريخ المسلمين في هذا القرن العشرين إلا ورأى للزنداني أيادي بيضاء داخل اليمنوخارجها.
فأما داخل اليمن فإن أول ما يهجم علىالخاطر هو هذا الصرح العلمي الدعوي الفاخر: جامعة الإيمان. تلك الجامعة التي بعثتذِكْر كثير من العلماء المنسيين في الزوايا والحارات والقرى والبوادي المجهولة،فما إن كان الشيخ الزنداني يسمع بأحدهم حتى يجتذبه إلى جامعة الإيمان، فمنها ينتشرعلمه في العالمين.
لقد كانت جامعة الإيمان اسما متألقا فيأوساط طلاب العلم، حتى كان يظن من لا يعرف أن هذه الجامعة عريقة عتيقة قديمة،مثلها مثل: الأزهر في مصر والزيتونة في تونس والقرويين في المغرب ونحو ذلك.. فتأملواعجب لرجل صنع معهدا في القرن العشرين يحسب الذين يرون ثمرته ويسمعون عنه أنه منعمل الأولين الأقدمين!!
وفي اليمن استقبل الشيخ الزنداني فيرحابه بل في بيته أناسا كانوا قد فروا من الظالمين، وخرجوا من ديارهم هاربينبدينهم، فوجدوا في ظلال الشيخ أمنا وسعة من بعد العنت والضيق، وهذا أمرٌ لا يتسعله هذا المقام.
وفي اليمن جاهد الشيخ بنفسه، وكان منزعماء الجهاد الذي كسر الشيوعيين في اليمن وأخرجهم منها مدحورين، وكان من حراسالشريعة والدين.. أقول هذا، ومع يجب أن أقول أيضا: ولكن التجربة لم تكتمل، بل لمتثمر ثمرتها التي كانت قريبة ومرجوة، وأسأل الله تعالى أن يهيئ من أولاد الشيخوتلاميذه من يكون أمينا دقيقا متقصيا متحريا فيكتب هذه التجربة ويؤرخ لها ليتعلممنها المسلمون.. وإلا فكيف للشيخ وهو علم كبير من أعلام اليمن أن يقضي آخر أيامهغريبا طريدا وقد كان ملء السمع والبصر، ولم يخرجه منها إلا من كان مغمورا مدحورامنبوذا لا يُعرف ولا يُرى ولا يُؤبه له!!
وأما خارج اليمن فقد كان الشيخ منالنافرين بنفسه وماله لمواطن الجهاد، لا سيما أفغانستان حين كانت تقاتل الاتحادالسوفيتي –القو� العالمية الثانية في زمانها- وله هناك أيام مشهودة، وأمور يعرفهاأهل ذلك البلد وأهل ذلك الوقت.. وكذا عمله في دعم جهاد فلسطين ومجاهديها، له فيذلك سهم كبير ونصيب جليل.
ولقد شهدتُ الشيخ في آخر حياته، حينجاء واستقر به المقام في اسطنبول، ورأيته وقد بلغ منه الكبر، فيصعب عليه المشيويثقل عليه الكلام، وهو مع ذلك متماسكٌ متصلب مستجمع لقواه، حتى لقد وقف في مسيرةلنصرة النبي ﷺ� فكان إذا جيئ له بمقعد يقول: أستحيي أن أقعد في هذا الموطن! وقد ظلواقفا على ما هو فيه من التعب.. وذلك موقفٌ ينبئك عن همته الثائرة ونفسه الفائرة،وعن الشباب المديد الذي ذهب في سبيل الله!
ومثلما هي سنة الله التي لا تتخلف فيعباده الصالحين، ما إن توفي الشيخ الزنداني حتى قامت أصوات أهل الفضل تنعيه وتمدحهوتدعو له وتترحم عليه وتتذكر مآثره، فكنت ترى في جنازته ومجلس عزائه وفي صفحاتالانترنت: أهل العلم وحملته، وأهل الجهاد ورافعي رايته، والعاملون لدين الله في كلسبيل.
وفي ذات الوقت قامت أصوات أهل الرجسوالزور تقدح وتشتم وتشمت، وقد اجتمع في ذلك عبيد الحكام المجرمين ممن كرهوا جهاده،وبقايا الشيوعيين ممن كُسر أسلافهم بجهاده، والعلمانيون الذين كرهوا ما أحدثه عملهمن الإيمان وتجنيد العلم في سبيل الدين، والمبتدعون الذين كرهوا جامعة الإيمانوثمراتها.
