محمد إلهامي's Blog, page 9
October 25, 2021
حواري مع مجلة المجتمع عن الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام
خلال السنوات الأخيرة تصاعدت ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب وتأجيج كراهية المسلمين، وربط الإسلام زورا بالإرهاب والتطرف، ومن مظاهر هذا كانت جرائم الإساءة للرسول الكريم � بعدة وسائل كالرسوم المسيئة، قوبل ذلك بحملات شعبية إسلامية تبنت خيار المقاطعة للمنتجات الفرنسية، وهي تتم عامها الأول، واستثمارا لهذا الدور الشعبي جرى مؤخرا تدشين الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام، لكن كان لابد من استعراض الأمر تاريخيا وكيف تعامل الرسول مع من أساء إليه؟ ثم ما هو سر العداء الفرنسي الحالي، وكذلك الدور الذي يمكن أن تقوم به الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام؟
ولهذا كان الحوار التالي مع الباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية محمد إلهامي وهو أيضا عضو الأمانة العامة للهيئة.
- من السيرة .. ما هي أبرز مواقف الإساءة للرسول وكيف تعامل معها النبي الكريم؟
إن أشد الناس بلاء الأنبياء، فسير الأنبياء عامة هي سير الرجال الذين تحملوا الإساءة والعذاب والأذى في سبيل الرسالة، ومثلهم في هذا الصالحون، فهم قد ورثوا طريق الأنبياء بما فيه من تكاليف ومشاق وصعوبات، ونحن إذا راجعنا السيرة فسنجد أن النبي � سمع الأذى لأول مرة في قومه منذ بلغ الرجولة يوم أعلن الرسالة، فقيل له "تبا لك، ألهذا جمعتنا؟".. وسرعان ما تحول النبي � في يوم واحد فقط، هو يوم إعلانه الرسالة، من "الصادق الأمين" إلى "ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وكذاب... إلخ".. وهذه من أشد الأمور على من عاش شريفا نسيبا معظما في قومه.. ثم استمر العنت والأذى، فكان � كما قال عن نفسه أول من أوذي وأول من أخيف وأول من جُوِّع، كما في الحديث الشريف "لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أُخِفْتُ في الله وما يُخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثالثة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد، إلا ما وارى إبط بلال".
وقد تعامل النبي مع الأذى بما تتطلبه الحكمة، فبالصبر والتحمل أحيانا في بداية الدعوة، وبالصفح والعفو أحيانا بعد أن صار قائد أمة. ولكن المهم هنا أن العلماء فرقوا بين أمرين: بين موقف النبي ممن سبه وآذاه، وبين موقف الأمة ممن سب النبي أو آذاه، فالنبي � له أن يعفو عمن سبه، بينما من واجب الأمة أن تقوم لمن سبه، فلا مجال لأن تصفح الأمة عمن سب نبيها بحال من الأحوال، وهذا الأمر مبسوط مفصل في الكتب الفقهية التي تناولت هذا الموضوع.
- تاريخيا.. لوتستعرض لنا محطات تاريخية شهدت إساءات للرسول وكيف تعامل معها المسلمون؟
حين كانت الأمة قوية لم يكن شأن سب الرسول مباحا أو متاحا من أصله، ولا كان يستطيع أحد أن يتجرأ على اقترافه، بل تروي بعض المصادر الغربية في الأندلس أن رجلا سب النبي أمام القاضي المسلم فتعامل معه على أنه مجنون، وصار يسأله ليتأكد من سلامة عقله، فأصر الرجل على موقفه، فحبسه ليتأكد ما إن كان ذلك موقفه فعلا أم هي من نوبات الجنون، فلما تيقن من أنه اقترف هذا واعيا أمر بقتله. هذا الرجل تعرفه التواريخ المسيحية باسم الفارو القرطبي، ويعد في تواريخهم طليعة الشهداء المسيحيين في مقاومة الاحتلال الإسلامي.
ما يهمنا الآن أن المسلمين كانوا حساسين جدا تجاه التعرض لمقام النبي حتى إن الإساءة إليه بالسب لم تكن متصورة، بل كانت عملا يدل على حالة مرضية، ويؤكد هذا ما جاء في أخبار القضاة المسلمين الذين حكموا بقتل من صدرت عنه الإساءة للنبي أو التعريض به.
طبعا نحن الآن في زمن صارت فيه الأمة مستضعفة، وهذا بنفسه يتحكم في معنى المقدسات، فحتى حرية الرأي والتعبير التي صارت قيمة مقدسة في الزمن المعاصر، تتوقف تماما عند مقدسات الأقوياء، فلا يمكن لأحد التشكيك في المحرقة النازية، أو سب الدولة أو احتقار الدستور أو إهانة العلَم الوطني.. فالواقع أن القوي لا يسمح بانتهاك مقدساته، حتى لو أن حضارته تقوم على أصل "حرية الرأي والتعبير"!!
- كيف ينظر الغرب لمقام ومكانة الرسول الكريم؟ وهل هنا تختلف نظرة المفكرين والعلماء عن تلك الصورة التي يتم ترويجها للعوام في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي؟
هذا سؤال في غاية الأهمية لأنه يضعنا أمام ثلاثة أمور مختلفة؛ الأمر الأول: أن الغرب كدولة ونظام وثقافة اجتماعية موروثة وسائدة وشائعة ينظر إلى النبي � نظرته إلى العدو الخطير الذي أخرج أمة تهدد وجوده، ويتحدث كثير من الغربيين أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي هدد وجود الحضارة الغربية لمرتين على الأقل، كما حصل في الموجة الأولى للفتوحات الإسلامية في صدر الإسلام والتي وصلت إلى باريس، أو في الموجة الثانية التي كانت على يد الدولة العثمانية ووصلت إلى فيينا.
والأمر الثاني: هو موقف المثقفين والباحثين والدارسين الذين استطاعوا أن يقرؤوا المصادر الأصيلة عن النبي، وأن يبحثوها، وهؤلاء تختلف مواقفهم من النبي � كما تختلف مواقف أي إنسان عرف الحق، فمنهم من آمن بالنبي وأسلم، ومنهم من ظل مقيما على عداوته وحقده، ومنهم من أنصف النبي وهو إنصاف تتفاوت فيه الدرجات والأحوال.
والأمر الثالث: أن هؤلاء الباحثين والمثقفين استطاعوا تكوين موقف مستقل عن الثقافة الجمعية الموروثة والسائدة، وهي الثقافة التي تكونت جذورها في أزمنة الحروب الصليبية -كما يتفق على ذلك المؤرخون والباحثون في العلاقات الإسلامية الغربية- .. ولكنهم رغم استقلالهم في تكوين مواقفهم، إلا أنهم نادرا ما يستطيعون اتخاذ موقف مضاد ضد مجتمعهم، لأن شبكة القوى والعلاقات داخل المجتمعات الغربية لا تسمح بإنصاف الإسلام ونبيه، ومن يتخذ منهم هذا الموقف فإنه يحكم على نفسه بالمعاناة ومواجهة الصعوبات.. فتكون الثمرة النهائية لجهد الباحثين والمثقفين والمؤسسات الأكاديمية هي ما يخدم السياسة الغربية المهيمنة، ويمكن في هذه المسألة مراجعة تجربة المستشرق الفرنسي المعاصر فرنسوا بورجا.
- خلال العقدين الأخيرين ظهرت موجة الرسوم المسيئة للرسول الكريم في عدة دول غربية كالدنمارك وفرنسا قوبلت بهبة شعبية إسلامية هل ترى أنه تم استثمار الدور الشعبي بشكل صحيح في هذه الأزمة؟
السؤال المهم هو: من يستثمر؟.. المشكلة أن هذه الأزمة الأخيرة مع فرنسا لم تتفاعل معها إيجابيا إلا عدد محدود جدا من المؤسسات الرسمية، بينما ظلت الحكومات تتعامل مع فرنسا أو حتى تدعم موقفها بشكل فجّ لم يكن يحدث في الماضي. إن الحالة السياسية العامة في الدول العربية والإسلامية تقف من الهبات الشعبية موقف التجاهل أو حتى موقف العداء، مع أنها بالمقياس المادي والاقتصادي البحت فرصة مهمة لتنمية الصناعات المحلية وتنشيط المنتجات البديلة وتنويع مصادر الاعتماد الاقتصادي.
ومما يؤكد ما نقول أن الهبات الشعبية نفسها إنما تظهر قوتها في مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تستطيع أن تتحول إلى فعاليات حقيقية في الواقع، بمعنى أنه إن لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي موجودة لظننا جميعا أن الأمة خانت حب النبي � وانصرفت عن التفاعل مع الإساءة إليه. وهكذا نرى أن المشهد الحالي لا يعبر عن حقيقة مشاعر الأمة ومواقفها.
-مؤخرا تبنت فرنسا بشكل رسمي الرسوم المسيئة للرسول بحجة حرية التعبير، وإصرارا منها على ذلك أعلنت تكريم المدرس الذي عرض تلك الرسوم مؤخرا بمناسبة مرور عام على مقتله، كما أنها سنت عدة قوانين من شأنها التضييق على مسلميها وإغلاق مساجدهم، وتكيل الاتهامات للإسلام بحجة التطرف، متناسية تاريخها الاستعماري المليء بالمجازر بحق بلادنا المسلمة وأفريقيا.. برأيك لماذا تبنت فرنسا هذا الموقف؟
الشيء من معدنه لا يُستغرب، فالافتراس من طبائع الوحوش، والتحليق من طبائع الطيور، وفرنسا عريقة في معاداة الإسلام، منذ 1300 عام، عندما توقفت الفتوحات قبل باريس في معركة بواتيه، منذ ذلك الوقت ترى فرنسا أنها قلعة المسيحية الكاثوليكية، حتى بعد أن تعلمنت في خضم الثورة الفرنسية، فإنها لم تتخل عن روحها الصليبية، حتى قيل بحق: "صليبيون بالنهار، علمانيون بالليل"، ويتسم السلوك الفرنسي تجاه الإسلام بعدائية عميقة ومكشوفة، فحتى الإنجليز والأمريكان -مع كل عدائيتهم- لم يكونوا بهذه الفجاجة الفرنسية في التعامل مع المسلمين سواء في داخل بلادهم أو في البلاد التي احتلوها. ويجب ألا ننسى أن الحروب الصليبية إنما كان نصيب الأسد فيها هو لفرنسا. فمنها انطلقت، وأغلب المقاتلين فيها من الجنود والأمراء كانوا فرنسيين، ولذلك غلب عليها في التواريخ العربية اسم "الفرنجة".
فالسؤال عن سر العداء الفرنسي يشبه السؤال عن سر افتراس الوحش أو عن سر تحليق الطير، ثم نضيف إلى ذلك أن فرنسا الآن تشعر بالتهديد وتضاؤل الدور، فلم تعد فرنسا دولة مؤثرة في السياسة العالمية، بل حتى تراجع دورها في أوروبا، ومن المتوقع ممن يشعر بالهزيمة أن يبدأ في إثارة المعارك وافتعال الأزمات ليحصل على الدعم وليحقق التحشيد.. والمسلمون هم الطرف الأضعف الذي يمكن خوض معركة مأمونة العواقب معهم، إذ ليس لهم من يدافع عنهم أو من يهدد مصالح فرنسا إذا استهدفتهم.
-ردا على موقفها.. ظهرت حملة شعبية تدعو لمقاطعة المنتجات الفرنسية، وتعد هذه الحملة من أنجح المواقف الشعبية استمرارية في تبني نصرة الرسول ورفض الإساءة إليه صلى الله عليه وسلم فقد أوشكت أن تتم عامها الأول.. فما هو تقييمك لهذه لحملة؟
لا شك أن حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية كانت أقوى مما تخيل الجميع، واستطاع الناشطون على مواقع التواصل ابتكار العداد اليومي للمقاطعة، وظل وسم المقاطعة وسما متصدرا طوال أيام السنة، التي كانت حافلة بالأحداث الكبيرة والخطيرة.. وحتى لو اختلف بعض الناس حول التأثير الحقيقي للمقاطعة، فمن المؤكد أنه كان تأثيرا مهما، ومن أجل ذلك تحركت الخارجية الفرنسية كثيرا لمحاولة حصار هذه الحملة.
