ŷ

مصطفى الحسن's Blog

January 1, 2013

عن الحريات.. أحاول الكتابة

لا أعتقد أنه بالإمكان الحديث عن دولة مدنية حديثة أو حتى مجتمع مدني حقيقي يُتطلع إليه دون الحديث عن حريات حقيقية، وخصوصا حرية الرأي التي تعد الأرضية لأي مجتمع مدني متحضر، لا يمكننا تجاوز ذلك أو المراوغة أو المجاملة بشأن هذا الحق.


حين تتحدث عن حرية الرأي في أي مكان عام أو خاص، فإن أول سؤال تتلقاه هو عن ضوابط الحرية وقيودها، ماذا لو جاء من يشتمك أو يتعدى عليك أو يقذفك أو يتهكم بك� إلخ، والواقع أنه فخ في الحوار يقع فيه كلّ المتحاورين في هذا الموضوع دون وعي منهم، وكأنّ الجهات المعنية تنتظر منا أن نفرغ من تحديد شكل الحريات المتفق عليها، ووضع ضوابطها وقيودها وتعريفها، ومن ثم ستأخذ منا هذا التصور إلى حيز التطبيق، وستوقع عليه مؤشرة على زاوية الورقة اليسرى: (إلى من يهمه الأمر.. اعتمدوا التنفيذ)، لو كان الأمر كذلك لكانت الحريات تتحقق بالمؤتمرات، وترسل التوصيات إلى من يهمه الأمر، وينتهي كل عناء المجتمعات في بحثها عن تحقيق حرياتها.

كم يبدو المشهد ساخرا حين يجرنا الحديث عن الحريات إلى الحديث عن ضوابطها ، كم يبدو النقاش غريبا ويدعو إلى الشفقة حين يدافع من يطالب بالحريات عن نفسه، ويقول إنما عنيت كذا وكذا، ويطالبه الآخرون بتوضيح مقصده تماما، بينما الجميع يتفق على شبه انعدام للحد المتفق عليه.


لا توجد هناك حريات مطلقة، هذا أمر واضح، وإن اطلاعا سريعا على ما كُتب في الحريات كاف لتوضيح ذلك، والحريات ليست متساوية في جميع الدول، هناك اتفاق على الجوهر وتفاوت في التطبيق، ذلك أن مفهوم الحرية تصنعه المجتمعات من خلال الأحداث والمواقف، مفهوم الحريات يتبلور في الوعي مرة بعد أخرى.

لست ضد الحديث عن ضوابط الحريات من حيث المبدأ، لكني ضد الانشغال بالحديث عن الضوابط كلما طالب أحد برفع سقف الحريات، وهنا فرق كبير، مفهوم الحرية وضوابطها يتشكل في كل مجتمع بحسب وعيه وقوته وبحسب المواقف التي يمر بها، لكن سؤال كل من يطالب برفع سقف الحريات بالحديث عن الضوابط أولا هو مشروع جدلي بامتياز، بل في بعض أشكاله إحراج للمتحدث أمام السياسي.

ربما من أهم ما يواجهنا أمام الحديث عن حرية الرأي ذلك الجدل حول حرية الرأي الديني، وأظن أن الحرية والدين صنوان، أو أن الحرية من طبيعة الدين، فالدين في جوهره علاقة بين الله وعبده، والعلاقات لا تكون قسرا، ولو كانت قسرا لخلت من المعنى، ذلك المعنى الذي يتولد من خلال العلاقة بالله تعالى، لقد عرّفنا الله بنفسه في كتابه بصفاته، ولو نظرنا في الصفات مثل الرحمة والرزق والعفو والمغفرة والقوة وغيرها للاحظنا أنها متصلة بحياتنا، فهو يرحمنا ويرزقنا ويعفو عنا ويهدينا ويربينا، وهي صفات متعلقة بوجودنا في الحياة والاحتكاك بها، ونحن نعرف الله على قدر معرفتنا بهذه الصفات، ونعرف الصفات على قدر معرفتنا بالحياة.. إنها علاقة تتطور بالاستمرار والاختيار.. وحين تنعدم الحريات لا يعود لكل ذلك معنى.. من هنا كانت الحرية من طبيعة الدين..

هل بالإمكان الحديث عن تجديد ديني حقيقي دون وجود أرضية صلبة من الحريات؟! علينا أن لا ننسى هنا أن التجديد هو مطلب إسلامي، وأن الجمود والانحراف والخطأ المقصود وغير المقصود هو من الطبيعة البشرية، لذلك يجب السعي دائما إلى تجديد الدين.. لكن كيف يمكن أن يحدث التجديد دون قول جديد؟! وكيف يمكن السماح بوجود (قول جديد)، دون وجود أرضية صلبة من الحريات.. إن انعدام الحريات أو حتى تراجعها يعني أن الفكر الديني سيدور في دائرة واحدة، ولن يسير للأمام، وهو ما يعني استمرار الأخطاء السابقة.

ما يقوله العلماء في فهم الدين هو فهم بشري فيه الصواب والخطأ، وهي فهوم خاضعة لظروفهم التاريخية والنفسية، ولسقف الحريات الذي يعيشون فيه، ولما يمكنهم التفكير فيه وما لا يمكنهم التفكير فيه، والمعرفة البشرية فعل تراكمي، والنظريات الخاطئة تنتج بعدها نظريات أخرى أقرب إلى الصحة، والصواب الكامل كمال، والكمال ليس من صفات البشر.

حين يدعو الإسلام أبناءه إلى التفكير والتدبر من أجل إنتاج المعنى ومن أجل التجديد، فهو بذلك يتحمل خطأهم، فلا يمكن أن نتصور تفكيرا بشريا معصوما، والمجتمعات التي لا تحتمل أخطاء أبنائها، إنما هي تقفل باب التجديد، وتبشر بالجمود.



1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on January 01, 2013 01:09

December 25, 2012

مستقبل الدين.. حديث ذو أشواك

يلقى الحديث عن الإصلاح الديني اهتماما واسعا في العالم، وهو في الحقيقة حديث عن مستقبل الدين أكثر من كونه دعوة إلى إصلاح ديني أو إلى الاستمرار في علمنة المجتمعات، فمن النظريات التي كانت محل إجماع لا يمكن نقضه تلك التي تتحدث عن انحسار الدين وانتشار العلمنة، بمعنى أنه كلما تقدم الزمان واتجه الناس نحو المدينة الحديثة وكلما عمت التقنية، فإن ذلك سيعني أن الدين سينحسر ويتراجع، لكن هذا الإجماع تزعزع كثيرا بعد النصف الثاني من القرن العشرين، وبدلا من الحديث عن (موت الدين)، صار الحديث عن (تحديث الدين)، وبدلا من الحديث عن مقاومة الدين للعلمانية ومن ثم انحساره، صار الحديث الآن عن تحديث الدين وإعادة تشكيله.


هناك نظريات كثيرة وسيناريوهات متعددة لمستقبل الدين، كيف سيكون؟ ما شكله؟ وما خصائصه التي تميزه؟

من المهم أن ندقق النظر قليلا فيما قلناه، فقد كانت أكبر الثغرات في النظرية الأولى التي تدعي انحسار الدين أنها اعتمدت على المثال الغربي، صحيح أنه في الغرب كانت الحداثة تسير باتجاه العلمنة، وكانت المدنية تسير بشكل متواز مع انحسار الدين في شكله الظاهري على الأقل، لكنه لم يكن كذلك في مناطق أخرى من العالم، كالهند والعالم العربي والإسلامي، بل إن انحسار الدين لم يكن يشمل في الغرب الجاليات المسلمة والهندية أيضا، لكن الغرب يعتمد في كثير من نظرياته على دراسة ذاته، ويعتقد أن العالم سيلحق به، ولا شك أن في هذا عنصرية معرفية مزعجة.


