انحطاط النظام العالمي
مثل أسوأ الديكتاتوريات في العالم، كان الكونجرس الأمريكي يهب في كل دقيقة واقفا ومصفقا للسفاح مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، وهو الأمر الذي لا يحظى به الرئيس الأمريكي نفسه في هذا الكونجرس، ولا يحظى به نتنياهو نفسه في برلمانه هو! وذلك مشهد شديد الكثافة والفجاجة يرى فيه المرء طبيعة هذا النظام العالمي الذي تقوده أمريكا! فهذا النظام نفسه، وعبر أحد مؤسساته، وهي: محكمة العدل الدولية، قد أصدر بيان إدانة واعتقال لهذا المجرم السفاح! فإذا به يُستقبل خطيبا في هذا الكونجرس، بل إن هذا الكونجرس نفسه قد ردَّ على قرار المحكمة بفرض عقوبات عليها وعلى قضاتها!
ولقد صرح كريم خان، رئيس المحكمة نفسه،بأن مسؤولا غربيا قد صرَّح له، بأن هذه المحكمة إنما أنشئت لمعاقبة مجرمي الحرب فيإفريقيا أو المارقين مثل بوتين، ولم تُصنع لمعاقبة حلفائنا مثل نتنياهو!
وهذا مع أن هذه المحكمة ساوت بينالقاتل والقتيل، بين المحتل ومن يقاومه، فأدانت الطرفين وأصدرت قرارا لاعتقالقائدين من إسرائيل وقائدين من حماس! ومع أن رئيسها هذا نفسه زار إسرائيل ولم يزرغزة! ولم يغير هذا من الواقع شيئا!
ثم إن هذا مع أن الأمر لا يحتاج إلىمحاكمة ونظر ووثائق، فإن العدسات تنقل ما يحدث إلى جميع أنحاء العالم مباشرة بلاواسطة، وإن قوما قُتِل منهم أربعون ألفا، وأصيب منهم نحو مائة ألف، ومُحيت بلدهم،لا يحتاجون في فهم ما يحصل إلى وثائق وقضايا وشهود.. ولكن الجاهلية تحب الأوراقوالوثائق والإجراءات! ومع هذا طاشت المشاهد، ثم طاشت بعدها الأوراق والوثائقوالإجراءات، وصارت المحكمة هي المنبوذة! وصار السفاح هو ضيف الشرف المحتفى به!!!
وهكذا تأكل الجاهلية المعاصرة أصنامهاالتي صنعتها بأيديها، وبقي أن يتعامل الجميع مع هذا القانون الدولي ومؤسساته بكلازدراء واحتقار.
إن هذا الإجرام يُذَكِّرنا بعظمةديننا، وعظمة النموذج الذي أثمره، وعظمة ما كان في هذا العالم يوم كان المسلمون همسادته وملوكه وأصحاب الكلمة العليا فيه.
وإن الحكايات كثيرة، ولكن نأخذ منهاواحدة أو اثنتيْن فحسب:
روى الطبري أن عمر بن الخطاب لماقُتِل، ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر أنه رأى قاتل عمر أبا لؤلؤة المجوسي يتناجى معفارسي آخر كان أسيرا في المدينة وهو الهرمزان ومعه آخر نصراني اسمه جفينة، فلمارأوْه اضطربوا، وسقط من أيديهم خنجر له نصلان. وهذا حقا هو وصف الخنجر الذي قُتِلبه عمر، فثارت أعصاب عبيد الله بن عمر، وانطلق إلى بيت الهرمزان فقتله وقتل جفينة،إذ هم قتلة أبيه المتآمرون على ذلك!
فحبس المسلمون عبيد الله بن عمر، ولماتولى عثمان بن عفان الخلافة كانت أول القضايا التي يُنظر فيها هو قضية عبيد اللهبن عمر، فاستشار عثمان الصحابة فيه، فبعضهم رأى أن يُقتل قصاصا؛ إذ هو قد قتلفارسيا ونصرانيا دون ثبوت التهمة. وبعضهم استعظم أن يُقتل عمر بالأمس ويُقتل ولدهاليوم! وحاول البعض أن يجد مخرجا شرعيا بأن القتل كان في زمن فوضى لا إمام فيه(بين فترة قتل عمر وتولي عثمان)، فلم يكن قتلُ عبيد الله هؤلاء افتياتا علىالسلطان الإمام!