ولكن النجاح الأهم هو المعنى التربوي والنفسي والإيماني لهذه المقاطعة، فحتى لو لم تكن المقاطعة مؤثرة بأي شكل، فإن استعادة المسلم لكرامته وحميته وغيرته، وتعبيره عن ذلك ولو بمجرد الامتناع عن الشراء، إن مجرد ذلك هو نجاح عظيم ومهم نحتاجه بشدة، ففي اللحظة التي نفقد فيها غيرتنا وحبنا لنبينا أو استهانتنا بالإساءة إليه نكون قد انتهينا وسقطنا في اختبار الإيمان أولا، قبل أن نسقط في التبعية الكاملة لأعدائنا! وهي تبعية اقتصادية وثقافية ونفسية شاملة.
- هل يمكن تكرار هذا النموذج من الحملات مع الدول التي تسيء للإسلام أو تضطهد المسلمين لديها كالهند؟
أكرر على نفس المعنى: تظل المقاطعة سلاحا تربويا ونفسيا وإيمانيا، وهو مهم جدا جدا، ويمكن استعماله في كل موقف.. ولكن الحديث عن التأثير الاقتصادي للمقاطعة تجاه الدول التي تضطهد المسلمين، يحتاج إلى قياس كل حالة بمفردها، لاختلاف الظروف والتفاصيل والمنتجات والقدرة على التخلي عنها وغير ذلك من العوامل.
- مؤخرا دشنتم الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام.. من أين جاءت الفكرة؟ وماذا ينتظر من أدوار يمكن أن تقوم بها الهيئة؟
يعود الفضل في هذه الفكرة للشيخ محمد الصغير، عضو الأمانة العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقد كان من أهم وأنشط المتبنين لحملة المقاطعة على مواقع التواصل، وهو لشهرته وكثرة متابعيه مثَّل ضلعا مهما في هذه الحملة. ثم طرح الفكرة على بعض من المشايخ الذين شاركوه هذا الهمّ بحملة المقاطعة، فانتهى الأمر إلى هذه الفكرة.
وإذا أردنا اختصار دور الهيئة، فهي أنها تحاول أن تكون تجميعا لمجهودات نصرة النبي � بحيث تصل في النهاية إلى تجريم الإساءة إليه في أي مكان، وهو ما يستدعي في الوقت نفسه القيام بحملات للتعريف بالنبي واستنهاض الهمم في نصرته، وإتاحة المجال للطاقات المغمورة والكامنة لتنشط في نصرة النبي، وتوجيه الأنظار والأبصار إلى هذا الموضوع.. ربما يمكن أن نصف مهمة الهيئة بأنها "الدبلوماسية المحمدية"، فلو كان ثمة دولة إسلامية واحدة تعبر عن الأمة لكانت من أوائل مهماتها التعريف بالنبي ونصرته وتحشيد الطاقات في سبيله.
نشر في ، 25 أكتوبر 2021
October 20, 2021
على هامش كلمة شيخ الأزهر في ذكرى المولد النبوي
وجدت أخيرا بضع دقائق استطعت فيها أن أستمع لكلمة شيخ الأزهر أحمد الطيب في احتفال المولد النبوي..
وأحسب أن من استمع إلى الكلمة سيغلب على ظنه أنها كتبت في مكتب السيسي، لا في مكتب الطيب، فهي كلمة بائسة حتى بالنسبة لمواقف الطيب!
أولها ثناء على النبي وصفاته، وأوسطها إدانة صريحة للحركات الإسلامية التي يسمونها "إرهابا وتطرفا"، وآخرها إدانة خجولة لصعود اليمين في أوروبا، وهي إدانة مبررة بأنهم إنما يتخذون "التطرف" ذريعة لأغراضهم!!
ووقع في الكلمة خطأ خطير، أثير حوله غبار في أوساط المبغضين للأزهر، ذلك هو استدلال الطيب بكلمة منسوبة لجورج برنارد شو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كلمة لا تثبت عنه، وأتذكر أني قضيت أياما طويلة قبل نحو 12 عاما لمحاولة التثبت منها فلم أجدها رغم شهرتها وانتشارها. ولا شك أن دسّ هذه الكلمة في خطاب يلقيه شيخ الأزهر هو إما غفلة وجهل واستهتار يستحق كاتب الكلمة العقوبة عليها، أو أنها محاولة لتوريط شيخ الأزهر في خطأ يُحسب عليه!
وإذن، فعناصر الكلمة الرئيسية، ثم هذا الخطأ الفادح، هو ما يجعل الظن متجها نحو أن الذي كتبها واحد في مكتب السيسي.. فهي إلى لسان السيسي أقرب منها إلى لسان الطيب الذي لا يزال فيه بعض تعظيم للتراث!
ثم ثارت الشجون، وما أكثر ما تثور..
وتمدد بي الخيال نحو زمن سليمان القانوني، الذي كان أعظم ملك في عصره، ويبسط نفوذه على أوروبا وإفريقيا والجزيرة العربية، وتقاتل جيوشه وأساطيله في المحيطين والبحار الثلاثة والجهات الأربعة!!
في ذلك الزمان.. أرسل سليمان القانوني داود باشا إلى مصر، وكان داود باشا -كما ينقل مؤرخ العصر ابن أبي السرور البكري- على هذه الصورة:
"كان رجلا حليما، باذلا كريما، محبا للعلماء ... وكان محبا لمطالعة الكتب العربية، وجمع منها شيئا كثيرا، لأن غالب كتبة مصر كانوا يكتبون له مع كثرة شرائه لها أيضا، وكان محبا للفضلاء، الأئمة النبلاء، سوق العلم عنده رابح، وبالاشتغال إلى الترهات غير طامح. وإحسانه واصل إلى علماء مصر، والرخاء في زمنه موجود، والجور والظلم في دولته مفقود، والرعايا في دولته في الرفاهية وتسهيل الأرزاق من غير مشقة، فعليه الرحمة والرضوان مع توالي الزمان"
تصور عزيزي القارئ التعيس الذي يعيش في زمن السيسي، الذي سرق الأحباش منه النيل، وسرق الأعراب منه الجزيرتين، ويعمل عبدا للروم وخادما.. تصور، ماذا فعل شيخ الأزهر مع داود باشا!!
في ذلك العصر العثماني، وقف شيخ الأزهر السنباطي لينادي في داود باشا أن ولايته غير شرعية، وذلك أنه عبد، ولا يجوز أن يتولى العبد الولاية على الأحرار.. فغلى الدم في رأس داود باشا، وأراد أن يفتك بالشيخ.. فمن ذا الذي جعل نفسه سلطانا فوق السلطان؟ ومن ذا الذي يريد عزله وقد ولاه سليمان الذي هو أقوى ملك في عصره؟!!
أراد داود أن يفتك بالشيخ السنباطي.. فماذا حصل؟!
وقف جنود داود باشا له، مدافعين عن شيخ الأزهر، وقالوا له: هذا شيخ الإسلام الإمام!!!
ولم يجد داود باشا إلا أن يرفع الشكوى لسليمان القانوني، لقد عجز والي مصر -ثاني أهم الديار العثمانية- أن يتصرف مع من يريد عزله من منصبه!!
فكيف تصرف سليمان القانوني؟!!
أرسل إلى الشيخ شكره، ومع الشكر رقعة فيها عتق داود باشا!!
فأين السنباطي في جلالته ومهابته ومكانته، في عصر سليمان.. من أحمد الطيب في عصر السيسي؟!!
ألم تر أن السيف يزري بقدره .. إذا قيل: السيف أمضى من العصا؟
فإذا طاف في خيالك عزيزي القارئ التعيس الذي ابتلاه الله بالعيش في زمن السيسي أن ذلك إنما كان في زمن السلاطين الأتقياء.. فتعال أحدثك حديثا آخر عن الأزهر في زمن المماليك الأشقياء!!
فبعد هذه الواقعة بحوالي القرن وثلث القرن، كانت قبضة العثمانيين قد ضعفت في مصر، وكان الذين يديرون الحكم عمليا هم المماليك.
وقد وقع انقسام مملوكي شهير بين طائفتين منهم هما: القاسمية والفقارية، ووقع بينهم القتال، وحين انتصر القاسمية لم يجد فلول المماليك الفقارية إلا الجامع الأزهر يحتمون به.. فهرعوا إليه!!
فماذا فعل العسكر المنتصرون؟
هل أحرقوا الأزهر كما أحرق جنود السيسي مسجد رابعة؟!.. هل اقتحموه بأحذيتهم كما فعل عسكر السيسي في مسجد الفتح ومسجد النور بالعباسية؟!.. هل هدموه على رؤوس أهله كما فعل جند السيسي حين اعترض المسجد طريق كوبري أو طريق أراد إنشاءه؟!!
لم يجرؤوا على شيء من هذا، بل خرجوا إلى الوالي العثماني -الممثل الشرعي للسلطة العثمانية الضعيفة- واستصدروا منه قرارا بمعاقبة هؤلاء الثلاثين الملتجئين للأزهر ونفيهم إلى دمياط أو قبرص
(لا تتعجب، ففي ذلك الزمن كانت قبرص جزءا من بلاد المسلمين.. ولعلك تابعتَ القمة الثلاثية بين مصر وقبرص واليونان، عزيزي القارئ التعيس المبتلى بالعيش في عصر السيسي)
في الأزهر وقف الشيوخ لحماية الملتجئين، وعلى رأسهم شيخ الأزهر سلطان المزاحي، هل تحدوا قرار السلطة؟!.. لا، بل أكثر.. لقد خرج شيخ الأزهر على رأس أربعة من المشايخ إلى الوالي إبراهيم باشا، وحمله على إصدار قرار العفو عن هؤلاء الملتجئين للأزهر، وأجبره على إسقاط فرمانه الذي أصدره بالأمس بنفي هؤلاء.. وقالوا له: حتى لو فُرِض أن هؤلاء وقعت منهم مخالفات فإن التوبة تمحوها؟!
فماذا فعل الباشا العثماني؟
مزق فرمانه القديم، وكتب فرمانا جديدا بالعفو، وكان في صدر قراره "امتثالا لما رآه السادة العلماء الفضلاء"
فماذا فعل العسكر القاسمية المنتصرون؟!
نزلوا كذلك على رغبة السادة العلماء الفضلاء، وامتثالا لهم.
وبفضل هذه الهيبة التي كان يتمتع بها السادة العلماء الفضلاء عاد بعض المطاردين إلى مناصبهم بكامل رواتبهم وصلاحياتهم!!
ذلك هو الزمن الذي قصده شوقي حين مدح شيوخ الأزهر فقال:
كانوا أجلَّ من الملوك جلالة .. وأعز سلطانا وأفخم مظهرا
زمن المخاوف كان فيه جنابهم .. حرم الأمان وكان ظلهم الذرا
عزيزي القارئ.. لئن كنت من جيلي، ودرست قصيدة شوقي هذه في المدرسة، فلا تستغرب أنك لم تقرأ هذيْن البيتيْن من قبل.. فلقد كانا محذوفين من القصيدة، ضمن عميلة إخصاء ذاكرتنا التاريخية وغيرتنا الدينية!!
للمزيد:
September 21, 2021
في مثل هذا اليوم 21 سبتمبر
في هذا اليوم (21 سبتمبر) تمر بنا عدد من الذكريات المثيرة للشؤون والشجون!!
1. تشير بعض المصادر إلى أن هذا اليوم هو اليوم الذي وصل فيه نبينا صلى الله عليه وسلم إلى قباء، أي أنه يوم بدء الدولة الإسلامية، وهو ذكرى حدث الهجرة النبوية المشرفة التي هي أخطر لحظة في تاريخ الإسلام، بها صارت الدعوة دولة، وصار المسلمون أمة، وبها انطلقت حضارتهم العظيمة.. وربما يختلف التاريخ يوما أو يومين بحسب الخلل الذي يقع في حساب التوافق بين التواريخ الهجرية والميلادية.
2. وفي مثل هذا اليوم من عام 717م، توفي الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، وهو واحد من أولئك الخلفاء الذين لم يطل بهم العمر ولم تطل لهم مدة الخلافة ولكنه ترك إنجازات عظيمة..
فقد توفي وهو في الخامسة والأربعين، ومدة خلافته سنتان وثمانية أشهر..
ولكنه كان بداية التصحيح العظيم في مسار بني أمية، إذ ابتدأ خلافته بعزل ولاة الحجاج ورجاله، وقرب إليه الصالحين كرجاء بن حيوة وعمر بن عبد العزيز، وهو الذي عهد بالخلافة من بعده لعمر بن عبد العزيز -أفضل خلفاء بني أمية بعد معاوية رضي الله عنه- وظن البعض من صلاحه واعتدال الزمان في أيامه أنه المهدي.
