صلاح القرشي's Blog
April 27, 2013
ًصفعة �
كانت الصفعة التي تلقاها مفاجئه وسريعة وقوية حتى أن الأصوات اختفت من حوله ولم يبق سوى طنين هائل يدوي في رأسه ، كاد أن يرتطم بالجدار القريب لولا أنه احتمى بيديه،لحظات استعادته لتوازنه بدت له طويلة، وضايقه طعم الدم في فمه، راودته رغبة في أن يبصق، لكنه لم يفعل مهابة من المكتب الأنيق والرخام اللامع،استخدم شماغه الذي انسدل على كتفه، مسح فمه وأسنانه فيما هو ينظر إلى عقاله الملقى في ركن الغرفة.
اقترب الرجل ذو النجمتين منه وراوده إحساس بأنه سيتلقى صفعة أخرى،التقت عيناهما ولاحظ ابتسامة تلمع في وجه ذي النجمتين فيما وقف قريبا من الباب رجلان كلا منهما بشريط واحد.
وفيما هو منزعج من طعم الدم في فمه فكر بسرعة شديدة أن يرد الصفعة،كانت هي الأخرى صفعة مفاجئة وسريعة رغم أن الوقت لم يسعفه لمزيد من المقارنة بين الصفعتين، هجم عليه الرجلان الآخران والقياه أرضا، أقدام كثيرة كانت تركله وأحدهم يقبض عليه من شعره ويضرب برأسه الرخام.
لحظات هي الأخرى بدت بطيئة وجد نفسه في نهايتها مقيدا ولم يعد ثمة شماغ يمسح به الدم الذي يملأ فمه وفي تلك اللحظات تحديدا قرر أن يبصق على الرخام اللامع.
April 11, 2013
حوار في مجلة الجوبة ..
أجرى الحوار الشاعر عمر بوقاسم ..
- “بن� الجبل 2007م”� “تقاط� عام 2009م”� “واد� إبراهيم،2012م”� ثلاث روايات، بالإضافة لمجموعتين قصصية “ثرثر� فوق الليل 2004م”� “أيا� عام 2010م”� ما المساحة التي اختصرتها هذه الإصدارات من مشروعك الإبداعي؟
- اعتقد أنها مجتمعة لا تشكل سوى مساحة صغيرة جدا مما أحلم بكتابته وبالتأكيد هناك دائما مسافة كبيرة بين مانحلم به وبين مانملك أن نحققه..تسألني ماهي المساحة التي اختصرتها تلك الإصدارات من مشروعك الإبداعي. ..ما أعرفه أنني أقضي وقتا جميلا في مرحلة الكتابة وفي كل ماسبق كنت أكتب للمتعة الشخصية قبل كل شي ..كما قلت أشعر بمتعة كبيرة إثناء الكتابة وعندما أمتلك فكرة لقصة أو رواية تكون سعادتي غامرة وكل هذا بعيدا عن أي تصورات لما يمكن أن يحققه المكتوب من نجاح وبعيدا عن مجرد الرغبة في الحضور الإعلامي والثقافي، لكن هل هناك ما يمكن تسميته بمشروع إبداعي ؟ لا أعرف سوى أن لدى الكثير من الأحلام والأفكار بعضها يتبخر أثناء الكتابة ويختفي ..لكنني مازلت أحلم وهذا أمر مهم كثيرا .
- في روايتك الأخيرة “واد� إبراهيم� قمت بتحريك الزمن بأسلوب فني مع الاحتفاظ بطابع المكان “مكة� كأسماء للأمكنة والشخصيات داخل الذاكرة التاريخية من خلال حكاية هي الرمز الذي بنيت عليه روايتك، هل لنا أن نقترب من فكرة بناء هذا العمل؟
- في وادي إبراهيم هنالك تداخل بين التاريخي والمتخيل..لكن التاريخي هنا يكاد يكون مجرد اطار يغلف الصراع المكاني والزماني.. وكونك ترى أن الرواية استطاعت الاحتفاظ بطابع المكان فهذا أمر جيد في نظري�.أما ما يخص فكرة الرواية فمن الصعب أن أتحدث عنها بشكل مختزل لأنني أرى أن فكرة أي رواية ما هي الرواية نفسها بمعنى أن الفكرة يحصل عليها القارئ بمطالعة الرواية لكن من جهة أخرى يمكن القول أو الإدعاء أن وادي إبراهيم هي محاولة للغوص في حياة الإنسان وعلاقته بالمكان …وللقار� بعد ذلك أن يتماهى مع الرواية كما يرى ..سواء بالبقاء في إطار سطحها الحكائي أو بمحاولة إسقاطها على واقع الإنسان أو واقع المكان ..هذا أمر يتعلق بالقارئ تحديدا ..
- ما أدوات المغامرة التي ترتكز عليها لكتابة أعمالك؟
- لا أعرف هل اسميها مغامرة .. إلا إذا اعتبرنا كتابة الرواية � أي رواية � هي مغامرة ..في مقابل هذا ربما يمكنني الحديث عن رؤية تتعلق بالطريقة التي أكتب بها الرواية ..الطريقة التي تعجبني والتي أنا مؤمن بها ولك أن تسميها مغامرة ..لا أميل مطلقا لعملية إغراق القارئ بالتفاصيل ..اعتقد دائما أن هنالك ما يجب أن يترك لخيال القارئ وذكاءه ..أكثر سؤال يطرح عليّ ممن طالعوا أعمالي هو لماذا لا تسهب ..لماذا لا تتعمق في تفاصيل حياة الشخصيات ..لكنني أرى أن هذه الأسئلة هي بشكل أو أخر إطراء للعمل..أن يبحث القارئ عن مزيد من التفاصيل فهذا أمر جيد ..لكن أرى أن هنالك ما يجب أن يترك لخيال القارئ ..في هذه الحالة ربما يصبح القارئ شريكا في العمل وليس مجرد متلقيا .
