كيف تبرمج الدولة الحديثة أفرادها؟
قبل الدولة الحديثة الديقراطية كان الناس في الغرب تحت سلطة خشنة مباشرة، لنأخذ المرأة على سبيل المثال، فقد كانت تحت السلطة الذكورية في القرية، وهي كذلك تحت سلطة الكنيسة في العصور الوسطى التي تراها إغواء وشيطانا يمشي على الأرض ولا بد من كبح جماحه، إن مجرد فكرة أن حواء سبب خطيئة آدم كافية لتبقي المرأة سجينة لهذه العقدة الشيطانية مدى الحياة، لذلك كانت الكنيسة تسعى لتقييدها وكفّها وردعها عن الاشتباك مع الحياة العامة قدر الإمكان.. هذه سلطة مباشرة وخشنة.. بمعنى أن المرأة إما أن تستجيب أو أن تعاقب أو أن تنبذ في أقل الأحوال.
في المجال السياسي ثمة سلطة واحدة متفردة، وكل من يعارضها فإن مصيره إلى السجن او التنكيل أو الطرد.. وينبذ في مجتمعه بوصفه خائنا أو مثيرا للقلاقل، هذا أيضا من قبيل السلطة السياسية الخشنة والمباشرة.
من خصائص الدولة الحديثة الديمقراطية أنها أتاحت الحريات، وجعلت ما هو ممكن في الحياة خيارا متاحا لكل فرد من أفرادها، من حق كل مواطن أن يكون له انتماؤه السياسي والديني والفكري.. ولو عدنا لمثال المرأة فقد خلّص القانونُ المرأةَ من السلطة الذكورية وكذلك من سلطة الكنيسة.. فأصبحت مواطنة حرة مسؤولة.. بالتالي فقد زالت السلطة المباشرة على الفرد في الدولة الديمقراطية.
هناك من يقول: إن هذا هو ما تريدنا الدولة الحديثة أن نراه.. إنها دولة الحريات، لكنك لو نظرت للأمر من زاوية أخرى لرأيت أمراً آخر.. صحيح أن الدولة الحديثة تخلصت من السلطة الخشنة لكنها استبدلت ذلك بالسلطة الناعمة، فالمرأة لم تعُد تحت السلطة الذكورية أو الكنسية لكنها باتت تحت سلطة المعايير الجمالية في المدينة الحديثة -على سبيل المثال-، فالموضة تُحتِّم على المرأة أن تلتزم بمقاس محدد، هذا المقاس فرضته عارضات الأزياء ووجوه هوليود الجميلة وأجسادهن الفاتنة، وهذا يُحتِّم الالتزام ببرنامج غذائي قاسٍ وصارم، وربما اللجوء إلى الأدوية والعقاقير، وربما أيضا العمليات الجراحية، وليس خافياً علينا الهوس بعمليات التجميل وحقن البوتكس.. ومن لا تنطبق عليها هذه المعايير كأن تكون مُفرِطة في السُّمنة أو تفتقد لمعايير الجمال العالمية فإنها تتعرض لنوع من النبذ أو النظر إليها بدونية.
سيكون السؤال هنا، وأين هي السلطة التي تتحدث عنها، إن ذلك كلّه يتم باختيار المرأة؟! هنا تأتي أهمية الكلام عن (البرمجة)، فالدولة الحديثة تقوم بعملية برمجة لأفرادها ،بحيث تكون الخيارات المتاحة لهم محدوة بينما يعتقدون أنها لا نهائية، وهم يسيرون ضمن خطة محددة ،بينما يشعرون أنهم أحرار وبإمكانهم العيش كيف ما يشاؤون، لقد ساعدت الرأسمالية على تجمع الناس وتكدسهم في مدن كبرى، وضمت المصانع والشركات أعداداً كبيرة من الموظفين، يعملون في مبانٍ ومشاريعَ ضخمةٍ، ووجود هذا العدد الهائل في هذه المدن المحدودة، وهجرة الناس من القرى والأطراف إلى المدن الرئيسة جعلت سلطة الدولة وسيطرتها على الناس أقوى وأحكم.
تغولت الدولة حتى أمسكت الإعلام والتعليم بيدها، فمن اللحظة التي يبدأ الإنسان فيها بتلقي الثقافة، فإنه يتلقى ما تريده الدولة أن يتلقاه، وإذا تمت برمجة العقل فإن إتاحة الخيارات له ستكون أشبه بالمسرحية، لأنه سيختار ما تمت برمجته عليه، لماذا لا نطرح السؤال من البداية، لماذا يكون هناك نظامٌ موحد للتعليم؟ في تقسيم السنوات والمناهج وطريقة التدريس وتحديد المخرجات؟! لقد اعتبر بعض الفلاسفة أن التعليم الحديث هو إحدى أكبر جرائم الحداثة الغربية، لأنها أزالت الفروقات، وجعلت الكل كالواحد.
بإمكان القارئ أن يعترض بأنه بإمكانك الامتناع عن التعليم في الدولة الحديثة، هذا صحيح .. لكن نظام الدولة قائم على ذلك.. بمعنى أنني لو امتنعت عن التعليم فإن هذا سيعني أن أكون أقل شأنا من غيري على المستوى الاجتماعي.. وسأُعاني في إيجاد وظيفة في المدينة الحديثة.. كما أن المرأة بإمكانها أن تضرب بكل معايير الجمال العالمي عرض الحائط وتأكل وتلبس ما تشاء، لكنها ستعاني من نظرة الناس في المدينة الحديثة، وهذا ما يمكن أن نسميه بالسلطة الناعمة وغير المباشرة.. فهي تتيح لك الخيارات ،لكنك لو اخترت ما تريد فإنك ستعاني من النبذ والطرد الاجتماعي.. وهذا يلجئك في الواقع إلى خيارات محدودة في حين أنك تظن أن خياراتك لا نهائية.. وهذا كله يتم من خلال برمجة طويلة.
نسيت أن أقول: إن السلطة الناعمة تبقى إنجازا وتقدُّماً بالنسبة للسلطة الخشنة التي عانى منها الإنسان قديما وما يزال يعاني في الدولة الشمولية الحديثة.. ولهذا حديث آخر.
مصطفى الحسن's Blog
- مصطفى الحسن's profile
- 181 followers