أظننا سنرتكب الخطأ نفسه إذا تحدثنا عن مستقبل الأديان في العالم، بنفس المعطيات التي يتحدث فيها الغرب عن مستقبل الدين في عالمه، فتاريخ الدين المسيحي في الغرب، وطبيعة المؤسسات الدينية هناك، وتفاعل الدين مع الحداثة، ثم ظهور الدين بشكل جديد ومختلف، كل هذا خصوصية غربية مسيحية، من الخطأ أن تعمم على كل الأديان وفي كل المناطق.

لو أخذنا الموضوع من جانب واحد على الأقل سنجد فروقات كبيرة، الإصلاح الديني المسيحي في القرن الخامس العشر الميلادي وما بعده استطاع أن يحدث تحولا في الفكر الديني المسيحي، بل أحدث انفجارا هائلا في المذاهب الدينية، وتغيرت النظرة تجاه الإنجيل، ومن ثم تغيرت طريقة التعامل معه وتأويله، وكان ظهور البروتستانتية مهيئا وداعما للفكر الليبرالي والرأسمالي كما يذكر ماكس فيبر، أدى ذلك كله إلى تراجع الكنيسة وتراجع نفوذها، وربما نستطيع القول إنها تقبلت موقعها الجديد، وأقرت بالهزيمة، وإن كانت تتوق إلى موقعها القديم.

في العالم الإسلامي كان الوضع مختلفا جدا، فلم يكن ثمة احتكاك كبير بين الإسلام والحداثة قبل القرن التاسع عشر، أي قبل احتلال نابليون لمصر، فكل تلك المعارك والحفريات والهدم الذي مارسه العقل التنويري والنهضوي الغربي على الدين هناك كان الدين الإسلامي في عالمه الإسلامي بمنأى عنها.

لكن تمدد الحداثة عالميا كان مهددا حقيقيا لسائر النماذج الأخرى، خصوصا أنه كان يحمل قوّته المدنية معه، فالاختراعات والتقنيات الحديثة تضفي على أي نموذج بشري أو ديني بريقا جميلا، وتخفي جميع تشوهاته، كان الحديث في البداية عن النهضة، لكن الحديث تغير بعد ذلك في القرن العشرين، بعد ان استشعر العقل العربي الإسلامي حجم التهديد، وصار الحديث عن الغزو الثقافي والهوية الإسلامية.

يمكننا الحديث هنا عن نظرية (التخندق)، فحين يغزو جيش ما مدينة من المدن فإن المدينة تقاوم عبر جيشها، لكن حين يدخل الجيش الغازي إلى المدينة يلجأ أهلها إلى التخندق والمقاومة، إنها حالة من عدم الاستقرار، فلا الجيش الغازي يستطيع أن ينشر نموذجه، ولا المقاومة الماكثة في الخنادق تستطيع إعادة سيطرتها على المجتمع، فيصبح المجتمع بين بين، خصوصا إذا طال الزمن دون قدرة الجهتين على الحسم، هنا سيضطر المقاومون إلى التعايش مع الواقع إضافة إلى وجودهم في الخندق، بسبب حاجتهم إلى البقاء والاستمرار، سيأكلون ويشربون ويلبسون ويتعاملون مع ما أنتجه الجيش الغازي من التقنيات، إنهم مضطرون إلى ذلك، لكنهم لا يدركون تماما أنهم لم يعودوا كالسابق.

لقد تخندق الإسلاميون والمؤسسات الدينية عشرات السنين، فلا هم الذين تفاعلوا ولا هم الذين استطاعوا أن يوجدوا نموذجا حضاريا معاصرا، إنهم ليسوا كما كانوا قبل الحداثة، كما أنهم ليسوا كالدين المسيحي الذي أعادت الحداثة صياغته.



 •  0 comments  •  flag
Published on December 25, 2012 00:55

December 18, 2012

كيف تبرمج الدولة الحديثة أفرادها؟

قبل الدولة الحديثة الديقراطية كان الناس في الغرب تحت سلطة خشنة مباشرة، لنأخذ المرأة على سبيل المثال، فقد كانت تحت السلطة الذكورية في القرية، وهي كذلك تحت سلطة الكنيسة في العصور الوسطى التي تراها إغواء وشيطانا يمشي على الأرض ولا بد من كبح جماحه، إن مجرد فكرة أن حواء سبب خطيئة آدم كافية لتبقي المرأة سجينة لهذه العقدة الشيطانية مدى الحياة، لذلك كانت الكنيسة تسعى لتقييدها وكفّها وردعها عن الاشتباك مع الحياة العامة قدر الإمكان.. هذه سلطة مباشرة وخشنة.. بمعنى أن المرأة إما أن تستجيب أو أن تعاقب أو أن تنبذ في أقل الأحوال.


في المجال السياسي ثمة سلطة واحدة متفردة، وكل من يعارضها فإن مصيره إلى السجن او التنكيل أو الطرد.. وينبذ في مجتمعه بوصفه خائنا أو مثيرا للقلاقل، هذا أيضا من قبيل السلطة السياسية الخشنة والمباشرة.

من خصائص الدولة الحديثة الديمقراطية أنها أتاحت الحريات، وجعلت ما هو ممكن في الحياة خيارا متاحا لكل فرد من أفرادها، من حق كل مواطن أن يكون له انتماؤه السياسي والديني والفكري.. ولو عدنا لمثال المرأة فقد خلّص القانونُ المرأةَ من السلطة الذكورية وكذلك من سلطة الكنيسة.. فأصبحت مواطنة حرة مسؤولة.. بالتالي فقد زالت السلطة المباشرة على الفرد في الدولة الديمقراطية.


هناك من يقول: إن هذا هو ما تريدنا الدولة الحديثة أن نراه.. إنها دولة الحريات، لكنك لو نظرت للأمر من زاوية أخرى لرأيت أمراً آخر.. صحيح أن الدولة الحديثة تخلصت من السلطة الخشنة لكنها استبدلت ذلك بالسلطة الناعمة، فالمرأة لم تعُد تحت السلطة الذكورية أو الكنسية لكنها باتت تحت سلطة المعايير الجمالية في المدينة الحديثة -على سبيل المثال-، فالموضة تُحتِّم على المرأة أن تلتزم بمقاس محدد، هذا المقاس فرضته عارضات الأزياء ووجوه هوليود الجميلة وأجسادهن الفاتنة، وهذا يُحتِّم الالتزام ببرنامج غذائي قاسٍ وصارم، وربما اللجوء إلى الأدوية والعقاقير، وربما أيضا العمليات الجراحية، وليس خافياً علينا الهوس بعمليات التجميل وحقن البوتكس.. ومن لا تنطبق عليها هذه المعايير كأن تكون مُفرِطة في السُّمنة أو تفتقد لمعايير الجمال العالمية فإنها تتعرض لنوع من النبذ أو النظر إليها بدونية.

سيكون السؤال هنا، وأين هي السلطة التي تتحدث عنها، إن ذلك كلّه يتم باختيار المرأة؟! هنا تأتي أهمية الكلام عن (البرمجة)، فالدولة الحديثة تقوم بعملية برمجة لأفرادها ،بحيث تكون الخيارات المتاحة لهم محدوة بينما يعتقدون أنها لا نهائية، وهم يسيرون ضمن خطة محددة ،بينما يشعرون أنهم أحرار وبإمكانهم العيش كيف ما يشاؤون، لقد ساعدت الرأسمالية على تجمع الناس وتكدسهم في مدن كبرى، وضمت المصانع والشركات أعداداً كبيرة من الموظفين، يعملون في مبانٍ ومشاريعَ ضخمةٍ، ووجود هذا العدد الهائل في هذه المدن المحدودة، وهجرة الناس من القرى والأطراف إلى المدن الرئيسة جعلت سلطة الدولة وسيطرتها على الناس أقوى وأحكم.