ومن أعظم مآثره أنه عزم على فتح القسطنطينية، وجهز لها جيشا ضخما أنفق فيه كل موارد الدولة، وجعل قيادته لابنه ولأخيه، ونقل مقره إلى مرج دابق لتكون مركز عمليات متقدم لمتابعة الفتح، ثم أقسم بالله ليفتحن القسطنطينية أو ليموتن قبل ذلك.. وقد وفى بقسمه، فقد عاجله الموت وما يزال المسلمون في حصار القسطنطينية، في واحدة من أقوى المحاولات التي بذلها المسلمون لفتح القسطنطينية.
3. وفي مثل هذا اليوم من عام 1556 توفي شارل الخامس ملك إسبانيا الشنيع، وهو الذي يعده الإسبان من أعظم ملوكهم إذ كان أقوى ملوك أوروبا في وقته، وكان سيد العالم الكاثوليكي.
والمهتمون بتاريخ الأندلس يعرفون هذا الإمبراطور جيدا، كيف لا وقد كان صاحب أكبر عملية تنصير للمسلمين الأندلسيين، وقد غدر بالعهود التي بذلها بعدم تنصيرهم أو طردهم، وقد حكم سبعا وثلاثين سنة كانت جحيما على الأندلسيين، وازدهرت فيها محاكم التفتيش الرهيبة الرعيبة.. واستطاع أن يفلت من هزيمة محققة على يد السلطان العثماني سليمان القانوني عند أسوار فيينا! وكان هو وسليمان القانوني أعظم ملوك ذلك العصر، ويتوقع المؤرخون أن لو تأخر أو تقدم زمن أحدهما عن الآخر لكان التاريخ قد تحول مجراه حتما!
ولا تقتصر شناعة هذا الملك على ما نزل بالمسلمين في الأندلس أو في الشمال الإفريقي، بل إن الأسطول الإسباني كان يتوحش على طول السواحل الإفريقية -فضلا عن السواحل الأمريكية التي كانت عالما جديدا آنذاك- والتي كانت، أي السواحل الإفريقية، حافلة بالممالك المسلمة التي أدخلها هذا الإمبراطور في عصر الإذلال والاستعباد.. وهو العصر الذي يسمونه تهذبا وتلطفا عصر الكشوف الجغرافية، ويستحق أن يسمى بجدارة عصر التوحش الأوروبي!!
4. وفي مثل هذا اليوم من عام (1840) وُلِد السلطان العثماني مراد الخامس.. وهو السلطان الذي لم يبق في السلطنة إلا تسعين يوما، ثم قيل بأنه يعاني من الجنون، فعُزِل واختير بعده أخوه السلطان العثماني الشهير عبد الحميد الثاني.
ويعد عصر مراد الخامس عصرا تراجع فيه قوة السلاطين، إذ قُتِل قبله عمه السلطان عبد العزيز، ونُصِّب هو بعد انقلاب من رجال الدولة النافذين، ثم عُزِل كذلك بأمرهم، فكاد نفوذ السلاطين يذهب تماما لولا أن أخاه الذي بعده -عبد الحميد الثاني- أمسك بتلابيب التاريخ، وأجَّل هذا المسار ثلاثين سنة أخرى!
5. ومن عجائب القدر أن عبد الحميد الثاني وُلِد في نفس يوم مولد أخيه، (21 سبتمبر أيضا) لكن بعد عامين من ولادته (في 1842)، وهو السلطان المشهور، الذي حاول تجديد الخلافة، وهو آخر السلاطين الأقوياء من بني عثمان، ويعد الانقلاب عليه في 1909 هو النهاية الفعلية للدولة العثمانية الإسلامية، وهو بداية دخول الدولة العثمانية في العلمنة والتتريك واتباع الغرب عن قناعة ورغبة من رجال الدولة لا عن اضطرار أو بنية الاقتباس من التقدم الغربي.
وعبد الحميد الثاني أشهر من أن يُتَكَلَّم عنه في هذه السطور، ولكن يمكن القول بأنه آخر خلفاء المسلمين على الحقيقة، ومن ذلك الوقت لم يعد للمسلمين خليفة يفكر في أمرهم وشؤونهم، ولم يعد للمسلمين مركز قوة يدافع عنهم أو يستندون إليه.
6. وفي مثل هذا اليوم من عام (1866) وُلد المؤرخ البريطاني الشهير هربرت جورج ويلز، وهو أديب وعالم اجتماع، وعرف بكتابه موجز تاريخ العالم، وفيه أنصف التاريخ الإسلامي في عدد من المواضع، منها
قوله عن الفتوحات الإسلامية: "أعجب قصص الفتوح التي مرت على مسرح تاريخ الجنس البشري"
وقوله عن التراث الإسلامي "لقد قذفت المقادير بالذكاء العربي في طول العالم وعرضه بصورة أسرع وأروع مما فعلت بالعقل اليوناني قبل ذلك بألف سنة خلت، لذا عظمت إلى أقصى حد الاستثارة الفكرية التي أحدثها وجودها للعالم أجمع غربي بلاد الصين، كما اشتد تمزيق الأفكار القديمة وتطور أخرى جديدة ... كان العلم يثب على قدميه وثبا في كل موضع وطئته قدم الفاتح العربي"
7. وفي مثل هذا اليوم من عام (1911) توفي البطل الإسلامي العربي الكبير، أحمد عرابي، زعيم الثورة العرابية، وآخر قائد للجيش المصري ينحاز للشعب ضد الاستبداد والاحتلال.. وهو زعيم الثورة التي أثبتت لأول مرة أن الأنظمة المحلية العميلة تستند في وجودها وبقائها إلى القوى الأجنبية، ولهذا نزل الإنجليز بأنفسهم لاحتلال مصر لكي لا تنجح ثورة عرابي..
كان عرابي زعيما على طول العالم الإسلامي وعرضه، وكان المسلمون في الهند والمغرب يتابعون أخباره وقت أن لم يكن ثمة وسيلة إعلام إلا صحيفة رسمية وحيدة، وصحف محلية نادرة في مصر فحسب.. وكان الناس إذا لقوه في منفاه يقبلون يده ويلمسون ثيابه.. لقد كان زعيما تخوفت فرنسا أن يجدد نجاحه من جديد عصر الأبطال المسلمين القدامى كصلاح الدين الأيوبي.
ولولا بعض الأخطاء التي وقعت منه لطبيعة كونه جنديا في الدولة الحديثة والجيش الحديث، لما استطاعت بريطانيا أن تحتل مصر.. وهو أمر فصلناه في مقالات سابقة يمكن الرجوع إليها.
8. وفي مثل هذا اليوم من عام (1916م) استطاعت قوات ما تسمى بـ "الثورة العربية" المدعومة بقوات الإنجليز أن تهزم الحامية العثمانية في الطائف.. ليبدأ في عالمنا العربي عصر دول التجزئة والتفتيت.. حيث أسماء وألقاب الملوك والأمراء وأصحاب الفخامة والجلالة والسمو، وهم لا يساوون في السياسة العالمية حمل بعير!!
لقد فضل الشريف حسين وقواته المدعومة إنجليزيا أن تكون الحجاز ومدنها المقدسة تحت الهيمنة البريطانية ولا أن تكون تحت الحكم العثماني.. ثم لم تلبث بريطانيا أن أسلمتهم لعبد العزيز فاكتسحهم، ولم يبق لهم من الملك إلا قطعة في صحراء الأردن، ثم مات الشريف حسين منفيا في قبرص، كأنه جندي مخطئ معاقب ولم يكن ذات يوم حليفا ينادون بألفاظ التعظيم والإجلال!!
ومن عجائب القدر أن هذا اليوم نفسه (21 سبتمبر) من عام 1970 شهد بدء القمة العربية في القاهرة لمحاولة معالجة أحداث أيلول الأسود، حين هجمت القوات الأردنية على الفلسطينيين.. وهو نفس اليوم الذي بدأت فيه قمة الطائف (1989م) لتحل مشكلة الحرب الأهلية اللبنانية..
ولا تزال هذه الملفات عالقة حتى الآن.. فلا نحن بقيت لنا خلافة جامعة، ولا هذه الدول استطاعت أن تنفع نفسها ولا أن تحل نزاعا بين شعوبها.. وإنما ظل بأسهم بينهم شديدا، وظلوا عبيدا عند القوى الأجنبية التي تحتلبهم وتستنزف أموالهم ومواردهم وبلادهم!!
September 4, 2021
لو لم أكن مسلما، لوددت أن أكون مسلما
في خطابه، بتاريخ 31 أغسطس 2021 قال بايدن بأن 18 شخصا من قدماء المحاربين ينتحرون يوميا في أمريكا!!
هذا مع أن قدماء المحاربين هؤلاء يتمتعون بالعديد من المزايا والمخصصات في المجتمع الأمريكي، ويُنظر إليهم بنوع من التقدير والتوقير.
1. الجوع والشبع!
يبدو واضحا إذن، أن القوة المفرطة لم تجلب السعادة، وأن المحاربين القدماء الذين لطالما تمتعوا بشعور القوة الطاغية، وأعيد تمجيدهم مرارا في الأفلام الأمريكية، لم يحصلوا على ما يجعلهم يتمسكون بالحياة، وفضَّلوا عليها الانتحار!!
تكفي هذه الظاهرة وحدها للتعبير عن إفلاس الحداثة، وعن فقر المادية الغربية في تلبيتها لمطالب الإنسان، بالأحرى: لمطالبه الروحية!!
لقد غذت الحداثة والمادية سائر الغرائز الإنسانية، أبو معنى أصح: الغرائز الحيوانية، وتفننت في إشباع الشهوات: الأكل والشرب والجنس والشهرة والنفوذ والقوة والهيمنة.. ولكنها ظلت تدفع بالناس إلى الانتحار في قوافل تزداد طولا!
سيظل الإنسان باحثا عن المعنى، عن شبع الروح، عن الطمأنينة النفسية، وتلك أمور لا ينالها من سكن القصور الذهبية، واستطاع تدمير القرى بضغطة زر كأنه يلعب على الكمبيوتر!!
وهذا البحث الإنساني الحثيث عن المعنى والطمأنينة هو نفسه المقاومة الإنسانية للعلمانية والمادية، وهو نفسه الرفض الإنساني لانحصار الدين في دار العبادة وحدها.. وكما قال المسيري: لا يمكن أن نصل إلى جيل مكتمل العلمنة لأن طبيعة الإنسان ترفض ذلك ولا تقبله.
والانتحار هو أبلغ تعبير عن الرفض، لأنه رفضٌ تام وشامل، رفض لا يتسامح مع العلمانية الضاغطة الغالبة، حتى مع عجزه التام عن مقاومتها.. نعم، الانتحار هروب، وهروبٌ جبانٌ لا يليق بالإنسان الذي كرَّمه الله ومنحه قوة نفسية كما منحه نعمة التعلق به، ولكن إذا فقد الإنسان تعلقه بالله وانهارت نفسه فسيظل إنسانا كذلك، فيه تلك الروح التي أودعها الله فيه والتي لا تقبل أن يمسحها الجسد ويمحو وجودها، تظل تلك الروح تقاوم، حتى إذا أفلست وعجزت ولم يكن لها من الله مدد، حملت هي هذا الجسد إلى الانتحار ليتخلصا معا من هذه الحياة.
إن الروح الجائعة تحمل الجسد المتخم شبعا إلى الموت لأن جوعها أقوى من شبعه، وفراغها سلطان على امتلائه!!
نعم، إن العالم يحتاج إلى الإسلام.. إلى الروح التي توصله بالله، بسر هذا الكون، بأصل هذه الفطرة، بنور السموات والأرض!! وتبقى مهمة المسلمين في أن يزيحوا تلك القلاع التي أنشأها الباطل لتحجب الحق عن هؤلاء البشر التعساء!
2. عودة إلى الجندي!
يبدو أنها مهما تسارعت المخترعات الحديثة وتراكمت، فإن الجندي نفسه لا يزال هو الأساس في كل حرب. كأنما نعود لقول الشاعر
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا .. إذا لم يكن فوق الكرام كرامُ
لقد وفرت التقنيات الحديثة ما يجعل الحرب في بعض وجوهها نوعا من الألعاب الإلكترونية، وقد تسربت مقاطع فيديو لطيارين يقصفون القرى وهم يتصايحون كأنهم في لعبة فعلا، بينما هم يحرقون البشر حرفيا!!
لقد أتاح فارق القوة الضخم للجنود أن يهيمنوا على غيرهم من البشر، حتى استطاعوا أن يتلاعبوا بالرجال والنساء والصبيان والفتيات، استعبادا، واغتصابا، وتعذيبا، وقتلا.. بل تفننا في وسائل القتل!
