ŷ

ورطة مفهوم « الدولة »

الحملة التي شنّتها أوروبا على الدين الكنسي المسيحي لم تكن سهلة، استطاعت الحداثة الغربية أن توجه ضربات للفكر الكنسي جعله غير قادر على النهوض مرة أخرى. كان «المقدس» على رأس القائمة التي يجب قصمها، وأصبح وجود المقدس في المنظومة الفكرية أمر لا يقبله العصر الحديث. أصبح الفكر الغربي الحديث خاليا من المقدس الديني. هذه هي النتيجة التي يفتخر بها كثير من المفكرين،


لكن لننظر للأمر من زاوية مختلفة.. لو أخذنا فرنسا كمثال لدولة علمانية، يصفها العلمانيون بأنها الأكثر تشددا في علمانيتها، لنتأمل في حالة الاحتفال بالثورة الفرنسية. لقد شهدنا عدة ثورات العام الماضي، وصرنا نعلم جيدا بأن الثورة هي فعل بشري غير مقدس، فيه الصواب وفيه الخطأ، وهو فعل تاريخي، بمعنى أنه مناسب لظروف تاريخية معينة، لذلك تختلف الثورات في طبيعتها من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان أيضا، هذه الحالة البشرية حين يتم الاحتفال بها، تصبح حالة يهاب الناس نقدها، حينها تنتقل من خانة (الفعل البشري)، إلى خانة (المقدسات)، أليس الاحتفال السنوي يضفي هذا المعنى على الثورة الفرنسية؟! في متحف الشمع توجد زاوية لضحايا الثورة .. هل تشعر بهذا التخليد؟! وتوجد كذلك منحوتات من الشمع لشخصيات مؤثرة تاريخيا. لا شك في أن الشخصيات التي يحترمها الغرب ستزيد احتراما و(قداسة) بهذه التماثيل .. مثل الملكة إليزابيث .. والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران.


لقد خرجت القداسة من الدين ودخلت للفكر البشري المحض.. هذا ما أريد قوله .. ومن أكبر ورطات الحداثة الغربية أنها أدخلت القداسة إلى مفهوم (الدولة) نفسها. كانت بداية الفكرة أن الإنسان احتاج إلى وجود الدولة حتى ينظم أمور معاشه، كي تنضبط العلاقات، ويعيش الناس رغم اختلافهم، ومع الوقت أدرك الإنسان أن التقدم والحضارة مرتبطان بوجود الدولة، لا يمكن لقرية أن تبني سوقا عالمية مثلا، ولا يمكن لمدينة صغيرة أن تسابق الأمم حضاريا، من هنا أخذت الدولة حيزا مهما وكبيرا في العصر الحديث، لكن هذا المفهوم حمل القداسة في ذاته، فالدولة التي تمضي بنا نحو التطور، ستكتسب شرعية لأفعالها.

سأحاول تبسيط الفكرة أكثر، الدولة تمضي نحو التنمية، والتنمية تستهدف الصالح العام، وكل ما يعترض مسيرة التنمية يجب تأجيله، وكل ما يهمني أنا شخصيا (الفرد) لا يجب أن يشغل الدولة عن مسيرتها، وبالتالي أصبح وجود الدولة مقصودا لذاته، مرادا لذاته، وهي الأساس وليس نحن، وبالتالي تم إضفاء القداسة على (الدولة) بشكل يساوي فيه القداسة التي كانت تتمتع بها الكنيسة.

إن السعي نحو الكمال انتهاك للإنسانية، هكذا قال إلبير كامو الفيلسوف الفرنسي، بمعنى أن فكرة وجود الدولة التي تسعى للحضارة والتنمية في كمالها، ستجعلها قاسية نحو أبنائها، لذلك لن ترحم أخطاءهم، لأنها لا وقت لديها لمعالجة أخطائي أنا الفرد، لن تتسامح أبدا مع من يشوه سمعتها في الخارج، ولن تتهاون مع من يعرقل مسيرتها، بسبب طلباته التافهة في نظرها، لأنها تسابق الزمن من أجل الوصول للكمال.

من يولد في عائلة لها بريقها وسمعتها وتاريخها المجيد، سيجد نفسه مضطرا لأن يكون شيئا لا يريده، أن ينخرط في بروتوكولات وقواعد وضوابط، لأنه لن يُسمح له بتعطيل مسيرة العائلة ولا بتدنيس تاريخها، هنا سيكون إنسانا آخر، فرضته عليه ظروف السعي نحو الكمال أو ربما الخلود. أما العائلة البسيطة، التي تعيش وضعها الحالي، التي لا تنظر كثيرا إلى جذورها، ولا إلى مستقبلها، ستكون مهمتها أن يعيش الفرد فيها كما يريد، ستحتمل حماقاته، وتتجاوز عن أخطائه، وتقبل اختلافه، لأن الفرد هنا هو الأساس، في الحالة الأولى تقدست العائلة وتلاشى الفرد، وفي الحالة الثانية تموضعت العائلة تاريخيا وبرز الفرد.

أليس من العجيب أن يكون عدد من تنتهك الدولة حرياتهم بالسجن من أجل بقائها، أو تسلب مستقبلهم من أجل وجودها، أكثر بكثير ممن سلبت حريتهم وحياتهم من قبل أعدائهم؟! لم يمت إنسان من الجوع لأن سارقا دخل بيته وأخذ ماله، لكن أطفالا يموتون جوعا في العالم بسبب فساد الدول؟! أليست هذه مفارقة عجيبة في مفهوم الدولة التي تسعى للتطور والكمال؟! التطور حاجة ملحة، لا اعتراض على هذه الفكرة، لكن أن تكتسب الدولة قداسة من أجل ذلك، فهذا ما أبدعه العصر الحديث، ولا يجوز أن يكون السعي نحو التنمية ذريعة لانتهاك أحلام الفرد، ليس للتطور نهاية، فإن كان الفرد مشروعا مؤجلا اليوم، فإنه سيبقى كذلك.



 •  0 comments  •  flag
Published on July 04, 2012 06:50
No comments have been added yet.


مصطفى الحسن's Blog

مصطفى الحسن
مصطفى الحسن isn't a ŷ Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مصطفى الحسن's blog with rss.