تغولت الدولة حتى أمسكت الإعلام والتعليم بيدها، فمن اللحظة التي يبدأ الإنسان فيها بتلقي الثقافة، فإنه يتلقى ما تريده الدولة أن يتلقاه، وإذا تمت برمجة العقل فإن إتاحة الخيارات له ستكون أشبه بالمسرحية، لأنه سيختار ما تمت برمجته عليه، لماذا لا نطرح السؤال من البداية، لماذا يكون هناك نظامٌ موحد للتعليم؟ في تقسيم السنوات والمناهج وطريقة التدريس وتحديد المخرجات؟! لقد اعتبر بعض الفلاسفة أن التعليم الحديث هو إحدى أكبر جرائم الحداثة الغربية، لأنها أزالت الفروقات، وجعلت الكل كالواحد.

بإمكان القارئ أن يعترض بأنه بإمكانك الامتناع عن التعليم في الدولة الحديثة، هذا صحيح .. لكن نظام الدولة قائم على ذلك.. بمعنى أنني لو امتنعت عن التعليم فإن هذا سيعني أن أكون أقل شأنا من غيري على المستوى الاجتماعي.. وسأُعاني في إيجاد وظيفة في المدينة الحديثة.. كما أن المرأة بإمكانها أن تضرب بكل معايير الجمال العالمي عرض الحائط وتأكل وتلبس ما تشاء، لكنها ستعاني من نظرة الناس في المدينة الحديثة، وهذا ما يمكن أن نسميه بالسلطة الناعمة وغير المباشرة.. فهي تتيح لك الخيارات ،لكنك لو اخترت ما تريد فإنك ستعاني من النبذ والطرد الاجتماعي.. وهذا يلجئك في الواقع إلى خيارات محدودة في حين أنك تظن أن خياراتك لا نهائية.. وهذا كله يتم من خلال برمجة طويلة.

نسيت أن أقول: إن السلطة الناعمة تبقى إنجازا وتقدُّماً بالنسبة للسلطة الخشنة التي عانى منها الإنسان قديما وما يزال يعاني في الدولة الشمولية الحديثة.. ولهذا حديث آخر.



 •  0 comments  •  flag
Published on December 18, 2012 00:41

December 11, 2012

البرمجة في فيلم الماتريكس

لقي فيلم الماتريكس (المصفوفة) الذي أنتج عام ١٩٩٩م، الذي يتكون من ثلاثة أجزاء، الذي استطاع جزأه الأول فقط أن يحصد في صالات السينما في الولايات المتحدة وخارجها أكثر من نصف مليار دولار، لقي إعجابا واهتماما كبيرين، ولايزال من الأفلام التي تعرض بشكل مستمر على قنوات الأفلام في الفضائيات وهو يلقى إعجابا عند المشاهدة الأولى والمشاهدات التالية.


فيلم الماتريكس مليء بالرموز، ربما بعضها دينية وأخرى فلسفية، وهو متقن من ناحية الخيال العلمي، إضافة إلى روعة الإخراج وقدرة الأخوين المخرجين (واكووسكي) على إيجاد ثيمة متماسكة للفيلم تجعله ملهما للمشاهد، ويبدو أن الفيلم سيبقى موضعا للاهتمام لفترة ليست بالقصيرة، كونه يحمل الكثير من الأسئلة الفلسفية التي تمتد في العالم الرمزي وفي الوقت نفسه تلامس الواقع بشكل لافت. إنها تحكي حكايتك بشكل أو بآخر، فقط عليك أن تتنبه، وأن تملك الجاهزية للإلهام.


لست مولعا مثيرا بتفسير الرموز بشكل مؤامراتي، لذلك لن أتحدث كثيرا عن الأسماء ومغزاها، سأحاول التركيز على جوهر الفكرة وهو (البرمجة)، ما البرمجة ؟ وما حقيقة أننا واقعون فيها؟!

تدور قصة الفيلم حول صراع تم بين الإنسان وبين الآلات الواعية التي اخترعها، ففي وقت ما سيطرت الآلات على الإنسان وصارت تستمد منه الطاقة، لذلك حافظت على بقائه في حاضنات، وصممت عالما افتراضيا (الماتريكس) لأجل السيطرة عليه وإيهامه أنه مازال يعيش في العالم الحقيقي، لكن هناك من استطاع التمرد على هذه المصفوفة وتحرر منها، وبالتالي يحاول هؤلاء الأحرار تحرير بقية البشر، لكن كيف يمكن إقناع الناس أنهم في عالم افتراضي .. كيف وهم يشعرون بأنهم في عالمهم الحقيقي ؟ كيف يمكن أن تثير الأسئلة في عقل لا يملك الجاهزية لاستقبال الأسئلة أو لرفض البرمجة؟! ليس كل الناس على استعداد أن يواجهوا الحقيقة.. خصوصا إذا كانت الحقيقة مؤلمة وصادمة.

في الجزء الأول من الفيلم حوارات فلسفية ثرية، بطل الفيلم يعمل في مجال الحاسوبات، وهو يعمل خارج دوامه الرسمي في مجال اختراق الحاسوبات والبرامج (هكر) .. واسمه (نيو) .. تطرأ الأسئلة في عقل نيو فجأة عن الحقيقة .. عن كل هذا العالم .. عن الحقيقة فيه والوهم .. عن حقيقة الحرية المتاحة .. وعن وهم الخيارات .. هنا يظهر رجل من (الأحرار) اسمه (مورفيس) ليحرره .. ويدور بينهما حوار ربما يكون أجمل لحظات هذا الفيلم.

يُدخل مورفيس البطلَ نيو في برنامج حاسوبي، وهناك يخبره أنه الآن ليس في عالم الحقيقة. إنه في عالم افتراضي.. عالم يحاكي الواقع، ربما عالم من أحلام أو أوهام.. يتحسس (نيو) جسده والأشياء حوله، يقول متعجبا : (هذا ليس حقيقيا؟!) ، يجيب مورفيس بسؤال : (ما الحقيقي.. كيف تعرف ما هو حقيقي؟! إذا كان الحقيقي هو ما تشعر به، ما تشمه، ما تتذوقه، فالحقيقي إذن هو إشارات كهربائية يفسرها الدماغ).

يقول مورفيس مخاطبا نيو : (الماتريكس نظام، وهذا النظام هو عدونا، وحين تكون بداخله فأنت ترى الناس كرجال أعمال ومحامين ونجارين ومدرسين.. عقول هؤلاء هي التي نسعى لتحريرها، لكن هؤلاء الآن هم جزء من هذا النظام، معظم هؤلاء الناس ليسوا على استعداد لتحرير عقولهم.. معظمهم جامدون ويائسون ويعتمدون على النظام، وسوف يقاتلون لحمايته).