إن التفنن في وسائل التعذيب والقتل هو نفسه تعبير عن طغيان شهوة السلطة والهيمنة، إنها البذرة الفرعونية التي يحملها الإنسان، فإذا كان فاسدا تضخمت وتكثفت حتى صارت أسوأ من الشيطان، فلم يجرؤ الشيطان أن يقول: أنا ربكم الأعلى، ولكن جرأ عليها فرعون من بني البشر!
وإذن، تحقق الطغيان للجندي، وفعل بعدوه المقهور ما شاء.. ولكن قوته النفسية ظلت هشة وضعيفة ومعرضة للانكسار والتحطم.. لقد وفرت له الآلة قوة جسمية مفرطة، ولكنها لم توفر له أية قوة نفسية!!
ترى كم رجلا في حركة مقاومة سواء في أفغانستان أو العراق أو غيرها انتهى أمره بالانتحار؟!
سيظل الإنسان هو العنصر الذي تتوقف عليه مصائر الحروب، فالآلات العمياء مهما توحشت وأمطرت حممها على الناس، فهي عاجزة أن تروي صاحبها بقطرة من الطمأنينة!
3. لماذا ينتحرون؟
إذا كان الجندي قد أشبع شهوته من القوة والطغيان والهيمنة.. فلماذا إذن ينتهي شأنه بالانتحار؟!!
ربما يكون هذا عذاب الضمير؟
وربما يكون خوفا متمكنا نتج عن معارك ضارية نجا منها بأعجوبة؟
ويقول المتدينون: ربما يكون هذا هو الدعاء، دعاء المظلوم الذي أقسم الله ليستجيبن له ولو بعد حين.
فلئن كان هذا هو عذاب الضمير فقد تبيّن أن الظلم والتجبر ليس علاجا، بل هو ينقلب على صاحبه يوما ما، حتى لو كان هذا بعد خروجه على المعاش! فالمظلوم لم تنته قصته بالموت أو الأسر، بل لقد ترك طعنة غائرة في ضمير ظالمه ستقتله ولو بعد حين!
ولئن كان هذا خوفا سكنه وانبعث فيه جراء المعارك الضارية، فقد تبين إذن أن المظلوم الذي يُقاوم الاحتلال قادر على إصابة المحتل الظالم في كل الأحوال، فإما أصابه في جسده، وإما ترك شيئا من الرعب في قلبه، لا يزال يفزعه من نومه، ويؤرقه في نهاره حتى يقضي عليه!
ولئن كان هذا هو إجابة الله للدعاء، فما يزيدنا هذا إلا إيمانا وتسليما!!
في كل الأحوال: المقاومة مثمرة.. منها ما ثمرته عاجلة، ومنها ثمرة آجلة.
فلا يحسبن الظالم ولا المظلوم أن القصة انتهت، فليس ثمة قصة قصيرة، بل هي قصة طويلة.. وما لا ينتهي منها في الدنيا فسينتهي منها يوم القيامة.
4. الحساب المنقوص
إذا كان المنتحرون 18 يوميا، أي أنهم يصلون إلى 6570 في السنة الواحدة.. ونحن لا ندري على وجه التحديد كم سنة حصل فيها هذا التعداد، فلو أنه حصل في سنتين لكان المنتحرون أكثر من 13 ألفا، ولو أنه كان في عشر سنوات لكان المنتحرون 65 ألفا!!
ثم هؤلاء في أمريكا وحدها، بخلاف بقية الدول التي قاتلتنا في أراضينا.
وهذا بخلاف من لم تصل أمراضهم النفسية إلى الانتحار.. ثم هو بخلاف القتلى والجرحى.
إن هذا الرقم الضخم لا يوضع حقيقة في حساب الخسائر العسكرية.. ولكنه إذا وُضِع فسيظهر أن فارق التكنولوجيا الضخم الهائل بين الأفغان وبين الحلف الدولي ذي الثماني والثلاثين دولة لم يؤد إلى فارق مكافئ في الخسائر والمكاسب.
إننا أمام مشهد يتجسد فيه قول الله تعالى (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم)
وإذا كان الأفغان قد فعلوا هذا وحدهم، بل فعله شطر منهم.. فكيف إذا كانت الأمة كلها في حال مقاومة وثورة وكفاح؟! ترى كم نستطيع أن نبلغ منهم؟!
إن الأمريكان إذن ليسوا بهذه الضخامة ولا بهذا الطغيان الذي نتصوره.. إن هزيمتهم ممكنة أقرب مما نتصور!!
إن هذا الرقم يجب أن يوضع في حساب الفقيه عندما يقيس المصالح والمفاسد، قبل أن يكون هو بفتواه سببا في إذلال الأمة.. كما قال علي رضي الله عنه "الناس من خوف الذل في ذل.. والناس من خوف الفقر في فقر"
وهو القول الذي صاغه الشهيد سيد قطب حين تكلم عن ثمة العبودية، وأن الذين يقبلون بها خوفا من تكاليف الحرية يدفعون فيها أعلى مما يدفعه الأحرار من الثمن!
آيتان في سورة النساء ذكر الله فيهما ضعف الباطل وبأسه.. قال تعالى
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفا)
(فقاتل في سبيل الله، لا تكلف إلا نفسك، وحرض المؤمنين، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا)
فكأنه جل وعلا يخبرنا أن الكيد ضعيف وإن كانوا ذوي بأس.. وحتى بأسهم هذا فإنه ضئيل أمام بأس الله وتنكيله!
لا بد من تثوير تلك المعاني ونشرها وبثها في أمتنا، أمتنا المحبوسة في حظائرها التي تسمى أوطانا، الحظائر المغلقة بمن يدعون حكاما.. أمتنا التي تمزقت حتى صار لا يشعر أحدهم بالآخر وقد كانوا جسدا واحدا إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد!
إن أمتنا الممزقة تثبت لنا أن أشلاءها يمكن أن تقاوم، هذه أفغانستان قاومت حتى انتصرت بعد عشرين سنة وصارت رعبا وعذابا ينتحر لأجله حتى من نجا منها بنفسه!
وهذا الشام الباسل الصامد وقف وحده أمام الجيوش والصواريخ والبراميل وكيد الشرق والغرب.. ومنطقة صغيرة لا تكاد ترى على الخريطة مثل درعا توقفت على بابها قوى كبرى شهورا، ودرعا محاصرة بلا مدد!!
إذا كانت أشلاؤنا وهي ممزقة قادرة على أن تقاوم بهذه البسالة.. فكيف يكون حال الجسد إذا اتصل فقام وثار.. أكاد أتصور الرعب الذي يسكن أعداء الأمة إذا دار هذا المشهد في خيالهم!!
إن الذي يشرق بشربة الماء كيف يتصور أن يشرب النهر، وإن الذي صابر عشرين سنة فعجز عن ابتلاع عظمة فلفظها وهرب منها كيف يتصور أن يأكل الأسد؟!!
لو لم أكن مسلما، لوددت أن أكون مسلما!
September 2, 2021
تلك العتمة الباهرة
ليس من أحد يسير في طريق الحق في هذا الزمن إلا وهو يتخوف على نفسه السجن والأسر والتعذيب، ويكون هذا من أشد هواجسه وأدومها وأكثرها إلحاحا على نفسه!
ولا أعرف أحدا يفضل السجن على الموت، بل كل من أعرف يفضل الموت على السجن!!
وفي ظل هذه الهواجس يثور السؤال المتكرر: ما كان لك ولهذا؟!.. أما كان خيرا لك أن تسكت وتصمت وتعيش مثل الناس؟!.. ماذا لو نزل بك السجن الآن، فكيف يكون حال أبيك وأمك؟ كيف تفعل زوجك؟ كيف سيتربى أبناؤك؟!!
تلك الأسئلة التي ينثرها الشيطان في روعك تزيد ضراوة وشراسة إذا ضاق الخناق عليك، وشعرت بالخطر..
يهرع المؤمن ليتلو على نفسه آيات (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) وأحاديث (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).. وبقدر ما في زاد الرجل من إيمان بقدر ما يطمئن قلبه بهذه الآيات والأحاديث!
يعين على هذه الطمأنينة أن الطغاة لا يغفرون، ولا يصدر عنهم العفو.. إن الاسم حين يسكن سجلات الطغيان لا يُمحى.. الطاغية نفسه يخبرك ألا سبيل أمامك إلى التراجع، فلا عفو هنا ولا توبة.. ولئن كان الطاغية يتصرف كأنه إله، فإنه لا يفكر أبدا أن يكون كالإله في عفوه ورحمته وقبوله التوبة وإحسانه إلى التائب!
وحيث قد أغلق الطاغية الطريق من جهته، فلم يبق أمامك -أخي الذي اختار طريق الحق- إلا أن تواصل الطريق.. فانظر كيف كان الطاغية من أسباب الثبات والتقدم!!
فلقد أقسمتُ أن لو كان الطغاة يغفرون ويقبلون التوبة، لعاد إليهم كثيرون.. ولكن الله ذو رحمة بعباده الصالحين!
لكن أمرا آخر، غير متوقع أيضا، عرفته من أسباب الثبات.. ذلك هو محنة من لم يكن له في الأمر نقير ولا قطمير.. فإنك حين ترى السجون حافلة بمن لم يفكر يوما في المواجهة أو المقاومة، وترى ما ينزل بهم من العذاب والنكال والإذلال، يندفع إلى رأسك فورا تفكير عنيف يسأل مفترسا: كيف هذا؟ ولماذا؟
ثم لن تجد جوابا إلا ما يندفع إلى قلبك بأنه: لا فرار من القدر، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.. فالقدر فوق الأسباب.. وما كل من سار في الطريق لقي الأذى، ولا كل من ابتعد عنه نجا..
وهكذا، يكون الفرار هو الفرار إلى الله..
تذكرتُ هذا الأمر، إذ قرأت "تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلون.. وهي من أشهر أعمال أدب السجون في العالم العربي، كتبها صاحبها عن قصة حقيقية لمعتقل قضى ثمانية عشر عاما في سجن تزمامارت المغربي الرهيب، الذي هو علامة على عصر الملك الحسن الثاني.
وقد شاء الله أن تعالى، وذلك من حكمته، أن يبقى اسم تزمامارت علما على هذه الحقبة برغم كل ما بذله ملك المغرب لمحو هذا السجن من سجلات التاريخ.. عدد من المذكرات والأفلام الوثائقية والحلقات التلفازية التي أحيت ذكرى تزمامارت حتى صار عصيا على النسيان.
فمن لم يكن من أهل القراءة فلقد تيسر له أن يستمع، ومن لم يكن من أهل السرد فقد تيسرت له الدراما.. وهكذا يضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء!
وبعيدا عن تزمامارت الآن، فإن أكثر ما جذبني في تلك الرواية أن الذين قضوا في تزمامارت ثمانية عشر عاما لم يفكروا لا في المقاومة ولا المواجهة ولا التمرد، كانوا مجرد جنود، وكانوا ينفذون الأوامر.. بل إن بعضهم ركب السيارات العسكرية لمجرد أن يصل إلى المدينة أو لمجرد أنه نُسِي في إجازة سابقة، فخرج معهم لمجرد أنها وسيلة مواصلات!!
وهكذا إذن، شاب لا يفهم في السياسة ولا يعرف شيئا عن الدين، فهو بين مدرسته العسكرية في أهرمومو وبين بيت الدعارة وبين بيت أهله.. وجد نفسه فجأة مدانا في محاولة انقلاب، دفع ثمنها ثمانية عشرة سنة من عمره!
الجنون والموت من الغيظ هو نتيجة منطقية لاختلال المنطق وانعكاس كل شيء.. وقد مات عدد منهم بالجنون والقهر بالفعل.. ستون سجينا مات نصفهم بالفعل.
لئن كان في مناهضة الطغاة شيء من السلوى، فهي تلك السلوى.. إن الأسير الذي أغاظهم فسجنوه ليس مضطرا لمواجهة هذا الجنون، على الأقل هو يعرف أنه يدفع ثمن الطريق.. وتلك سلوى عظيمة لا يعرف قدرها إلا من اصطدم لأول مرة بالفرعونية والطغيان فتفاجأ بكل هذا الطوفان من الوحشية اللا منطقية واللا معقولة واللا مفهومة والتي لا يمكن حتى التصرف معها بحال!
تلك العتمة الباهرة..
لن أحدثك كثيرا عنها، فإنها من أشهر الروايات، وستجد آلاف المراجعات والمقالات المنشورة عنها.. يهمني أن أشير إلى ما أرى أنه يغيب ذكره..
