أمةٌ بين العجز والخذلان
إنما مثلنا ومثل هذا الواقع الذي نحنفيه، كَمَثل قومٍ وُلِدوا في سجن، لم يعرفوا من الحياة غير السجن، وقد درجوا علىذلك وألفوه حتى لم يعرفوا غيره! فهم يرون زنازينه بيوتا وأوطانا، ويرون سجانيهحراسا، ويرون تقسيم العمل فيه نظاما، ويرون مديره زعيما ورئيسا!
فلئن سألتَهم: ماذا تحبون؟ وفيمترغبون؟ كان مناضلهم وأشجع من فيهم هو من ينبعث ليقول: نريد زيادة وقت التريض،والتحسين من جودة الطعام، وإصلاح أحوال المستشفى لتقديم الرعاية الصحية الملائمةللمواطنين، وتعديل القوانين المنظمة للإدارة لكي يتحسن تعامل الحراس مع النزلاء فيأثناء تنظيم الخروج والدخول!
فلئن اكتفى هذا "الشجاع، المناضل،المغوار" بالكلام والمناشدة والنداء، فهو يعمل وفق القوانين القائمة، وقدينظر إليه مدير السجن إن كان "صالحا" بعين العطف والعناية، وإلا فقديتخوف من أن هذا الكلام هو أول العمل كما أن النار هي من مستصغر الشرر، فيعمل علىعقوبته كي لا تنتشر أفكاره التي تهدد "نظام" السجن، وتشجع أولئك النزلاءعلى التمرد!
وأما إن كان هذا "الشجاع،المناضل، المغوار" أوسع من ذلك حيلة، فلم يكتفِ بالكلام، وإنما سعى في العمل،فإنه المتمرد الإرهابي الذي يجب أن يؤدب وأن يكون عبرة لمن يعتبر! وعظة لمن يتعظ!
ولكن.. ما هو هذا العمل الذي سيجعلهعبرة؟!
إنما هو كأن يشاكس الحراس في مواعيدالخروج والدخول إلى الزنازين، فيسعى لانتزاع وقتٍ أطول من أوقات التريض، أو أنيقاوم معترضا صفعة وضعها حارسٌ على قفاه دفاعا عن نفسه وكرامته، أو أن يسعى سرًّاوبالحيلة لتهريب سجين إلى المستشفى قبل أن يستكمل أوراقه وإجراءاته الإدارية، أوأن يعمل في تثوير النزلاء للمطالبة بحقوقهم المكتوبة في دستور السجن! أو نحو هذا!
إنه، إذن، سجين خطير، وهو قد خرج عنالقوانين وخالفها حين فكَّر في انتزاع بعض الحقوق لنفسه، ولم يلتزم بالوسائلالقانونية السلمية المشروعة التي تحكم عمل السجن!
ولهذا فقد انقسم حول الرأي فيه: إدارةالسجن والسجناء معًا؛ فقوم يقولون: إن الكبت يولد الانفجار ولا بد من إصلاح منظومةالقوانين الحاكمة لتهدئة التوتر، ولكي يعود السجناء والحراس والإدارة يدا واحداةوشعبا واحدا، في ظل منظومة أفضل. وقومٌ يقولون: بل لا بد من الحسم والحزم إزاءأولئك المتمردين المشاكسين، فالنظام نظام! والالتزام التزام! والقوانين القائمةيجب أن تُصان وألا تُمَسَّ هيبتها، ولئن حقق هذا المتمرد المشاكس بعض مطالبه بطريقالتمرد هذا فإن هذا لتشجيعٌ وتحريض لغيره على أن يتمردوا ليحققوا ما يشاؤون، فأينتذهب هيبة القانون والإدارة والسجن والحراس والرئيس؟!.. بلى، إنه لإرهابي يريد أنيبدلكم من بعد خوف أمنا، ومن بعد نظام فوضى، ومن بعد حكم القانون حكم الغابة!