وقد صدق القائل:
إذارضيت عني كرام عشيرتي .. فلا زال غضبانا علي لئامهانشر في مجلة "أنصار النبي�"، مايو 2024
April 8, 2024
لماذا سميت سورة البقرة بهذا الاسم؟
من أعجب ما يأخذ النظر والفكر أنتُسَمَّى سورة البقرة بهذا الاسم!
ذلك أن هذه السورة هي أطول سور القرآنالكريم، تشغل ما يقرب الجزئين ونصف الجزء من الثلاثين جزءا التي هي كل القرآنالكريم، ثم هي حافلة بآيات القصص والأخبار، وحافلة بآيات الأحكام والشرائع، وحافلةبآيات الوعظ والترغيب والترهيب..
فلماذا من بين كل هذا المشهد الحافل،سُمِّيت باسم: البقرة؟
(1)
خلاصة قصة البقرة المذكورة في السورةالكريمة أن رجلا من بني إسرائيل قتل آخر، فأصبحوا وقد عرفوا القتيل وجهلوا قاتله، فذهبواإلى نبيهم وزعيمهم موسى –علي� السلام- ليسأل الله أن يدلهم عليه، ثم عاد موسى يقوللهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
فاستغربوا الطلب وقالوا: أتتخذناهزوا؟!
قال موسى: أعوذ بالله أن أكون منالجاهلين (أي: المستهزئين)، والمعنى: أن هذا أمرٌ من الله لهم، والله مطلع عليهموعالِمٌ بأنهم الآن ينشغلون بأمر القاتل.
فلما ظهر لهم أن هذا أمرٌ من اللهأبلغهم به رسوله، طفقوا يسألون عن البقرة!
قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟
فسأل موسى ربه ثم عاد إليهم يقول: إنهيقول إنها بقرة لا فارضٌ ولا بكر، أي: لا هي مُسِنَّة ولا هي صغيرة، وإنما وسط بينذلك. فافعلوا ما تُؤْمَرون.
فعادوا يقولون ويسألون: ادع لنا ربكيبين لنا ما لونها؟
فعاد إليهم موسى يخبرهم قول ربهم: إنهابقرة صفراء، بل شديدة الصفار (فاقعٌ لونها)، وفوق لونها الأصفر فهي حسنة الشكل(تسُرُّ الناظرين).
ومع هذا فقد عادوا يسألون مرة أخرىسؤال الذي يتحير لكثرة ما عنده من الاختيارات: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، إنالبقر تشابه علينا. فكانوا هذه المرة يسألون: هل هي سائمة أم عاملة؟
فجاءهم الجواب من ربهم على لسان موسىعليه السلام: إنها بقرة لا عاملة، فهي لا تثير الأرض، ولا تسقي الحرث، وهي خاليةمن العيوب، وخالية من أي لون غير الأصفر.
وقد وردت تفاصيل كثيرة في كتب التفسيرتصف بحثهم عن هذه البقرة، نتجاوزها الآن اختصارا، إلا أنهم وجدوها في النهاية،وغالى صاحبها في ثمنها كثيرا، فاشتروها وذبحوها!
فأمرهم الله تعالى أن يضربوا هذاالقتيل بجزء منها، قيل: بلسانها أو بذيلها، فلما ضربوه، قام من موته فقال: قتلنيفلان وفلان.
فكان هذا درسا عمليا لبني إسرائيل علىقدرة الله تعالى وإحيائه الموتى.
هذه خلاصة القصة، ولمن شاء التوسع،فعليه بكتب التفسير.. ولكن السؤال الذي يهمنا الآن: لماذا سُمِّيت هذه السورةالطويلة الحافلة باسم البقرة، البقرة التي هي بطل هذه القصة؟!
(2)
من قرأ سورة البقرة وأطال النظر فيها،وجد أنها رغم هذا الطول والتنوع والاحتشاد بالآيات تكاد تكون على قسميْن؛ القسمالأول: أخبار بني إسرائيل. والقسم الثاني: تشريعات إسلامية! وأما ما قبل هذينالقسمين أو ما بعدها فآيات قليلة للغاية.
