ŷ

نحن والفن والصحراء

لا أحد يدري ماذا تصنع الحرية في عقول مريديها.. لا أحد يجزم بالنتيجة التي يمكن أن يصل إليها كل من رفض السائد من الأفكار والحياة الرتيبة.. يتراءى لكل منا طريق طويل.. في بدايته نشوة.. لكن العواقب تلوح لنا.. كجزء من العدل.. حتى يعرف الواحد منا إلى أي مصير مجهول يسير..


ثمة لافتة مكتوب عليها: من كانت تؤرقه ماهيته السابقة.. فليس عليه أن يمضي من هنا».. أجزم أنها مكتوبة لكننا لا نود قراءتها.. لأننا نريد أن نمضي.. لكن بطريقتنا وقوانينا.. وليس للسالك قانون.. بل القانون هو قانون الطريق..

المضي نحو الحرية يعني أن تتحول هويتنا وماهيتنا إلى حالة سيرورة دائمة.. تتلاشى فيها نقطة النهاية.. وتصبح الهوية هي فعل الحرية الدائم في كل يوم.. هي حالة التحرر.. والانتقال..

حين ولدنا تسلطت علينا ثقافتنا وعاداتنا وأرضنا.. ذلك الزمان والمكان الذي نعيش فيه.. وعلى قدر حبي له أشعر بنفور من سلطته علي.. لأنه السلطة الوحيدة التي تقف أمامي بكل غرورها.. تتحدى كل قوتي.. أرى وجهها يضحك بسخرية مبالغ فيها.. أشعر بها أحيانا كسخرية الأم من طفلها حين يقرر التمرد.. سخرية مليئة بالحنان.. لذلك لا أحمل حقداً عليه.. بقدر غضب الطفل على أمه حين تكون بجانبه دوماً..


هويتنا الثابتة ليس بإمكاننا التصرف فيها.. لقد تشكلت وانتهى الأمر.. لكن ثمة هامشا من الحركة.. ثمة هوية أخرى سردية.. نرويها عبر حكاية سيرتنا الذاتية.. تتشكل كل يوم.. القصص تملأ رأسنا وتشكل ذاتنا.. حتى تصبح كالقالب الذي تسجننا فيه.. في فعلنا وردة فعلنا.. تمنعنا من عيش اللحظة.. ومن الاستمرار في هويتنا السردية.

طريق تشكيل الهوية متشعب.. محفوف بالمغامرة.. مليء بالحماقات.. والإنابات.. مليء بالبشر.. بأصدقاء اللحظة العابرة.. برفاق الدروب القصيرة.. بالقصص التي لم تكتمل.. بالحوادث التي لم نفهم سياقها في سردية حياتنا حتى الآن..

حاول الإنسان مرارا أن يفهم ذاته لكنه لم يفعل.. تفلسف الحكماء كثيرا.. في الهند والصين واليونان.. لذلك قال أبو حيان: ( إن الإنسان أشكل عليه الإنسان).. حين تحدث رواد النهضة الغربية عن غزو الطبيعة لأجل الإمساك بها، لم يتحدثوا عن الإنسان، وكأنهم استشعروا تفلته من بين أيديهم.. لكنهم ناقشوا فكرة تطبيق القوانين الطبيعية عليه.. وكانت سذاجة منهم غير محسوبة.

مازال الإنسان غير قادر على فهم ذاته.. وكلما عجز عن ذلك.. ابتعد ليثبت لنفسه أنه قادر على ما هو أعظم فلماذا يستعصي هو على نفسه.. حتى انشغل أخيراً بالفضاء.. إلى أبعد الكواكب.. يبحث عن مزيد من العناء.. قفز فيليكس من أعلى نقطة في القفز الحر.. ربما ليثبت لذاته أنه قادر.. لكنها لا تزال مستعصية..

آخرون لجأوا إلى ترميز حالة لا يمكنهم التعبير عنها.. لكنهم وجدوا في الرمز أيقونة تتجمع فيها المعاني.. وتبقى وفية لها.. تحفظها عبر الزمن.. ويصبح الرمز مليئا بالسحر.. يصيب كل من اقترب منه بسحره.. ربما بشيء من سحره.. لتظل فيه الحياة الكامنة عبر الزمن.

لجأ الإنسان إلى الرسم والنحت والعمران والموسيقى والرقص والمسرح والقصة والرواية والشعر.. ليقول شيئا لا يحتمله التفلسف المباشر.. وجد أنه يعبر عن ذاته برموز تحيل إلى عالم من الخيال.. وفي الخيال يجد ذاته بشكل أوضح.. وحين يعود إلى الواقع يعود بالرمز.. فكأن الحقيقة هناك في عالم الخيال.. أما الواقع فلا يتسع إلا للشفرة.. تتضح ذاتنا هناك.. وتترمز هنا.

ماتزال الفنون حية عبر العصور.. ماتزال مخازن المعنى الذي أنتجه الإنسان.. وواسطة بين هوياتنا السردية وعالم الخيال الذي يعرفنا على أنفسنا في هذه اللحظة.

إن مجتمعا لا يلقي بالا للفنون يعاني من أزمة وجودية.. من أزمة للمعنى.. وإن من يفهم الدين فهما يجعله في أزمة دائمة مع الفن.. يعني أنه سيكون في أزمة دائمة مع الإنسان.. ويعني أن الحرية أول ما تبدأ ستبدأ بالثورة على سلطته.. لأن الإسلام دين الإنسان.

إن من يتحدث عن فن هادف في مقابل فن هابط.. إنما يتحدث في الواقع عن صراع أيديولوجي بين تيارات.. والفن حالة إنسانية مرادة لذاتها.. لا علاقة لها بهذا الاتجاه أو ذاك.. وإن الفن الهابط التجاري أفسد الإنسان بقدر ما أفسده من جعله فنا مباشرا يعظنا بحسن الأخلاق وسيئها.

لقد أدركت في صغري بقايا للفن في مدارسنا الابتدائية.. كان يحملها لنا الأساتذة القادمون من دول عربية مختلفة.. ربما لم يكن المسرح مميزا.. لكن وعيهم به وحديثهم عنه مايزال باقيا في ذاكرتي.. أما الآن فمجتمعنا خال تماما.. متصحر جاف.. وكأن صحراءنا لا تكفي.. وما يسمى فنا (هادفا) فهو خال من السحر.. لا علاقة له بعالم الخيال.. وبالتالي فطريقه إلى الإنسان مقطوع.. هو شيء آخر وكذبة أخرى من كذباتنا التي نبتدعها ثم نصدقها.



1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on November 07, 2012 07:22
No comments have been added yet.


مصطفى الحسن's Blog

مصطفى الحسن
مصطفى الحسن isn't a ŷ Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مصطفى الحسن's blog with rss.