وما يزال النقاش ساخنا ودائرا بيننزلاء السجن من جهة، وبين إدارة السجن من جهة، وبين الفريقين من جهة أخرى!
يتناقش السجناء: هل ما نحن فيه الآننعمة تستحق الشكر؟ أم نحن نستحق خيرا من هذا؟ ألا تشاهدون في التلفاز والصحف كيفتبدو السجون الأخرى في هذا المُجَمَّع؟! ألا تنظرون إلى لون الزنزانة في هذاالمجمع الغربي واتساعها؟ ألا ترون كيف هي المستشفى متطورة عندهم؟ ألا ترون الحارسمنهم كيف يعامل النزيل باحترام وتقدير؟ ألا ترون كيف أن أوقات التريض عندهم ضعفيْوقت التريض عندنا؟!
ويتناقش السجانون أيضا: هل يستحق هؤلاءالنزلاء تحسين أوضاعهم أم أنهم كالكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فإذاحصلوا على شيء طمعوا في غيره؟! وهل يصلح عند هؤلاء الناس مثل ما يصلح في المجمعالغربي المتقدم المتطور ذي التعليم والثقافة والأموال الكثيرة؟! وهل حقا كان الكبتهو الذي أدى إلى الانفجار في موجة التمرد السابق، أم أن قلة الكبت وضعف القبضة هوالذي سمح بهذا الانفجار؟!
وبينما يسود هذا النقاش بين السجانين،وبين المساجين أيضا، إذ نبت في الناس قوم يقولون: يا أيها الناس، هل هذه أوطان أمهذه سجون وزنازين؟! وهل هؤلاء حرس يحفظوننا من أخطار الخارج أم هم سجانون لا همّلهم إلا قهرنا وكبتنا والسيطرة علينا؟! وهل هذا الذي يحكمنا نظام وقانون لخدمتناوتحقيق مصالحنا وتنظيم حياتنا أم أنه نظام وقانون لشرعنة وتقنين حبسنا وإذلالنا؟وهل حقا أن منتهى طموحاتنا أن يكون السجن لدينا نظيفا ملونا متسعا مثل سجون المجمعالغربي؟! إن المجمع الغربي نفسه يعيش في سجون وتحتاج شعوبه إلى التحرير مثلمانحتاج إليها!
بدا الكلام كأنه منبعث من الخيالالبعيد، فغر الجميع فاه! وحاول أن يتأمل هذا الكلام الجديد! إنه نوع جديد من"الإرهاب" فيما يبدو! وهو نوعٌ لا يستهدف شخص الرئيس مدير السجن، ولامجموعة قوانين ضمن لائحة السجن! إنه كلام يستهدف طبيعة النظام نفسه، وبنية السجننفسها! إنها إذن دعوة إلى الفوضى! الفوضى التي يسميها حرية وتحريرا! كيف نخرجبهؤلاء الناس من هذا "الوطن" الذي يسميه سجنا؟!.. وهل في الدنيا شيء إلاالأوطان التي يسميها: السجون؟!.. وهل يستطيع الناس أن يعيشوا بغير قانون ونظامكالذي يحكمهم داخل هذه الأوطان التي يسميها سجونا؟! وكيف يمكن للمرء أن يُعالج إنلم توجد مستشفى السجن؟ أو أن يتعلم إن لم توجد مدرسة السجن؟ وفيم يعمل إن لم يوجدمحجر السجن ومصنعه ومزرعته؟!