- من الواضح توجه الكثير من الأسماء في السعودية لكتابة الرواية في السنوات الأخيرة، هل لهذا التوجه تفسيرا لديك؟
- الأمر له علاقة بالتطور الاجتماعي ..وجود الرواية بكثرة هو علامة جيدة جدا على أن المجتمع أصبح أكثر قبولا لفكرة المراجعة ومطالعة النفس في المرآة ..قديما قالوا أن الرواية لاتنمو في المجتمعات شديدة المحافظة ..لابد أن نتذكر أن المحاولات الأولى لكتابة رواية سعودية كانت أحيانا تغادر بإبطالها إلى خارج البلد لكي يمكن للروائي أن يخلق صراعا..يجب أيضا أن لاننس أن الروائيين الرواد كانوا يجدون حرجا في اسماء الشخصيات فيهربون من الأسماء الثلاثية خوفا من الحرج الاجتماعي..لكن رغم هذا كله فأنني أجد مبالغة كبيرة في الحديث عن الزخم الروائي المحلي..فالمسألة إذا قيست بالعدد لا تختلف كثيرا عما لدى الآخرين ..المسألة هي أن قربنا من المشهد يجعلنا نلاحظ الأمر بشكل مختلف.
- هل لك أن تحدد موقع للرواية السعودية على الخارطة العربية؟
- لا أحب مطلقا الحديث عن أي رواية بشكل عام ..كالقول الرواية السعودية أو الرواية اللبنانية أو المصرية ..الكتابة هي شأن فردي في النهاية وكتاب بلد ما لا يعملون كفريق ,وحتى مسألة التأثير والتأثر لابمكن النظر إليها على مستوى إقليمي ..ولهذا اعتقد أن بعض التعميم الذي يمارس تجاه الرواية كالحديث عن رواية في بلد ما بشكل مجمل هو استسهال كبير وبعيد عن الموضوعية كما أنه يدل أيضا على غياب الفرز نتيجة غياب القراءة ..المتابع الجيد للرواية المحلية والعربية سيصل إلى نتيجة واضحة هي أن لدينا كتاب رواية رائعون..ولدينا روايات رائعة..ولدينا في المقابل كتاب رواية سيئون وروايات سيئة ..والأمر لدى الآخرين لا يختلف كثيرا عما لدينا فهنالك دائما روايات رائعة في كل بلد عربي وهنالك أيضا روايات غاية في الضعف ..
- وأنت قارئ جيد للتراث من العصر الجاهلي والأموي والعباسي00الخ، كتَاب اليوم منهم من لم يقرأ وليس لديه أدوات لقراءة هذا الموروث، بقدر حرصهم على قراءة بعضهم وما هو مترجم، ماذا تقول في هذا؟
- أعتقد أن ثقافة الكاتب هي الوقود الذي يجعله يواصل ويستمر في الكتابة ..واتفق معك بخصوص أن البعض غير مطلع بشكل كبير حتى على الأعمال الروائية الأساسية ..لا أتصور أن يقبل إنسان على كتابة الرواية وهو لم يطالع أهم الأعمال الروائية في العالم بداية من مايسمى بكلاسيكيات الرواية ..وانتهاء بالرواية الحديثة.. في نهاية الأمر إذا كان هنالك كاتبين موهوبين أحدهما اطلع على الأدب المؤسس لفن الرواية والآخر لم يفعل ..فإنني اعتقد أن الأول سيبدو أكثر حضورا واستمرارية فيما سينطفئ الثاني .
- “هذ� زمن الرواية�.. “هذ� زمن الشعر�.. عبارتان تتكرران على ألسنة الروائيين والشعراء، أنت ماذا تقول؟
- هي عبارات صحافية استهلاكية ..لان الأدب تحديدا لا يتعامل مع الآني والوقتي بقدر ما يتعامل مع مسألة البقاء أو حتى الخلود ..ولهذا فما فسيبقى هو الجيد سواء كان رواية أو شعر ..وما دام الأمر يتسع لمطالعة رواية جيدة ومطالعة مجموعة شعرية جيدة فليس ثمة مجال للحديث عن زمن للرواية أو زمن للشعر ..
- كيف ترى أثر التغيرات السياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم العربي، على شكل ومضمون الخطاب الإبداعي؟
- أرى أثرها كبير جدا ..لكنه وعلى مستوى الأعمال الأدبية المهمة لن يبرز مباشرة وكردة فعل فقط ..المسألة تحتاج بعض الوقت كما نحتاج الابتعاد قليلا عن المشهد لتحقيق رؤية أفضل، لاتنس أننا ونتيجة لهذا التدفق الإعلامي أصبحنا ونحن في بيوتنا جزء من هذه المشاهد بل نحن داخلها تماما ,,الأمر الأخر والمهم أيضا هو أن التغيرات السياسية ستساهم بطريقة أو بأخرى في ارتفاع منسوب الحرية وعدم الخوف من مباشرة أكثر الموضوعات حساسية سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي وهذا له أثره الحتمي على الإبداع بكل تأكيد .
- � النقد في السعودية تفوق على النص الإبداعي”� هل هذا صحيح؟
- لا أعتقد هذا ..ربما حدث في مرحلة ما أن أصبح لدينا نقادا نجوما ..لكن لم يحدث في أي مرحلة أن كان لدينا نقد يمكن وصفه بالمتفوق ..ربما يصح القول أن لدينا نقادا بلا نقد..ويبدو لي أن سبب حضور بعض الأسماء وغياب الفعل النقدي هو أن النجومية التي حصلت عليها بعض الأسماء مستفيدة من مرحلة الصراع المثير حول الحداثة والمحافظة ..هذه النجومية جعلت أصحابها ينفصلون عن الإبداع محليا وعربيا وعالميا..تستطيع أن تقول أنهم توقفوا عن مطالعة الإبداع.. هل سبق أن وجدت اهتماما للناقد المحلي بقراءة أي منجز إبداعي؟ …ل� أتحدث هنا عن الإبداع المحلي فقط ..هل تتذكر قراءة نقدية محلية لعمل أدبي عالمي سواء كان شعرا أو نثرا ..هل هناك تماس بين الأدب في العالم كله وبين مايسمى نقدا في مشهدنا المحلي..الحقيقة أن أكثر المعنيين بقراءة الإبداع هم المبدعين أنفسهم سواء كانوا كتاب قصة أو رواية أو كانوا شعراء .