فأما القسم الأول، وهو أخبار بنيإسرائيل، فهو يذكر إعراضهم عن رسالة نبينا محمد ﷺ� ويعيدتذكيرهم بما كان منهم في حق موسى عليه السلام من إتعابه وإرهاقه، ومن استعصائهمعليه، واتخاذهم العجل بعد أن نجاهم الله من فرعون، وقائمة طويلة طويلة من عصيانهمواتباعهم الباطل، وصلت إلى حد القول الصريح {سمعنا وعصينا}، وهو القسم الذي يستمرحتى مطلع الجزء الثاني.
وأما القسمالثاني، وهو التشريعات، فآيات كثيرة في تحويل القبلة والحج والمباح من الطعاموالمعاملات وأحكام في الصيام والوصية والزواج والطلاق والخلع والخمر والجهاد والحجوالنفقة والربا والدَّيْن والرهن، تستمر من مطلع الجزء الثاني حتى نهاية السورة.
ويتداخل القسمان بطريقة القرآن العجيبةالتي لا تشعر معها بالانتقال من خلال قصة تحويل القبلة، فلقد كان هذا الحدث هوالباب الذي انتهت إليه وخُتِمت به أباطيل بني إسرائيل وأساليبهم في الصد عن دعوةالإسلام، وكان هو نفسه الباب الذي ابتدأ به الحديث عن الأحكام الخاصة بأمةالمسلمين.
فإن القارئ يدخل إلى قصة تحويل القبلةوهو يظن نفسه ما يزال في أخبار بني إسرائيل وأساليبهم في التكذيب والنكران، فمايخرج منها إلا وقد ابتدأ في رحلة تلقي الأحكام.
ولقد بدا هذان القسمان واضحيْن لكثيرمن العلماء الذين تناولوا سورة البقرة، ودارت عبارتهم حول معنى الربط بين هذيْنالقسميْن، وكيف أن هذه السورة:
1.قد قُسِمَتْ بين أمة الدعوة (بنيإسرائيل) وأمة الإجابة (أمة الإسلام).
2.وأنها سورة نزع الخلافة من بني إسرائيل(وهذا قسمها الأول) وتكليف المسلمين بها (وهذا قسمها الثاني).
3.وأنها سورة بناء المجتمع المسلم علىنحو النهي والأمر: النهي عن أن يكونوا مثل بني إسرائيل، والأمر بإطاعة ما نزلإليهم من التشريعات.
وبهذا التوضيح لموضوع سورة البقرة نكونقد اقتربنا خطوة مما نريد فهمه، وهو: لماذا من بين سائر هذه المواضيع سُمِّيتالسورة على وجه التحديد باسم: البقرة؟
(3)
سورة البقرة هي أول سورة نزلتبالمدينة، واستمر نزولها طوال الفترة المدنية، فهي التي رافقت الجماعة المسلمةالأولى وهم يعايشون اليهود، وأخذت في تشييد بنائهم التشريعي حتى آخره، حيث نزلتحريم الربا في آخر الفترة المدنية، وفي نهاية الآيات التي نزلت تحرم الربا نزلتآخر آية من القرآن الكريم وهي قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِإِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[البقرة: 281].
وقد سمعت من بعض مشايخنا أن الجزءالأول من هذه السورة إنما هو بيان لأعداء الأمة الإسلامية، فهو التنبيه الربانيلعباده على الفئات التي ستنابذهم العداء وستقف في طريقهم.
ولهذا، فبعد مقدمة قصيرة للغاية عنصفات المؤمنين، تأخذ الآيات في وصف الأعداء الأربعة على هذا الترتيب: الكافرون، المنافقون،الشيطان، اليهود.
ومن العجيب المثير للتأمل أن يكونالوصف على هذا النحو:
1.تكون البداية بالكافرين، وكان نصيبهمآيتيْن فحسب {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْلَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَىسَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6، 7].
2.ثم يأتي الحديث عن المنافقين، فإذا بهيستغرق اثني عشرة آية!
3.ثم يأتي الحديث عن الشيطان الذي أغوىأبينا آدم وأزله عن الجنة فتستغرق القصة كلها تسع آيات!
4.ثم يأتي الحديث عن اليهود فيستغرق أكثرمن مائة آية!!
فكأن الخطر الذي يمثله اليهود على أمةالإسلام ودعوته أشد من خطر بقية الأعداء الثلاثة: الكفار والمنافقين والشيطان!