***
إنه –عزيز� القارئ- حوار شبيه بحوارالجنينيْن في بطن أمهما، الذي ينسب للكاتب اليوناني ديمتري إفرينوس، والذي أراد بهالكاتب أن يشير به إلى وجود حياة أخرى بعد الموت:
يُروى أن توأميْن في بطن أمهما دار اندلعبينهما حوار، قال أحدهما: هل تعتقد بوجود حياة بعد الولادة؟
فقال الآخر: لا يمكننا أن نتأكد فلميعد أحد الولادة ليخبرنا، لذلك أنا لا أعتقد بوجود حياة بعد الولادة، ويكمل متهكماإذا كانت هناك حياة بعد الولادة ماذا عساها تشبه؟! كيف سنحيا خارج الرحم بهذاالحبل السري القصير؟ كيف سنمشي بهذه الأطراف الرخوة؟!! إنها خرافات لا تصدق..
-لا أدري ولكنى أعتقد أن الأم ستساعدنا!
-ومن أخبرك بهذا.. ليس هناك شيء اسمهأم!
-إذا أنت لا تؤمن بوجود بالأم؟
-أنا لا أؤمن بوجود شيء لا أراه ولاأستطيع أن أسمعه أو ألمسه ولا دليل على وجوده، إذا كانت الأم موجودة فلتظهر نفسها!
-إن الأم تحيط بنا من كل اتجاه، نحنبداخلها، نحن أبناؤها، جائت بنا إلى الحياة كما أن الغذاء يأتينا منها، ليسبمقدورك أن تراها، لكن إن هدأت قليلا ستسمع صوتها وتشعر بها تربت على الرحم،وستشعر بحنانها يغمر قلبك ويطمئنك!
-يالك من غبي حقا، الغذاء يأتينا منالحبل السري يا جاهل، وليس من الأم التي لا نراها ولا دليل على وجودها، كما أنالأم لم تأت بنا، نحن تَكَوَّنَّا داخل هذا الرحم عن طريق اختراق الحيوان المنوىلجدار البويضة، هذا هو التفسير العلمي لوجودنا أيها الأحمق، وليست الأم التياخترعتها أنت! إذا كانت هذه الأم حنونة وتحبنا لهذه الدرجة، فلماذا تركتنا في هذاالمكان المعتم الضيق، ستتركنا هكذا لا نستطيع الحركة بحرية حتى تنتهى حياتنابالولادة ونحن مسجونين هكذا!.. يالك من غبي تؤمن بالخرافات!
-لست غبيا ولكن أنا أؤمن بوجود الأم،وأن الولادة هى بداية الحياة، لأن هذا هو الاستنتاج المنطقي، فلا يعقل أن يأتيناالغذاء من العدم، لابد له من مصدر، كما أنه لا يعقل أن تأتي البويضة من العدم هكذالابد لها من مصدر أيضا!.. وبالتأكيد إذا كانت هناك أم أتت بنا فإنها لن تتركنا بعدالولادة وسترعانا وتعتنى بنا..
-ضاحكا: أنت غبي جاهل متخلف تؤمنبالخرافات أنا أذكى منك! ...إلخ
***
في الواقع، فإن هذا الجنين الملحد! هوأعقل من الملتبس بواقعنا هذا! فإن الجنين لم ير الدنيا، بينما أهل هذا الواقعيعلمون بأدنى استنتاج منطقي أن هذا النظام، نظام الدولة الحديثة، لم يكن يحكم حياةالبشر إلا في هذه القرون الأخيرة، وعمره في بلادنا يزيد قليلا عن القرنيْن فحسب،فليس هو من ثوابت الكون ولا من حقائق الحياة!
نحن قومٌ مساجين، وأشد ما في هذا السجنمن سوء، أن الناس لا يشعرون أنهم في سجن، بمن في ذلك طائفة كبيرة من شجعانهمومصلحيهم، لقد تلوثت العقول وفسد الخيال حتى صار الشجاع المصلح يطلب إصلاحا وصورةعلى ذات النمط، لكن بشروط أفضل للعبودية!