قد يربط بعضنا بين الماتريكس والأسئلة الوجودية، وقد يربط بعضنا بين الماتريكس وبرمجة الدولة الحديثة لمواطنيها. أما عن الأسئلة الوجودية فربما تكون فلسفة ديكارت مهمة في هذا الموضوع، فقد حاول أن يقيم (المعرفة) على الشك، أن يشك في كل شيء كان يقينيا بالنسبة له، فاليقين جاء من الثقافة التي ولد ونشأ فيها، لذلك لابد من العودة إلى نقطة الصفر.. فماذا لو لم تكن الحياة حقيقية ؟ ماذا لو كان كل هذا حلما؟! النائم لا يدرك أنه في حلم حتى يستيقظ.. فربما نستيقظ يوما ما فنتفاجأ أننا كنا نحلم.

كيف سيبدأ ديكارت بالمعرفة دون إثبات أن الحياة حقيقية وليست وهما؟! ذهب إلى أن القدرة على التفكير والتحليل هي الدليل على أن هذه الحياة حقيقية، لذلك قال : (أنا افكر.. إذن أنا موجود)، وانطلق من مسلمة أن الحياة حقيقة، وبناء على ذلك نتجه نحو المعرفة، لكن ألم تحلم يوما بنقاش علمي عميق في مسائل جديدة غير مكرورة، ألم تصبك الدهشة حين تستيقظ من ذلك الحلم الذي يشبه الواقع ويبتعد عن عالم الأحلام؟! يعتقد بعض النقاد أن ديكارت كان قويا في شكه ضعيفا في بنائه، وكثير من الذين طرحوا الأسئلة وقاموا بتفكيك الثقافة السائدة وبحثوا عن الوجود كانت أجوبتهم أقل من المتوقع.. ربما في لحظة ما بحثوا عن السلام الداخلي.. أرهقهم القلق وخافوا من العدمية.. وأيقنوا أنه لابد من نقطة للبداية، والبدايات لا نملك عليها الجواب دائما.. وللحديث بقية.



 •  0 comments  •  flag
Published on December 11, 2012 00:50

December 4, 2012

مجتمعاتنا والقرآن.. وهامش الحرية

من نزول القرآن الكريم تغير وجه الثقافة العربية، فلم يعد بالإمكان الحديث عن ثقافة عربية وأخرى إسلامية.. امتزجت العروبة بالإسلام ولم يعد بالإمكان الفصل بينهما.


الأمم والثقافات تتمركز حول نصوص بشكل أو بآخر.. الأديان والأفكار البشرية تعود إلى نصوص تأسيسية.. في الأفكار البشرية يتم استبدال النصوص التأسيسية بنصوص تأسيسية أخرى بين زمن وآخر.. أما في الأديان فيكون النص المقدس هو المركز الذي ينتج حوله منظومة من النصوص المفسرة والشارحة.. وهي بدورها تتسرب إلى كل النصوص والخطابات.. بل تصنعها وتنتجها.


أعتقد أن هذه ميزة وخاصية للأمة الإسلامية، أنها تتمركز حول النص الديني، وإن كان المستشرقون وبعض المفكرين العرب يعد ذلك من الإشكاليات، ومن معوقات التقدم والنهوض، ليست المشكلة في التمركز حول النص بل تكمن المشكلة في التعامل معه، في الأسئلة التي تطرح عليه ويعتقد القارئ أن النص سيجيب عنها، وفي مقدار التفصيل في الجواب الذي يسعى القارئ إلى استنطاقه فيه أثناء القراءة، وبالتالي نحن بحاجة ابتداء إلى توضيح الأسئلة التي جاء النص ليجيب عنها والأسئلة التي لم يأت ليجيب عنها، وعن مستوى إجابة النص، هل تحدث النص في التفاصيل، أم أننا نقحم رأينا في لغته الواسعة وندعي أنه قال ذلك؟!


حين يفرض على الناس رأي ديني واحد، ولا يعود بإمكان الفرد أن يختار رأيا دينيا إلا في هامش محدود، ويكون ثمة رأي يسمى الصراط المستقيم.. وآراء أخرى هي الضلال والزيغ والانهزام والتمييع والتغريب� إلخ، حينها تحدث عملية عكسية مدهشة في مركزية النص الديني.

في المجتمعات التي تشهد حالة متقدمة من حرية الرأي، فإن كل من له تفسير للنص الديني سيعبر عنه علانية، وكل من له انتقاد على هذا الرأي سينتقده علانية أيضا، وبإمكانه كذلك أن يطرح رأيا بديلا.. لا وجود للاحتكار ولا للهيمنة.. تبقى الأفكار في مجال التداول والتدافع السلمي.. والناس تسمع وتقرأ وتفكر.. وتختار ما تريد.. وتعبد ربها بما تعتقد أنه الصواب وأنه الحق.

في المجتمعات الأخرى التي تعاني من مشكلة حقيقية في حرية الرأي -وخصوصا الرأي الديني- فإن النص في الواقع لا يعود هو المركز.. بل تصبح مجموعة الأفكار الخاصة بالجهة المسيطرة هي المركز.. تتحول نصوص الأيديولوجيا الدينية إلى النص المهيمين.. ويتم توظيف النص الديني بشكل كامل من أجل إضفاء الشرعية عليه.. هنا يتراجع دور النص الديني وتتقدم الأيديولوجيا.

لا يكتشف الناس في هذه المجتمعات ما يحدث لهم.. حين يذهب الرجل إلى المسجد، وحين تمسك الأم بمصحفها في البيت، وحين يجلس الأطفال في حصة القرآن في المدرسة.. إنهم يقرؤون القرآن بعقل ديني تمت صناعته مسبقا.. بعيون تمت برمجتها.. حتى الشعور والروحانيات تتم برمجتها كذلك.. إنهم يضفون الإيمان والحب والإنتماء من خلال القرآن على كل ما سمعوه سابقا من الخطابات الدينية.. لذلك لم يعد بإمكانهم التمييز بين هذه الأفكار التي هي في حقيقتها فهم من (فهوم) متعددة للنص الديني.. وبين النص الديني نفسه.. فقد باتوا يرونه شيئا واحدا.. ويرون المخالف لهم يخالفهم عن عمد وإصرار وعناد.. لذلك فكل مخالف إما صاحب هوى أو إذا تسامحوا معه نسبيا قالوا إنه يعاني من مشكلات نفسية.

إنهم يقرؤون آيات المؤمنين، وتأييد الله ونصره لهم، فيقرؤون أنفسهم في ذلك الموضع، ويقرؤون الآيات التي تتحدث عن الكفار والمنافقين والذين في قلوبهم مرض وزيغ والمرجفون، فيرون كل مخالف لهم هناك.. في الطرف الآخر.. ولا يجدون إشكالا في الاستشهاد على ذلك. والعجيب أنه في هذه المجتمعات لا يتمكن الناس من رؤية التناقضات في الفكر السائد (الأيديولوجيا).. إنهم لا يرون كيف يتم الاستدلال على الشيء من النص الديني.. فهم يعانون من الذاكرة القصيرة.. وفي كل مرة يتم فيها إضفاء الشرعية الدينية على الخطاب البشري تنجح العملية.

ليست القضية في موافقة الرأي السائد أو في معارضته.. إنما في الخطر الذي يواجهه النص الديني حين تغيب حرية الرأي.. إنه في الواقع يتعرض للاحتواء الكامل -كألطف تعبير- من قبل جهة واحدة، وبالتالي يتم تفريغ النص من كل المعاني الأخرى التي يحتملها.. وهو ما سيجعل هذه الجهة تستنطق النص في كل صغيرة وكبيرة، لأن الإيمان به إيمان بها، بل وتسعى لنشره قدر الإمكان.