- “الصحاف� مقبرة المبدع”� هل لهذه المقولة أثر في عدم تعمق صلاح القرشي في الصحافة؟
- قد لا تكون هذه العبارة صحيحة بالمطلق ..فهناك الكثير من المبدعين الذين عملوا في الصحافة ولم تذهب بإبداعهم للمقبرة ..بالنسبة لي فعملي في الصحافة هو عمل بسيط ..لا يأخذ الكثير من وقتي ..ولهذا فأنا في مأمن من تلك العبارة لو صحت .
- انتشرت على النت مواقع، تدعي أنها الحاضنة للتجارب الإبداعية الشبابية، وكأنها تلزمهم بالحضور كبوابة لدخول عالم الأدب الموثق، هل تجد هذا الانتشار لمثل هذه المواقع، ظاهرة صحية للإبداع؟
- اعتقد أن الانترنت قدم الكثير للإبداع..والمواقع الثقافية على النت هي بلا شك ظاهرة صحية جدا ..وشخصيا استفدت كثيرا من بعض هذه المواقع وأحمل لها الكثير من الحب والعرفان والتقدير..ومواقع الانترنت الثقافية هي مثلها مثل الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات..لا يمكن الحكم عليها بشكل عام وإنما يجب الحديث عن كل موقع بشكل خاص..أعتقد أن النشر من خلال الانترنت مهم وحيوي وكذلك النشر من خلال الصحافة جيد ومفيد للوصول إلى نوعيات أخرى من القراء كما أن النشر من خلال الكتب مهم جدا باعتبار التوثيق وباعتبار أن أهمية الكتاب لن تزعزعها أهمية أخرى أبدا ..بل إن تطور وسائل الاتصال ساهم بقوة في انتشار الكتب والترويج لها وما نراه من تدافع الشباب في معارض الكتب يعود الجزء الأكبر منه إلى تأثير الانترنت ودوره الكبير في ترويج الكاتب والكتاب
- هل لنا أن نتعرف على محتوى مكتبتك؟
- لا استطيع الادعاء أن لدي مكتبة بمعنى المكتبة المتكاملة .. أغلب الكتب الموجودة في مكتبتي المتواضعة هي أعمال روائية ..عالمية مترجمة وعربية ومحلية ..إضافة إلى مجموعات شعرية ..وأيضا أنا مولع بالتاريخ ولهذا فلدي بعض الكتب المتعلقة بالتاريخ ..إضافة إلى بعض الكتب ذات العلاقة بالفكر والفلسفة والسياسة والموسيقى .. التوجه الغالب على المكتبة هو من كل بحر قطرة ..ربما لأن اهتماماتي القرائية تمرّ بما أسميه موجات ..تأتيني أحيانا رغبة في مطالعة كتب التاريخ فأشتري كتبا حول هذا الأمر ..بعد فترة يأتيني اهتمام غريب بالفلسفة ..فأشتري بعض الكتب المهتمة بهذا الشأن ..الفكر الإسلامي أيضا ..السياسة والتاريخ السياسي الحديث ..لكن الشيء الثابت في مطالعتي هو الروايات والمجموعات القصصية ودواوين الشعر .
- ماذا عن جديدك
- لا جديد الآن في الأفق القريب ..هنالك جمرات صغيرة لم تتحول بعد إلى لهب …وهنا� أيضا مجموعة خاصة بالقصة القصيرة جدا جاهزة ومتكاملة لكنني متردد في نشرها ربما لأنني نشرت العام الماضي رواية وادي إبراهيم وبالتالي فلابد من مرور بعض الوقت لنشر كتاب جديد
March 15, 2013
رواية «تقاطع» لصلاح القرشي سيمياء العنوان والأثر التقني
بقلم / عبدالله السمطي
ملحق الثقافية � جريدة الجزيرة
عنون الكاتب صلاح القرشي روايته بـ» تقاطع» وهذه العنونة تضعنا مباشرة حيال أمرين:
- الأول: أن ثمة تماهيا بين شخصيات الرواية، وتلاقيا في نقطة ما، تتقاطع فيها الأفعال أو المواقف، أو السمات وتتضاهى، ومن هنا فإن البحث عن النقاط المتشابهة بين هذه الشخصيات سيكون من الملائم حدوثه في فعل القراءة هنا.
- الثاني: أن ثمة اختلافا أيضا سوف يتم البحث عنه في النص الروائي، وهذا الاختلاف قد يكون اختلافا سيميولوجيا، له دلالاته المفارقة أو غير المفارقة في النص، او اختلافا أسلوبيا يتجلى في البنى السردية للنص الروائي.
وفي ظل هذين الأمرين ستغدو المقارنة فعلا قرائيا طبيعيا لبيان حالة التقاطع هذه، وأثرها المضارع أو المختلف طبقاً لما يزجيه الكاتب من أحداث ومشاهد في عمله الروائي.
ولعل هذا التقاطع سوف يحدونا لمتابعة ورصد نمو الشخصيتين الرئيستين اللتين ستحدث بينهما حالة التقاطع هذه على امتداد العمل الروائي، وهو نمو يؤكده الكاتب بجملة من الإضاءات السردية في النص.
إن العنونة مدخل مهم لقراءة العمل الأدبي، وهي تومىء ضمن ما تومىء إلى جملة من الإشارات تستهدف أولا معناها ودلالاتها التي تتوجه للقارىء، واستثمار عناصر متعددة تعمل على جذب القارىء ولفت انتباهه وإثارته، وذلك عبر عدة مستويات:
- اختيار العنوان الدال على العمل، وعلى المحتوى الذي ينطوي عليه العمل الأدبي.