نحن قومٌ مسلمون، عمرنا في هذا العالمالآن أكثر من أربعة عشر قرنا، لدينا نظام حياة سابق على هذه السجون الحديثة التيجعلت سلطة الحكم تتحكم وتمسك بكل تفاصيل الحياة وأنشطتها، فهي تراقب حتى التغريداتالتي نكتبها، وتتحكم في الأموال التي بأيدينا، وتحدد لنا مناهج التعليم التي تشكلوعينا، وتسيطر على نوافذ الثقافة والإعلام التي نبصر بها الحياة، وتطلب منا أنننتمي إليها ونواليها ونخلص لها ونضحي بدمائنا في سبيلها، أي أنها تطلب منا علىالحقيقة أن نعبدها! فقانونها شريعة، وعلمها الوطني راية، ودستورها قرآن، والموتعند حدودها ومن أجل ترابها شهادة! وكل ما هو تحت حدودها خاضع لها ولها السيادةعليه، لا تُسأل عما تفعل ونحن نُسأل حتى عما لم نفعل!!
ها هم أهل الزنازين والسجون يرون أنزنازينهم تحجزهم وتمنعهم عن نصرة إخوانهم المذبوحين في غزة وفي لبنان ومن قبلها فيالشام والعراق وأفغانستان والبوسنة وكوسوفا، ومن استطاع التسلل منهم إلى تلكالأنحاء ليجاهد فيها قد صار إرهابيا مطلوبا للعدالة!! تأمل.. للعدالة!!
الأمة لم تخذل غزة ولا غيرها.. الأمةمحبوسة عاجزة عن نصرة غزة وعن نصرة غيرها..
ولكن الخذلان الحقيقي، هو البقاء فيحالة الضعف هذه، بل في حالة الاستسلام هذه لأنظمة قد ثبتت خياناتها وعمالتهاوتواطؤها مع العدو وولاؤها له.. هذا هو الذي يجعل الضعف خذلانا، فننتقل من الأمرالذي نحن معذورين فيه شرعا، إلى الحال الذي نحن فيه آثمون!
إن نظامنا الإسلامي الذي ساد قرونا فيهذه الدنيا، غلَّ يد السلطة أن تتغول وتتمدد وتهيمن على سائر أنشطة المجتمع، وهوأيضا النظام الذي أسس لاستقلال الأمة بأموالها ومواردها، وحثها على أن تقاوم أيتغول على شأنها وأمرها! ومن قرأ شيئا يسيرا في أبواب كثيرة من كتب الفقه والتاريخعرف بوضوح أننا الآن في وضع احتلال هو أسوأ من كل احتلال ابتلينا به؛ إنما هواحتلال مغلف بقشرة وطنية ومطليٌّ بطلاءٍ إسلامي، ولكنه أفتك من كل احتلال أجنبي..طالع مثلا أبواب: الأوقاف، وإحياء الأرض، ومصارف المال، وزكاة الركاز والمعادن،والضرائب والمكوس، الاحتكار، التسعير، والظفر بالحق، تغيير المنكر، والحسبة علىالسلطان... إلخ!
من قرأ شيئا من الشريعة علم أنها تصنعمجتمعا قويا أمام سلطة محدودة الصلاحيات، وتُمَكِّن الأمة من مواردها الماليةومواردها البشرية، وما السلطة فيها إلا حالة تنظيم حارسة لا حالة سيطرة متوغلةومهيمنة، وأنها تتولى الملفات العامة الكبرى كالأمن والدفاع وما يتعلق بهما!
أما الآن، فقد أنشأ الاحتلال الغربي فيبلادنا دُوَلًا على نمط دوله، زنازين جديدة، وضع عليها أسوأ أنواع عملائه،يحكموننا بقوانينه ومزاجه، ويُمَكِّنونه من أموالنا ومواردنا وعقولنا بل ومنأجسادنا كذلك!
الخذلان حقا أن نبقى مرتاحين في هذاالسجن! وألا نعمل على تحطيمه والتحرر منه!
نشر في مجلة أنصار النبي، أكتوبر 2024م