 •  0 comments  •  flag
Published on December 04, 2012 02:45

November 27, 2012

نحن رواة التاريخ

الحدث التاريخي مضى وانتهى، كل حدث في هذا الوجود لا يمكن العودة إليه بعد أن ينتهي، ماذا لو قمنا بالتجربة التالية، حادث اصطدام سيارتين، تتلوه مشاجرة بين السائقين، يتخلله حديث طويل لا يخلو من الشتم وبعض اللكمات، وقد حضره عدد لا بأس به من الناس. هل بالإمكان إعادة الحدث، وروايته كما كان! ماذا لو قمنا بتمثيل الحادثة على خشبة المسرح، أو في مسرح الحادثة، بناء على رواية أحد الشهود، الذي حضر الواقعة كلها واستوعبها، واستطاع الاحتفاظ بذاكرته جيدا، هل سترضي هذه الإعادة بقية الشهود!.


في كتب التاريخ نواجه مشكلة أكبر، وهي أن المؤرخ روى التاريخ بناء على مرويات وليس على مشاهدة.. هناك مسافات انتقل خلالها الحدث.. فبعد الحدث الأصلي جاء الراوي ليروي الحادثة، ثم الرواة ليرووا عنه، ثم جاء المؤرخ ليدونها، وفي هذه المسافات تضيع الحقيقة الكاملة وتبقى ذاتية الراوي والمؤرخ.

حين يصف الشاهد حادثة التصادم تلك فإنه سيرويها من زاويته، إنه لا يعرف وليس بإمكانه أن يعرف الدوافع وراء تلك الحادثة، ربما سيشهد أن أحد السائقين كان مسرعا، لكنه لا يدري لماذا كان مسرعا، ولا يدري أحد منا أثر هذه الدوافع على تركيز ومزاج السائق، فالسرعة لأجل إدراك أمه التي سقطت مغشيا عليها ليست كالسرعة من أجل إدراك الدقيقة الأولى من مباراة كرة القدم، وربما لذلك هاج غاضبا بعد وقوع الاصطدام وهو ما لم يكن في حادث اصطدام آخر وقع له قبل سنتين.

يبدو التاريخ معقدا جدا، وسبب تعقيده الرئيسي هو وجود الإنسان فيه، ذلك الكائن الذي استعصى على الفهم الفلسفي والعلمي والروحي.

نحن نروي التاريخ من زاويتنا، كما رأيناه، وفق دوافعنا أيضا وتحيزاتنا القيمية والدينية، وحين يوجد الإنسان توجد معه تحيزاته، لذلك فالتاريخ هو ما قاله الإنسان عن التاريخ وليس هو التاريخ ذاته، الفعل التاريخي مضى ولا يمكن العودة إليه.

ها نحن نرى الآن الواقع، عاصرنا الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، ونشهد على الحراك السياسي والشبابي في كثير من الدول.. ونقرأ ما يكتبه الإعلام وترصده المقالات وتحلله الكتب.. لكننا لسنا راضين تماما عما يقال.. ربما ليس لأنه كذب.. بل لأن لنا روايتنا الخاصة لما حدث.. نستطيع أن نستشعر كيف كتب التاريخ القديم بعقل المؤرخ.. وكيف لو عرض على الناس.. كم سيكون مقدار رضاهم عن هذه الرواية.

ربما من المفارقات أن أكثر الأشكال ذاتية في رواية التاريخ تكون في حقيقتها الأكثر موضوعية، أقصد بذلك أن كتابة سيرتنا الذاتية، ومشاهداتنا الخاصة، ورواية التاريخ وهو يتمركز حول قصتنا.. أن أروي مثلا أحداث سنة ٢٠١١م، ليس بوصفها تاريخا.. ولكن بوصفها جزءا من حكايتي.. وأن أقول ماذا تعني لي.. وأروي قصتها ضمن قصتي.. أي أن تتضخم وتطغى (الأنا) في سيرتي الذاتية، هنا أنا أعترف مسبقا أني لا أروي التاريخ.. وإنما أروي حكايتي في التاريخ.. وهنا أنا أعترف للقارئ ابتداء بأني لست محايدا ولا موضوعيا.. أنا مليء بالأفكار والتصورات والتحيزات. سيرنا الذاتية لا تصلح أن تكون تاريخا.. ولكن مجموع سيرنا سيكون تاريخا أكثر صدقا وأمانة ودقة من رواية المؤرخ.. في حادثة السيارتين تلك.. ليس الشاهد أو المؤرخ هو الأكثر موضوعية.. ولكن شهادات الناس العفوية والذاتية بمجموعها هي الأكثر موضوعية.

أفكر كثيرا فيما أحدثه الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وانتشار الكاميرا، في تسهيل عملية التوثيق، والتدوين، ورواية الحدث والكلام عن الحدث، بطريقة ذاتية، وبشكل جماعي، كيف سيكون شكل التاريخ للأجيال القادمة.. وكيف ستكون منهجية كتابة التاريخ.. والعودة إليه! لا نستطيع التكهن تماما بما سيجري.. لكني واثق أنه لو تخلص الباحث من آفة الغرق في المعلومات.. واستطاع أن يستخرج صورة كلية من رواية الناس لواقعهم.. بعيدا عما يقوله الإعلام وكتب التاريخ الرسمية.. فإن رواية التاريخ ستكون أكثر صدقا مما سبق.

نحن حين نصور، ونكتب، ونقول رأينا ونحكي حكايتنا، ونضعها على الشبكة العنبكوتية.. إننا نتضامن ضد الرواية الرسمية للتاريخ.. ربما لا ندرك ما نفعله الآن.. لكني على ثقة أننا نقوم بعمل يستحق التقدير.



 •  0 comments  •  flag
Published on November 27, 2012 00:58

November 20, 2012

غزة .. ما بعد الربيع

ملاحظة التغيرات في الحرب الإسرائيلية على غزة ما بين ٢٠٠٨ إلى اليوم، تستحق الكثير من الكلام، والكثير من التعليقات، والكثير من التحليلات.. حرب إسرائيل على غزة ٢٠٠٨ كانت قبل الربيع العربي، قبل زوال نظام مبارك وابن علي والقذافي وزعزعة عرش الأسد ..


في ٢٠٠٨ توجهت ليفني إلى القاهرة التي يفصلها عن غزة المحاصرة معبر بري، لتعلن من هناك الحرب على غزة، في وقاحة مبالغ فيها، وإهانة منظمة للشعوب العربية التي ربما تظن أن أنظمتها في حالة حرب مع إسرائيل. أما في الربيع العربي � ومازلنا نصر على تسميته ربيعا � شممنا فيه رائحة الحرية القادمة من بعيد، فيتجه أمير قطر إلى غزة في زيارة رسمية، ويقول على قناة الجزيرة : لولا نظام مصر اليوم لما تمكن من زيارة غزة، وبعد الهجوم الإسرائيلي يتجه رئيس الوزارء المصري إلى غزة في زيارة لها الكثير من الدلالات.. أولها التضامن السياسي، وربما ليس آخرها إحراج دول الممانعة وإحداث قسمة جديدة في دول المنطقة.


في ٢٠٠٨ نذكر تماما كيف برز خطابان لدول المنطقة دول الممانعة ودول السلام، وكان من سوء الحظ أن إيران وسوريا تتصدران قائمة الممانعة، وهو ما كان يجعل المقاومة الفلسطينية في موقع التهمة دائما. أما بعد الربيع العربي وفي العدوان الإسرائيلي اليوم، فدخول مصر السياسة الإقليمية، وزوال نظام مبارك الذي كان يقود دول السلام، يجعل (الممانعين) في حرج، وربما يفسح المجال لدول مثل تركيا أن تتحرك بحرية أكبر.