- اختيار العنوان الملائم للسياق الزمكاني، سواء كان العنوان يعبر عن حدث ما، أو عن واقعة عامة، أو عن مكان محدد.
- اختيار الصيغة العنوانية الدالة، سواء جاء العنوان في صيغة كلمة واحدة، أوكلمة مضافة إلى كلمة، أو كلمة موصوفة، أو عدة كلمات متقاربة أو متباعدة دلاليا، أو على صيغة جملة بخواص مختلفة، كجملة خبرية أو حالية، أو وصفية، أو فعلية أو اسمية.
ففي كل هذه الصيغ فإن المؤلف يبقى في حال متقلبة بين التردد والاستقرار حتى يتهيأ له العنوان الأخير الذي يضعه على غلاف عمله الإبداعي، وهنا تنتهي حالة التوتر لتبدأ حالة التأويل والسؤال.
- تفرد العنوان، بمعنى أن تكرار العنوان بشكل متطابق بين عمل وآخر يمتنع تماما في الكتابة الإبداعية، إلا على نطاقين، أولهما: توارد العناوين بالصدفة، وثانيهما: تطابق العناوين كشكل من أشكال المعارضة الأدبية أو التناص.
هذه المستويات تتجلى حيالنا عند قراءة أي عنوان أدبي، وهذه المستويات قد تمثل نوعا من القراءة الفرضية لا المفروضة، المسبقة على عنوان العمل الأدبي.
بيد أنها لا تشكل نوعا من الضغط الجمالي على المؤلف الذي يختار بحرية مطلقة عناوينه.
وهو الأمر الذي يتجلى في عنوان:» تقاطع» لصلاح القرشي، فهذا العنوان، يتسم بـ:
- العمومية، لأنه غير مختص بسياقات الكاتب الإبداعية أو الزمكانية، أو الذاتية.
- الترداد والتكرار، لأن هذا العنوان كثيرا ما يتكرر إعلامياً أو إبداعياً.
- الهلامية، لأن هذا العنوان � في شكله التجريدي- لا يقبض على دلالة ما، وهو جاء على شكل نكرة، وغير مضاف إلى شيء، وبالتالي هو لا يعطينا دلالة خاصة، أو معنى محددا.
- الفضاء المفتوح، بمعنى أن هذا العنوان يعطي مجالا مفتوحا للتأويل والتساؤل.
لكن هل قصد الكاتب إلى كل هذه السمات التي ينطوي عليها العنوان.
إن صلاح القرشي ربما يكون اختار هذا العنوان العام ليشير إلى جملة من المحددات العامة الماثلة بين شخصيتي الرواية، وأن تقاطعهما هو تقاطع إنساني عام، قد يحدث في كل زمان ومكان، ولعل هذا التأويل قد يكون الأقرب إلى تفسير هذا العنوان الذي اصطفاه الكاتب إذا ما علمنا أن ثمة توظيفا تناصيا دالا يقوم به الكاتب لاستثمار قصة الشاعر الكميت بن زيد وعلاقته ببني أمية.
وهو هنا يستنطق التاريخ والتراث، ليشير إلى أن حالة الكاتب، ورؤيته أو مأساته، كامنة بالتاريخ في كل زمان ومكان.
إن الكاتب يتقاطع مع التاريخ أيضا، إنه يجلي اللحظة الراهنة بحادثة تاريخية قديمة، ويجلي التاريخ بحادثة معاصرة، لكنها � على بساطتها تشير إلى مأزق الكاتب والكتابة في هذا العصر.
إن الكاتب أراد أن يضفي معنى خاصا على معنى عام، أن يتقاطع � من وجهة تأويلية كلية � مع المعنى العام للإنسان وصراعه الوجودي، وهو بهذا يعطي المساحة القارئة فرصة للتأويل، كما يعطيها نوعا من التضامن مع استحضار دلالاتها المسبقة، فالمعنى الأدبي هنا ليس مجتثا عن جذوره الإنسانية والاجتماعية، إنما هو متواصل معها، فالمعنى في العمل الأدبي لا يتحقق وحده، أو بشروطه السياقية النصية، إنما يتحقق عبر مشاركة القارىء، حتى باستعدادات دلالية مسبقة تشكلها السياقات الإبداعية، ويشارك في تشكيلها المنتج الثقافي في أفق زمكاني واحد، وبحسب جاك ديريدا، «إن ما نصطلح عليه بـ»المعنى» (القابل للتعبير) مكون في جوانبه كلها من نسيج من الاختلافات، وبما أن النص موجود مسبقا كشبكة من الإحالات النصية لنصوص أخرى، وكتحول نصي يوسم فيه كل طرف مكون � رغم بساطته- بأثر طرف آخر، فإن الطابع الداخلي المزعوم للمعنى يقع مسبقا تحت تأثير خارجه ذاته، ويكون مسبقاً مغايراً differante (لذاته) قبل أي حدث تعبير، وبهذا الشرط فقط يمكن أن يشكل نظماsyntagme أو نصا، بل بهذا الشرط فقط يمكنه أن يكون دالا».
جاك ديريدا: مواقع، حوارات من ترجمة وتقديم فريد الزاهي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1992 ص.
ص 34-35 من هنا فإن تلقي المعنى وتأويله لا يتم تماما عبر سياقات النص، قدر ما يشارك القارىء في صنع هذا المعنى.
وقد وردت كلمة « تقاطع» بمفهومها الدلالي المتعدد الذي يشي به عنوان الرواية في نهايات الرواية في الفصل السابع عشر من الرواية، في حديث الراوي/ الكاتب داخل الرواية إلى زوجته: «حدثتها عن الرواية وعن إحساسي بالحزن لما آل إليه مصير فرحان العُص لكنني استغربت أنها لم تسمع بفرحان من قبل.