كنت قد حدثتك أخي القاريء، وربما تكون مللت مني في هذا، أن أدب السجون من ثلاثة فروع أرشحها دائما لمن يحبون قراءة الروايات، وهي: كتب المذكرات والسير الذاتية، كتب الرحلات والأسفار، أدب السجون.. ذلك أنها كتب تجمع بين كونها حقيقية -لا خيالية- وبين كونها خفيفة غير ثقيلة ولا جافة كما هي كتب العلوم الأكاديمية.
إن كتب المذكرات تبسط لنا علوم السياسة والحرب والتاريخ والاجتماع وعلم النفس أيضا، بحسب كاتبها.. وكتب الرحلات والأسفار تبسط لنا علوم التاريخ والحضارة والثقافة والسياسة والاجتماع.. وأدب السجون تبسط لنا علوم النفس والاجتماع والتاريخ!
وربما أقسم أن الذي يعكف على تلك الكتب تدبرا وتأملا، يستطيع أن يستفيد منها ما لا يستفيده الدارس الأكاديمي الذي يقرأ تلك العلوم في أثواب صفيقة غليظة وتصنيفات صارمة جامدة تنسف الانسجام الإنساني الكائن في تلك العلوم، فتجعلها تحليلا جافا لجزئيات متناثرة.
تلك العتمة الباهرة.. كتاب يخوض في علم النفس فحسب!!
هو لا يهتم بالتاريخ ولا بالحديث عن المغرب ولا الملك ولا الانقلاب وأسبابه.. إنما هو تعمق طويل في أساليب النفس حين تواجه محنة ضخمة لا فكاك منها!!
صاحبنا صاحب الرواية كانت له طريقته في ذلك، الاستسلام التام، النسيان التام، الطرد التام للأفكار والماضي، الطرد التام للمستقبل، محاربة الأمل، محاربة الكراهية.. سيبذل جهدا عظيما لكي لا يكره جلاديه، ليس من أجلهم، بل خوفا أن تكون هذه الكراهية هي النار التي ستأكله وتقتله.. سيعكف طويلا على نفسه وتأملاته وصمته الطويل، يحاول بذلك أن ينسحب من نفسه ويحلق في عالم الروح.. نجح أحيانا ووصل لما يمكن أن نسميه مقامات روحية عالية، ولما قد يسميه آخرون تهيؤات وهلاوس..
كان يلح علي طوال القراءة في هذا النمط سؤال يقول: هل هذه أيضا هي طريقة شعوبنا المقهورة في مواجهة محنتها؟.. إن الهرب إلى المخدرات أو إلى كرة القدم أو إلى الشهوة أو إلى الانغماس في عمل الخير أو إلى التصوف المنسحب.. كل هذا أليس هربا؟!
أليست محاولات التماس الأعذار للسلطة والجلادين هو هرب أيضا من مواجهة الحقيقة المرة التي يكون الاعتراف بها محنة بلا حل؟!
هل يكون علم النفس هو صورة مصغرة لعلم الاجتماع؟!
على كل حال، سواءٌ أعجبتك طريقة صاحبنا هذا في مواجهة محنته أم لم تعجبك.. فالمؤكد أنك ستتوقف طويلا أمام أنواع الموت في تزمامارت..
هناك من مات بالإمساك، تراكمت فضلاته في جوفه، تُرك بلا علاج حتى مات.. وهناك من مات بالإسهال، نزف كل ما في جسده حتى مات.. وهناك من مات باحتقان البول!
هناك من مات بالطعام الجيد، فحين تحسنت الأحوال في الشهور الاخيرة -لأن نظام المغرب أُحرج بانتشار فضيحة تزمامارت- لم يتحمل جسد أحدهم الطعام الجيد بعد ثمانية عشر عاما من الطعام الرديء.. فمات!
وهناك من مات من الجنون.. ومن المأساة في تزمامارت أن كلبا عضَّ أحد الجنرالات -فيما يبدو- فحكم عليه بالسجن خمس سنوات في تزمامارت.. لم يتحمل الكلب أسابيع، زمجر وغضب أول الأمر، ثم استكان وأنَّ وبكى ثانيا، ثم جُنَّ وهاج حتى خافه السجانون فلم يجرؤوا على إطعامه، فمات..
وهناك أنواع موت مبتكرة، فهناك من مات بسبب فقد الحِكاية.. كانت الحكاية سلواه، فلما مرض الذي يحكي فسكت وغشي عليه، مات الذي فقد سلواه!!
لكن موتا شدّني جدا.. لقد مات أحدهم من الشكّ..
في كل قصة سجن ستجد قصة معركة بين المساجين، إن الهزيمة تثير الإحباط، وتثير الشك في الطريق، ستقرأ قصة كهذه في كل عمل عن أدب السجون.. وفي قصتنا هنا اشتعلت مشادة بين سجينيْن لحسين وسليم على النحو التالي:
قال لحسين لسليم: أنت ابن زنا، أبوك نديم الملك وسميره، فلولا أنه يعرف أنك لست ابنه لتوسط لك ليعفو عنك!
ردَّ سليم، وقد بلغ منه الاستفزاز مبلغه، بواقعة قديمة خلاصتها أن لحسين استطاع -قبل أن يأتي لتزمامارت- أن يلتقي بزوجته في مستشفى سجن القنيطرة، فوقع بينهما ما وقع بين الرجل وامرأته، فحملت منه، فولدت ولدا.
لم يجد سليم إلا أن يستفزه فيقول له: كيف تصدق أن هذا ولدك؟!.. لقد أنجبته من آخر.. ما الذي يدريك؟!
وهنا انهار لحسين.. لقد وقع في نفسه الشك.. ومع أن سليما بذل كل جهد فيما بعد لينزع عنه هذا الشك وليعتذر عنه بأنها ساعة غضب قال فيها زورا، إلا أن لحسين لم يرجع عن شكه.. لقد حطم تزمامارت نفسيته، وجعلها هشة ضعيفة.. وما زال في شكه حتى مات!!
تلك الواقعة تحديدا قد تفسر لماذا تنتشر بين شعوبنا الشائعات الفجة الحقيرة التي تضرب اطمئنان الناس في أوثق صلاتهم الاجتماعية، إن حياتنا تحت ظل الاستبداد القاهر هي التي تنتج شكوكا فظيعة بين الرجل وزوجه، وبين الرجل وابنه، وبين الرجل وأخيه.. ولذلك تكثر حوادث القتل بشبهة الخيانة!!
الوضع القاهر يهيئ النفس لتصديق كل الشكوك، فإذا كان الفقر مصحوبا بالانحلال الأخلاقي والاجتماعي، فإنه ليس بعيدا أن تكون الجرائم والفواحش هي الحلول الأقرب لتفسير كل شيء.
قبل عقود لم يكن سهلا تصديق أن تزني المرأة بدافع الفقر، أو بدافع الحب.. كانت المجتمعات قوية متماسكة متعارفة.. فللمرأة آلاف السبل لتأكل دون أن تفرط في نفسها، وأمامها آلاف الخواطر والتهديدات لو فكرت في الخروج عن النظام الاجتماعي والمخاطرة بالتفريط في شرفها.. الآن ليس الوضع كذلك.. الآن يسهل تصديق هذا في المجتمع الذي اجتمع فيه الفقر والانحلال.. ولهذا يسهل جدا الإيقاع بين الأسرة الواحدة، ولهذا تكثر الجريمة، ويكثر الانتحار!!
أحد الحراس في تزمامارت بدأ في التعاون مع السجناء، فصار يهرب لهم العقاقير المسكنة أو الفيتامينات.. سأل أحدهم: أي نوع تريد؟ فقال السجين:
أريد أي نوع من العقاقير فعندي كل الأوجاع
نعم.. هكذا كان.. وهكذا هي مجتمعاتنا الآن.. نحن الآن في حاجة لأية عقاقير، ولأي نوع من العلاج، نحن نحتاج كل التخصصات، كل المسعفين، كل الأطباء، كل علماء النفس والاجتماع والدعاة والوعاظ والعلماء..
لقد منع عنا الطغيان والاستبداد كل أنواع الدواء، في الوقت الذي فتح فيه علينا كل أنواع المرض.. وصرنا نحتاج لكل قطرة جهد وكل كلمة حق وكل دعوة خير..
علينا أن نتعامل مع أمتنا بهذه النفسية: نحن بحاجة إلى أية أنواع من العقاقير، لدينا كل الأوجاع!!
August 26, 2021
August 23, 2021
درس طالبان: هل يكون الجمود حلا؟!
يختلف الباحثون حول التوقيت الدقيق الذي تدخلت فيه أمريكا فمدَّت يد المساعدة للمجاهدين الأفغان ضد الاتحاد السوفيتي.
لكن المؤكد أن هذه المساعدة لم تكن منذ البداية بل كانت بعدما تفاجأ العالم أن الإمبراطورية السوفيتية تتعثر في أفغانستان!! كان هذا مدهشا، ومن هنا فكّرت الأطراف السياسية في أن الدخول على خط هذه الحرب قد يسهم في هزيمة السوفيت.
لولا الصمود المرير والسنوات الطويلة التي صبرها الأفغان وحدهم، ما فكّر أحد في أن يراهن عليهم.
وهذه المساعدة الأمريكية تعرضت للفساد والسمسرة في أروقة الأنظمة المصرية والخليجية والباكستانية، وكانت لها قصة مريرة وحدها..
ومع هذا ترى كثيرا من المسلمين يُرجع السبب في نصر الأفغان وهزيمة الروس إلى الأمريكان وحدهم، كأنما لم يكن ثمة أفغان يحاربون ويصبرون ويلعقون الجراح ويكتمون الألم كالجبال!
وهؤلاء الناس تفاجؤوا أكثر فأكثر من النصر الحالي الذي حققته طالبان، فلئن صح أن لصواريخ ستنجر بعض النصيب في هزيمة السوفيت، فإن العالم الآن ليس فيه منافس لأمريكا وليس فيه مناصر لعدوها!!
لقد كان النصر أفغانيا خالصا.. وربما يصح القول "كان طالبانيا" خالصا، فإن قسما من الفصائل الأفغانية شاركت المحتل في جرائمه، وشكلت الحكومة العميلة التي وضعها فكان لها غطاء وسندا، وكانت له أداة وطليعة في قهر شعبها.
ولا يزال المرء يرى في كتابات هؤلاء وأقوالهم ما يعبر عن حيرتهم ومحنتهم.. لقد بلغت الهزيمة النفسية حدًّا لا يصدق فيها الواحد منهم أن المستضعف قد ينتصر.. كأنما لم يقرأ يوما قوله تعالى "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين".
كان بعض المشايخ والأصحاب في مصر، من الأزهريين يقولون: "سر قوة الأزهر في جموده".. ويستخدمون هذا اللفظ "الجمود" عامدين، يقصدون بذلك أن الضعف والهزيمة يبدأ من التشكك في التراث وفقدان الثقة فيه، وقلما جاء متشكك بنصر!
وفي كلامهم هذا وجاهة، ولولا أن المقام هنا ليس مقام تفصيل فيه، لرأيتني أجادل عن هذا الرأي حتى كأنني أتبناه.. ولكن المقصود هنا أن نموذج طالبان يمثل دليلا لصحة هذه المقولة.
طالبان -التي يحاول الجميع التأكيد على أنها تغيرت- يظهر لنا تباعا أن قياداتها لهم مؤلفات دينية في الفقه والأصول، يبدو من عناوين هذه الكتب وطبيعتها أنها من تلك التي تُوصَف بأنها "جامدة"..
أي أن القوم لا زالوا يشربون من المعين القديم! المعين الذي لم تكدره الحداثة! الحداثة التي دخلت على أفكار الإسلاميين العرب فأصابت منهم شطرا عظيما، حتى صار بعضهم الآن يعبد الدولة من دون الله! ويجاهد في سبيل الديمقراطية لا في سبيل الشريعة!
وبعض المقاطع المرئية التي خرجت عن بعض عناصر طالبان وقياداتهم الوسيطة تكشف عن هذا.. سُئل أحدهم هل ستسمحون بانتخابات سياسية تترشح فيها المرأة لرئاسة الجمهورية.. فلم يملك نفسه من الضحك وأوقف التسجيل!!
موقف يخبرك عن أن الرجل يحتفظ بالعزة الأولى والأفكار الأولى، حتى إن السؤال الحداثي يثير ضحكه!!
هذا السؤال الحداثي في عالمنا العربي أنتج الإسلاميون فيه تلالا من الكتب والأبحاث والدراسات، وسالت فيها بحار ومحيطات من التصريحات والحوارات، ووقف فيه الإسلاميون في قفص المحاكمة الفكرية ولطالما هتفوا أنهم يوافقون على هذا باعتباره من حقوق المرأة، بل باعتباره من دلائل انفتاحهم.