(4)
والآن، إذا حاولنا أن نربط كل هذاالكلام بعضه ببعض، لوجدنا أن قصة البقرة هي القصة الجامعة لكل موضوع سورة البقرة،فكأنها قلبُ السورة، إذ نرى أن المعاني الكامنة فيها هي المعاني التي تنتشر فيبقية السورة، كأنما هي قلب تنبعث منه الشرايين والأوردة! فما من معنى في هذهالسورة الطويلة الحاشدة إلا وهو كامن في قصة البقرة!
وتعال تأمل معي:
إن في قصة البقرة تحذير من الله ونهيلعباده المسلمين أن يجادلوا في الأحكام النازلة إليهم كما فعل بنو إسرائيل فيالأمر الذي جاءهم مع أن فيه مصلحتهم وفيه كشف سر القاتل الذي يبحثون عنه.. فهذهالقصة هي أنسب القصص التي يجب أن يفهمها قومٌ يُعدّهم الله تعالى للرسالة الخاتمة،ويتهيؤون لكثير من الأحكام التي ستنزل عليهم.
فهذه السورة الحافلة بالأحكام والتشريعاتفي قسمها الثاني تناسب قوما يقولون: سمعنا وأطعنا.. قوما يعرفون أنه لا ينبغي لهمأن يجادلوا في أحكام الله وأوامره ونواهيه كما فعل أصحاب البقرة.. قوما يعرفون أنجدالهم وكثرة سؤالهم يشدد الأمر عليهم ويزيده عسرا، وقد قال رسول الله �: "لوذبحوا أي بقرة كانت لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم". فمنبعد ما كان المطلوب ذبح بقرة، أي بقرة، ظلوا يسألون ويتمحكون حتى صار المطلوب منهمذبح بقرة لا مسنة ولا صغيرة، صفراء فاقعة اللون، حسنة المنظر، لا تثير الأرض ولاتسقي الحرث، لا عيب فيها ولا يشوب لونها شائبة!!
وفي قصة البقرة تنبيه للمسلمين إلى هذهالطباع الخبيثة لبني إسرائيل، وما تنطوي عليه قلوبهم من عصيان الله وإرهاق نبيهم،ولقد سمعت بعض مشايخنا يقول: تأملوا، كيف يفاوض هؤلاء القوم؟!! إنهم يفاوضون فيبقرة! ويفاوضون ربهم في علاه! ووسيط التفاوض نبيهم الذي خلصهم وأنقذهم من العذاب:موسى! ويفاوضون على أمر نزل إليهم فيه مصلحتهم!.. فتأمل كيف يمكن أن يفعلوا معغيرهم من البشر، فيما هو أجل من البقرة، مع وسيط تفاوض لا يبلغ شسع نعل موسى عليهالسلام؟!
وهذا الفهم لنفسية اليهود هو ضروريلقومٍ سيحملون الرسالة الخاتمة، ويتحملون عبء الدعوة.. ضروري من جهتيْن على الأقل:
1.من جهة أن يتجنبوا هذه الطباعويحاربونها في أنفسهم فيعظمون ربهم ولا يرهقون نبيهم ولا يتكلفون في الدين ولايسألون عما لم يُبْد لهم، فبذلك يبقى فيهم شرف الرسالة فلا ينزع منهم كما نُزِع منبني إسرائيل.
2.ومن جهة أن يعرفوا عدوهم وطباعهوطرائقه في التمحل والتكلف والمناورة، فيتأهبون لذلك.
وإن في قصةالبقرة معجزةٌ تؤكد أصل الإيمان الكبير: وهو الإيمان بالبعث واليوم الآخر، وذلكحين أحيا الله القتيل أمام أعينهم، فنطق وتكلم بمن قتله، ثم عاد إلى موته. وقدأحياه الله لهذه الغاية، {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْآيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73].
والإيمانباليوم الآخر، والحياة بعد الموت، هو الأصل الذي فرَّق بين المؤمنين والكافرين،فإن كثيرا من الكافرين يؤمنون بوجود الله، ويؤمنون بأنه خلق السموات والأرض، بلوبأنه خلق الناس.. فما كان أهل قريش يكفرون بوجود الله، ولكنهم لا يريدون الإيمانباليوم الآخر.