عندما أعدت قراءة ما كتبت وجدت أن ما كتبته عن نفسي يكاد يفوق المكتوب عن العُص. قلت (لا يهم فنحن نتقاطع كثيرا).
حياة الرجل الذي يحترمه أغلب أهل الحي تتقاطع مع حياة الشاب الذي يتحدث الجميع عنه بالسوء ولا يحبون التطرق لسيرته.
لو أخبرتها أنني أشبه فرحان العص الذي حدثتها عنه وعن مصيره المحزن لعادت إلى بيت أهلها مجددا وهي متأكدة أنني «مجنون رسمي» تقاطع ص 108 هذا التقاطع الدال هو جوهر الرواية، فقد اصطفى المؤلف هذا العنوان ليدلل على أن التقاطع حادث، بين شخصية المثقف: الراوي / الكاتب/ السارد وبين شخصية فرحان العص، إنه الإحساس نفسه الذي يتجلى في هذه الشخصية الحركية الدرامية التي تجلس في الطرقات تراقب الأشياء والناس والمواقف، تعيش حياتها بتلقائية وفطرية، ترقص في الأفراح، تسهر، تعبر عن حريتها بشكل أو بآخر، وهو ما يفتقده الراوي/ الكاتب في حياته المنمقة بالكتابة والاكتئاب والحزن، والذي يكبت إحساسه أو طريقة تصرفاته في الحياة اعتبارا للمجتمع الذي يضفي على شخصية ما وقارها، وهو ما يشير إليه القرشي في موضع آخر من الرواية:» مسكين العُص.. يجلس كل يوم على الدكة الركنية ليراقب الملابس الزرقاء والبنية وهي تتحرك.. ليلمح بعض الأصابع وهي تمسك الحقيبة المدرسية.. ثم ليتخيل ما تحت العباءة كما يشاء بعد ذلك.
فكرت مرة.. ماذا لو صحوت مبكرا وذهبت إلى الدكة أسفل الحارة حيث كان يجلس العص ورفاقه وأخذت أراقب موكب طائر البطريق. منظري سيكون مضحكاً ليس لأنني أكبر سنا ولكن لأنني أكثر وقاراً.. الوقار في ذلك المكان هو حتما مضحك لأن الجلوس هناك يتطلب أن تلبس الشماغ بطريقة معينة, أن يكون لون الشماغ نفسه مختلفا, أن تجلس بطريقة مختلفة وتتحدث بطريقة مختلفة « تقاطع ص. ص 107- 108.
إنه التقاطع المكبوت الذي يريد أن يجليه الكاتب لكن الحصار الاجتماعي، بأدبياته وثقافته وأعرافه يرفض ذلك.
إن القرشي يريد أن يصل للقول: إن الحياة الإنسانية متشابهة ومتقاطعة.
إن التصرفات البسيطة والتلقائية والفطرية هي من القواسم المشتركة، بيد أن الادعاء الاجتماعي أو الرقابة الاجتماعية التي اعتادت على رسم ملامح معينة لكل شخصية هي التي تكبت هذه التلقائية والفطرة.
إن فرحان العص لقي مصيره الحزين المحتوم، بعد أن فشل دراسياً وانحرف واتجه للمخدرات وألقي القبض عليه، لكن هذا المصير هل كان مصيراً نمطياً مرسوماً من قبل الشخصية نفسها، أم أن للمجتمع دورا في صناعته؟ هذا ما يفصح عنه القرشي في نهاية روايته.
February 19, 2013
القارئ الذي يسعدك �.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
استاذ صلاح القرشي
للتو انتهيت من قراءة “بن� الجبل�
اشعر بشعور جميل لايمكنني وصفه .. لذلك اخترت ان ابحث عن ايميلك وارسل لك رسالة شكر وامتنان
الكتاب جعلني اعيش الزمن الذي كانت فيه والدتي بنفس عمري تقريباً بكل تفاصيله
أحببت الأسلوب السلس المشوق جداً
سعيدة جداً بتلك اللحظة التي وقعت فيها يدي على كتابك الثمين بالمصادفه
فأنا طالبة أدب انجليزي وغالبا ما أقرا كتب باللغة الانجليزيه
تمنيت دائماً أن اجد كتاب باللغة العربيه يمتعني ويفيدني كثيراً و أتمنى أن لا ينتهي لانني لم اكتفي بعد
وأخيراً وجدته .. شكراً لكل معلومه كتبتها في كتابك أفادتني كثيراً مثل قصة جهيمان وغيرها
ملاحظة: أكثر جزء أحببته وأثر في نفسي كثيراً هو جزء عبدالله و نرجس
مع العلم اني اعجبت بكل الكتاب من البداية للنهاية
ان شاء الله سأكمل قراءة باقي كتبك بماذا تنصحني ؟
February 16, 2013
أبي…�.
تحولت عينا أبي إلى عيني ّ طفل، تنظران نحوي بسكون وضعف وحيرة،يفتح فمه كلما اقتربت الملعقة،الزبادي المخلوط ببعض العسل، ملعقتان صغيرة ثم يقول بصوت واهن”خلا� كافي�
أتذكرني وقد أضعته في شارع المدّعى، كنت وقتها في السادسة ،أقف بجانبه أمام أحد المحلات، انشغلت بالنظر إلى دكان صغير يبيع تحفا وألعابا ثم اكتشفت أنني فقدته.
امتلأت بالرعب وتسمرت في مكاني وأخذت أتلفت بهلع وأنا أغالب دموعا توشك على الانهيار،تحولت اللحظات دهرا وأنا أدور في مكاني وعندما سمعته ينادي اندفعت نحوه كمن وجد الحياة.
ينسى أنه في غرفة التنويم وينادي أمي ويسألني أين الأطفال، أخبره أننا في المستشفى فيتلفت في الغرفة، لاشي سوى المحاليل وشاشة تصدر طنينا لا يسمعه،يغمض عيناه فأسال أي أحلام تزره الآن.