لست هنا بوارد المناقشة الفكرية للرأي الفقهي.. إنما أتحدث عن فارق النفسية التي يصدر عنها الطرفان!!
يخبرني أحد الأصدقاء أن متحدثا آخر لطالبان سُئل: ما رأيكم في الديمقراطية؟ فقال ببساطة: ما معنى الديمقراطية؟ فقالت له المذيعة: معناه أن يحكم الشعب نفسه بنفسه. فقال بنفس البساطة: نحن أصلا نريد أن يحكم الشعب نفسه بنفسه!!
يبدو المشهد عبثيا، وكأنه حوار طرشان.. لا يفهم المسؤول حقيقة سؤال السائل.. وهذا عين ما أعنيه من أن القوم لم يتلطخوا بالحداثة بعد.. ولو صحَّ أن الرجل يفهم حقيقة السؤال واختار أن يجيب بهذه الإجابات فهو عندي أعزّ منه إن كان لم يفهم، فهو إذ ذاك يركل الأسس الحداثية للفسلفة السياسية دون أن تطرف له عين!!
بينما مثل هذا السؤال قد أجيب عنه بما لا يُحصى في عالمنا العربي.. ومع ذلك لم يغفر النظام الدولي لأحد ممن أثبتوا انفتاحهم على أفكاره بل وأثبتوا قدرتهم على تطويع الإسلام لها!
إن الانقلاب على الغنوشي في نفس الوقت الذي تنتصر فيه طالبان هو حكمة ربانية عظيمة غامرة.. إن المقارنة تفرض نفسها فرضا على كل متابع في هذه اللحظة!
ما أحسب العالم الإسلامي يمكن أن يخرج رجلا أكثر تنازلا من الغنوشي.. أصلا نحن إذا سألنا ماذا كان بوسع الغنوشي أن يفعل أكثر مما فعل ليرضوا عنه، لما عرفنا الجواب.
تثبت طالبان أن ممارسة التفاوض والسياسة والحرب لا تستلزم أبدا تقديم تنازلات فكرية أو شرعية.. ربما يمكن تقديم تنازلات سياسية لتحقيق مصلحة أعلى أو درء مفسدة أشد.. وهذا التنازل نفسه إنما يوزن بحقائق الأمور وموازين القوى.. هذه الحقائق وتلك الموازين يكون حسابها وتقديرها عند المعتز بنفسه مختلفا تماما عن حسابها عند المنهزم نفسيا!
يقول أحدهم -نسيت اسمه الآن- إن طالبان انتصرت لأنه ليس لديهم تلفاز، فلم يتكون عندهم الرعب من أبطال الأفلام الأمريكية.
فلئن كان هذا صحيحا.. فلكم نحن بحاجة إلى بذل مجهود ضخم ضخم ضخم في تنقية ما تشربته نفوسنا من الصور والأفكار والمشاعر التي ضخَّمت في نفوسنا هذا العالم الغربي وقائدته أمريكا.
ترى من أين نبدأ؟!
فكروا معنا في هذا السؤال عبر التعليقات.
August 20, 2021
عبادة الأصنام المكسورة
قالوا: السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه
يريدون بذلك أن العاقل يرى ما يحدث لغيره فيفهم ويتعظ ويهتدي، وأما غير العاقل فلا يفهم العظة والعبرة إلا إذا وقع في المصيبة، فيتعظ بنفسه!
وقد وصف النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المؤمن بأنه "لا يُلدغ من جحر مرتين".. فعرفنا بذلك أن الذي يُلدغ من الجحر الواحد مرتين لا يستقيم له وصف الإيمان.
إلا أن صنفا ثالثا من الناس حدثنا عنه القرآن الكريم.. هو أعجب من الصنفين السابقيْن.. إنه صنف لا يتعظ أبدا.. وهذا الصنف لا يستيقظ إلا في الآخرة.. في العذاب الأليم!
قال تعالى (إن الذين حقّت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم)
هناك في العذاب ستذهب السكرة والغفلة والعناد والإصرار، ثم تأتي الحسرات وترتفع النداءات:
نداء يطلب الموت: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك، قال: إنكم ماكثون)
ونداء يطلب العودة إلى الدنيا وإعطاء فرصة أخرى: (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون)
إلا أن الله سبحانه وتعالى ذكر لنا سرًّا خطيرا عن هؤلاء، سرٌّ مُحَيِّر ومثير للدهشة.. ذكر أن هؤلاء إذا عادوا إلى الدنيا مرة أخرى فسيفعلون نفس ما فعلوا ولن يتعظوا أبدا.. لن يتعظوا حتى بأنفسهم
(ولو ترى إذ وُقِفوا على النار فقالوا: يا ليتنا نُردُّ ولا نكذّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يُخفون من قبل، ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهُوا عنه، وإنهم لكاذبون)
يستحق المرء منا أن يتسمّر أمام هذه الآية بالساعات ليحاول تأملها وفهم هذه النفسية التي إذا أخرجت من النار عادت لما كانت عليه.. فحتى دخول النار لم يكن لها واعظا.. إنه أمر صاعق حقا.. يستحق أن يجعل كل واحد فينا يقف متأملا في نفسه ومفتشا فيها متسائلا ما إن كانت نفسه تنطوي على تلك البذرة الخبيثة التي تجعله غير قابل للاتعاظ ولا للتعلم مهما كانت الدلائل بل مهما كانت التجارب!!
وقد ضرب الله لنا مثلا واقعيا على هذا الصنف في قصة سيدنا إبراهيم.. ذلك أن قوم إبراهيم عادوا من حفلتهم فوجدوا آلهتهم كلها مكسورة إلا كبير الآلهة لا يزال منصوبا وقد تعلق في رقبته الفأس!!
وبتلقائية عجيبة بحثوا عن الفاعل!! وبدؤوا عملية التحقيق وتحديد المشتبه فيهم، فتوصلوا إلى إبراهيم.. فذلك هو الذي صدرت عنه تصريحات سيئة في حق الآلهة!
لقد بحثوا عن الفاعل دون أن يتوقفوا لينظروا في حال تلك الآلهة التي تحطمت حتى دون أن تقاوم.. ولا إلى هذا الإله الكبير الذي ظل متفرجا ثم حاملا لسلاح "الجريمة"!!
لقد انصرفت عقولهم عن الأسئلة المنطقية التي يجب أن تكون في تلك اللحظة أسئلة حاضرة وحارقة وخارقة: ماذا فعلت تلك الآلهة لنفسها أمام من أرادها بسوء؟!
المهم، ذهبت دورية عسكرية وأحضرت إبراهيم، ووقف أمامهم فسألوه: (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟!)
لا يستطيع المرء أن يكتم ضحكته أمام هذه العبارة المتناقضة، "فعلت هذا بآلهتنا".. من الذي يفعل بمن؟ الآلهة أم العبيد؟!!
المهم أن إبراهيم -عليه السلام- ضغط على الجانب الذي يخفونه ويتهربون منه، (قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون)
ويبدو المشهد ساخرا تماما.. أبسط مبادئ المنطق أن هذا الإله الكبير الذي لم يتحطم، والذي يحمل سلاح الجريمة، هو الذي كسَّر بقية هذه الآلهة.. أو على الأقل: هو شاهد عيان على الجريمة.. فهو أولى الناس أن يكشف عما حصل!!
ومع أن الأمر يبدو منطقيا تماما، إلا أنه كان بالنسبة لهم كالمفاجأة المدوية، وهي المفاجأة التي أيقظت بعض أسلاك العقل (فرجعوا إلى أنفسهم، فقالوا: إنكم أنتم الظالمون).
ما الذي يحملنا على القبض على الفتى، إن كان بالإمكان سؤال شاهد العيان هذا، والذي يحمل سلاح الجريمة!!
لكن هذه الاستفاقة لم تلبث إلا لحظات، ثم انقضت عليهم شهواتهم وتقاليدهم وعاداتهم وتعلقهم بآلهتهم (ثم نُكِسوا على رؤوسهم: لقد علمتَ ما هؤلاء ينطقون).
فزاد إبراهيم -عليه السلام- في ضغطه وفضحه لحقيقة آلهتهم الهشة، ولحقيقة خرافاتهم التي يتعلقون بها (أُفٍّ لكم، ولما تعبدون من دون الله، أفلا تعقلون؟!)
ثم صدر قرار القضاء الشامخ: (قالوا: حرِّقوه، وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين)
هكذا حَكَموا على إبراهيم لا بالحرق، بل بالتحريق (المبالغة في الإحراق).. وذلك أنهم يريدون الانتصار لآلهتهم!!
الانتصار.. للآلهة المكسورة..
وهكذا ترى -عزيزي القارئ- كيف أن بعض الناس لا يتعظ أبدا.. فالآلهة التي تحطمت وتكسرت وانهارت.. وثبت بالدليل أنها لا تملك أن تدفع عن نفسها شيئا، بل ولا تملك أن تُخبر عما فُعِل بها.. هذه الآلهة، وجدت من يدافع عنها حتى بعد أن تكسرت وانهارت!
ترى، هل لا يزال بعضنا يعتنق أصناما مكسورة؟!
إن إغلاق العين والقلب عن الآيات البينات، وعن التجارب والوقائع، والإصرار على عدم التعلم منها هو عكوف عند الأصنام.. بل عند الأصنام المكسورة!!
إن الله يقيم حجته على عباده، وما من إنسان في هذه الحياة إلا وتضخ له الأيام من الأحداث ما تقوم له به العظة والعبرة.
ولكن كثيرا من الناس يُعَطِّلون حواسهم: سمعهم وبصرهم وفؤادهم.. يغلقونها على ما اعتادوا عليه.. فيهم شبه من الذين قالوا (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) حتى لو كان الذي جاءهم (أهدى مما وجدتم عليه آباءكم).
فتش عن صنمك المكسور..
August 15, 2021
بين طالبان والحركات الإسلامية العربية
ربما تبلغ خبرتي الآن في مجال المتابعة والسجالات السياسية ثلاثين سنة، لا أدري ما الذي جذبني لمتابعة الشأن العام منذ بواكير الصبا، وُلِدت آخر 1983 لكنني أتذكر جيدا تسمّري أمام التليفزيون المصري وهو يعرض مشاهد الجزائر مطلع التسعينات.. ثم جاء الانترنت مطلع الألفية ثم مواقع التواصل الاجتماعي لتعطي هذه الخبرة دفقة قوية، إذ صار الكلام كثيرا، وصار الكل خبيرا.. ولهذا كله أكاد أتوقع ردود الأفعال على كل حدث، مع اعترافي بأن ثمة من يبدع أقوالا غير متوقعة!
وبينما أنا في هذا الليل الهادئ، أحاول لملمة بحث، إذ وقفت أمامي مسألة، فهربت منها إلى تويتر، فوجدتني أمام تغريدة تجمع ما تفرق في غيرها، وأعطتني إغراء لحوحا بالتعليق عليها لأجل ما اجتمع فيها من المغالطات.. ولعل الشيطان زين لي هربي من البحث.
وأشدد تشديدا مؤكدا، قبل كل شيء، على أن النقاش هنا متعلق بالفكرة، بعيدا عن شخص صاحبها.. فإن التشخيص يزيد الأزمة ويُقَزِّم المشكلة.
قال صاحبنا:
"المقارنة بين مقاومة طالبان للاحتلال الأمريكي ونضال الحركات الإسلامية ضد الأنظمة القمعية في العالم العربي مقارنة في غاية السذاجة والسطحية!
الانطلاق من بقايا دولة وجيش ليس كالانطلاق من واقع سياسي/دعوي/خدمي.
ومقاومة غازٍ وجيش أجنبي، ليست كمواجهة طاغية محلي يتحكم بجيش البلد.
كثيرون حملوا السلاح في مواجهة الأنظمة، لم يجلبوا على بلادهم إلا الوبال!
المقارنة الصحيحة هي مع جبهة الإنقاذ في الجزائر لا مع طالبان، فالشكر والتحية لا اللوم والتقريع لمن جنب بلاده عشرية سوداء"
انتهى كلامه.
وقبل البدء في التعليق على هذا الكلام يجب أن أؤكد على مجموعة من المسلمات النخبوية لكي لا أبدو شعبويا جهولا ديماجوجيا سفيها :) .. وهي تلك المسلمات التي تتحدث عن الخصوصية الجغرافية والخصوصية الثقافية والخصوصية الاجتماعية... وأي خصوصية أخرى.