الرئيس المصري يستقبل قبل يومين رئيس المكتب السياسي لحماس، ومعبر رفح بات مفتوحا، في حين أن رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل بح صوته في ٢٠٠٨ وهو يقول: إن غزة ليست بحاجة إلى المال بقدر حاجتها إلى فك الحصار، وفتح معبر رفح على وجه التحديد، في حين كان نظام مبارك يعتقد أن السياسة و(الحكمة) و(الحنكة) إذا استبعدنا سوء النية تقتضي عدم فتح المعبر. إسرائيل تتحدث عن وقف القتال، وتتحرك الحكومة الأمريكية باتجاه مصر لأجل الضغط على حماس للتوصل إلى هدنة، وإسرائيل تتحدث في الوقت نفسه عن احتمال الهجوم البري، لكنها تعلم أن الدول الأوروبية لن تبقى متفهمة للموقف الإسرائيلي في حال الهجوم البري، فصور الدمار والضحايا والأطفال التي ستتناقلها وسائل الإعلام العالمية ستحرج تلك الدول الداعمة لإسرائيل أمام شعوبها، وبرغم أن سياسة إسرائيل الخارجية مازالت متفوقة على السياسة الخارجية العربية، لكنها ليست كالسابق، فعدد المتظاهرين ضد العدوان الإسرائيلي وصل إلى عشرات الآلاف في اليونان، والمظاهرات امتدت من العواصم الأوروبية لتصل إلى بكين وطوكيو.

من ناحية أخرى فالمقاومة في غزة أو ربما من الأولى أن نطلق عليها اليوم (الجيش) في غزة، لم يعد كالسابق، هناك مفاجآت تخشى منها إسرائيل في حال المغامرة بالهجوم البري، كارتفاع عدد القتلى بين جنودها، وربما وقوع بعضهم أسرى، وهو آخر ما ترغب به إسرائيل، لذلك تتحدث إسرائيل بشكل مستمر عن رغبتها في إيجاد سبيل لإيقاف هذه الحرب، وإلى العيش بسلام، لكنه العيش وفق الطريقة الإسرائيلية.. عيش المحتل المتفوق المحاصر .. حصار غزة وتقطيع الضفة بالحواجز .. عيش الطرف المتفوق في مقابل الطرف الآخر الضعيف .. هذا ما تحاول إسرائيل ترسيخه بشكل دائم، وتعده عيشا بسلام.

في حرب ٢٠٠٨ قرأنا مقالات تنزف قيحا تعلن عن وجود بؤرة عفن متصهينة، تتحدث عن منطق يتفهم موقف إسرائيل، ويحمل غزة وغزة فقط نتيجة الحرب عليها، وسمعنا عن قائمة أعلن عنها موقع الخارجية الإسرائيلية لكتاب عرب هم في اعتبار إسرائيل ضمن (الأصدقاء).

اليوم لا تزال هذه البؤرة تعلن عن نفسها، ونحن نتحدث عن كتاب عرب في السعودية والخليج وباقي الدول العربية، ويظهرون في القنوات الفضائية، وبعضهم يكتب مقالات باللغة الإنجليزية ما لا يجرؤ أن يكتبه باللغة العربية.

ربما هم بحاجة إلى العودة إلى جداتهم الطاهرات ليحكوا لهم حكاية ما قبل النوم، حكاية دولة نشأت من لا شيء، وشعب تم تجميعه من شتى الأقطار، ليعيش حياة علمانية بعقيدة دينية، في أرض تم تهجير شعبه الأصيل.. حكاية الشهداء والأطفال والنساء .. حكاية المفاتيح التي لاتزال شاهدة على التاريخ، بل ربما هم بحاجة إلى حكاية الأمة الواحدة، لكن الجدات مضين بحكاياتهن، وبقيت حكاية النفط .. وسايسبيكو.. والعم سام.

حسنا، سنبدأ معهم من البداية، والدرس الأول هو (إسرائيل دولة عدو). أما غزة فهي بعد الربيع العربي ستبدأ من الدرس الأول والأخير .. درس (الحرية).



 •  0 comments  •  flag
Published on November 20, 2012 00:53

November 14, 2012

بين سنة الحياة وفسحة الأمل

سألت طلابي في الكلية.. حين تدعو الله أن يوفقك في الاختبار.. كيف تتوقع أن تكون الاستجابة؟ فكروا قليلا، رفعوا أيديهم، كانت إجاباتهم تدور حول التالي: (أن تكون الأسئلة سهلة وميسرة، أن تكون الأسئلة في الفصول التي ركزت على دراستها، أن يغيب الدكتور عن الاختبار ويتم تأجيله، أن يقلل الدكتور من كمية المادة المقررة، أن تنشط الذاكرة أثناء الاختبار وأستطيع استحضار المعلومات� الخ)، قلت لهم: لماذا لم يتصور أحد منكم أن يفتح له كتاب أمام عينيه فيه جميع الإجابات! أو أن تسمع صوتا يخبرك بأن الإجابة هي كذا وكذا! أو تتغير الإجابات على الورقة فتتحول الحروف والأرقام إلى إجابات صحيحة! أو أن يرصد الدكتور لك درجة ما، فتتبدل الدرجة على الورقة� إلخ، قالوا : إن الله على كل شيء قدير، لكننا لا نتوقع الاستجابة أن تكون بهذه الطريقة، بل نستبعد تماما.. مستحيل .. هكذا أكدوا.

قلت لهم : لاحظوا أنكم أكدتم على أن الاستجابة، أي تدخل الغيب في عالم الشهادة يكون موافقا لقوانين عالم الشهادة ولا يخرقها، هكذا قلتم بإجابات مباشرة وسريعة وبسيطة، لكنها في فلسفتها عميقة ومنضبطة، وفي كل الأمثلة التي ذكرتموها كان التدخل عن طريق الإنسان نفسه، أنتم تستبعدون، بل ترون أنه من المستحيل أن تكون الاستجابة عن طريق خرق القوانين بشكل مباشر وواضح، فمع إيمانكم بأن الله قادر على كل شيء، لكنكم تعتقدون أن الاستجابة لن تكون عن طريق معجزة تخالف القوانين التي قامت عليها الحياة، فالمعجزات خاصة بالأنبياء، وهي حالة استثنائية، وقد ختمت بخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام،

هل يعود ذلك إلى فهمهم للنصوص الدينية، وإلى وعي عال بمفهوم الدين، وبالعلاقة بين عالمي الغيب والشهادة!! هل يعود ذلك إلى وعي ديني تنشره المؤسسات الدينية في بلادنا � مثلا � هل ساهم الدعاة والعلماء في إيجاد وعي عقلاني بمفهوم العلاقة بين عالمي الغيب والشهادة! وماذا عن المثقفين والكتاب، هل سيغضبون إن نسبت الفضل لغيرهم في إحداث هذا الوعي! حتى وإن كنت لا أعتقد ذلك، لكني أخطئ حين أحاول النظر إلى الموضوع بهذه الطريقة. إنه وعي أهل المدن، فالمدنية تنفي العقلية الأسطورية في فهم الدين، بوعي أو دون وعي. إنهم يستطيعون الجمع بشكل سهل وبسيط بين القدرة الإلهية، وبين النظام الكوني، ومن جمال الكون وعدله أن يكون القانون مضطردا.هذا يقودنا إلى جدلية تستحق التفكير .. هل فهم الدين بشكل أفضل يساهم في فهم أرقى للحياة؟ أم أن فهم الحياة بشكل أفضل يساهم في فهم أرقى للدين؟!