أنظر من النافذة الزجاجية، الناس بلا أصواتهم، وأطفال يلعبون حول نافورة صغيرة وطبيبة شابة تحمل قهوتها..في الشارع البعيد سيارات مسرعة ولوحات إعلانية بلا معالم .
صدره يعلو وينخفض والمحلول ينزل نقطة نقطة ..
أتذكره عائدا في المساء يصعد الدرج حاملا تعبه وغبار الحياة وخبزا ساخنا وحلوى.
أهمس له ..أنا حزين..وأخبره أن الطفل الضائع في شارع المدعى لم يجد أباه، تلفت يمينا وشمالا ..يمينا وشمالا ..وأجهش بالبكاء.
November 3, 2012
� كتاب� نقدي عن رواية تقاطع
أصدر الناقد عبدالله السمطي كتابا بعنوان “تقاط� صلاح القرشي ..تأويل البنية وجماليات السرد� وهو من ضمن سلسلة نقدية تتناول بعض الأسماء في الساحة الأدبية السعودية..
October 7, 2012
حكاية المطر �
حكابة المطر
المطر الذي لا يزورنا إلا مرة أو مرتين في العام نبقى نتحدث عنه طويلا كلما جاء، نفرح به كثيرا رغم أنه دائما يترك حيّنا وهو أقرب للخراب، وما أن تبدأ المياه تنهمر من المزاريب لتصب في الأزقة الصغيرة أو في أحواش البيوت حتى يجدّ الرجال والفتيان في العمل وهم يتدثرون بشراشف قديمة صاعدين الأسطح لإزاحة مايعوق المياه عن التدفق فيما ينشغل آخرون بإبعاد سياراتهم نحو الأرض المستوية، النساء لديهن أيضا أعمالهن الكثيرة مثل إبعاد الأثاث عن مواضع يتدفق منها الماء أو وضع بعض القدور لالتقاط ما يتدفق من أسقف الغرف،فيما تقف الكبيرات في السن بجوار النوافذ يرددن تسابيحهن كلما ارتفع صوت الرعد.
المطر الذي لايزورنا سوى مرة أو مرتين لايدوم طويلا فسرعان ما تصفو السماء وتبدو الجبال لامعة وبراقة فيما يواصل الرجال تفقد الشارع الذي حفره السيل، أما النوافذ التي تبقى مفتوحة بعد المطر فهي فرصة لاتعوض ليرى العاشق فتاته التي تبدو صافية ومبتهجة ترنو إلى الحيّ من شباكها بفرح.
بعد فترة تعود الحياة لطبيعتها، تقفل النوافذ الملونة، وتنتهي حكاية المطر، أما العاشق فيبقى دائما في انتظار سحابة جديدة.
September 30, 2012
حالة �.
كان لايمل الحديث عن الكون،الطبيعة، الفلك، طوال رحلتنا الطويلة بالسيارة وهو يتحدث عن التنوع المدهش كما يسميه,,
- هذا التنوع يؤكد شيئا واحدا مهما وهو ضرورة الاستمتاع بالحياة.
كنت أشاركه أحيانا في الحديث لكنني في الغالب أميل للصمت، وعندما يستغرب عدم تعليقي على بعض مايقول أتعلل بالانشغال بالطريق.
بعد مضي فترة من الوقت أخذ يقلب صفحات مجلة ملونة ..ثم أشار إلى صفحة ممتلئة بصور لنساء في غاية الجمال وقال:
- أنظر إلى أكبر مثال على التنوع المدهش
ضحكت وقلت
- لم أعرف الكثير منهن حتى أؤكد هذا الأمر..
- لا تحتاج إلى معرفتهن ..أنظر فقط ..كل جمال يختلف عن الآخر ..
وضع المجلة جانبا ثم قال:
- لكن المؤسف أن هذه الأجساد الرائعة سرعان ما ستذبل وتتجعد وتختفي فتنتها..تماما كهذه الأعشاب المصفرة على جانب الطريق.
بعد لحظات من الصمت قال :
- هل يزعجك أن أدخن ..
- أبدا خذ راحتك تماما ..
أشعل سيجارة وأخذ يمزها بشغف ..تهدج صوته وهو يقول :
- لا تنس وعدك بأن تعيدني معك ..
- بالتأكيد ..فقط يرونك ويصرفون لك علاجا ونعود ..
عاد لتقليب المجلة ثم رجع إلى صفحة النساء ، سألني:
- ماهو دافع الانتحار في نظرك ؟
- لا أعرف ..ربما هو اليأس
- اعتقد أنه الملل.
في طريق العودة كانت تصيبني غصة كلما نظرت إلى مقعده الفارغ .
—ĔĔĔĔĔ�-
اللوحة ..منظر طبيعي للفنان الفلسطيني محمد الأسطل
April 3, 2012
«وادي إبراهيم»� استعادة المكون العتيق لمنابع الحنين
بقلم / سلمان السليماني
حكاية (الفتى) ليست نسجاً درامياً لمفردة الظلم والاستبداد، وليست � بطبيعة الحال � مواكَبَة لطوفان الربيع العربي، أو استلهاماً لهذا الغرض الكتابي، إن ما تقوله رواية «وادي إبراهيم» للروائي صلاح القرشي، أعمق من ذلك بكثير، وأعرق من مخيلة معارضة الحدث أو النسج حوله.
عندما تقرأ عمل صلاح القرشي الروائي، والصادر حديثاً عن دار أثر، لا تملك إلا أن ترتقي نحو رمزية المكان، الذي يشي بها ظاهر الجوهر وباطنه. تستعيد المكون العتيق والأصيل، لمنابع الحنين والالتحام بكل ما هو أصيل، وبكل ما هو متجذر. تحلق نحو المنبع الغائر في أعماق النفس البشرية، التي تسمو لتعانق الروح بالتصاقها بمكوناتها الأولى، وبحالة البدء والنشوء. إذ تفيض من حولك الحكاية بوميض الكينونة والوجود، فلا تحسن معها إلا الإنصات لِما لم يقله النص، لذلك المخبوء في وتيرة الحكي الصاعدة، التي تستنفر طاقة الحلم في مخيلة القارىء لتواكب تصاعد الحدث مع كل إشراقة في ضوء النص.