مع كامل مراعاة هذه الخصوصيات، فإن التجارب البشرية وإن كانت لا تستنسخ إلا أنها دائما ما تحمل العبرة والعظة.. وإلا ما كان لأحد أن يستفيد من تجربة أحد أبدا، إذ لم تتشابه تجربتان من كل وجه.
ولا شك أن هذه التجربة الطالبانية سيأخذ كل قوم منها ما يرون أنهم افتقدوه، ففي عالم الثورات السلمية سيتألق العمل الكفاحي الطالباني، وفي عالم الثورات المسلحة سيتألق العمل السياسي الطالباني، وسنجد كل قوم ينتبهون في التجربة الناجحة إلى ما كان ينقصهم في تجربتهم التي تعاني الإخفاق.
نبدأ الآن في التعليق:
1. طالبان لم تكن تقاوم الاحتلال الأمريكي وحده، بل إن الاحتلال الأمريكي أقام لهم حكومة أفغانية، لها رئيس ووزراء من الأفغان، وأجرى بينهم انتخابات أيضا.. فالأمر لم يكن محض احتلال أجنبي.. بل كان النظام القمعي "الوطني" بل ((والمنتخب)) حاضرا أيضا.
ولهذا فمحاولة تغييب هذه الحكومة "الوطنية" بل ((والمنتخبة)) من المشهد خطأ في التحليل.
وهنا يجب أن نسأل: كيف تعاملت طالبان مع هذه الحكومة؟.. هل سلكت معها مسلك الدعوة أو مسلك التوافق أو مسلك التعاون.. أم كانت حريصة دائما على وصمهم بالخيانة والعمالة وقطعت كل طريق يمكن أن تلتقي فيه مع هذه الحكومة؟!
إن الحركات الإسلامية في العالم العربي فضَّلت أن تتعامل مع الحكومات العميلة باعتبارها "سلطة شرعية" أو "شركاء الوطن".. ومن ثم فقد كان كل همها أن تحصل منهم على الاعتراف بالوجود الرسمي أو التوصل لصيغة تفاهم تكون فيه الحركة الإسلامية هي اليد السفلى. وفي الغالب أخفقت الحركات الإسلامية في مسعاها هذا، فأحسنها حالا من صار زينة للنظام الحاكم يستعمله كمنديل في رغباته القذرة (التطبيع المغربي نموذجا) وأدناها حالا من صار بين السجون والمنافي يردد رواية المظلومية.
ألم يكن ينبغي على الحركة الإسلامية أن تسعى جهدها في تعرية الأنظمة الحاكمة وفضحها وكشفها، والضغط الدائم على أدلة خيانتها وعمالتها؟!.. لن أهتم الآن بالإجابة على هذا السؤال.. القصد أن أقول: إن رد فعل طالبان على الحالة عندها لم يكن ذاته رد الفعل الحركي الإسلامي على الحالة عندنا مع تشابه الحالتين.
بل حتى الحركات الإسلامية التي تعاني من الاحتلال الأجنبي، كما هي الحالة في فلسطين، لا تزال تتعامل الحركة الخضراء مع سلطة فتح على اعتبارهم إخوة شركاء في الوطن بل وفي الكفاح والنضال. وليس قصدي هنا إدانة الحركة الخضراء بل قصدي توضيح أن نفس الحالة (حالة الاحتلال الأجنبي) لم تؤد إلى نفس رد الفعل الطالباني.. وبهذا فلا يصح قول صاحبنا بأن حالة طالبان مختلفة عن حالتنا من كل وجه.
2. صحيح أن الانطلاق من بقايا دولة وجيش ليس كالانطلاق من عمل دعوي وسياسي وخدمي..
لكن هذا الاختلاف في الانطلاق هو فرع عن اختلاف الخيارات.. فالذين اختاروا توصيف الواقع على أنه احتلال أجنبي وحكومة عميلة اختاروا في نفس اللحظة نوع الطريق الذي ساروا فيه.. بينما الذين اختاروا توصيف الواقع باعتبار حكوماتهم سلطة شرعية وشركاء وطن وجدوا أنفسهم في نفس اللحظة أمام مهمات دعوية وسياسية وخدمية!
وإذن، لم يكن الفارق ظرفا موضوعيا خارجيا متساميا.. بل كان نتيجة منطقية أفرزها خيار الحركة نفسها.
3. نعم، أتفق في أن كثيرين حملوا السلاح في بلادهم ولم يجلبوا إلا الوبال.. صحيح، ما يستطيع أحد أن ينكر هذا!
السؤال دائما هو: هل كان الخطأ عندهم في مبدأ المقاومة أم في طريقتهم فيها؟!
ولذلك إذا نظرت من الزاوية الأخرى ستجد من يقول: ماذا فعل أصحاب البرلمانات والأحزاب والمشاركة السياسية؟! هل حققوا دولة الإسلام في مكان ما؟! إن تجارب أولئك كثيرة ولم ينجح منها تجربة واحدة وحيدة بمحض السياسة.. حتى تجربتي تركيا وغزة اضطرتا لاستعمال القوة لمواجهة انقلاب عسكري وفتحاوي.. ولولا ذلك لكانوا مع إخوانهم الآخرين بين السجون والمنافي.
في واقعنا الإسلامي الحالي، يبدو مزعجا جدا أن يقف أحد الطرفين ليعير الآخر بفشله، فالجميع في الإخفاق سواء، فلا فضل لأحدهم على الآخر.. والأولى بكل منهم أن ينظر فيما أخفق فيه أو ليكمل أحدهما الآخر.
4. أما أطرف ما جاء في التغريدة فهو القول بأن "المقارنة الصحيحة هي مع جبهة الإنقاذ في الجزائر لا مع طالبان، فالشكر والتحية لا اللوم والتقريع لمن جنب بلاده عشرية سوداء"!
فهذه عبارة عجيبة اجتمعت فيها المتناقضات..
فأولا: إن بلد العشرية السوداء لا تزال أقوى من كل جيرانها رغم مرورها بالعشرية السوداء ورغم أن جيرانها لم يمروا بها.. فتلك العشرية لم تكن نهاية التاريخ!
وثانيا: فإن الذين تجنبوا العشرية السوداء منذ الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله أدخلوا بلدهم في سبعينية سوداء مستمرة حتى الآن، ولا نعرف متى ستنتهي.. فلم يكن تجنب العشرية السوداء حلا عظيما!
وثالثا: من المسؤول عن العشرية السوداء أصلا.. لا شك أن لجماعات التكفير نصيب، ولكنه نصيب يتضاءل أمام إجرام السلطة المدعومة دوليا، وها هي مذكرات ضباط العشرية السوداء تعترف بالجرائم التي ارتكبوها.. أي أن العشرية السوداء كانت اختيارا للسلطة ولم تكن اختيارا للجماعات الإسلامية.
ورابعا: هذه العشرية السوداء انتهت بمصالحة وطنية، نزل بها حملة السلاح مظللين بالعفو العام.. بينما الذين حاولوا تجنب العشرية السوداء -كالأستاذ الهضيبي وصحبه- عاشوا عشرين سنة في السجن.. ثم خرجوا برحمة الحاكم الجديد حين احتاج خروجهم.. ثم أدخلهم الحاكم الثالث السجون من جديد!!
يعني أكاد أتصور أن لو طُوِي التاريخ ووُضِع المستقبل أمام الأستاذ الهضيبي ورهطه، فهل كانوا سيختارون الاستسلام لعبد الناصر؟!
وخامسا: وهي المفاجأة.. أن انتصار طالبان كان بعد "عشرينية" سوداء، وليست عشرية واحدة!!!.. أي أن الانتصار الذي يحتفي به الكاتب هو نفسه وليد عشرين سنة من الحرب.. والرجال الذين يتسلمون الحكم الآن قضى بعض قياداتهم عشر سنوات في جوانتانامو.. وإنما خرج من خرج منهم في تبادل للأسرى، نفذه من لم يفكر في تجنب العشرية السوداء.
فلو أنهم فكروا في تجنب هذه العشرينية السوداء لكانوا الآن في السجون، ولعل بعضهم كان يعمل على تقديم المراجعات الفكرية!!
طالما يجري تخويفنا نحن بالعشرية السوداء فسيظل الحكام يقتلوننا بلا رحمة ويهدمون علينا البلاد بلا تردد.. يساوموننا بين العشرية السوداء في الجزائر أو سوريا أو العراق.. وبين أن نعيش عبيدا وكلابا نلحس نعالهم ونهدي أعراضنا لهم!!
لو أن كل حاكم طاغية عرف ووقر في يقينه أنه مخير بين الاستسلام للشعب أو مصير كمصير الخونة، لما تجرؤوا علينا كل هذه الجرأة.. وإنما فعلوا ذلك لأن منا من يخوفنا من الموت، ويفلسف لنا الحياة الذليلة!!
ثم أختم بتأكيد جديد وتشديد جديد، أن نقاش الفكرة هو الذي قصدت، وأن شخصنة الأمر لا يفعله مخلص يبحث عن حل، بل يفعله مغرض يبحث عن معركة.
August 13, 2021
سنن تاريخية في ضياع بيت المقدس
قصة قصيرة قبل بدء المقال: مُنِع هذا المقال من النشر في مجلة المجتمع الكويتية، وأوقفت المجلة مقالي الثابت فيها منذ ثلاث سنوات أو أكثر، بقرار من رئيس التحرير محمد سالم الراشد. وسبب ذلك تغريدةٌ كتبتها أدين فيها موقف راشد الغنوشي البطئ الثقيل المستسلم من انقلاب الرئيس التونسي قيس سعيد عليه.
فإذا بمحمد سالم الراشد يوقف التعامل معي بالمجلة، ولما سألتُه: زعم أن ذلك المقال يخالف "سياسات التحرير"، وهو يعرف أني أعرف أنه كاذب، وأوضح دليل على هذا الكذب أن المقال نُشِر بالفعل على الموقع الإلكتروني للمجلة كما يظهر في هذه الصورة، فلو كان مخالفا لسياسات التحرير لما نُشِر على الموقع. ثم ها هو المقال أمام القراء جميعا، ولهم أن ينظروا: هل يمكن أن يكون مخالفا لسياسة تحرير النشر في أي مجلة؟!
لم أكن أتوقع أن أُساوَم على رأيي وعلى ما أنشر في صفحاتي، من طرف رئيس تحرير لمجلة إسلامية تنتسب إلى جمعية الإصلاح الكويتية (الإخوان المسلمين)، ولا أدري كيف خطر له بالبال أنه يمكن أن يلوي ذراعي مثلا فأتوقف عن قول ما أؤمن به، إن الذي حفظنا من نفاق السيسي وابن زايد وابن سعود لن يسوءنا فننافق من لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا حتى بمقاييس الدنيا. ولكن حيث وقعت المساومة، فليهنأ بمجلته ومن يخضعون لمساومته.
وقد ذكرتُ له أني سأنشر مضمون هذا الذي حصل، والقراء يحكمون، فقال: افعل ما تريد. وأي محاولة لتكذيب ما قيل هنا فسأضطر لنشر صور المراسلات.
ذكرنا في أنه: من خلال مطالعة تاريخ بيت المقدس ستظهر لنا سنة مضطردة خلاصتها أن بيت المقدس هو بمثابة القلب من الضلوع والتاج من المدن، وأنه لا يُوصل إليه إلا من خلال العواصم المحيطة به، وتناولنا في المقال الماضي محطات الفتح العمري والتحرير الصلاحي، وقد ظهر لنا منها أنه لم يمكن فتح بيت المقدس إلا بعد فتح دمشق، ولم يمكن تحرير بيت المقدس إلا بعد تطهير دمشق والقاهرة من الأمراء الفاسدين، وباتحاد مصر والشام صار تحرير بيت المقدس مسألة وقت.
في هذا المقال نتوقف عند محطات ضياع بيت المقدس، وهي ثلاث محطات كبرى: ضياعه في الحملة الصليبية الأولى، وفي الحملة الصليبية السادسة، ثم ضياعه قبل نيف ومائة عام في الاحتلال الإنجليزي.
في محطات الهزيمة سنرى أنه لم يتمكن الأعداء من الوصول إلى بيت المقدس إلا بعد أن ضرب الفساد والخيانةُ أو الاحتلال العاصمتيْن المهمتيْن حوله: القاهرة ودمشق. وفي مرحلة لاحقة: اسطنبول!