ربما في أماكن أخرى، في القرى، في الأطراف، في المناطق التي يقل ويضعف فيها التعليم، وتنغلق المجتمعات على نفسها، وتخشى من العالم الخارجي، ربما هناك سيؤكد الشباب � فضلا عن كبار السنّ � على أن التدخل قد يكون بكتاب يظهر فجأة، أو بصوت ملائكي مسموع، وربما أكدوا كلامهم بقصص تروى، حيث الأساطير دائما يتم تأكيدها بالقصص، وربما لن أستطيع إقناعهم، فكلنا نتفق على القدرة الإلهية، لكننا نختلف في كيفية تحققها في عالم الشهادة، هل ستخرق القوانين؟ أم أنها ستعمل ضمن مجالها؟ والحوار لا يكون مجديا حين تختلف مستويات الوعي، بل يصبح نوعا من الجدل غير المفيد.

بعد حواري هذا مع الطلاب بأيام .. كنت أستعد للسفر.. في الطائرة كانت عاصفة رعدية ابتدأت أثناء إقلاعنا، تضيء السماء في منتصف الليل، في مشهد يجمع بين الجمال وخطف القلوب .. لم يفارقني حواري السابق.. لكني وقتها كنت أنا المسؤول .. حين ندعو الله أن يحفظنا ويسلمنا، كيف تتوقع أيها الأستاذ أن تكون الاستجابة!! تمنيت وقتها ألا يكون التدخل الغيبي عن طريق الإنسان وحسب، بل أن تتضامن السماء معنا فتهدئ من روعها، وأن تبتعد الرعود، وتحملنا الرياح إلى حيث نريد بكل رفق وحب، تمنيت لو أن روح الكون تتضامن معنا .. ولا عزاء لقوانين الكون الصارمة.. هكذا كنت أفكر.

حين يمرض قريب لنا ويقف على حافة الحياة باتجاه الموت، ونشعر برائحة ذلك حوله، وكأنه يهيئنا لفراقه، نتمنى أن تحدث المعجزات، وأن تتغير القوانين، وأن تتلاشى تلك الدقة الصارمة، وأن تمنحنا سنة الحياة استثناء ولو لمرة واحدة، هكذا الإنسان، لذلك وجد الأمل .. وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.



 •  0 comments  •  flag
Published on November 14, 2012 00:39

November 7, 2012

نحن والفن والصحراء

لا أحد يدري ماذا تصنع الحرية في عقول مريديها.. لا أحد يجزم بالنتيجة التي يمكن أن يصل إليها كل من رفض السائد من الأفكار والحياة الرتيبة.. يتراءى لكل منا طريق طويل.. في بدايته نشوة.. لكن العواقب تلوح لنا.. كجزء من العدل.. حتى يعرف الواحد منا إلى أي مصير مجهول يسير..


ثمة لافتة مكتوب عليها: من كانت تؤرقه ماهيته السابقة.. فليس عليه أن يمضي من هنا».. أجزم أنها مكتوبة لكننا لا نود قراءتها.. لأننا نريد أن نمضي.. لكن بطريقتنا وقوانينا.. وليس للسالك قانون.. بل القانون هو قانون الطريق..

المضي نحو الحرية يعني أن تتحول هويتنا وماهيتنا إلى حالة سيرورة دائمة.. تتلاشى فيها نقطة النهاية.. وتصبح الهوية هي فعل الحرية الدائم في كل يوم.. هي حالة التحرر.. والانتقال..

حين ولدنا تسلطت علينا ثقافتنا وعاداتنا وأرضنا.. ذلك الزمان والمكان الذي نعيش فيه.. وعلى قدر حبي له أشعر بنفور من سلطته علي.. لأنه السلطة الوحيدة التي تقف أمامي بكل غرورها.. تتحدى كل قوتي.. أرى وجهها يضحك بسخرية مبالغ فيها.. أشعر بها أحيانا كسخرية الأم من طفلها حين يقرر التمرد.. سخرية مليئة بالحنان.. لذلك لا أحمل حقداً عليه.. بقدر غضب الطفل على أمه حين تكون بجانبه دوماً..


هويتنا الثابتة ليس بإمكاننا التصرف فيها.. لقد تشكلت وانتهى الأمر.. لكن ثمة هامشا من الحركة.. ثمة هوية أخرى سردية.. نرويها عبر حكاية سيرتنا الذاتية.. تتشكل كل يوم.. القصص تملأ رأسنا وتشكل ذاتنا.. حتى تصبح كالقالب الذي تسجننا فيه.. في فعلنا وردة فعلنا.. تمنعنا من عيش اللحظة.. ومن الاستمرار في هويتنا السردية.

طريق تشكيل الهوية متشعب.. محفوف بالمغامرة.. مليء بالحماقات.. والإنابات.. مليء بالبشر.. بأصدقاء اللحظة العابرة.. برفاق الدروب القصيرة.. بالقصص التي لم تكتمل.. بالحوادث التي لم نفهم سياقها في سردية حياتنا حتى الآن..

حاول الإنسان مرارا أن يفهم ذاته لكنه لم يفعل.. تفلسف الحكماء كثيرا.. في الهند والصين واليونان.. لذلك قال أبو حيان: ( إن الإنسان أشكل عليه الإنسان).. حين تحدث رواد النهضة الغربية عن غزو الطبيعة لأجل الإمساك بها، لم يتحدثوا عن الإنسان، وكأنهم استشعروا تفلته من بين أيديهم.. لكنهم ناقشوا فكرة تطبيق القوانين الطبيعية عليه.. وكانت سذاجة منهم غير محسوبة.

مازال الإنسان غير قادر على فهم ذاته.. وكلما عجز عن ذلك.. ابتعد ليثبت لنفسه أنه قادر على ما هو أعظم فلماذا يستعصي هو على نفسه.. حتى انشغل أخيراً بالفضاء.. إلى أبعد الكواكب.. يبحث عن مزيد من العناء.. قفز فيليكس من أعلى نقطة في القفز الحر.. ربما ليثبت لذاته أنه قادر.. لكنها لا تزال مستعصية..

آخرون لجأوا إلى ترميز حالة لا يمكنهم التعبير عنها.. لكنهم وجدوا في الرمز أيقونة تتجمع فيها المعاني.. وتبقى وفية لها.. تحفظها عبر الزمن.. ويصبح الرمز مليئا بالسحر.. يصيب كل من اقترب منه بسحره.. ربما بشيء من سحره.. لتظل فيه الحياة الكامنة عبر الزمن.

لجأ الإنسان إلى الرسم والنحت والعمران والموسيقى والرقص والمسرح والقصة والرواية والشعر.. ليقول شيئا لا يحتمله التفلسف المباشر.. وجد أنه يعبر عن ذاته برموز تحيل إلى عالم من الخيال.. وفي الخيال يجد ذاته بشكل أوضح.. وحين يعود إلى الواقع يعود بالرمز.. فكأن الحقيقة هناك في عالم الخيال.. أما الواقع فلا يتسع إلا للشفرة.. تتضح ذاتنا هناك.. وتترمز هنا.

ماتزال الفنون حية عبر العصور.. ماتزال مخازن المعنى الذي أنتجه الإنسان.. وواسطة بين هوياتنا السردية وعالم الخيال الذي يعرفنا على أنفسنا في هذه اللحظة.

إن مجتمعا لا يلقي بالا للفنون يعاني من أزمة وجودية.. من أزمة للمعنى.. وإن من يفهم الدين فهما يجعله في أزمة دائمة مع الفن.. يعني أنه سيكون في أزمة دائمة مع الإنسان.. ويعني أن الحرية أول ما تبدأ ستبدأ بالثورة على سلطته.. لأن الإسلام دين الإنسان.