إذن، كانت حكاية الفتى في وادي إبراهيم، بعيدة كل البعد عن إطارها السردي، ذلك الذي استعار رواية سرد الظلم والاستبداد، الحرية والانعتاق، عبر نثر قصة الوالي وظلمه وفساده، بحيث كان هذا الإطار لا يعدو عن كونه تقنية سردية، أو إن صح لنا التعبير، كان بمثابة الواجهة أو الجدار، الذي تختبىء خلفه اعتمالات الحكاية الأم، الحكاية التي تنبىء ببزوغ روحٍ فلسفية عميقة، تبشر بأسئلة غاية في التعقيد والصرامة، تبحث في أصل الحنين، ومن قبله نشوة البدء والنشأة، مصطحبة معها � هذه الأسئلة � كل مكامن التأثير في قابلية القارىء، وسبل تلقيه الفريدة، التي تنشأ مع تتالي السرد، الذي يحجب أكثر مما يظهر.
ففي جنبات السرد الروائي لحكاية (الفتى) تُشرع نوافذ خفية، تظهر تارة وتختفي تارة، تغري القارىء على ولوجها والنظر عبر عوالمها السحيقة، التي تسبر أغوار النص المكتنز بدقائق الشعور ولطفها وخفتها، وما إن تنجح بصيرة القارىء في فك طلاسم هذه النوافذ، حتى تتبدى مجاهيل النص وتفوح أسراره، تلك الأسرار التي تفتّق الوعي على منظومة الحس الإنساني الغائر، لتحل اشتباك مصدر هذه النزعات الإنسانية الأصلية، وتنجح في مقاربتها مع عوامل انفجارها، مما يحيط بها من محرضات، يغفل عنها الكثير ممن يقاسون هول هذه المشاعر، ولا يطيقون حِمل فك رموزها، أو محاولة تفسيرها.
يبحث صلاح القرشي في هذا النص، عن معنى الحنين المتجذر في الروح الإنسانية، الحنين للحظات الأولى، الحنين للحالة الأولى، والمكان الأول. كل ذلك ينطبق على ما سواه من تمثل للحنين، سواء كان ذلك على مستوى الروح أو النفس، أو المكان، كل أشكال الحنين ومن دون استثناء، وهذا ما يبرز من خلال التصاق سمة التأمل والشرود بالشخصيتين الرئيسيتين في الرواية (الفتى) و(علي بَو)، وفي تصوري لا يتعذر على أداة النقد أن تدمج بين الشخصيتين وإحلالهما في مكون واحد، يتحرك في سُبل النص، من دون انفصام. إن ما يميز هاتين الشخصيتين، هو الشرود والتأمل والصمت، الذي يسميه العامة بلهاً وجنوناً، بينما هو في عوالم هاتين الشخصيتين، مكون فريد، يصوغ مخيلة الذات، ويصبغها بالأمان.
إن هذا الهروب الذي يتجلى من خلال الشرود والتأمل والصمت، هو المنفذ لحالة النشوء الأولى، لسبب الحنين التالي في عمر الإنسان، الحالة التي تزود الروح بالعدة للرجوع للمنبع الأول، قبل أن تختلط النفس بهوامش الحياة وملوثاتها، عندما كانت أقرب للطبيعة وللأشياء في حالتها الأولى. وليس استحضار الحرم المكي، والكعبة، ومنظر الطائفين، إلا دلالة على ثبوت هذه الحالة، فالكعبة هي أول بيت وضع للناس، وهي رمزية جلية في الدلالة على الثبات، وعلى اكتناز القيمة التي لا تتغير، وكأن الكعبة المشرفة، حال تأمل (الفتى) و(علي بَو)، تحيلهما للأساس في كل شيء، وتبتكر لهما ملجأ بعيداً عن التبدل والتشوه، وكأن الكعبة فيما بعد، تمدهما بالطاقة اللازمة للثبات على الحالة الأولى، حالة التخفف من أدران الحياة الدنيا، وتمرغها باعتبارات السلطة والوجاهة، وحب الدنيا والجمع لها، وقد ألمح إلى ذلك الكاتب في نافذته الأخيرة، وكأنه يختتم المشهد السردي بهذه الحقيقة.
تظهر في نص صلاح القرشي الروائي، مسألة غاية في الدقة والعمق، وهي علاقة المكان بروح العيش، بمكمن فاعلية الحياة لدى الأفراد، المكان الذي يشيّد بنيانه الروحي في صميم النفس، فيملي عليها بواعث حركتها وشعورها وعواطفها، وكيف أن المكان قد يسهم في تبديل (المزاجية)، وأقصد هنا بالمزاجية، المصطلح النفسي العميق، الذي يرتبط بالمادة والرمز، فنجد أن ارتباط (الفتى) بحالة الصمت، كان مجاوراً لجزئية المكان، واعتمالها في كيانه وروحه.
وهنا تبرز مسألة نفسية غاية في التعقيد، تبحث في ارتباط المكان بالسلوك، وقد تتجاوز هذه المسألة هذا الشأن بكثير، حين تبحث في ارتباط المكان بالقدسية، وبمجاورة الحرم، ولقد كان صلاح القرشي واعياً لهذا الأصل كامل الوعي، إذ استهل الرواية بالآية 37 من سورة إبراهيم (ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون)، وأورد الروائي أيضاً مقطعاً من مزامير داود عليه السلام، ومقولة لابن هشام تقول: «أخبرني أبو عبيدة أن بكة اسم لبطن مكة، لأنهم يتباكون فيها، أي يزدحمون». كل هذه الإحالات، تنبىء عن غاية الكاتب في تتبع هذا المصدر الشفيف للضوء النابع من أصل المكان، وارتباطه بالنفس، وبحركتها وانفعالها.
