روايتي الجديدة "وادي إبراهيم"
صدرت عن دار أثر للنشر والتوزيع روايتي وادي ابراهيم وستكون بإذن الله متوفرة في معرض الكتاب القادم بمدينة الرياض
وهذا مقطع من الرواية ..
—ĔĔĔĔĔĔĔĔĔĔĔĔĔĔĔĔĔĔ�
علي بَو بفتح الباء، الحقيقة أنه ليس علي بَو، فقد نال هذا الاسم على مرحلتين، في الأولى لم يكن سوى علي، أو علي الدرويش، أو علي المجذوب، الأبكم، الأبله، المعتوه، فيما بعد سموه البَو بعد علاقته بالوالي حيث صار الوزير، صاحب الفخامة، صاحب الكرامات، الولي.
كلها أسماء وألقاب لم يخترها ولم يبحث عنها مطلقا، حتى وهو يركب العربة المزركشة التي تمضي مزهوة في شعاب مكة، كان يتوق إلى الانفكاك من كل ذلك "الهيلمان" والهرب بعيدا، نحو الحرم، أو نحو قبور المعلاة، أو إلى أحد "غيران" جبال مكة الكثر.
حتى القصر الكبير الذي سكنه أو أسكنوه إياه كان يغادره سرا لينام في ساحات الحرم أو ينطلق نحو المقابر مستأنسا بأصحاب الجوار الأطول، يزور قبر أمه الثانية مريم، أما أمه الحقيقية فلا
يدري أين موضع قبرها.
أضيف إليه لقب البَو فيما بعد عندما أنتبه الناس في مكة كلهم إليه وتناولوا سر علاقة الوالي به والمكانة التي نالها وقصر عن الوصول إليها الكثير من الكبراء والطامحين.
لا يخلو مجلس من الحديث عن علاقة الدرويش بالوالي، كل جلسات السمر في ليالي مكة تتناول الأمر وتحلله، البعض يفسر تلك العلاقة من خلال أن الطيور على أشكالها تقع فالوالي نفسه في نظر هؤلاء لا يقل جنونا ودروشة عن صاحبه البَو، آخرون يمنحون الأمر أسرارا غيبية فهذا الدرويش ليس إلا وليا صالحا يحيط الوالى ببركاته فلا يصل إليه أعداءه الكثر، وبعض الأشقياء لا يتورعون عن تفسير تلك العلاقة العجيبة تفسيرا لا يملك من يسمعه إلا أن يقول "اسكت لا احد يسمعك"
ولولا أن الدرويش انتقل فجأة ليصبح واحدا من كبار رجالات البلد وممن لا يستغني الوالي عن مشورته، لولا هذه النقلة المثيرة والعجيبة التي تدور بشأنها الحكايات وتنطلق الهمسات وتنتشر الإشاعات لولا كل هذا لما انشغل أحد بحكاية درويش متسخ الثياب يجوب الشوارع والأزقة.
كان أقرب للموت وهم يلتقطونه بعد تلك الفاجعة الرهيبة، شهق بالحياة مجددا فاعتبر مولودا جديدا يستحق أن ينال اسما جديدا، فهو لم يجب سوى بنظرات حائرة وهم يسألونه عن اسمه،هالهم مدى ذهوله وصمته، فأطلقوا عليه اسم علي الأبكم.
هكذا هو مثال للتقلبات المجنونة، التصق مرة بصخرة لساعات طويلة، لم يعرف المستغربون أنه كان يخشى الوقوف والمشي لأن ثوبه مشقوق على عورته ولأنه لا يلبس سروالا، في النهاية لم يجد بدا من المشي فهو لا يستطيع الالتصاق بتلك الصخرة إلى الأبد، عطفت عليه وقتها العجوز مريم ومنحته ثوبا فضفاضا لكن يسد الحاجة.
مريم تلك صار يسميها أمه الثانية.
نطق فيما بعد بكلمات مثل ربنا كريم، وصلوا على الحبيب، فلم يلتصق به لقب الأبكم طويلا، وإن كان كثيرا ما تلبسه ملكوت الصمت، خصوصا في المقابر حيث يهرب من عالم الضجيج والصراع، عالم الخسارة كما يراه، ينطلق نحو أفق بعيد، تسكنه حمى لذيذة، يتذكر المأساة وكأنما حدثت لشخص آخر سواه، الصراخ والرعب، تفرق القافلة، بكاء النساء، منظر الرجال تغطيهم الدماء، كابوس، يبدو له الأمر كمن يصحو من نومه على حريق هائل أو كمن يسقط في حفرة بلا قاع، يتذكر أنه احتمى بشجرة صغيرة لكنها كافية لتمنحه بعض الظل وتقي إقدامه حرارة الرمال المتقدة.