فماذا فعل المسلمون؟ وعلام استقرالأمر؟
ثمة روايتان هنا؛ وكلاهما عند الطبري،تقول الأولى: بأن عثمان لما رأى أن القتلى لا أهل لهم بالمدينة يُسَلَّم القاتلإليهم، صار أمر القتلى إلى الخليفة إذ هو وليُّ من لا وليّ له، فاختار دفع الديةودفعها من ماله! وهذا حلٌّ شرعيٌّ يراعي في الوقت نفسه مشاعر المسلمين الذينفُجِعوا بخليفتهم ويكادون أن يفجعوا بولده، والمقتول أصلا رجل مغموز في دينهمتَّهَمٌ والشبهة حوله قوية! غير أن هذا الحل لم يُرْضِ بعض المسلمين، ورأوْا فيهنوعا من المجاملة والمحاباة، واعتبروا أن هذا هو "أول فتق في الإسلام"،يعني: أول انحراف وقع في تاريخ الإسلام.
وتقول الرواية الثانية بأن عثمان جاءبابن الهرمزان، واسمه القماذبان، فأعطاه عبيد الله بن عمر ليقتله قصاصا بأبيه،قائلا: "يا بني هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله"، فأخذه،وسار معه الناس، يتشفعون ويطلبون منه أن يعفو، حتى قال لهم: "ألي قتله؟ (أي:أليس من حقي قتله؟) قالوا: نعم. وسَبُّوا عبيد الله. فقال: أَفَلَكُم أن تمنعوه؟(أي: هل من حقكم أن تمنعوني من ذلك؟) قالوا: لا. وسَبُّوه فتركته لله ولهم،فاحتملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الرجال وأكفهم". أي أنه عفا،ففرح الناس بذلك واحتفوا به حتى أعادوه إلى بيته محمولا على الأعناق.
هذا فِعل المسلمين في رجل مجوسي متَّهمفي إسلامه ومتهم في قتله خليفتهم الكبير، ثاني وزراء رسولهم الأعظم �!
وقبل ذلك سطر المسلمون ما لم يشهدالتاريخ مثله، وذلك حين اقتضت ظروف الحرب أن ينسحب المسلمون من مدن فتحوها فيالشام، وأخذوا من أهلها الجزية بالفعل.. فماذا كان؟! أعاد المسلمون الجزية التيأخذوها إلى أهل البلد مرة أخرى.. هذا وهم مُقدمون على حرب يحتاجون فيها إلى المال.فدُهِش النصارى لذلك، ودعوا للمسلمين بالنصر على الروم!
نقول هذا الآن لا لكي نبكي على مجدناالغابر، وهو مجد يستحق البكاء عليه، ولكن لنرى كيف أن الشريعة العادلة حين نفذهاقوم مؤمنون كانوا يقولون ويقومون بالحق ولو على أنفسهم! ففي ظل نظام إسلامي عالميما كان يمكن للمذابح أن تحصل لو كان للمسلمين قوة على منعها، لا بيدهم هم ولابأيدي غيرهم! ولن يقبل المسلمون بالإجرام والقتل والظلم لا على إخوانهم المسلمينولا على غيرهم من الكافرين. وهم حين يفعلون ذلك لا يرون أنهم يفعلونه تفضلا ولامنة، بل يرون أنهم يفعلونه دينا وإيمانا واحتسابا!
ولمثل هذا حافظ المسلمون في بلادهم علىالأقليات الكثيرة المتنوعة التي كانت قبل عهد المسلمين وبعده عرضة للاضطهاد، بلكانت عرضة للإبادة والإفناء.
ثم ما لبثت أيام بعد خطاب السفاح فيالكونجرس حتى جاءتنا فرنسا بحفل الافتتاح للألعاب الأوليمبية التي تقام في باريسلهذه السنة! وإذا به حفلٌ قد انزعج منه كثير من النصارى أنفسهم حتى اضطر الحسابالرسمي للأولبيمياد على منصة يوتيوب أن يحذف هذا الفيديو!
لئن كان خطاب نتنياهو في الكونجرسدليلا ساطعا على ما في هذا النظام العالمي من الظلم والقتل والإجرام والطغيان، فإنهذا الحفل الافتتاحي للأوليمبياد كان دليلا ساطعا على ما في هذا النظام العالمي منالكفر والفسوق والانحلال والعصيان. إن الذين رسموا صورة الحفل وخططوا له قصدوا عنعمد إلى تحقير الأديان وازدرائها، وإلى مناكفتها ومعاندتها، وفي المقابل فقد عمدواإلى تعظيم أهل الإباحية وعمل قوم لوط والافتخار بالذين يغيرون خلق الله ممنيسمونهم المتحولين من ذكر إلى أنثى أو من أنثى إلى ذكر. وقد مزج هؤلاء بين معاداةالدين والمباهاة بالفاجرين المنحلين ليجعلوا رسالة الحفل الواضحة أن هؤلاء الآخرينقد أسقطوا الأولين وارتقوا في مكانهم، فهم الآن يُذلونهم ويهينونهم ويسخرون منهم.