لم يكن هذا السرد الذي يبحث في خصوصية المكان سرداً تاريخياً أو جهداً للوصول إلى الغاية والمعنى، بل كان إسقاطاً بارعاً في ربط الحالة الإنسانية الراهنة، ومحاولة معالجتها من خلال دراسة مكون المكان ومعناه، إذ انحرف السؤال انحرافاً إيجابياً نحو قضية الحنين، وبواسطة هذا الحنين، انفتحت للكاتب الخيارات ليسائل جزيئات هذا الحنين، التي تحوي زوايا عدة، تكون قادرة على أن تلج لمساحة أرحب في تفكيك القلق الإنساني، من جوانب متفرقة، تبدأ من الحنين للحالة الأولى الجنينية، إلى أن تصل لحالة الصفاء والتخفف من أعباء الحياة الراهنة، التي تعج بالمكدرات والملوثات الإنسانية التي تُذهب حالة الكينونة الأولى، التي يكون فيها الإنسان أقرب ما يكون للمكان وقدسيته، وثباته وتجليه.
لقد نجح صلاح القرشي بحق في ابتكار نص عميق، نفتقر حقاً لمثيله في ساحتنا الأدبية، هذا النص الذي يبحث في الأعماق، ويؤجج الأسئلة الكبرى، التي تشحذ فكر وهمة القارىء والمتلقي، للاستزادة من النصوص الجادة التي تترفع عن المبتذل من حكايات العالم الهشة، التي لا تضيف لسردنا الضعيف إلا أثقالاً تهبط به لدركات الإسفاف والسطحية.
من خلال سرده الممتع، استطاع صلاح القرشي، أن يسائل عصر القلق، وخفوت القيم، واختفاء المعايير، وذلك باستنطاق مكونات الثبات من حولنا، ومنابع القيم الباقية. لقد وجه القرشي، أسهمه نحو الهدف بعناية، وذلك بسرد غاية في الرقة، ولعل أكثر ما يميزه هو هذا الانسياب البليغ، الذي يستعير روح الحكواتي المتمرس، القاص بالفطرة، إذ تشعر وأنت تقرأ الرواية بأنك تستمع لحكاية ذات مغزى عميق، ولكنك تستمع لها وأنت في طريق متجه صوب غاية ما، لذلك تقع منك هذه الحكاية في مكمن البلاغة والتأثير، وهذا في تصوري استثمار ناجح لتقنية السرد في إيصال هذه الفكرة العميقة والمؤثرة، التي تحتاج إلى التنقيب حتى يسهل الوصول لقعرها.
April 1, 2012
دراويش القرشي
بقلم / محمود تراوري
حسنا فعل صلاح القرشي حين احتاط، وفتح نافذة في مطلع روايته الأخيرة "وادي إبراهيم" ردد فيها العبارة الشهيرة التي لا أعرف حقيقة متى بدأت ومن ابتدأها والتي تقول بطمأنينة كبيرة لا تخلو من الاستفزاز أحيانا "أي تشابه بين أحداث وشخصيات هذه الرواية وبين الحاضر أو الماضي هو من قبيل المصادفة لا أكثر"، ليلج ساردا، مختارا تقنية فنية تذكر بتيار اشتهر منه عربيا جمال الغيطاني باستعادته أزمنة مملوكية في عدد من رواياته، ورضوى عاشور في تعاطيها مع الزمن الأندلسي، استحضار أمين معلوف لأزمنة قروسطية، أو عندما يتقاطع سعد الله ونوس مسرحيا مع حكايات تراثية مماثلة لحكاية الفيل، والتي كانت تعرف في الحكاية الشعبية المكية ببقرة الشريف. صلاح يستعير الزمن العثماني وتحديدا في الحجاز، أو مكة على وجه الدقة، بمسميات حاراتها التاريخية، حيث تحضر القشاشية ومنها ينطلق راويا سيرة مجاذيب، وليس مجذوبا واحدا يسميه "علي بو"، وإلى جانب الدراويش، حيث يتوحد الإنسان بالمكان تحضر المدعى وجبل الكعبة والزاوية، بينما تحضر لكل شريحة من المجتمع شخصية رامزة كالشيخ مقبل، الذي ينفرد بعالم مغاير ومثير في الرواية، ولكن بشكل خفي وبتكنيك فني وفق فيه صلاح إلى حد مدهش، ليغدو الشيخ مقبل الشخصية الموازية التي تشق طريقا خالصة لها في دراما العمل.
وتحيل شخصية البو إلى النافذة الذرائعية في مفتتح العمل. الدكتور عبدالله مناع في كتابه الأخير عن جدة.. الإنسان والمكان "تاريخ ما لم يؤرخ" كان يشير إلى أن ممن بقي في ذاكرته حيا نابضا، هو "الباوا"، أو البو كما كان له أن يسمي نفسه معتزا بشخصه، وهو � حسب وصف المناع � " شاب مديد القامة، في أواخر العشرينات ذو بشرة سوداء، ولكن ملامحه لم تكن زنجية مزعجة بل كانت وكأنها ملامح عربية مكسوة ببشرة سوداء، وكان له أب تقدمت به السن هو البو الكبير"، ويستمر المناع يسرد سيرة "البو الصغير" بشكل استذكاري سريع، لا ينفتح على فضاءات السرد كدراما تنأى عن الاكتفاء بالوصف الإشاري / الإخباري، بينما يذهب صلاح إلى أقصى تخوم الفن ليخبرنا أن "علي بو بفتح الباء، الحقيقة أنه ليس علي بو، فقد نال هذا الاسم على مرحلتين، في الأولى لم يكن سوى علي، أو علي الدرويش،�."، ليوغل بعدئذ وتبدأ لعبة السرد، ومهارات السارد، والتي تجلت في هذا العمل في القدرة على التكثيف، بتعميق الجملة، واختزال المشهد، ليكبر في مخيلة القارئ، وبصور شتى. لا تسمح المساحة التي انتهت هنا بإيرادها.