عشية الحملة الصليبية الأولى انقسمت مصر والشام، فكانت مر تحت حكم العبيديين (الفاطميين) وهم شيعة إسماعيلية، وكانت الشام تحت حكم السلاجقة وهم من أهل السنة، وقد انقسمت بلاد الشام ودخلت في النزاع بين السلاجقة والعبيديين، وقد كانت كلا الدولتين قد فقدتا أمراءها الأقوياء، فقد تفكك السلاجقة في الشام بعد السلطان القوي ملك شاه (ت 485ه = 1092م)، ودخل العبيديون في ما يسمى بعصر الوزراء بعد ضعف الخلفاء، ثم زاد الوضع سوءا حين تحالف العبيديون مع الفرنجة الصليبيين ضد السلاجقة، وهو التحالف الذي استفاد منه الصليبيون في الاستيلاء على شمال الشام ثم سرعان ما غدروا بهم وانتزعوا بيت المقدس الذي كان في حوزة العبيديين آنذاك!
وهكذا ضاعت القدس حيث كانت العواصم القوية حولها في حال مزرية، فالخليفة الضعيف في بغداد، والأمراء السلاجقة الضعاف المتنازعين في الشام، والخليفة العبيدي الضعيف في القاهرة!! وستظل بعدها نحو مائة عام في ظل الاحتلال الصليبي والأقصى حظيرة خنازير!!
ستبدو هذه السنة التاريخية واضحة في مسيرة الحملات الصليبية التالية، فلئن كانت الحملة الأولى قد نجحت في احتلال بيت المقدس، فلقد جاءت الحملة الثانية بعد تحرير الرها على يد عماد الدين زنكي، لكنها لما وصلت كان عماد الدين قد رحل وتولى الأمر من بعده ابنه نور الدين محمود الذي استطاع أن ينشئ تحالفا مع حاكم دمشق، ومع أن دمشق كانت في هدنة مع الصليبيين إلا أنهم هاجموها أولا ناقضين للعهد بينهما، وهو ما أجبر دمشق على الدخول في مواجهة الصليبيين، وأدى ذلك –م� أسباب أخرى- لإخفاق الحملة الثانية.
وأما الحملة الثالثة فقد جاءت بعد تحرير صلاح الدين لبيت المقدس، وكانت أضخم الحملات الصليبية وأشرسها، ولكنها جاءت وقد توحدت مصر والشام، وكانتا تحت سلطان صلاح الدين، فانتهت الحملة الكبرى إلى الإخفاق ولم تستطع أن تحتل بيت المقدس! وعاد ملوكها يجرون أذيال الخيبة!
وأما الحملة الرابعة فقد انحرفت –لظرو� تخص الخلافات الأوروبية الداخلية- فبدلا من أن تأتي إلى المشرق توجهت إلى القسطنطينية واستولت عليها.
وأما الحملة الخامسة فهي الحملة التي تثبت بوضوح هذه السنة التاريخية التي نتحدث عنها، لقد جاءت تلك الحملة بفكرة جديدة بعد قراءتها لأخبار الحملات السابقة، تلك هي السيطرة على مصر أولا. لقد كان الدرس واضحا: لن يمكن الاستيلاء على بيت المقدس ولا الاستقرار فيه دون السيطرة على مصر والاستيلاء على القاهرة. وقد نقل ابن واصل خبر تشاورهم فقال: "اجتمعوا للمشورة في ماذا يبدءون بقصده، فأشار عقلاؤهم بقصد الديار المصرية أولا، وقالوا: إن الملك الناصر صلاح الدين إنما استولى على الممالك، وأخرج القدس والساحل من أيدى الفرنج بملكه ديار مصر، وتقويته برجالها، فالمصلحة أن نقصد أو لا مصر ونملكها، وحينئذ فلا يبقى لنا مانع عن أخذ القدس وغيره من البلاد".
من المؤسف أن صلاح الدين كان قد توفي، بل إن أخاه العادل سيف الدين توفي في أثناء الهجوم الذي شنته الحملة الصليبية على دمياط، وصار الشام إلى عيسى بن العادل، وصارت مصر إلى محمد بن العادل الملقب بالملك الكامل.
وفي واقعة لها دلالاتها الكثيرة والقوية، عرض العادل على الصليبيين أن يرحلوا عن مصر في مقابل أن يسلم لهم كل ما حرره صلاح الدين من المدن بما في ذلك بيت المقدس، ما عدا الكرك والشوبك، وانقسم الصليبيون أمام هذا العرض فمنهم من وافق ورآها فرصة لا تقدر بثمن، ومنهم من رفض ورأى أنه لا يمكن الاحتفاظ ببيت المقدس دون الاستيلاء على مصر، وانتصر الرأي الأخير!
لم يجد الكامل إلا أن يقاوم، وبعد فصول طويلة استطاع جيشه وجيشا أخويْه اللذيْن قدما لنجدته أن يهزموا الحملة الصليبية الخامسة! ولقد كان بإمكان الكامل أن يبيد جيش هذه الحملة، إلا أنه لنفسيته المشبعة بالجبن والخور رفض أن يفعلها، وسمح لهم بالانسحاب سالمين.
يجب القول أيضا إن سياسة الكامل والرفض الصليبي لعرضه يثبت ما نقول من أن القاهرة مفتاح بيت المقدس، وأنها –م� المنظور السياسي والعسكري- أهم من بيت المقدس، وليست الأهمية هنا دينية وقدسية فالقدس أعظم لا شك، لكن ميزان القوة يُحسب من جهة الموارد والنفوذ: المال والرجال!
ثم ما لبث أن دبت الفرقة والخلاف بين الإخوة الثلاثة: الملك الكامل محمد في مصر وأخيه المعظم عيسى في الشام والأشرف موسى في شمال العراق وديار الجزيرة، فتحالف المعظم عيسى صاحب الشام مع جلال الدين الخوارزمي، فتحالف الكامل مع فريدريك الثاني صاحب الإمبراطورية الرومانية المقدسة والذي نشأ يتيما في صقلية، وعرض عليه التنازل عن بيت المقدس وما حرره صلاح الدين.
ومع أن المعظم عيسى مات سنة 624، واستولى الكامل على مملكته بالفعل، ومع أن فريدريك محروم من قبل البابا، وكان الصليبون في الشام ضده وعرضوا على الكامل أن يحاربوه معه، ومع قلة عدده (600 فارس) إلا أن الكامل أعطاه القدس!! أعطاه إياها لمجرد الوفاء بالوعد ولمجرد التحالف والصداقة!!
وهذا استلم فريدريك بيت المقدس بستمائة فارس فقط، لم يحاربوا ولم يخسر منهم أحدا، وبمجرد التفاوض، ودون أية مكاسب تعود على الكامل، في واحدة من أغرب قصص الخيانة في التاريخ!!
ومجاملة لفريدريك منع الكاملُ مؤذن بيت المقدس من الأذان حرصا على عدم إزعاج صديقه وحليفه الملك فريدريك!! وأخبر الكامل صديقه فريدريك بأنه سَجَن أعظم علماء المسلمين الذين عارضوه في هذا التسليم!! وقد وجد الكامل من يفتيه بجواز تسليم بيت المقدس للصليبيين!!
وسجن الكامل كذلك واحدا من قادة جيشه، سيف الدين بن أبي زكري، الذي قال له: اتحد مع أخيك وابن أخيك على هذا العدو، ولا يُقال أعطى السلطان الفرنج القدس!! ثم إن الكامل فضّ اعتصاما أقامه أهل القدس عند خيمته وقد حملوا معهم قناديل الأقصى وستائره!
وبعد وفاة الكامل، وفي خضم اشتداد المنازعات بين أبناء الإخوة الذين ورثوا عداوات أبيهم وتنقلت بينهم المعسكرات وتبدلت أحوالهم بصورة درامية بائسة ومثيرة للاشمئزاز، استطاع الناصر داود بن المعظم (عيسى بن العادل سيف الدين بن نجم الدين أيوب) أن يهاجم بيت المقدس فيحررها (637ه)، ولكنه نكاية في ابن عمه الصالح أيوب (بن الكامل محمد بن العادل سيف الدين بن نجم الدين أيوب) سلطان مصر، وتحالفا مع عمه الصالح إسماعيل (بن العادل سيف الدين بن نجم الدين أيوب) سلمها للصليبيين مرة أخرى في عام 641ه.. بل وتعهد الصالح إسماعيل –قائ� التحالف- للصليبيين بجزء من ديار مصر إذا انتصروا على سلطانها الصالح نجم الدين أيوب.
ومع أن المعاهدات بين هؤلاء الأمراء مع الصليبيين حين سلموا لهم بيت المقدس أن يحتفظ المسلمون بالسيادة على المسجد الأقصى وأن تقام الشعائر، إلا أن الصليبيين لم يأبهوا بهذا، حتى إن ابن واصل المؤرخ حين كان في سفارة ببيت المقدس نقل صورة الوضع هناك فقال: "دخلت بيت المقدس ورأيت الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة، وعليها قناني الخمر برسم القربان، ودخلت الجامع الأقصى وفيه جرس معلق، وأبطل بالحرم الأذان والإقامة وأعلن فيه بالكفر".
وفي النهاية استطاع الصالح أيوب، سلطان مصر، أن يقضي على خصومه من أبناء عمه، وأن يعيد توحيد مصر والشام، وتحالف مع الخوارزميين، ثم استطاع تحرير بيت المقدس (642ه)، وذلك في أعقاب انتصاره في معركة غزة على التحالف الذي ضم الأيوبيين الشوام مع الصليبيين، وقد وصفهم سبط ابن الجوزي بقوله "(ساروا) تحت أعلام الفرنج وعلى رؤوسهم الصلبان المسلمين والأقساء فِي الأطلاب يصلِّبون على ويقسقسون عليهم، وبأيديهم كاساتُ الخمر والهنابات يسقونهم".
ظلت بيت المقدس في يد المسلمين حتى الاحتلال الإنجليزي المعاصر، أي لمدة سبعة قرون، وفي هذه القرون السبعة كانت مصر والشام دولة واحدة، إما تحت السيادة المملوكية، أو تحت السيادة العثمانية، فكانت مسؤولية بيت المقدس –ومعه� الحرمان الشريفان أيضا- تقع على عاتق القاهرة ودمشق في العصر المملوكي، وعلى عاتق اسطنبول في العصر العثماني، واستطاعت الدولتان أن تقوما بالمهمة خير قيام، فظلت بيت المقدس وظل الحرمان الشريفان في حصن منيع!
ولم تضع بيت المقدس في التاريخ المعاصر إلا عندما ضعف اسطنبول وضربها الفساد والوهن، وهي اللحظة التي استطاع فيها الاحتلال الإنجليزي أن يستولي منها على القاهرة –المدين� الثانية في الإمبراطورية العثمانية بعد العاصمة- ومن القاهرة تحرك الجيش الإنجليزي الذي احتل بيت المقدس!! لقد كان الجيش الذي أسسه الإنجليز في مصر، والمعروف خطأ باسم الجيش المصري، هو الذي قاتل العثمانيين في الشام وفتح الطريق لاحتلال بيت المقدس.
وقبل الإنجليز كانت نفس المحاولة قد جرت على يد نابليون، احتل القاهرة أولا، ومنها خرج بجيشه إلى الشام يريد بيت المقدس، لكن الظروف السياسية لم تساعده على إنجاز مهمته.
لقد جرى احتلال بيت المقدس بعد خمس وثلاثين سنة من احتلال القاهرة، واستعمل الإنجليز في احتلالها كل موارد مصر من مال ورجال بل حتى الخيول والحمير انتزعوها من المصريين ليخوضوا بها الحرب العالمية الأولى التي أسفرت عن غروب الدولة العثمانية وغروب بيت المقدس معها.
وأدنى نظر في مذكرات هرتزل، مؤسس المشروع الصهيوني، سيخبرنا بذات السنة التاريخية التي نتحدث عنها، والتي يبدو أن هرتزل فقهها جيدا، لقد كان هرتزل حريصا للغاية على أن يؤسس دولة للصهاينة في بيت المقدس من خلال التأثير على قرار العواصم المهمة المتحكمة في مصيره من خلال نفوذها المباشر عليه مثل اسطنبول، أو من خلال نفوذها على اسطنبول مثل لندن وبرلين والفاتيكان وموسكو.. ولكن هذا حديث طويل ومهم، ولعلنا أن نفرده في مقال قادم إن شاء الله تعالى.
نشر في ، على الموقع الإلكتروني فقط، أغسطس 2021
ابن واصل، مفروج الكروب، 3/258.
ابن شداد، الأعلاق الخطيرة، (تاريخ لبنان والأردن وفلسطين)، ص224.
ابن واصل، مفرج الكروب، 5/333.
سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، 22/381.