لقد كان حفلا، كأنما كان الذي خطط لهودبر، وأشرف عليه هو الشيطان نفسه! ولا يحتاج المرء إلا إلى قليل من الصورالمنشورة لكي يرى فيه قول الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُفَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَالشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]، وقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَأَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83].
وإن في هذا الحفل من الإسراف والتبذيروالمباهاة ما هو مصداق قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْرِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْيَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38]، وقد وصف اللهالمبذرين بقوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَالشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27].
بل كأنما كان هذا الحفل تطبيق عمليلخطة الشيطان التي وضعها لإضلال الناس وإدخالهم النار، تلك الخطة التي ذكر لناربنا بنودها في القرآن الكريم، ومنها:
1.الأمر بالفحشاء والمنكر: {الشَّيْطَانُيَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]، {وَمَنْيَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِوَالْمُنْكَرِ} [النور: 21].
2.تزيين التعري والانحلال: {فَوَسْوَسَلَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْسَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 20]، وقد حذرنا الله من ذلك فقال: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُالشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَالِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27].
3.الحث على تغيير خلق الله: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّمِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْوَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْفَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 118، 119].
4.الدأب والإصرار والدخول على النفس منكل الجهات {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْأَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف: 17].
5.تزييف المعاني وقلب الحقائق واختراعالألفاظ المزخرفة للمعاني الفاحشة الفاسدة؛ فإذا هذا الفساد كله والسواد كله يسمىبالحضارة والتقدم والتنوير والمساواة... إلخ! وقد قال ربنا جل وعلا: {وَزَيَّنَلَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَايَهْتَدُونَ} [النمل: 24]، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْفَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، {شَيَاطِينَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِغُرُورًا} [الأنعام: 112].
وقد رأيت من تعليقات بعض النصارىتعليقا هزَّني من الأعماق حقا، وهو قول أحدهم: "المكان الوحيد الذي لايُستهزأ فيه بالمسيح عليه السلام هو بلاد المسلمين"!!
أي والله، نعم! وهو ذا!
إن بلاد المسلمين أولى بالمسيح منهم،وأكثر تعظيما للمسيح منهم، ولئن كانت علمانيتهم تسمح للواحد منهم أن يرتدي قميصاكتب عليه: "المسيح شاذ جنسيا" (استغفر الله العظيم، وحاشا لله ولنبيه!وناقل الكفر ليس بكافر!).. لئن كانت علمانيتهم تسمح بهذا، فإن ديننا نحن المسلمينلا يسمح له بأدنى الإساءة إلى المسيح عيسى بن مريم عليه السلام!
ومن عجائب هذا الحفل، وهو من مشاهدإشراف الشيطان عليه، أن الرئيس الفرنسي رحب بحضور نتنياهو فيه، ليكتمل مشهد الكفروالفسوق والعصيان!
لذلك كله، فإن النظام الإسلامي العالميهو إنقاذ لا للمسلمين المستضعفين فحسب، بل إنقاذ للعالمين، إنقاذ لهم من قبضةالشيطان التي تستولي على بيوتهم وأبنائهم وأرواحهم، فتقلب ما كان مقدسا إلى مستهانمستباح، وتقلب ما كان مُجَرَّما إلى مقُدَّس مُصان!
إنه مهما قيل، مهما قيل، من مساوئ كانتفي ظلال الحكم الإسلامي، من استبداد هنا أو فسوق هناك أو عصيان هنالك، فإن هذا كلهلا يساوي أبدا أبدا شيئا مما يجري في هذا النظام العالمي المعاصر الذي أسس للقتل،وشرعن الفسوق، وجعل المعاصي حقوقا من حقوق الإنسان!!
ولئنكان بعض المفكرين والفلاسفة من الغربيين ومن غير المسلمين ينادي على الغرب أنيستفيدوا من تجربة الإسلام الروحية والأخلاقية من بعد ما رأوا وذاقوا ما فيالمادية العلمانية من القسوة والتوحش، فإن هذا كله ما يلبث أن يعض الجميع بنابهحتى ما يجدون لهم ملجآ ولا سبيلا إلا الإسلام، شرط أن نستطيع نحن تحرير بلادنا،وإقامة نظامنا، ونشر دعوتنا! وعندئذ يقبل الناس إلى دين الله أفواجا، لنحقق بالعمللا بالنظر وحده قول ربنا تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِتَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَبِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُالْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].
نشر في مجلة أنصار النبيﷺ� أغسطس 2024