والسر في أنالكفار ينكرون اليوم الآخر ويرفضونه، ليس أنه متعذر عقلا، فإن الخلق من العدم،والإنشاء من النطفة، أصعب بكثير من الإحياء بعد الموت.. ولكن سر إنكار اليوم الآخرفي الحقيقة هو الرغبة في الحياة بلا تكاليف ولا تشريعات ولا مرجعية.. فاليوم الآخرهو يوم الحساب، وهو يوم الجزاء، وهو يوم الثواب والعقاب.. فمن آمن به، وجد نفسهمضطرا من فوره إلى معرفة ربه، ومعرفة ما يأمر به وما ينهى عنه، ووجد نفسه مضطراإلى الطاعة والتسليم والاتباع!
فمن أرادالحياة وفق هواه وشهواته ومصالحه ومطامعه، كان أشد شيء يزعجه ويؤرقه وينغص عليهنفسه هو: الإيمان باليوم الآخر.
إن أكثرالكفار مستعدين للإيمان بإله لا أثر له في الحياة، لا أوامر له، لا نواهي له، لنيثيب ولن يعاقب ولن يجازي، ولن يبحث عن أحد أطاعه أو عن أحد عصاه، والموت نهاية كلحي.. إن مجرد الإيمان بوجود الإله أمر يتقبله الكفار ويتعايشون معه بلا مشكلات!
لكن الصراعالضخم الكبير الذي يملأ هذه الحياة هو الصراع حول الإله الذي له تعاليم وتكاليف،الصراع حول الإله الذي سيبعث الناس بعد الموت فيجازيهم؛ فيثيب الطائع ويعاقبالعاصي.. هنا يصطدم الحق بالباطل في هذه الحياة وعلى هذه الأرض، وهنا تكون المعركةالعظمى: لمن السيادة والمرجعية؟ من الذي يملك أن يقول: هذا حق وهذا باطل؟ من الذيله حق السمع والطاعة؟ ما الذي نفعله وما الذي نتجنبه؟
كل هذهالمعركة خلاصتها تكمن في هذه الجملة الواحدة: الإيمان باليوم الآخر.. وأكثر الذينلا يؤمنون بالله، إنما هم في حقيقتهم وأعماق فكرهم لا يؤمنون به فرارا من الإيمانباليوم الآخر.
لقد افترقالمؤمنون والكفار حول الإيمان باليوم الآخر مطلقا.. آمن به المؤمنون، وكفر بهالكافرون.
وافترقالمؤمنون وأهل الكتاب حول الإيمان باليوم الآخر أيضا، ولكن على جهة التفصيل، فقدزعم اليهود أنهم إن عوقبوا فلن يعاقبوا بالنار إلا أياما معدودة {وَقَالُوا لَنْتَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]، فلهذا استخفوابالدين وبالتعاليم وبالشرائع، وكتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا: هذا من عند الله،وارتكبوا قائمة طويلة من الجرائم.
ولهذا كان علىالمؤمنين أن يؤمنوا باليوم الآخر على هذا النحو: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةًوَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُالْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81، 82]، وذلك أنهم يتهيؤون لتلقيالتعاليم والتشريعات الكثيرة التي لا بد لهم من تنفيذها كما أنزلها الله إليهم،فليس بين الله وبين أحد نسب ولا صلة ولا قربى ولا محاباة!
(5)
من أجل هذا،كان لا بد للمؤمنين حملة الرسالة الخاتمة من الانتباه الدائم إلى هذه القصة، قصةالبقرة، القصة التي جمعت سائر أقطار هذه السورة الطويلة الحافلة، القصة التينبهتهم إلى عدوهم الخطير، وأخبرتهم بتاريخ الأمة التي نُزِع منها شرف الرسالة،وأعدتهم لطريقة التعامل مع التشريعات النازلة إليهم.
نسأل اللهتعالى أن يفقهنا وإياكم في كتابه وسننه.
نشر في مجلة "أنصار النبي"، إبريل 2024
للتوسعفي بيان سورة البقرة وموضوعها واجتهاد العلماء والمفسرين فيه، ينظر: تفسير المنارلرشيد رضا، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، وتفسير القرآن الكريم لمحمود شلتوت، والنبأالعظيم لمحمد عبد الله دراز، ودراسات قرآنية لمحمد قطب.