إن من يتحدث عن فن هادف في مقابل فن هابط.. إنما يتحدث في الواقع عن صراع أيديولوجي بين تيارات.. والفن حالة إنسانية مرادة لذاتها.. لا علاقة لها بهذا الاتجاه أو ذاك.. وإن الفن الهابط التجاري أفسد الإنسان بقدر ما أفسده من جعله فنا مباشرا يعظنا بحسن الأخلاق وسيئها.

لقد أدركت في صغري بقايا للفن في مدارسنا الابتدائية.. كان يحملها لنا الأساتذة القادمون من دول عربية مختلفة.. ربما لم يكن المسرح مميزا.. لكن وعيهم به وحديثهم عنه مايزال باقيا في ذاكرتي.. أما الآن فمجتمعنا خال تماما.. متصحر جاف.. وكأن صحراءنا لا تكفي.. وما يسمى فنا (هادفا) فهو خال من السحر.. لا علاقة له بعالم الخيال.. وبالتالي فطريقه إلى الإنسان مقطوع.. هو شيء آخر وكذبة أخرى من كذباتنا التي نبتدعها ثم نصدقها.



1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on November 07, 2012 07:22

October 31, 2012

حتى تكون متمردا محترفا

الحالة الصناعية والتطور التكنولوجي الذي يعيشه العالم اليوم، والذي نعيشه أيضا في بلادنا بشكل من الأشكال، باستخراج النفط وتصديره، وشراء واستهلاك منتجات الحداثة بثمنه، هذه الحالة أوجدت حياة مريحة وسهلة وفتحت المجال لوعي أكثر رشدا ونضجا، ولكنها أيضا أورثت العالم سلبيات متعددة، مما جعل كثيرا من المفكرين يتحدث عن مشكلات الحداثة أو مأزق الحداثة.


الحالة الصناعية أوجدت تكدسا للسكان في أماكن محددة بأعداد كبيرة، فالمدن الصناعية مثلا لم تكن ذات كثافة قبل الدولة الحديثة، مما عظم من تمدد الدولة ومركزيتها في كل أنحاء العالم، فهي من خلال الشركات الضخمة تستطيع أن تحدد وتتحكم في مسار الشعوب، والراتب الشهري المحدد الذي يستغني به المواطن عن أي دخل سواه، والذي بمقابله يستميت الموظف في العطاء لأجل رقيه الوظيفي خصوصا إذا كان المقابل مجزيا، هو في حقيقته نوع من الاستعباد الناعم والخفي.


ما يهمني في هذه المقالة هو الفرد، هذا التكدس في المدن، وهذا التمركز والتمدد للدولة، كان الفرد ولا يزال هو ضحيته الأولى، المدن الصناعية الحديثة ذات الطابع الاستهلاكي جعلتنا متشابهين .. اننا متشابهون في عملنا ولحظة استيقاظنا، وفترة قيلولتنا، ووقت إجازتنا، وشكل سياحتنا، وأول جريمة للتنميط والتشابه ترتكب في حقنا تكون في المدرسة، حين نقف في طابور واحد بلباس واحد، وكلنا ينال تعليما وحدا، لأجل مستقبل واحد.

فكرة الجماعة أخذت بعدا أكثر من اللازم في العصر الحديث، وغاب الفرد وغابت أمنياته وأحلامه، حتى أصبح التفكير الفردي هو نوع من التمرد المرفوض، وأصبح حلما متمردا لدى الكثيرين خصوصا من جيل الشباب، هذا على مستوى الدولة الحديثة بعموم، فما بالك إذا كانت شمولية أيضا، تؤمن بالرأي الواحد والحاضر الواحد والمستقبل الواحد.

في لحظة ما ينقض السؤال الوجودي علينا بكل ثقله، سؤال وجودنا، لماذا أنا هنا؟ ومن هو أنا؟ وما معنى وجودي؟ وما الغاية مني ومن الحياة ومن التقائي بها؟ ولا تكفي الإجابات العامة لإشباع حاجة هذا السؤال، لأن السؤال هنا ليس سؤالا جماعيا بل فرديا، خلق الناس للعبادة، ونحن أمة ذات رسالة، والوطن عزيز علينا، هذا كله بالنسبة للجماعة، لكن السؤال الملح هو سؤال فردي، هو سؤال عني أنا، من أنا؟ وما الغاية من وجودي أنا؟

إذا نشأ هذا السؤال فإنه لا يغيب، بل يبدأ يشتغل في العقل والنفس يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، ويستاء القوم أصحاب العقول المستريحة والراضية بالسائد من هذه الأسئلة، فتبدأ الإشارة إلى أصابع المؤامرة، فثمة تغريب وكتب وخلايا مندسة تنشر أفكارا غريبة يجب منعها، والواقع أن أسئلة الوجود والبحث عن المعنى أسئلة ملحة في العصر الحديث، وهي استجابة لواقع الدولة الحديثة والشمولية.

يفكر الفرد في الإجابات، ولأن العالم حوله متشابه، ولأن الأسئلة التي طرأت في ذهنه فجأة لا تؤرق كثيرا من أصدقائه، لا يجد من يطور معه السؤال ويتعمق في الجواب، فيصل إلى طريق شبه مسدود، ويجد أن الحياة عبثية، فاقدة للمعنى، الإجابات جميعها متكلفة ومزورة، فتفقد الحياة بريقها في النهاية، ولا يجد فائدة من الاحتكاك بها، أو أنه يلجأ إلى طريقة أخرى، إلى تحايل عقلي ربما بشكل لا واعي، يبرر فيه الواقع ويتعايش معه، ويكون التبرير إما دينيا أو ثقافيا أو واقعيا، ويكون أشبه بالمهزوم الذي يطلب السلام.

حتى لا يقع الفرد في هذين الاحتمالين العدمية أو التصالح المهزوم، يقترح كثير من المفكرين أن يطور الفرد أسئلته عن طريق الوسائط، وسائط اللغة والفكر والرموز والثقافات، أي من خلال القراءات المختلفة والمتنوعة، والسفر والترحال والتأمل في حياة الناس وحاضرهم وماضيهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وأديانهم وأخلاقهم.

الأمم تكثف أفكارها وماضيها في (الرموز)، في نصوصها، وفي مدنها وعمارتها ولباسها، وغنائها ورقصها وأشعارها، والتأمل في كل هذا يعمّق نزعتنا الإنسانية، ويختصر علينا مسافات من التفكير القابع في صندوق مغلق أو الدائر في حلقة مفرغة، فالرمز هو وسيلة الإنسان في التعبير عن وجوده، ووسيلته أيضا في العثور على هويته.

سفرنا السياحي ليس له علاقة بكل ما سبق، سفر المولات التجارية، ومدن الألعاب، والمطاعم الفاخرة� الخ، هذا يعمق الأزمة ويسد طريق الأسئلة، ولا يخلق الحل، ومثلها الكتب التي تتم قراءتها بناء على توصيات أيديولوجية سواء كانت فكرية أم شرعية، لأن القراءة مبنية على سؤال داخلي، على حالة قلق تسبق القراءة، ومحاولة للفهم أثناءها، وانفتاح على العالم بعدها، فيتحول الوجود كله إلى نص، ثم يتحول النص إلى وجود مفتوح، وقائمة الكتب الخاصة بي لا تصلح لغيري، وما أوصل غيري لفكرة ما ليس بالضرورة أن يوصلني إليها.



 •  0 comments  •  flag
Published on October 31, 2012 08:22

مصطفى الحسن's Blog

مصطفى الحسن
مصطفى الحسن isn't a ŷ Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مصطفى الحسن's blog with rss.